يجب أنّ نؤكِّد أيضًا لنفهم أنّ آدم أخطأ فمات،
بينما نحن نولد مائتين، إذًا نحن عرضة للخطية. الله لا يحكم علينا بالموت الآن لأننا
شركاءٌ في ذنبِ آدم وخطيئته الأولى أو الأصلية كما يفهمها لاهوتيّو العصور الوسطى.
بل لأننا نرث طبيعة خاطئة. الله سمح بالموت كعمل رحمة حتّى لا يكون الإنسان خالدًا
في الخطية.[1]
عندما قال بولس: “لأن
أجرة الخطية هيَ موت” (رو6: 23)، فإنّه لا يعني أنّ الله يُجازي أعمال الإنسان بالموت، بل أنّ الخطية
هيَ مرضنا القاتل. خطية آدم كانت إعلان بأنه ذاتي الاكتفاء، ويفصل نفسه عن الله
الذي له وحده عدم الموت (1تي6: 16) والمصدر الوحيد للحياة، فقد أضاع آدم الروح
القدس، الحياة الحقة.[2]
وهذا يتفق تمامًا مع ما تسلمته الكنيسة من
تعاليم الآباء، فيقول مار فليكسينوس:
“منذ التعدي الأوّل للوصية ساد الموت، وامتزج الموت مع الشهوة بالطبيعة، وصار كلّ من يدخل العالم بالزواج، من الطبيعي أنّ يولد مائتًا، وأن يكون خاضعًا للموت حتمًا، سواء أخطأ أو لا، وسواء أخطأ قليلًا أم كثيرًا، لأن الموت صار ممزوجًا بالطبيعة”.[3]
يدخلنا الموت بحالة من الهم الدائم، هذا الهم
الذي يدفعنا نحو تحقيق إمكاناتنا، إنه الوجود غير الأصيل الذي يشمل الإنسان دائمًا
بحالة من عدم الراحة، حالة من الهم الدائم والقلق الذي يدفعنا دفعًا نحو العمل على
محو هذا الشعور بالدخول في ملذّات ليست هيَ أصيلة في ذاتها، لا تُشبِع ولا تُغني،
ولا توصلنا لحالة من الاكتفاء، ولكنها ضرورية لهؤلاء الذين يرون أنّ حياتهم لها
نهاية قريبة وشيكة الحدوث.[4]
فاللذة هيَ أقرب طرق الإنسان للتمتع بالحياة
قبل أنّ يختطفه الموت منها، وقد دّرجت أذاننا على سماع كلمات
مثل: “اغتنم يومك”،[5] و“دعونا نأكل ونشرب
لأننا غدًا نموت”.[6] وهذا الحل
الذي أتى به الإنسان لمُشكلة اللذة هو حل وهمي بكلّ تأكيد، فالطعام والشراب والمرح
مثل الحرب والثورة، أنشطة عابرة بطبيعتها.[7]
فالموت قد سيطَّر على فكر البشريّة، وامتلكه،
حتّى أنها صارت تتهرّب منه بطرق شتى، بالانغماس في الملذَّات، وبارتكاب شرور
مُتتالية، تلد شرورًا أُخرى، ولا يوجد ما يحدها. أصبحت بحسب قول القديس أثناسيوس
الرسوليّ في كتابه الأوّل “ضد الوثنيين”:
“وإذ لم تقنع النفس البشريّة باختراع الشرور، بدأت بالتدريج تتحول إلى ما هو
أشر، لأنها إذ ذاقت شتى الملذَّات، بداية من التلذذ بشهوات الجسد، فقد ثبّتت
أنظارها على الأشياء الحاضرة وملذّاتها فقط..[8] وإذ لم يشبعوا بالشرور الأولى حاولوا أنّ يُشبِعوا أنفسهم بشرور أُخرى،
فتقدموا في فعل الخزي وتنافسوا في أعمال الفجور”.[9]
وبحسب القديس مقاريوس، لا يجب أنّ نقول إنّ كلّ شيء
قد ضاع وتلاشى ومات، بل أنه مات عن الله، ولكنه ظلّ حيًا بالنسبة إلى طبيعته.. فها
عالم البشر كله كما نراه، يسعى في الأرض، يشتغل ويعمل، ولكن الله ينظر إلى أفكارهم
وتصوراتهم فيصرف النظر عنهم، وليس له شركة معهم، لأنهم لا يفكرون فيما يرضي الله، وكما
أنّ الأتقياء إذا مروا أمام البيوت ذات السمعة القبيحة، والأماكن التي تُرتَكَب
فيها الفحشاء والفسق، فإنهم ينفرون منها ويرفضون مُجرد النظر تجاهها - لأن هذه الأمور هيَ موت في
نظرهم - هكذا فإنّ الله يغض النظر عن أولئك الذين تمردوا على كلمته وعصوا وصيته، تعبر
عيناه علىهم ولكنه لا يكون في شركة معهم، ولا يستطيع الرب أنّ يجد راحة في داخل
أفكارهم.[10]
ويكتب باسليوس الكبير:
“بعد أنّ خُدِع الإنسان الأوّل بواسطة الحية، ونال مشورة الخطية، وبالخطية واجه الموت، وبالموت البؤس، لم ينسه الله. لم ينسانا صلاح الله بالرغم من جفافنا نحو حنو الله، ومقاومتنا صانع الخيرات بعنفٍ. مع هذا لن نقدر أنّ نطمس حبه لنا، فإننا قد قمنا من الموت، وصرنا أحياء بربنا يسوع المسيح نفسه.. هذا ولم يكفِه أنّ يدعونا إلى الحياة من جديد، بل يعدَّنا للراحة الأبدية، التي في عظمة فرحها تفوق كلّ فكر بشري”.[11]
والقديس يوحنا ذهبي الفم، يقول:
“هذا ما فعله المسيح، لأن جميع الناس كانوا يخافون الموت، ولكي يُقنعهم أنّ يحتقروه، ذاق هو نفسه الموت، وإن كان غير مُحتاج إلى ذلك”.[12] “ألا ترى أنه أبطل طُغيان الموت، وفي ذات الوقت نقض قوة الشيطان؟ لأن الذي يعرف جيدًا حكمة القيامة، كيف سيخاف الموت؟ وكيف سيرتعب فيما بعد”؟[13]
هكذا يُشدد آباء الكنيسة على أنّ الموت كان مدخل البؤس والشقاء، هو حالة
من الشعور بالمحدودية والضعف، هذا الشعور الذي يُقابله انجذاب أكبر نحو اللذّة،
وإنغماس في الخطيئة والجشع والشرّه والشرّ. وهذا ما أتى المسيح لكي يُنقذنا منه،
بنعمته الإلهية، بصليبه وموته وقيامته.
[1] د/ عدنان أديب طرابلسي ومجموعة
من العلماء واللاهوتيّين الأرثوذكس. سألتني فأجبتك، الجزء الاول. ص 285.
[2]سألتني فأجبتك ج1 ص 543.
[3] مار فيلكسينوس أسقف منبج. الرسائل العقائدية
الجزء الاول. ترجمة الراهب روجيه يوسف أخرس دير مار افرام السرياني. عن الرسالة
إلى دير تلعدا محقق عن عدة مخطوطات فقره 27. ص 107.
[4] هذه خلاصة سريعة لمفهوم
هيدجر عن الموت وأثره في التعليم الأنثروبولوجي، يُمكن للقارئ الرجوع إلى كتابه
عظيم الفائدة (الوجود والزمن)، الصفحات 240، 262 - 265، 340. وأيضًا للدراسة
القيّمة التي وضعها الدكتور عبد الغفار مكاوي على هذا الموضوع في كتابه: نداء
الحقيقيّة، ص 86 - 108.
[5] وردت هذه الكلمات في الملحمة
الهوميرية القديمة المُسماة بـ“الأوديسة 1: 8”.
[6] انظر: إش22: 13؛ جا3: 22.
[7] أرنولد توينبي، الإنسان وهموم
الموت، ترجمة عزت شعلان (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011)، ص 114.
[8] ضد الوثنيين، 8: 3.
[10]عظات القديس مقاريوس 12: 2.
[11]
Regulae Fusius Tractatae 2: 3.
[12] يوحنا ذهبي الفم (القديس)، تفسير رسالة بولس الرسول
إلى العبرانيين، ترجمة د/ سعيد حكيم (القاهرة: المركز الأرثوذكسيّ للدراسات
الآبائية، 2010)، ص 83.
[13] المرجع السابق، ص 87.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق