الصّلاة
هيَ رغبة عارمة في ملاقاة يسوع، رغبة تستولي على النفس وتشعل فيها شوقًا يتأجج في
كلّ حين، ويزداد هذا الشوق حينما تُصلي[1]، فالصّلاة لا
تجعل شوقنا للتلاقي مع الله يخبو، بل على العكس فهي تزيده إشتعالًا وتوهجًا داخل
النفس كما بنار.
هذا
هو عمل الروح الإلهي الناري حينما يدخل النفس يوهجها بناره الإلهيّة المنيرة لا
الحارقة ويطعم النفس بحضوره بملء النعمة لأن الروح لا يأتي بمقياس ولا يُعطي
بمكيال.
وهذا
اللقاء في أحضان الثالوث، أي حينما يُدخلنا الروح القدس في بنوية الابن وهي الدالة
التي بها نصعد إلى قدس الأقداس أمام الآب، هذا لقاء لا تتشبع منه النفس ولا تمتلئ
ولا تمل، بل دائمًا تطلب الازدياد منه وكلّما تذوقت النفس حلاوة عشرة الثالوث طلبت
الدخول في العمق أكثر والجلوس معه أكثر وأزدادت محبة الرّب أكثر في داخلها. وهذا
ما أشعل مرنم المزامير فتهلل قائلًا: "ذُوقُوا وَانظروا
مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! مز34: 8".
فالعبادة هيَ لقاء، هيَ اجتماع بين أشخاص. الهدف
من العبادة ليس مجرد إثارة عواطف أو تحقيق مواقف أخلاقية لائقة، بل الهدف هو
الدخول في علاقة مباشرة وشخصية مع الله الثالوث القدوس، كصديق يتحدث مع صديقه، نحن
نتكلم مع الله، وبدالة نقف أمام وجه ذاك الذي يسكن في نور لا يُدنى منه. هذا ما
كتبه القديس سمعان اللاهوتي الحديث[2]. يشير
القديس سمعان هُنا باختصار إلى قطبين للعبادة المسيحيّة، وهما الوجهان المتعارضان
لهذه العلاقة الشخصية: فالله "يسكن في نور لا يدنى منه"، ومع ذلك
فنحن البشر نستطيع أن نقترب منه "بدالة"، وأن نتحدث معه "كصديق يُكلّم
صديقه". الله يفوق كلّ الوجود وهو بعيد بغير حدود، ولا يمكن إدراكه، "هو
الآخر الكلي" (السر العظيم والذى يسلب العقول). ولكن هذا الإله الفائق العلو
هو في نفس الوقت إله الحب الشخصيّ، فهو قريب بطريقة فريدة، موجود حولنا وحاضر
فينا: "الحاضر في كلّ مكان والماليء الكل" (الصّلاة الأرثوذكسية التي توجه
للروح القدس)[3].
ويتطلّع
الأب أفراهاط إلى الصّلاة بكونها لقاءً داخليًّا للقلب النقي مع الله القدوس، فالصّلاة
هيَ حديث القلب، الذي لن يكون موضوع سرور الله القدوس ما لم يكن طاهرًا ونقيًّا.
إنّ رجل العلم
يَدرس الأشياء والظواهر المخلوقة، أمّا رجل الصّلاة فهو يعمل جادًا مع خالق
المخلوقات. إنّ ما يُحرِّك حُبَّه ليس هو الدفء بل الينبوع الذي يفيض بالدفء، وما
يشغل اهتمامه ليست هيَ وظائف الحياة بل مصدر الحياة، إنه ليس محصورًا في حدود ذاته
الخاصّة ولكنه مشغول بمصدر الشعور والوعى في داخل كلّ ذات. وأعني به خالق الذات
وكلّ الكيان[4].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق