أهمية قراءة الكتابات الكلاسيكية
لسي إس لويس
ترجمة: أمجد بشارة
هناك فكرة غريبة تبرز إلى الوجود دائمًا، وهي أنّ الكتب القديمة يجب أن تُقرَأ فقط بواسطة المتخصّصين، والمبتديء يجب أن يكتفي فقط بالكتب الحديثة. هذا ما عرفته من خلال عملي كمعلم للأدب الإنجليزيّ، فحين يريد الطالب معرفة أيّ شيء عن الأفلاطونيّة Platonism، فآخر شيء يفكّر بعمل أن يفعله هو أخذ ترجمة أفلاطون من رفّ المكتبة وقراءته مباشرة، فهو يفضِّل أن يقرأ بعض الكتب الحديثة والتي هي أضعاف حجم كتب أفلاطون ذاتها، والتي تعطيه معرفة عمَّا قاله أفلاطون. إنّ الخطأ هُنا ينبع من ميزة مُحبّبة، تلك التي تنبثق من التواضع. فالطالب لا يجد نفسه أهلًا لمقابلة أحد الفلاسفة العظماء وجهًا لوجه. يشعر بالنقص، ويعتقد بأنّه لن يفهمه. لكن إذا عرف الرجل العظيم، فقط من أجل عظمته، فسيتعرَّف عليه بشكل أفضل كثيرًا مِمَا عرفه مفسروه المعاصرون.
فالطالب البسيط سيكون قادرًا على فهم الكثير جدًّا، إن لم يكن كلّ، ما قاله أفلاطون؛ لكن من غير المُحتمل أن يفهم بعض الكتب الحديثة عن الأفلاطونيّة. لذا، فإنّ أحد مساعيَّ الرئيسيّة هو إقناع الشبيبة لا بأنّ المعرفة المباشرة الجديدة first-hand knowledge أفضل من المعرفة المُعاد استخدامها second-hand knowledge فقط، لكنها أيضًا أسهل كثيرًا، واكتسابها مبهج جدًّا.
هذا التفضيل الخاطيء للكتب
الحديثة، والخجل من القديمة، لا يوجد مثل له كما هو منتشر في دراسة اللاهوت. حيثما
تجد حلقة دراسيّة صغيرة من العلمانيّين المسيحيّين، فلك أن تتأكد أنّهم لا يدرسون
كتابات لوقا أو بولس أو أغسطينوس أو توما الإكوينيّ أو هوكير[1] Hooker أو بتلر[2] Butler، لكن
بدلًا من ذلك يقرأون لـبرديائييف[3] Berdyaev أو مارتيان[4] Maritain أو السّيد نيبور[5] Mr Niebuhr أو الآنسة سايرز[6] Miss Sayers أو حتّى
أنا.
يبدو هذا الأمر لي كما لو كان هُناك خلل. بكل تأكيد كوني كاتبًا فلا أريد من القاريء أن يتجنب الكتب الحديثة ولا يقرأها. لكن، إذا كان مُحتمًا أن يقرأ إمَّا للقدماء أو للمحدثين، فإنّي أنصحه بأن يقرأ للقدماء. وأنا أعطيه هذه النصيحة بالضبط لأنّه مبتديء وليس على دراية كافية لمواجهة الدراسات المعاصرة ومخاطر اختزالها لبعض الفقرات. أي كتاب جديد لايزال يخضع للفحص، والمبتديء غير قادر على كشف مشكلاته إن وجدت. يجب أن يتمّ اختباره خلال جسد المسيحيّة الضخم والممتد عبر العصور، وكلّ نتائجه الخفية (غير معروفة في أغلب الأحيان من قِبَل المؤلف نفسه) يجب أن تُمحص في النور. في أغلب الأحيان، لا يُمكن الوصول للفهم الكامل دون معرفة عدّد لا بأس به من الكتب الحديثة الأُخرى. إذا أتيت في الساعة الحادية عشر للمشاركة في محادثة بدأت في الثامنة، فعلى الأغلب لن تدرك ما يُقال، فبعض الملاحظات التي ستبدو لك عاديّة جدًّا ستنتج ضحكًا أو غضبًا وسط الحضور، ولن تدرك السبب، بالطبع، فمن حضر المحادثة من البداية صارت لديه معرفة خاصة ليست لديك. وبذات الطريقة، فإنّ جملًا في كتاب حديث ستبدو لك عاديّة جدًّا، بينما هيَ مبنيّة على فكرة في الكتاب الآخر؛ بهذه الطريقة قد تقبل كنت سترفضه بسخط إذا عرفت أهمّيّته الحقيقيّة. إنّ الأمان الوحيد يوجد في المعيار النقيّ، المسيحيّة المركزيّة (' المسيحيّة المجرّدة ' كما دعيت من قِبَل باكستر Baxter) التي تضع الخلافات اللحظيّة في نصابها الصحيح. مثل هذا المعيار يمكن أن يُكتَسَب فقط من الكتب القديمة. هُناك قاعدة جيّدة، بعد قراءة كتابًا حديثًالا تبدأ في كتاب آخر حديث ما لم تقرأ كتابًا قديمًا بين الاثنين.
إذا كان ذلك كثيرًا عليك، فيجب عليك أن تقرأ
كتابًا قديمًا كلّ ثلاث كتب حديثة.
كلّ مرحلة عمريّة لها وجهة
نظرها الخاصّة. وهذا جيّد حين نرى بعض الحقائق ولاسيّما تلك التي أوقعتنا في بعض
الأخطاء. لذا، فجميعنا نحتاج إلى الكتب التي تصحِّح مسارنا في كلّ مرحلة عمريّة. أعني
الكتب القديمة. كلّ الكتّاب المعاصرون يشتركون -إلى حدٍّ ما- في وجهة النظر المعاصرة
حتّى هؤلاء، مثلي، الذين يبدون أكثر معارضة.
لا شيء يضرني أكثر من
قراءة الخلافات التي حدثت في الماضي، وبالحقيقة كانت قائمة على افتراضات من كلا
الجانبين، أيّ يجب أن نرفضها الآن بالتأكيد. فقد اعتقدوا أنهم على طرفي النقيض، لكنهم
كانوا دائمًا في اتحاد سرّيّ، فقد اتّحدوا مع بعضهم البعض ضد العصور التالية لهم، من
قِبَل كتلة عظيمة من الفرضيات المشتركة. نحن قد نكون متأكّدون بأنّ العمى الخاص بالقرن
العشرون — العمى حول سؤال الأجيال القادمة: ”لكن
كيف يعتقدون ذلك“؟ سينتج أكاذيب لم نتوقعها، ويتعلق بأشياء مثل أنّ
هُناك اتفاقية غير معلنة بين هتلر والرّئيس روزفيلت[7] أو
بين السّيد إتش . جي . ويلز وكارل بارث. لا يستطيع أي مِنَّا أن يتهرّب من هذا
العمى الكلّيّ، لكنّنا سنزيده بالتأكيد، ونضعف حراستنا ضده، إذا قرأنا كتبًا حديثة
فقط. حيث بالحقيقة سيزودوننا بمعلومات وحقائق كنا نعرفها تقريبًا، وعن طريق الخطأ سيهيّجون
المُغالطة التي نحن مريضون بها بالفعل إلى حد حَرِج. العلاج الوحيد هو ترك نسيم
البحر النظيف يمر عبر القرون حتّى تتنسمّه عقولنا، وهذا ممكن فقط خلال قراءة الكتب
القديمة. بكلّ تأكيد ليس بسبب أنّ هُناك سحر خاص بالماضي، فالبشر لم يكونوا أذكى
مما هم عليه الآن؛ لقد صنعوا أخطاءً بقدر ما صنعنا. لكن ليس نفس الأخطاء. ولن
يغربلوا الأخطاء التي ارتكبناها، لكن بينما أخطائهم الخاصة مفضوحة الآن وواضحة، ربما
لن نسقط فيها. رأسان مفكران أفضل من رأس واحدة، ليس لأنهم معصومون، لكن لأنّه من
غير المحتمل أن يفضلا في ذات الاتجاه. لك أن تتأكّد، أنّ الكتب الحديثة بعضها جيّد
للعلاج مثل الكتب القديمة، لكن، ولسوء الحظ، نحن لا نستطيع الوصول إليهم.
وقد بدأت أنا بقراءة
الكتب الكلاسيكيّة المسيحيّة أولًا، وذلك بطريقة عَرَضيّة كنتيجة لدراساتي في الإنجليزيّة.
البعض، مثل: هوكير، وهيربيرت،[8] تراهيرن
Traherne،[9] وتايلور،[10] وبنيان
Bunyan،[11]
قرأت لهم بكونهم كُتَّاب إنجليز عُظماء؛ والآخرون، مثل القديس بوثيوس Boethius، St،[12] وأوغسطين،
وتوما الإكوينيّ، ودانتي، قرأت لهم لإن لكتاباتهم ”نفوذ“
كبير. ووجدت نفسي في السادسة عشر من العمر، ولم أقرأ لجوش ماكدونالد، وستلاحظ في
قراءاتي خليط من جيع الكنائس والعصور. والذي يدفعني إلى حد الآن لقراءتهم؛ أنّ انقسامات
المسيحيّة مستحيلة النُكران، وعند بعض هؤلاء الكُتَّاب بدت عنيفة للغاية. لكن، أي
ممن تغويهم القراءة للمعاصرين فقط، فإنّ تلك الكلمة: 'المسيحيّة'، وهي كلمة تعني
الكثير، سوف لا تعني أي شيء على الإطلاق، ودون أدنى شك عليه أن يتعلَّم الخروج من
عصره الخاص، ليعرف أن الأمر ليس كما يبدو. فمقياس ضد الزمن هيَ المسيحيّة
المجرّدة، والنظر إليها من عصرنا يجعلها تتحوَّل إلى شفافة وسط العالم وعديمة
الملامح! لكن هُناك أمر إيجابيّ ثابت ولا ينضب، أعرفه حقًّا وأتحمله.
في الأيام التي كنت أكره
فيها المسيحيّة،[13] تعلّمت أن أميّز، مثلما
أميّز بين عدّة روائح مألوفة للغاية، أنّ الشيء الثابت جدًّا الذي قابلته في
كتابات بينيان البيرتانيّ، وهوكر الأنجليكانيّ، وتوما الإكوينيّ ودانتي. كان مثل
(العسل والزهور) عند فرنسيز السيلزيّ،[14]
وكان (خطيرًا ومفوَّهًا) لدى سبينسر،[15]
ووالتون،[16] وكان (متجهمًا وشجاعًا) في
باسكال،[17]
وجونسون،[18] ومرة أخرى صار معتدلًا
ومرعبًا معًا كنكهة البارديسيال Paradisial مع فوغان Vaughan،[19]
وبويم Boehme،[20]
وتراهيرن Traherne، ومع حلول القرن الثامن عشر صار الأمان مع لو Law ،[21]
وبتلر كأسدان في الطريق. الوثنيّة المفترض
لإليزابيثانس لا تستطيع طرده خارجًا، حيث يرقد رجل هُناك يشعر أنه آمن، في قلب حديثنا
نذكر الفرياري كويني وأركاديا The Faerie Queene and the Arcadia.[22]
هُناك الكثير من التفاوت
بين هؤلاء بكلّ تأكيد، وحتّى الآن، بعد كلّ شيء، يصير التمييز أمرًا لا يُمكن أن
يُخطيء، ولا يُمكن تجنبه، فرائحة الموت لا تأتي إلينا حتّى نسمح لها أن تحيا
بيننا.
هواء قاتل من البلاد البعيدة[23]
جميعنا مضغوطون بشكل كبير،
وملتصق بنا العار أيضًا، في إنقسامات المسيحية. لكن أولئك الذين عاشوا دائمًا ضمن الرعيّة
المسيحيّة قد تيأس أيضًا بسهولة بواسطتهم. هم سيئون، لكن مثل هؤلاء لا يعرفون ما
يبدون عليه بالنسبة للخارجين. بالنظر إليهم من هُناك نراهم مُبررين، بالرغم من
الانقسامات (التي هي موجودة بالحقيقة)، مازالوا يظهرون كمن في وحدة هائلة.
أعرف ذلك لأنّي رأيته،
كما يعرفه أعدائنا أيضًا. كلّ شخص في إمكانه أن يتعرَّف على تلك الوحدة حين يخرج
عن الزمن الذي يحياه. ليس هذا كافيًا، لكنّه أفضل ما يمكننا فعله حتّى الآن. حين
تنغمس في هذا بشكل كامل، وكانت لديك مغامرة الحوار، فسوف تختبر تجربة مسلية.
ستعتقد أنّك بابويًّا (تابع للتعليم الكاثوليكيّ)، بينما أنت في الحقيقة تُعيد
انتاج بنيان (أحد الكُتَّاب)، وستكون بانثيستيًّا Pantheist بينما أنت تقتبس من
الإكوينيّ، وهكذا دواليك، حيث إنّك الآن
صنعت جسرًا عظيمًا يعبر العصور، أعلى من الوديان وأقصر من الجبال، ضيق جدًّا
مقارنة بالمستنقعات وواسع جدًّا مقارنة بحقول الحملان. فإنّ الكتاب المُعاصر يعتبر
تجربة.
الترجمة شيء هام للعالم
أجمع، لا لطلبة اللاهوت فقط، وإذا نجحت، فإنّ ترجمة الكتابات المسيحيّة الهامّة
والعظيمة يجب أن تكون فريضة، قولًا واحدًا، بكلّ تأكيد لن تكون تلك هي التجربة
الأولى في هذا الحقل. إنّ ترجمة Theologia Germanica[24] و the Imitation[25] و the Scale of Perfection[26] و the Revelations of Lady
Julian of Norwich [27] هذه
جميعها بالفعل في الأسواق، وثمينة جدًّا، بينما بعضهم لا تُعتبر كتابات مدرسيّة
حقًّا، لكنّها كتبًا عن التعبُّد للمسيح، لا عن العقيدة. بينما غير المتخصّص
والهاوي يجب أن نعطيه القوانين، كما يجب أن يتمّ حثّه داخليًّا ويُعمِل عقله، ففي
هذا العمر فإنّ احتياجه للمعرفة يدفعه دفعًا.
ولا أريد أن أضع فاصلًا حادًا بين نوعي الكتب، من جهتي، أميلُ إلى الكُتُبِ العقائديّةِ وأجدها في بعض الأحيان تساعد على العبادةِ أكثرَ مِن الكتب التعبُديّة، وأعتَقِدُ أنَّ ذات التجربة تنتظرُ الكثيرين.
أومن أنّ الكثيرين مما يجدون أنّ ”شيئًا لا يحدث“، هُم مِمَن يجلسون مع، أو يركعون لـ، الكتب
التعبديّة! فهم ينحرفون عن غذاء قلوبهم بانشغالهم بأقسى وأقوى مداخل اللاهوت،
بينما يمسكون القلم في يدهم ويداعبونه بين أسنانهم!
[1] ريتشارد هوكير (1554- 1600) لاهوتي أنجليكانيّ.
[2] جوزيف بتلر (1692- 1752) أسقف دورهايم.
[3] نيكولاي برديائييف (1874- 1948) فيلسوف ومؤلف روسيّ.
[4] يعقوب مارتيان (1882) فيلسوف فرنسيّ.
[5] رينهولد نيبور (1892) لاهوتيّ أمريكيّ.
[6] دوروثي سايرز (1893- 1957) مؤلِّفة مجموعة من المسرحيات الدينيّة، وبعض
الروايات البوليسيّة.
[7] كتب هذا عام 1943.
[8] جورج هيربيرت، شاعر إنجليزيّ (1593- 1633).
[9] توماس تراهيرن، كاتب دينيّ إنجليزيّ (1637- 74).
[10] جيريمي تايلور، كاتب لاهوتيّ معروف بحياته التقويّة وموته المُقدّس
(1613- 67).
[11] جون بنيان، معروف برحلاته المُقدّسة (1628- 88).
[12] بوثيوس، وُلِد حواليّ 470م، وكتب The
Consolation of Philosophy أو التعزيات الفلسفيّة.
[13] على من يريد أن يعرف أكثر عن هذه الحقبة، يجب عليه أن يقرأ Surprised by Joy وهي سيرته الذاتية التي كتبها
بنفسه.
[14] فرنسيس السيلزيّ Francois de Sales (1576- 1622)، شهير جدًّا بكتابيه: Introduction to the Devout Life مدخل إلى حياة الإيمان، و the Treatise on the Love of God عظات على محبّة الله.
[15] إدموند سبنسر، (1552- 99)، كاتب وفيلسوف.
[16] إسحق والتون (1593- 1683)، كاتب مشهور بعمله: Compleat Angler.
[17] بليز باسكال (1623- 62)، أكثر أعماله أهمّيّة هي الخواطر.
[18] د صموئيل جونسون (1709- 84).
[19] هنري فوغان (1622- 95)، شاعر إنجليزيّ.
[20] يعقوب بويم (1575- 1624)، كاتب ألمانيّ لوثريّ.
[21] وليام لو (1686- 1761)، كان يُنادى بحياة الإيمان والقداسة، وقد تأثر
به لويس كثيرًا.
[22] عمل أدبيّ للسيرؤ فيليب سيدني (1554- 86).
[23] A.
E. Housman, A Shropshire Lad
(London, 1896), stanza 40.
[24] ظهرت مع نهايات القرن الرابع عشر، وهي عظات ميستيكيّة أو صوفيّة.
[25] المترجم بعنوان الاقتداء بالمسيح The
Imitation of Christ،مجموعة من التعاليم الروحيّة،
يرجع تاريخ كتابته إلى عام 1418، ومنسوب للقديس توما الكمبيزي.
[26] للكاتب والتر هيلتون Walter Hilton (1396- ...)، وهو صوفيّ إنجليزيّ.
[27] 16 رؤية عن الحبّ الإلهيّ لسيدة تُدعى يوليانا (1342- 1413).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق