طوبى للفقراء، طوبى للباكين، طوبى للودعاء، طوبى
لفاعلي السلام... فهذه التطويبات قلبت القيم رأساً على عقب، ودلّ الحكم على يسوع
بالموت، على طابعها الثوري، كما استشفّه الرؤساء في ذلك الزمان. ومن قال ثورة قال
رفضاً ومعارضة لواقع يراه جائراً وغير مقبول. وبما اننا أمام موضوع المرأة،
فالطابع الثوريّ للتعليم الانجيليّ لا يظهر إلاّ إذا تذكّرنا وضع المرأة اليهودية
في زمن المسيح. فتجاه وضعها الاجتماعي والديني يبرز موقف يسوع الثوري. وطبيعة هذا
الوضع تتيح لنا أن نفهم الحدود التي جابهت يسوع في التحقيق الملموس وتعليمه في
العالم اليهودي في عصره.
المرأة اليهودية في زمن المسيح
كان وضع المرأة اليهودية في العالم اليهودي في
ذاك الوقت، وجهةً من وضع عام اعترض عليه يسوع ورفضه. لهذا، سنذكر ميزاته فنكتشف
بُعد تعليم يسوع وما حمله من جديد.
قد تعود بنا النصوص إلى الأزمنة القديمة،
وتذكّرنا بدور لعبته بعض النساء في تاريخ شعب اسرائيل: استير، يهوديت، راعوت. أو
بصورة جميلة مثل زواج رفقة واسحق (تك 24: 15- 67) أو سارة وطوبيا (طو 9). أو
بقصيدة حلوة تتضمّن النضارة والطراوة مثل نشيد الأناشيد. ولكن هذه الأزمنة ولّت
ومضت. فقال مثلاً ابن سيراخ (25: 17- 21) في المرأة: "كل جرح ولا جرح القلب،
وكل خبث ولا خبث المرأة. لا سمّ شر من سمّ الحية، ولا غضب شّر من غضب المرأة. لا
تؤخذ بجمال امرأة ولا تشته امرأة".
ونحن نفهم احتقار المجتمع للمرأة حين نقرأ عند
أحد الرابانيين (المعلمين) صلاة شكر يتلوها كل يوم ثلاث مرات: "أحمدك يا رب
لأنك لم تجعلني وثنياً. أحمدك يا رب لأنك لم تجعلني امرأة. أحمدك يا ربّ، لأنّك لم
تجعلني جاهلاً". هنا نشير إلى ان اللغة العبريّة لم تعرف مؤنت الصفات
التالية: تقي، بار، قديس. فالمرأة لا تقدر أن تكون تقية، بارة، أو قديسة.
أخرجت المرأة من الحياة الدينيّة التي تكوّن
الحياةَ اليوميّة كلها. وهذا ما حرّم عليها أموراً كثيرة، وشدّد على وضعها وعجزها
في المجال الاجتماعي. لا تستطيع المرأة أن تتكلم في المجمع. إذن، لا يحق لها أن
تدلي بشهادتها أمام المحكمة. بل ذهب الرابانيون إلى تحريم حديث الرجل مع المرأة
إلاّ في وقت الضرورة. وهكذا يحرّم عن المرأة أن تشارك في الطعام مع الضيوف. بل
تمنع من الخدمة لئلاّ تتأثّر بما تسمعه من أحاديث. إنها أقل من قاصرة. فلتبقَ داخل
خدرها ولا سيما إذا كانت لا تزال فتاة غير متزوجة.
ولا يفلت من هذا الوضع المؤلم إلاّ أم الأولاد. فالانجاب أمر مهمّ، وإكرام الوالدين يطيل عمر الأولاد (خر 20: 12). لم يكن للمرأة أي احترام. فتعدّد الزوجات أمر شرعيّ، وهذا ما يحطّ من قدر المرأة. وفي أي حال، الزوج هو السيّد المطلق، هو بعل (كأنه إله) امرأته وهي ملكه فتطيعه طاعة تامّة. في عقد الزواج تُحسب الفتاة سلعة، فلا يهتمّ أحد بسعادتها، بل بالفائدة التي يمكن أن تنتج عن هذا الزواج. فشريعة السلفية (بكسر السين) تفرض على المرأة أن تتزوج سلفها (أي أخ زوجها) لتؤمّن للميت نسلاً يذكره (مت 22: 24- 27). هذا هو شرقنا القديم والحديث الذي يعتبر المرأة عبدة الرجل أو شيئاً يستطيع أن يبيعه. هنا نتذكّر مثل المدين الذي أجبر على بيع امرأته ليدفع دينه (مت 18: 25).
وحين نتحدّث عن الطلاق، يبرز احتقار المجتمع للمرأة. وحده الرجل يتّخذ المبادرة ويطلّق امرأته. يقوم بإجراء قانوني بسيط: يكتب لها كتاب طلاق. ولماذا يطلق الرجل امرأته؟ قال سفر التثنية (24: 1): "وجد فيها شيئاً غير لائق". كانت مدرسة شمعي لا تسمح بالطلاق إلاّ في حالة الزنى. أما مدرسة هلال فتحدثت عن أي شيء يُزعج خاطر الرجل: أحرقت له حساءه. لم يعد يراها جميلة. "إن لم تخضع حتى لإشارة من أصبعك، فانفصل عنها" (سي 25: 25).
ولا نتكلّم عن فرائض الطهارة بحسب الشريعة. إن
"نجاسة" المرأة تمنعها من الاختلاط بالناس في أوقات محدّدة، وتحرمها من
الصلاة وسائر شعائر العبادة. لا نجاسة مثل هذه في الرجل. إذن جوهره غير جوهر
المرأة وهو أقرب إلى الألوهة. وعادت النصوص الى حواء وإلى ضعف المرأة أمام التجربة
وإلى دور المجرّبة الذي يمكن أن تلعبه تجاه الرجل. لهذا يجب على الرجل أن يحذرها
ويحدّ من حريتها ويجعلها تحت سلطة الذكر. إنها قاصرة طوال أيام حياتها.
المسيح والنساء
نحن مع المسيح أمام انقلاب للقيم، انقلاب ضروري
ولكنه انقلاب قاس وشرس: فملكوت الله الذي انتظروه لم يكن ملكوت القدرة والسلطة
الزمنيّة، ولا ملكوت الثقة المفرطة بالنجاح والانتصار. وقد هدف هذا الملكوت في
جوهره إلى تحويل كل إنسان تحويلاً عميقاً بجعل علاقته مع الله علاقة حميمة في
الصلاة وبتتميم مشيئته.
فالسامعون المميّزون الذين أعلن إليهم يسوع أولاً
تعليمه كانوا أشخاصاً لا مكانة لهم في المجتمع، كانوا الهامشيين والمغضوب عليهم
والفقراء والذين يتألّمون من ظلم الناس وجور المجتمع. هذا لا يعني ان يسوع لم
يعتبر أن هذا الظلم وعدم المساواة ليسا شقاء لا بد من الحرب عليه وإلغائه. ولكن
ضحايا هذه الشرور والظلامات كانوا مستعدّين ومهيّأين لفهم هذا التعليم عن العدالة
والمحبّة. فإعلان كرامة كل إنسان، واعتبار كل إنسان مساوياً لأخيه ومدعواً إلى
الدعوة عينها، مع كل ما في هذا الموقف من التراخي، حدّد النظرات العرقيّة وكل
تمييز عرفته فلسطين في ذلك الوقت. ولهذا يقبل المتألمون من هذا الجور وهذا التمييز
مثل هذا التعليم المحرّر بأمل كبير ورجاء لا حدود له. ومن هؤلاء المتألمين كانت
المرأة التي أحضرنا إلى وضعها في أيام المسيح.
انحنى يسوع بمحبة على الفقراء، ولم يتردّد في
التصدي لكل محرّمات الشريعة، ليوجّه تعليمه إلى الناس، حتى شككهم فاعتبروا أن عمله
ينافي الاخلاق. ففي وقت من الاوقات تقدّم تلاميذه وقالوا له: "أتعرف ان
الفريسيين استاؤوا عندما سمعوا كلامك هذا" (مت 15: 62)؟ ولماذا استاؤوا
وتشككوا؟ لأن يسوع عارض الطهارة الخارجية بحسب الشريعة وقال: "ما يخرج من
الفم هو الذي ينجّس الانسان" (مت 15: 11).
ويروي القديس مرقس دعوة لاوي ثم يتابع:
"وكان يسوع يأكل في بيت لاوي، فجلس معه ومع تلاميذه كثيرون من الذين تبعوه من
جباة الضرائب (العشارين) والخاطئين. فلما رأى بعض معلمي الشريعة من الفريسيين أنه
يأكل مع جباة الضرائب قالوا لتلاميذه: ما باله يأكل ويشرب مع جباة الضرائب
والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال لهم: لا يحتاج الاصحّاء إلى طبيب، بل المرضى. ما
جئت لادعو الصالحين، بل الخاطئين" (مت 2: 15- 17).
عارض يسوع موقف الرابانيين، فلمس يد حماة بطرس
المريضة، سلّم عليها، أمسك بيدها (مت 1: 31). وحين جاءت نازفة الدم (وهي تُعتبر
نجسة بحسب الشريعة) ولمست طرف ثوبه، لم يوبّخها ولم يطردها، بل كلّمها بحنان
ومحبّة: "ثقي، تشجّعي، يا ابنتي، إيمانك شفاك" (مت 9: 20- 22).
لم يكن يحقّ لليهودي أن يعلّم المرأة الشريعة أو
يتحدّث معها أو يتركها تخدمه. ولكن يسوع دلّ بموقفه على الطريقة التي بها تصرّف مع
مرتا ومريم (لو 10: 38). لم يكن من المعقول أن ينزل رجل ضيفاً على امرأتين تعيشان
وحدهما. لقد قلب يسوع كل هذه الافكار المسبقة وهذه المحرّمات، فدهش منه تلاميذه
أنفسهم. يمكننا أن نتخيّلهم ينظرون إليه وهو جالس مع تلك السامريّة (يو 4: 27).
يقول يوحنا: "وعند ذلك رجع تلاميذه، فتعجّبوا حين وجدوه يحادث امرأة. ولكن لا
أحد منهم قال: ماذا تريد منها؟ أو لماذا تحادثها؟" لنذكر أيضاً موقف يسوع
الذي شكك الفريسيين الذين جاؤوا بأمرأة أمسكت في زنى وذكّروه بواجب رجمها (يو 8: 4-
5). أما يسوع فقال لها: "اذهبي ولا تخطأي بعد الآن" (يو 8: 11).
وتلك الخاطئة التي يحدّثنا عنها لوقا (7: 36-
51). كيف سمح لها أن تقبّل قدميه، أن تبكي على هاتين القدمين وتمسحهما بشعرها
وتدهنهما بالطيب؟ قال سمعان: "لو كان هذا الرجل نبياً، لعرف من هي هذه المرأة
التي تلمسه وما حالها، فهي خاطئة". ولكن يسوع سيجعل الفريي يقول إن يسوع أحبّ
هذه الخاطئة أكثر منه لأنه أعفاها من الأكثر.
خاتمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق