إنّ التوبة ليست فقط الدموع والبكاء
والندم، بل هي تغيير اتجاه قلبي، عودة إلى أحضان الله المفتوحة لنا دائمًا. فالأمر
الأساسيّ الذي يجب أن نصدقه من كلّ قلوبنا أنّ محبّة الله ثابتة، لا تتغيّر، لا
نحتاج أن نفعل أي شيء فتزيد محبّة الله لنا، ولا نفعل أي شيء لتقل محبّة الله
تجاهنا، بل هي ثابتة دائمًا. فما فائدة التوبة إذًا؟
إنّنا بفعل الخطية نبتعد بإرادتنا
الحرّة عن الحضن الإلهيّ، نخرج عن مراحم الله المتسعة، نعطي لله ظهورنا بدلًا من
وجوهنا، أي أنّ مراحم الله وحضنه مفتوح دائمًا لنا، ونحن من ندخل ونخرج منه، نحن
من نلتصق به أو نبتعد عنه، وهو الكائن الأكثر سموًّا، لا يمكن أن يفرض ذاته علينا،
فيتركنا لحرّيّتنا، إمّا أن نتوب أي نعود إلى حضنه، أو نستمر في الابتعاد عنه.
قال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:
”إن كان بكاء بطرس محا خطية عظيمة جدًّا، فأنت اذا بكيت كيف لا يمحو الله خطيتك؟ لأن انكار ذاك لسيده لم يكن جريمة صغيرة بل عظيمة وقوية. ومع ذلك فقد محت الدموع الخطية. فأبك إذًا أنت أيضًا على خطيتك، ولكن لا يكونن بكاؤك على حسب العادة وفي الظاهر فقط بل أبك بمرارة مثل بطرس وقدم ينابيع دموعك من داخل العمق حتّى يتحنن عليك السيد ويصفح عن ذنبك“.[1]
وقال القديس باسيليوس:
”يجب على التائبين أن يبكوا بمرارة وأن يظهروا من قلوبهم سائر علامات التوبة“.[2]
وقال أيضًا:
”ان التوبة تدعو الإنسان أولًا أن يصرخ في نفسه ويسحق قلبه ثمّ أن يصير قدوة صالحة للاخرين ويجعل طريقة توبته مسموعة ويشهرها“.[3]
ولا يجب أن يكون هذا الانسحاق ناتجا
عن الخوف من العقاب، بل ينبغي أن يكون انسحاق القلب ناشئًا عن شعور بأنه أغضب الله
المُحبّ. لأنّ الحزن الأوّل هو حزن العبيد، أمّا النوع الثاني فهو شعور الأبناء.
قال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:
”تنهّد عندما تخطىء لا لأنّك مزمع أن تُعذَّب لأنّ هذا ليس شيئًا، بل لأنّك خالفت سيدك الوديع الذي يود وصبر إلى خلاصك حتّى أنّه أعطى ابنه عنك، فلهذا تنهّد واصنع هكذا دائمًا“.[4]
وقال القديس باسيليوس:
”لإنّ ليس الذي يقول أخطأت، ويلبث مصرًا على الخطية يعترف. لا. بل الذي يجد خطيته ويبغضها كما قال المزمور. فما الفائدة للضعيف من اجتهاد الطبيب إذا كان يجلب ما يفسد حياته؟ هكذا لا فائدة من الصفح عن الظالم إن لم يكف عن ظلمه، ولا فائدة لمن يقول إنّه ترك الرجاسة ويبقى في نجاسته. فبدون المسامحة من الله لا يُمكن للإنسان أن يبتدىء بالحياة الفاضلة. ولهذا قد أراد مدبر حياتنا الحكيم من الذي امتحن ببعض الخطايا وعزم على السلوك بالسيرة المعافاة أن يضع حدًّا للأمور الماضية يحدّدها به، ويجعل لنفسه بدءًا جديدًا بعد الخطايا كان حياته قد تجدّدت بالتوبة. وأمّا الذي يعترف بخطاياه مرارًا ثمّ يسقط فيها بتواتر فإنّه يغلق عنه باب تعطفه ويتركه في اليأس“.[5]
وقال أيضًا:
”إنّه لا يكفي للتائبين غفران الخطايا وحده للحصول على الخلاص بل من الضروريّ أن تكون لهم أثمار لائقة بالتوبة“.[6]
وقال ذهبي الفم:
”إن اخطئت؟ فأدخل الكنيسة وأمح خطيتك. وكما أنّك بقدر ما تقع في الشارع وتنهض، هكذا كلّما خطِئت تب عن الخطية ولا تيأسن من ذاتك. وإن خطِئت ثانية فتب توبة ثانية أيضًا ولا تسقطن من الرجاء بالخيرات الموعود بها سقوطًا كاملًا بسبب إهمال. وإن كنت في غاية الشيب وخطئت، فادخل واندم. لإنّ هذا المكان هو مستشفى وليس محكمة وهو لا يطلب مجازاة على الخطايا بل يهب صفح الخطايا“.[7]
ورد في رسالة القديس يوحنا الإنجيليّ
هذا النص: ”إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ،
يَطْلُبُ، فَيُعْطِيهِ حَيَاةً لِلَّذِينَ يُخْطِئُونَ لَيْسَ لِلْمَوْتِ. تُوجَدُ
خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ. لَيْسَ لأَجْلِ هَذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ. 17كُلُّ
إِثْمٍ هُوَ خَطِيَّةٌ، وَتُوجَدُ خَطِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ“ (1يو5: 16، 17)،[8] فهل
هُناك بالفعل خطيّة للموت، أي ليس لها مغفرة؟ يجيبنا القديس يوحنا ذهبيّ الفم
قائلًا:
”ومثال لخطية التجديف على الروح القدس هو يهوذا الإسخريوطيّ الذي انقطع منه كلّ رجاء توبة، وما كانت ندامته سوى زيادة خطية على خطية فإنّه ذهب وشنق نفسه وارتكب إثمًا فوق إثمه. فعلى ذلك طالما يرجى من الخاطىء ندامة فلا تكون خطيته تجديفًا على الروح القدس، ولكن متى صمت صوت ضميره وتأصّل في قلبه بغض شيطانيّ ضد نعمة الله التي كان ذاقها، وصارت حالته شبيهة بحالة الشيطان وبحالة يهوذا الإسخريوطيّ ولم يبق له رجاء توبة. حينئذ تكون خطيته تجديفًا على الروح القدس، ولا يمكن أن يحصل على غفران نظرًا للحالة الشنيعة التي وصل إليها. وقانا الله من مثل هذا التخلي الفظيع“.[9]
فهذه الخطية هي عدم الرجاء في الغفران
الإلهيّ، إنعدام الإيمان بأنّ الله يغفر كلّ خطية مهما كانت ومهما كان فاعلها،
وأيًا كان عِظَم مِقدار هذه الخطية في أعين البشر، فعدم الرجاء في مراحم الله هو
أعظم خطية وأكبر خطية لا تُغفر.
بداية، يجب
أن نعرف أنّ سرّ الاعتراف كان جهاريًّا ولمرة واحدة قبل العماد، وذلك في القرون
الخمسة الأولى، ثمّ تطوَّر السرّ في الغرب حتّى صار الاعتراف في أذن الكاهن، ثمّ
صار هُناك كرسيّ اعتراف بجانب حجرة تحجب المعترف عن الكاهن.
أمّا في
الشرق فيكفي أن نذكر أنّ الاعتراف على يد كاهن كانت تعدّه الكنيسة القبطيّة بدعة،
وترفضه تمامًا، وهُناك حادثة شهيرة لكاهن يُدعى مرقس بن قنبر، في القرن الثاني
عشر، تمّ ايقافه لأنّه كان يدعو الناس للاعتراف على يد كاهن. وكانت الكنيسة
القبطية تستخدم الاعتراف على الشوريا بدلًا من ذلك، وظلّ الأمر هكذا على مدى قرن
ونصف تقريبًا، وفي معية ثلاثة بطاركة.
قال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:
”لإنّ ساكني الأرض والقاطنين فيها قد سمح لهم أن يسوسوا ما في السموات، وأخذوا سلطانًا لم يعطه الله لا للملائكة ولا لرؤساء الملائكة، لأنّه لم يقل لأولئك كلّ ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكلّ ما تحلّونه على الأرض يكون محلولًا في السماء.. ثمّ أنّ للمتسلطين سلطانًا في الأرض أن يربطوا ولكنهم يربطون أجسادًا فقط، وأمّا هذا الرباط فإنّه يمس النفس عينها، ويجتاز السموات، وما يعمله الكهنة تحت يثبته الله فوق، ويؤيّد السيد رأي العبيد“.[10]
وقال أيضًا:
”إنّ الآباء الطبيعيّين إذا خالف أولادهم أحدًا من الرؤساء أو ذوي القدرة في هذه الحياة لا يستطيعون أن ينفعوهم شيئًا. وأمّا الكهنة فإنهم كثيرًا ما استعطفوا وصالحوا لا رؤساء وملوكًا بل الله نفسه“.[11]
وقال أيضًا:
”أي سلطان يمكن أن يكون أعظم من هذا السلطان؟ إن الآب أعطى الحكم كلّه للابن وأرى أنّ هؤلاء تسلموه كلّه من الابن.. وقد كان لكهنة اليهود سلطان أن يطهروا برص الجسد، وبالأحرى لم يكونوا يطهرونه بل يفحصون المعتوقين منه، وأنت تعلم كم كان سلطانهم وقتئذ مشتهى. ولكن هؤلاء قد نالوا سلطانًا لا على برص جسدانيّ بل على الدنس النفسانيّ، ولا أن يفحصوه بعد التطهير بل أن يطهروه تمامًا“.[12]
وقال القديس أمبروسيوس:
” من يستطيع أن يترك خطايا إلَّا الله وحده والذين أعطاهم هو هذا السلطان“. ”إنّ هذا الحق أعطيَّ للكهنة وحدهم“.[13] ”إنّ البشر يتممون سرّ التوبة لغفران الخطايا من دون أن يكون لهم سلطان في ذلك باسمهم، وإنّما يتمّمونه بالاسم الممجد اسم الآب والابن والروح القدس، فهم يطلبون والله يعطي وعلى البشر الطاعة هُنا ومن الله الهبة العظيمة“.[14]
وقال المطوَّب أغسطينوس:
”إنّ الخطية إذا فعلها موعوظ تغسل بالمعموديّة، وإذا فعلها معتمّد تترك بالتوبة“. ”وقروهم (الآباء الروحيّين) وأكرموهم وقدموا لهم جميع أنواع الكرامة، لأنّهم أخذوا من الله سلطان الحياة والموت بأن يحاكموا الخطاة ويحكموا بموت نار أبديّ، وأن يحلّوا الراجعين عن خطاياهم“.
الكاهن
شاهد للكنيسة أمام المسيح، وليس غافرًا للخطايا
ليس في
الكنيسة الأرثوذكسيّة كرسيّ اعتراف على الطراز الكاثوليكيّ، فالتائب والمعرِّف على
العموم يقفان معًا أمام الأيقونسطاس، وأحيانًا وراء ستاره، أو داخل غرفة مخصّصة
لهذا الأمر. يقف التائب أمام الصليب أو أيقونة السيّد أو كتاب الأناجيل، ويقف
الكاهن إلى جانبه. ووضع الشخصين على هذا النحو يؤكِّد بأن الله هو الحاكم في
الاعتراف، وبأن الكاهن ليس سوى شاهد وخادم الله. ويُشار إلى ذلك أيضًا من خلال قول
الكاهن قبل سماع الاعتراف:
”يا ولدي، المسيح موجود هنا بشكل غير منظور ويتقبل اعترافك. لا تخجل ولا تخش شيئًا ولا تخبئ عليّ أي أمر. بل اذكر بدون إحجام كلّ ما اقترفته، كي تحوز على الغفران من ربنا يسوع المسيح. انظر إلى أيقونته قربنا. وما أنا سوى شاهد يشهد أمامه لكل ما ستقوله لي. ولكن لو أخفيت عني شيئًا، ستقترف ذبنًا كبيراُ. تشجّع إذًا، جئت إلى الطبيب، فحذار أن تعود غير معافى“.[15]
شرح بعض الآيات الخاصة بمفهوم الحل والربط
مت 18:16و19 ”وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أنت بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَوَاتِ. وكلّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَوَاتِ“.
ليس عفويًا
أن يعطي المسيح مفاتيح ملكوت السموات لبطرس ليربط ويحل، بل على أساس الإيمان الذي
أرسى قواعده، فهذا الإيمان إن شبَّهناه بالمفتاح يصبح كلّ مفتاح ينطبق على هذا المفتاح
بمواصفات الإيمان الذي فيه، إذا دخل ”الكالون“ وانطبقت المواصفات انفتح ”الكالون“ من
ذاته، وبالتالي انفتح الباب السماوي الذي للملكوت. فبطرس لا يفتح بإرادته ولا يغلق
بإرادته، ولكن بمقتضى انطباق إيمان كلّ إنسان طالب الملكوت. فطالما انطبق إيمانه
على إيمان بطرس الذي أصبح إيمان الكنيسة ينفتح له باب الملكوت، والذي إيمانه لا
يطابق إيمان الكنيسة الذي هو ”يسوع المسيح ابن الله“ لا ينفتح له الملكوت، مهما كانت
مشيئة الناس.[16]
وفعلًا فتحَ
بطرس ملكوت السماوات أولًا لليهود في (أعمال الرسل 14:2-42) وثانيًا للسامريين في
(أعمال الرسل 14:8-17) وثالثًا للأمم في (أعمال الرسل 1:10 إلخ).
كما أنّ الرسول
بطرس مُشتركًا في ربط خطية حنانيا وامرأته عليهما للتأديب (أعمال الرسل 1:5-11)
وكذلك خطية سيمون الساحر أيضًا الذي كان قد اعترف بالمسيح (أعمال الرسل 20:8) غير
أن الحكم بالتأديب في هذه الحادثة الأخيرة إنما يستنتج من جواب سيمون نفسه الذي
ظهر له أنّه لا بد من وقوع القصاص عليه طبقًا لكلام الرسول. وأما من جهة اشتراك
الرسول في إجراء الحل فلم يُرِد في الكتاب ذكر لذلك. ونرى الرسول بولس أيضًا
مُشتركًا في هذا العمل من الوجهين، أولًا الربط في (أعمال الرسل 6:13-12) حيث ربط
خطية باريشوع عليه للقصاص إلى حين. وفي ذلك ما يستحق المُلاحظة لأن المذكور لم يكن
قد اعترف باسم المسيح ولكنه كان يهوديًا تحت المسئولية الخصوصية لله فأجرى عليه
الحكم التأديبي على وجه صائب. وكان أيضًا نبيًا كذابًا يُقاوم الحق. وكان في ذلك مثالًا
لأُمة اليهود على وجه الإطلاق. فإنهم رفضوا المسيح. وصاروا أشد المُقاومين للإنجيل
إلى أن أفرغوا صبر الله وطول أناته فربط خطاياهم عليهم للقصاص. فاستخدم بولس
ليُخصص لهم نبوة إشعياء بشأن ذلك (انظر أعمال الرسل 23:28-27؛ تسالونيكي الأولى
15:2، 16). فسقوط الضباب والظلمة على بصر ذلك المُقاوم إلى حين هو نظير الحكم
بالعمى، الذي حكم به على اليهود إلى هذا اليوم. ونرى أيضًا أن هذا الرسول قد حكم
بالربط (كورنثوس الأولى 3:5-5) وبالحل (كورنثوس الثانية 5:2-11) وبالربط أيضًا
(تيموثاوس الأولى 20:1). ويتضح من هذه العبارات المُتعلقة بإجراء الربط والحل
أنهما من الأعمال التي تُجرى على الأرض مؤقتًا. ولا دخل لهما في أمر خلاص النفس أو
هلاكها. حتّى ولو كان التأديب ينتهي بموت المحكوم عليه فإننا لا نقدر بناء على ذلك
أن نجزم بهلاكه.
إن كان ملكوت السماوات هو عمل إلهيّ
يعلنه الآب في قلوبنا بالروح القدس في ابنه، فقد قدّم مفاتيح هذا الملكوت بين يديّ
الكنيسة، لا لتسيطر، وإنما لتخدم البشريّة. لقد تسلّمت السلطان لا لتعمل بذاتها بل
بالروح القدس الساكن فيها. فتشترك العروس في عمل العريس نفسه، لتنال كرامة الشركة
معه على أن تتم إرادته الإلهيّة في سلوكها.
مفتاح الملكوت في الحقيقة هو في
ملكيّة ابن داود نفسه الذي يفتح ولا أحد يُغلق، ويُغلق ولا أحد يفتح، فإنّ كان
السيّد قد وهب كنيسته هذا المفتاح الإلهيّ إنّما يأتمنها عليه ويبقى هو العامل
سرّيًا في داخلها، يعرف من يستحق فيفتح له خلالها ومن يتركه خارجًا يغلق عليه.[17]
مت 18:18 ”الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كلّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وكلّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ“.
فالحلّ
والربط هنا يخص التعليم ووضع الأُسّس الصحيحة للكنيسة وتعاليمها عامة. أمَّا
المعنى الثاني وهو الغفران من عدمه فهو بعد نوالهم قوة الروح القدس، الأمر الذي
جعله ق. يوحنا لهم خاصة، بالنفخ في وجوههم بعد القيامة مباشرة، ودون انتظار حلوله
العام في يوم الخمسين، وذلك لأهمّيّة الروح القدس في الغفران وإعطاء المشورة في
الربط. وسواء كان الأوّل أو الثاني فهو السور المنيع الذي حفظ الكنيسة من
الخارجيّن عن الإيمان الصحيح ومبتدعي العقائد. ولا تزال تحافظ الكنيسة على هذا
السلطان من أجل غفران الخطايا وعدم غفرانها، دون شروط مسبقة من المسيح، ذلك
اعتمادًا على مشورة الروح القدس.[18]
إذًا برفضه الكنيسة يَحرم الإنسان
نفسه من العضويّة في جسد المسيح، ويصير من حق الكنيسة أن تربطه. إذ يكمّل السيِّد
كلماته هكذا: ”الحق أقول لكم كلّ ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطًا في السماء،
وكلّ ما تحلّونه على الأرض يكون محلولًا في السماء“. أنّه يربط نفسه بنفسه برفضه
الفكر الكنسي، وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء
من فساده لئلا يتسرب إليهم، كما تُعزل الخميرة الفاسدة عن العجين كله، أو يُبتر
العضو الفاسد. وإن كان هذا الأمر لا يتمّ باستهتار أو بتسرّع. فإنه ليس سهلًا أن
يقبل إنسان بتْر عضو من جسده إلا بعد استخدام كلّ وسيلة ووسيلة لعلاجه، وحينما يجد
جسده كلّه في خطر يلتزم تسليمه للبتْر. أقول أنّه ما أصعب على قلب الكنيسة أن ترى
إنسانًا. يُلقي بنفسه خارجًا ويُلزمها بربطه، أنها تبقى منتظرة من يومٍ إلى يومٍ
رجوعه لكي تحِلُّه فيجد بابها مفتوحًا له. لهذا يذكر السيِّد الربط أولًا فالحَل،
ليعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، وليلهب قلب الكنيسة نحو حلّ المربوطين فلا تستكين
من جهة خلاصهم حتّى وإن كانوا قد ألقوا أنفسهم بأنفسهم خارج أبوابها.[19]
يو20: 23 ”مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ“.
وقال القديس كيرلس السكندريّ:
”ان المتوشحين بالروح القدس يتركون الخطايا أو يمسكونها على نوعين كما أرى: أما بأنهم يدعون إلى المعموديّة الذين اقتضى نوالهم اياها حسن سلوكهم وخبرتهم في الإيمان، وأما بأنهم يمنعون البعض ويحجبونهم عن النعمة الالهية، لأنهم لم يصيروا بعد مستحقين لها. أو على وجه آخر أيضًا يتركون الخطايا ويمسكونها، وذلك أما بقصاصهم أبناء الكنيسة عندما يخطئون واما بمسامحتهم اياهم عندما يندمون“.[20]
ومن
الأهمّيّة بمكان عظيم, أن نذكر:
(1) إنّ هذا السلطان ليس وقفًا على فرد من
الأفراد, مهما سمت رتبته, لكنه من حق الكنيسة مجتمعة.
(2) إنّ الحل والعقد المذكورين في هذه الآية, ليسا من الأحكام التعسفية التي يصدرها من يشاء, حسبما يشاء, بل هما من النتائج المترتبة على الكرازة بكلمة البشارة. فالكلمة نفسها هيَ خير حكم لمن يقبلونها, وعلى من يرفضونها. أو بعبارة أخرى: إن خير حكم للإنسان, أو عليه, هو الإنسان نفسه – فإنّ قبل كلمة البشارة تمتع بنعمة الغفران, وإن رفضها صار هو الحاكم على نفسه بأنه ليس أهلًا لهذه النعمة. وخير مثال لذلك, ما جاهر به بولس وبرنابا لليهود الذين لم يقبلوا كلمة الإنجيل ”كان يجب أن تكلموا أنتم بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية, هو ذا نتوجه إلى الأمم“ (أعمال 13: 46). وما إمساك الخطايا إلا نتيجة طبيعية لعدم غفرانها.
[1] في التوبة 3:3.
[2] في أدبياته 1: 3.
[3] شرح إشعياء 15.
[4] عظة 7: 5على 2كو.
[5] على إشعياء 1: 5: 14.
[6] أدبيات 1: 4.
[7] في التوبة 3: 4.
[8] هذا النص
يوضِّح بأجلى بيان أنّ للكنيسة حقّ الشفاعة في خطايا الآخرين، هذا الأمر -كما
أوضحنا- الذي كان في قدرة المسيح على الأرض، ونقله للكنيسة إذ هيَ جسده.
[9] تفسير متّى عظة 41: 3.
[10] في الكهنوت عظة 3: 4 و5.
[11] في الكهنوت 3: 6.
[12] الكهنوت عظة 3: 5و6.
[13] التوبة 1: 2.
[14] في الروح القدس 3: 8.
[15] هذا الإرشاد موجود في الكتب الطقسيّة السلافونيّة وليس
في الكتب اليونانيّة أو القبطيّة، أو العربيّة.
[16] الأب متّى المسكين، شرح وتفسير إنجيل القديس متّى.
[17] من تفاسير وتأملات الآباء
الأولين، على إنجيل متى، الأب تادرس يعقوب.
[18] الأب متّى المسكين، شرح
وتفسير إنجيل القديس متّى.
[19] من تفاسير وتأملات الآباء
الأولين، على إنجيل متى، الأب تادرس يعقوب.
[20] تفسير يوحنا 20: 23.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق