الجمعة، 14 مايو 2021

نظرة سريعة على مُعضلة إنبثاق الروح القدس من الآب والابن




لما بنتكلم في موضوع الثالوث القدوس لازم نعرف إننا بنتكلم عن الله، اللي بيعبر عنه اللاهوت الشرقي إنه غير المحسوس، وغير المحوي. هو الشخص الإلهي اللي لازم نقرب منه بوقار شديد وخشوع وهيبة.

1-بالنسبة للأرثوذكسية، فشرح الثالوث القدوس بيتأسس بشكل مُباشر على التعليم عن التجسد أو التدبير οικονομία اللي حصل في ملء الزمان، بإن في تمايز بين الأقانيم، فالآب بيتسم بصفة الأبوة لإنه يلد الابن ويبثق الروح، والابن يتسم بصفة البنوة لإنه مولود من الآب، والروح يتسم بصفة الإنبثاق لإنه مُنبثق من الآب.. بالتمايز دا بيأسس المُطوَّب يوحنا الدمشقي تعليمه عن الثالوث (راجع كتابه المُترجم بعنوان: المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي).

طبعًا كل المسيحيين بيؤمنوا بالثالوث، لكن في اختلاف ظهر في الغرب عن العقيدة اللي ثبتت في الشرق بالشكل اللي سبق وشرحناه، وهو إضافة: "الروح القدس المُنبثق من الآب والابن" اللي زادت على قانون الإيمان بعد القرن العاشر. الإضافة دي اطلقوا عليهم اسم: " Filioque"، واللي شاف الشرق إن مُشكلتها الرئيسية في إنها بتؤدي للخلط بين الخصائص الأقنومية للثالوث القدوس، واللي سبق واتكلمنا عنها.

2- التعليم القديم عن إنبثاق الروح القدس من الآب تأسس بشكل واضح على النص الكتابي: "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (يو15: 26). واللي كان تعليم أساسي في تعليم الآباء الكبادوك، اللي دايمًا كانوا بيعلموا بوحدانية الثالوث الناتجة عن وحدانية الأصل أو المنبع المُتمثل في الآب، فبنلاقي القديس غريغوريوس النيسي بيكتب:

"إنه من الآب يولد الابن وينبثق الروح القدس، فأقنوم الآب، له خاصية المصدر أو العلة" (انظر مجموعة الآباء باليونانية ΕΠΕ مجلد 1 (القديس غريغوريوس النيسى)، إصدار تسالونيكى 1979، ص 146ـ147).

3- لحد بدايات القرن التامن مكانش في أي اختلاف بين التعبيرات الشرقية والغربية حول موضوع انبثاق الروح القدس، ومحدش قدر يعرف إمتى بدأت الإضافة دي، أو مع مين، لكن أغلب الظن إنها كانت في أسبانيا، وظهرت للتأكيد على إلوهية الابن ومساواته الكاملة للآب ضد الهرطقة الآريوسيية، واعتمدوا في تعليمهم دا على نصوص كتابية وآبائية بيثبت من خلالها وجهة نظره، فمثلاً في النصوص الكتابية: "وَأَرَانِي نَهْرًا صَافِيًا مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعًا كَبَلُّورٍ، خَارِجًا مِنْ عَرْشِ اللهِ وَالْخَرُوفِ" (رؤ22: 1)، وإحنا عارفين إن نهر ماء الحياة دا إشارة للروح القدس.

كمان نصوص زي: "روح المسيح" (1بط11:1)، "روح ابنه" (غل6:4). وخاصة نص القديس كيرلس السكندري لما كتب في تفسيره لإنجيل يوحنا: "إنّ الروح القديس "يصدر من الآب والابن"، "من كليهما معًا". لكن في مُلاحظة مُهمة هنا، إن في لفظتين في اليوناني بيفرق بينهم الآباء في تعليمهم عن الروح القدس، وأغفلتهم الترجمات اللاتينية.. كلمة "εκπορενομαι" بمعنى الانبثاق الجذري من أصل الجوهر، وكلمة: "προιεναι" ومعناها الصدور من خلال.. والكلمتين بيترجموا لللاتيني بكلمة "processio"، والقديس كيرلس السكندري هنا استخدم اللفظة التانيه، بمعنى الصدور مش الانبثاق.

وطبعًا تعليم المُطوَّب أغسطينوس اللي له دور كبير في رسم ملامح اللاهوت الغربي، لما كتب في كتابه عن الثالوث بيقول:

" إنَّ الروح القدس لا ينبثق من الآب إلى الابن، ثم من الابن لأجل تقديسنا. لكنه، ينبثق من كليهما في الوقت نفسه " (الثالوث، 15: 27).

وظلّ التعليم دا مُنتشر وسط الكنيسة الغربية، لحد ما في بدايات القرن التاسع (سنة 809 تحديدًا) أمر الإمبراطور شارلمان بإضافة اللفظة دي لقانون الإيمان، وعارض الإضافة دي بشدة البابا الكاثوليكي (لاون الثالث) سنة 810، وحفر قانون الإيمان النيقاوي دون الإضافة باللغتين اليونانية واللاتينية على لوحتين من فضة في كنيسة القديس بطرس في روما، ولسه موجودين هناك في وقتنا دا.

4- فضل باباوات الكنيسة الغربية رافضين لإضافة شارلمان دي لمدة 200 سنة، بالرغم من الضغوط السياسية اللي كانت عليهم، لحد ما سنة 1009م، قبلها البابا سرجيوس الرابع وبعت بدا رسالة للقسطنطينية.

5- سنة 1014م ادخلها رسميًا لتعليم الكنيسة الكاثوليكية البابا بندكتوس الثامن، بإيعاذ من الإمبراطور هنري الثاني.

6- في مساعي الوحدة بنلاقي المناضل الجريء المُطوَّب مكسيموس المُعترِف، وهو واحد من المُعلمين المُعتبرين في الأرثوذكسية للكنيسة اليونانية، كتب في واحدة من رسايله تفسير للعبارة دي بيقول:

"إنّهم يرتكزون على شهادات الآباء اللاتينيين المتّفقة وعلى شهادة كيرلّس الإسكندري (السابق الإشارة لها في تفسيره لإنجيل يوحنا). وقد بيّنوا أنّهم لا يعتبرون الابن علّة أو سبباً للروح القدس، إذ يعلمون أنّ الآب وحده هو علّة الابن والروح: الابن بالولادة، والروح بالانبثاق. فما يقصدونه هو أنّ الروح ينبثق بالابن، مشيرين إلى الوحدة والمساواة التامة في الجوهر"
(Vischer, dir., La Theologie du Saint- Esprit dans le dialogue entre l'Orient et l'Occident (Paris: et Presses de Taize, 1988), pp. 57- 61).

7- في مجمعين هدفهم التلاقي بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية وهما (مجمع ليون 1274م)، و(مجمع فلورنسا 1439م)، وافق مندوبو الكنيسة الأرثوذكسية (وكان من بينهم العلاَّمة مرقس أفيانيكوس) بالـ "فيليكوي"، مع الإشارة بإن الروح ينبثق من الآب والابن "كمن ينبثق من مبدأ واحد".

لكن الموقف الرسمي من الكنائس الأرثوذكسية ظلّ رافض للإضافة دي.

8- ظل الشرق والغرب في وحدة إيمانية حتى القرن الحادي عشر، وعليه فإن الـ "فيليكوي" ممكن تخطيه بالرجوع للصيغة الإيمانية البسيطة والأولية اللي أعلنها قانون إيمان نيقية القسطنطينية.

خاصة وإن الكنيسة الكاثوليكية مبتعتبرش دي مُشكلة كبيرة أو جزء أصيل من عقائدها الأساسية، فالبابا بندكتوس الرابع عشر في عام 1742م اعطى حِل للكنائس الكاثوليكية الشرقية من استخدام الإضافة دي.

كمان كبار اللاهوتيين الكاثوليك في الشرق والغرب إمَّا بيوصوا بإلغائها (زي اللاهوتي الشهير كونجار Congar)، أو على الأقل بيقولوا بصراحة إنها إضافة لها خلفياتها التاريخية ومُرتبطة بزمانها، ومش عائق في سبيل الوحدة (المُطران كيرلس بسترس في كتابه اللاهوت المسيحي والإنسان المُعاصر؛ الأب هنري بولاد اليسوعي في كتابه منطق الثالوث).

في واحد من المنشورات الكاثوليكية لبطريركية الروم الكاثوليك، بيقول غبطة البطريرك مكسيموس الخامس حكيم: "بصفتنا المسؤول الأعلى عن الليتورجيا في البطريركية، وبعد موافقة السينودس المُقدس، نُجيز الاختصارات التالية في القداس الإلهي.." وذكر من ضمن الاختصارات: "حذف عبارة "والابن" الواردة في صلاة نؤمن". والقرار دا كان سبقه قرار الكنيسة الكاثوليكية اليونانية سنة 1973م.
للمزيد عن الموضوع..

المراجع الأرثوذكسية:
الإيمان بالثالوث، توماس تورانس، ص 276- 303 (الكاتب بروتستانتي لكنه تناول الموضوع من منظور آبائي بحت، كما أن المُترجم أرثوذكسي وأضاف كتير من التعليقات القيِّمة)؛
الروح القدس رؤية كتابية وآبائية، نيافة الأنبا هرمينا، ص 53 وما بعدها؛
الروح القدس في التراث الأرثوذكسي، بول إفدوكيموف، ص 53 وما بعدها؛
الكنيسة الأرثوذكسية بين الماضي والحاضر، المُطران كاليستوس وير، ص 70 وما بعدها؛
إنبثاق الروح القدس من الآب والابن، جان كلود لارشيه.

المراجع الكاثوليكية:
اللاهوت المسيحي والإنسان المُعاصر الجزء الثاني، للمُطران كيرلس سليم، ص 90 وما بعدها؛
إله المسيحيين، فالتر كاسبر، ص 322 وما بعدها؛
منطق الثالوث، الأب هنري بولاد؛
EDWARD SIECIENSKI, The Filioque: History of a Doctrinal Controversy.

(الصورة بتعبر عن الفكر الكاثوليكي تجاه الموضوع، طبعًا معروف إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بترفض تجسيد الآب)

ليست هناك تعليقات: