الأحد، 23 مايو 2021

الإتحاد بالله (التأله) في تعليم القديس اثناسيوس الرسولي ج2

 


يتجه القديس أثناسيوس في توضيح كيفية حصولنا على التبني بغاية الاختصار والدقة، باعتبار أن عملية التبني لا تعني إطلاقاً دخول شيء جديد على حياتنا من خارجنا وبعيداً عنا، ولكن بواسطة حصولنا على “الاتحاد” به أي بشخصه هو، باتصال عضوي كاتصال الرأس بأعضاء الجسم، وليس كمجرَّد علاقة تحكمها المشيئة أو العواطف أو ارتباط معنوي.

وأهم ما في منهج أثناسيوس من جهة علاقتنا بالمسيح أنه دائماً أبداً يؤكِّد على حقيقة الاتحاد الذي يتم بين المسيح وبيننا، وعلى الحياة الإلهية التي نحصل عليها فيه. ويوضِّح دائماً أن هذا الاتحاد وهذه الحياة هما بآن واحد برهان وثمرة مباشرة للاهوت المسيح ومساواته للآب، وأيضاً برهان لقيامته من الأموات التي أكملها في جسم بشريته لحسابنا. فحقيقة لاهوت المسيح وحقيقة اتحادنا به هما الأساس الذي بنى عليه أثناسيوس حقيقة الخلاص وكل ما يتعلَّق بالخلاص، كالتبني وقبول الحياة الأبدية مع الله ونوال صفات المسيح والشركة في مجده كميراث في الآب.

وينتهي من هذا إلى أن بنوَّة البشرية لله بواسطة المسيح صارت أمراً حتمياً بسبب ابن الله، وهو الابن الوحيد الذي صار إنساناً، أي أن التبني هو ثمرة التجسُّد الإلهي.

التبني عقيدة أساسية محبوبة للغاية عند أثناسيوس، وهي جزء أساسي في عملية التألُّه، أو حصيلة وثمرة أساسية للتألُّه أي الاتحاد بالله. فحينما نتحد بالكلمة المتجسِّد (نتألَّه)، نصير أبناء الله بالتبني. بل إن بمجرَّد اتخاذ الله الكلمة أو كلمة الله لجسدنا خاصة له ليظهر فيه كإنسان، صرنا في الحال بمقتضى قرابتنا ونسبنا له أبناءً بالتبعية.

وأثناسيوس يؤكِّد موضِّحاً أن التجسُّد الإلهي تمَّ لكي يمنح الله للإنسان حالة التبني، على أساس أنه كان يستحيل على الإنسان الحصول على التبني ليس بسبب الخطية في الأساس ولكن بسبب أن طبيعته المخلوقة غير مؤهَّلة للتبني من تلقاء ذاتها.

صحيح أنه يتحتَّم أن تُرفع الخطية أولاً - التي اقتحمت طبيعته - ويبطل فعلها القاتل للنفس، قبل أن يحصل الإنسان على التبني، ولكن إمكانية حصول الإنسان على التبني كان من المستحيل بلوغها بدون تجسُّد الكلمة. وهذه الحاجة الأساسية للتجسُّد الإلهي تُنسب - بحسب أثناسيوس - إلى حقيقة أننا مخلوقون عاجزون تماماً بحسب طبيعتنا أن نحصل على بنوَّة الله التي ترفع الخليقة من حالة العبودية والموت إلى حالة الشركة في الطبيعة الإلهية وبلوغ حرية البنين، الأمر الذي أسَّسه ابن الله في جسده أولاً لحسابنا.

لذلك لا يملُّ أثناسيوس مئات المرَّات وهو يكرِّر:

[إن ابن الله صار إنساناً لكي يصير بني البشر أبناءً لله]

[لا يوجد تبنِّي بدون “الابن الحقيقي” لأن هو نفسه يقول: «ليس أحد يعرف مَنْ الابن إلاَّ الآب، ولا مَنْ هو الآب إلاَّ الابنُ، ومَنْ أراد الابن أن يُعلن له» (لو 22:10)، وعلى ذلك فإذا كان كل الذين يُدعون أبناءً لله وآلهة (نالوا الاتحاد بالله) - بالنعمة - سواء في الأرض أو في السماء (أرواح تكمَّلت في الإيمان) قد نالوا التبني والتألُّه “في الكلمة”، ولأن الكلمة هو ابنٌ، فواضح أنه مصدر كل بنوَّة لأنه ابن قبل الكل، وأنه حقـًّا هو الابن الوحيد، وأنه إله حق من إله حق.]([1])

ولكي يوضِّح أثناسيوس أهمية بل خطورة بل حتمية الاتحاد بالله وبلوغ البنوَّة لله كأمر لا مفر منه، إذا أُريد للإنسان أن يغلب الموت والفساد ويحيا إلى الأبد، وفي نفس الوقت وبنفس القوة يوضِّح على هذا التوازي حتمية ألوهة الابن؛ يقول:

[إذا صح أن يكون الابن مخلوقاً لكان قد كُتب على الإنسان البقاء في الموت إلى الأبد كما كان تحت اللعنة - لأنه كان يستحيل عليه أن يتحد بالله. إذ من غير المعقول أن مخلوقاً يوحِّد آخرين مخلوقين بالله، لأن هذا المخلوق يحتاج هو أولاً لمن يجعله متحداً بالله، ولتعذَّر على أي فرد من الخليقة أن يوصِّل الخلاص للخليقة، لأن هذا الفرد هو بذاته يحتاج أولاً لمن يخلِّصه (من ربقة الضعف الذي في الخليقة).
من أجل هذا أرسل الله ابنه الخاص الذي أخذ لنفسه جسداً مخلوقاً صائراً ابناً للإنسان. والآن لأن كل البشر حُكم عليهم بالموت، بقي هذا الذي هو مُبرَّأ (من الحكم واللعنة)، الذي قدَّم جسده الخاص للموت عن الجميع؛ لذلك اعتُبر أن الجميع ماتوا عن طريقه لأنهم ماتوا فيه، والنطق بالحكم الذي كان ضدنا أكمله هو. لذلك فنحن فيه نجونا وتحرَّرنا من الخطية ولعنتها، فأُعطينا القيامة من الموت لنبقى إلى الأبد لابسين عدم الموت وعدم الفساد!]([2])

ولينتبه القارئ أن أثناسيوس في كلامه أعلاه يصوِّب سهمه إلى الأريوسيين ليضرب في موقعين بسهم واحد هو:

§ لكي نخلص ونحيا إلى الأبد يلزم أن يكون المخلِّص إلهاً أزلياً!

وبصورة أخرى:

§ لكي نكون أبناءً لله يلزم أن يكون الابن إلهاً!

وبصورة أوضح يقول:

§ لكي نتحد بالله يلزم أن يكون الكلمة المتجسِّد من جوهر الله.

وأثناسيوس يضع العقيدة الأرثوذكسية في معادلة ذات حدين كالآتي:

§ إن كان لنا الخلاص مطلباً حتمياً: يكون الإيمان بالمخلِّص كإله، إيماناً حتمياً.

§ إن كان تحرُّرنا من عبودية الموت والفساد هو صراخ واقعي خارج من عمق طبيعتنا: يتحتَّم أن يكون الإيمان بمن مات عنَّا صراخاً على مستوى أعلى، أنه إله مات بجسد بريء.


ونعود ونكرِّر أمام القارئ أن ينتبه إلى منهج أثناسيوس اللاهوتي في جمع حقائق الإيمان على خط واحد، أو قل في صرَّة واحدة إمَّا تأخذها كلها وإمَّا تتركها كلها، فهو يضع لاهوت المسيح في القمة، ثم الاتحاد الأقنومي الذي تمَّ بين الله الكلمة والطبيعة البشرية، مع حقيقة بشرية المسيح الكاملة كإنسان، مع خلاص الإنسان وتأليهه (اتحاد الإنسان في المسيح)؛ وكلما تكلَّم أثناسيوس عن إحدى هذه الحقائق، فلابد أن يربطها بالحقائق الأخرى سواء في جمل متراصة أو على مدى الحديث بكل حذر وانتباه، حتى يستحيل على القارئ أن يكتشف أي هذه الحقائق أكثر أهمية عند أثناسيوس.

فالإيمان عند أثناسيوس كلٌ واحد لا يتجزَّأ: التجسُّد، ولاهوت المسيح، وتأليه الإنسان، أي اتحاده بالله! وهذا الإلهام في الحقيقة لم يجاره فيه أي أب من الآباء ولا أي لاهوتي من بدء الكنيسة حتى اليوم. وقد يبدو هذا تكتيكاً موضوعاً لمصارعة الخبث الأريوسي؛ ولكن في الحقيقة الذي يدرس روح أثناسيوس يدرك أن هذا كان إيمان أثناسيوس الذي يعيشه في المسيح، وكان هو مضمون خلاصه الذي كان يبشِّر به كما يدافع عنه سواء بسواء.

[إذن،
( أ ) فكان يتحتَّم أن يكون الابن هو إله حق، وكان لا يمكن للإنسان أن يقف في حضرة الله، إلاَّ إذا كان.
(ب) الكلمة الذي اتَّخذ جسداً له هو حقـًّا “كلمة الله”. وأنه كما كان.
( ج ) يستحيل علينا أن نتخلَّص من الخطية والإثم إلاَّ إذا كان الجسد الذي اتخذه الكلمة هو حقـًّا جسداً بشرياً، لأنه لا يمكن أن يكون لنا شركة مع غريب، كذلك
( د ) فإن الإنسان لا يمكن أن يتألَّه (يتحد بالله) إلاَّ إذا كان ذلك الذي اتخذ جسداً هو بالجوهر كلمة الله حقـًّا، لأن الاتحاد المطلوب حدوثه أن الذي بطبيعته إنسان يتَّحد بذلك الذي بطبيعته إله.
( هـ ) وهكذا يتحقَّق خلاصنا وتألُّهنا (اتحادنا بالله)، ويدومان لنا بتأكيد.]([3])

وفي الحقيقة يتعذَّر علينا بل ويستحيل أن نجد مثيلاً للقديس أثناسيوس بين جميع آباء الكنيسة في إصراره وتكراره للعقيدة الواحدة عشرات بل ومئات من المرَّات بلا ملل ولا كلل، وكل مرَّة يلقي ضوءًا جديداً من زاوية جديدة ليزيد العقيدة ترابطاً وانسجاماً ويرسِّخها في ذهن الكنيسة، وكأنه يشعر نحو المستقبل بمسئولية إرساء الإيمان كله بكل دقائقه، وكأنها ضرورة قد وُضعت عليه.

وهو يبلور الإيمان في هذه الحقائق الحية:

§ إن المسيح إله حقيقي وإنسان حقيقي بآن واحد.

§ وهو واحد بالحقيقة. أي لا تصدر عنه أي ثنائية. مع أنه إله متأنِّس! وذلك ليوحِّد الإنسان بالله، كما هو واحد في ذاته.

§ وفي النهاية يفوز الإنسان بالتبني والحياة الأبدية.

ويلاحظ القارئ أن العقيدة عند أثناسيوس تبدأ بلاهوت المسيح، هذا أمر حتمي، وتنتهي عند التبني أي صيرورة الناس أبناء الله الحي وارثين لأبوَّة الله في المسيح ابن الله! ولكن إرادة الله من نحو تبنِّي الإنسان كانت منذ البدء وقبل إنشاء العالم.

وعقيدة التبني عملية عميقة جدًّا في مفهوم أثناسيوس. فهي كما قلنا سابقاً ليست أمراً يكتسبه الإنسان من الخارج، أو هبة تُمنح له؛ بل هي وجود وسكنى واتحاد دائم للروح القدس و“الكلمة”:

الروح القدس نفسه، لأنه هو نفسه الذي يتكلَّم فينا ويخبرنا بأمور المسيح ويمجَّد المسيح فينا وبنا.

وكذلك “الكلمة”، أي الابن، فسكناه واتحاده بنا هو وحده الذي يعطينا حق البنوَّة، وبه نخاطب الله القدير “يا أبانا”. وبدون شركة الاتحاد في الروح القدس و“الكلمة”، أي الرب يسوع نفسه، لا يمكن أن نُدعى أولاد الله.

فالإنسان لكي يصير ابن الله يعني أنه قَبِلَ اللاهوت «أمَّا كل الذين قبوله أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.» (يو 12:1)

[لأن هذا هو حب الله لبني البشر أنه أراد أن يكون لهم أباً بالنعمة، هؤلاء الذين خلقهم. وهذا (التبني) إنما يحدث عندما يتقبَّل الناس وهم مجرَّد خليقة - روح الابن في قلوبهم صارخاً «يا أبا الآب» (غل 6:4).
نعم، هؤلاء عندما يقبلون “الكلمة” ينالون به القوة التي يصيرون بها أولاد الله. ولأنهم أصلاً مجرَّد خلائق، فإنهم لا يمكن أن يصيروا أبناءً إلاَّ إذا قبلوا روحه، أي روح ابن الله الذي هو من جوهره.
ولهذا إن كان الكلمة صار جسداً، فذلك لكي يجعل الإنسان قادراً أو مؤهَّلاً لقبول اللاهوت!...
ونحن لسنا أبناء الله بالطبيعة، ولكن ابن الله الذي فينا هو ابن الله بالطبيعة، وكذلك فإن الله ليس أبانا بالطبيعة ولكنه أبو “الكلمة” الذي فينا، الذي فيه وبه نصرخ: «يا أبا الآب» (رو 15:8)؛ حتى أن الآب حينما ينظر أُولئك الذين يرى فيهم ابنه يقول الآب: “لقد ولدتكم” (مز 7:2) ويدعوهم أولاده.]([4])

[لذلك كما اشترك “الكلمة” في ضعفاتنا باتخاذه جسداً بشرياً، هكذا نحن باتخاذنا (قبولنا) الكلمة نشترك في عدم موته.]([5])

كما يلاحظ أن أثناسيوس حينما يتكلَّم عن اتحاد الإنسان بالله يركز على مفهوم الاتحاد الفردي والاتحاد العام. فالمسيحيون يتحدون “بالكلمة” في شخص يسوع المسيح، على أساس أن الكلمة أخذ على نفسه كل ضعفات طبيعة بني الإنسان. وفي المقابل، منح الكلمة الطبيعة البشرية بصفة عامة أيضاً أمجاده الإلهية الخاصة.

هذا الاتحاد العام، وهذا التحرير العام للطبيعة البشرية من الضعفات، وهذا المنح العام لأمجاد وحياة الكلمة للطبيعة البشرية أيضاً، هو في الحقيقة امتداد لمفهوم الجسد السري العام للمسيح الذي يجمع المسيحيين كأعضاء الجسد الواحد، وهي العقيدة التي يركِّز عليها بولس الرسول جدًّا في كافة الرسائل. وقد استلمها الرسل والآباء الرسوليون ثم آباء الكنيسة عامة في ما قبل أثناسيوس، ولكن الجديد عند أثناسيوس أنه يتعقَّب هذه العقيدة من أصولها حتى جذورها، ويفسِّرها كعقيدة الخلاص على أساس التجسُّد، ويوضِّحها مراراً وتكراراً لتكون أساس الإيمان لمفهوم الخلاص والفداء والتبني في الكنيسة.

[ولأن الكلمة صار إنساناً وجعل ضعفات الجسد له - أي نسبها إلى نفسه - صارت بالتالي هذه الضعفات بلا قوة لإزعاج الجسد، لأن “الكلمة” متحد بالجسد ...
وحينما وُلد الجسد من مريم والدة الإله، قيل عنه أنه وُلد مع أنه هو “الكلمة” الذي خلق كل الأشياء. ففي الحقيقة هذا هو ميلادنا نحن الذي أخذه لنفسه، وبهذا لم نعد بعد مجرَّد تراب تعيَّن لنا أن نعود إلى التراب، ولكننا صرنا متحدين “باللوغس” الكلمة من السماء، الذي سوف يحضرنا إلى السماء.
وبالمثل، فإنه ليس بدون سبب قد أخذ كل الضعفات الأخرى التي للجسد، لأنه شاء أن لا نكون بعد مجرَّد بشر بل نصير منتسبين للكلمة، ونشترك في الحياة الأبدية.
أمَّا الموت الذي كان ميراثنا بسبب ميلادنا الأول فقد بطل. فميلادنا وكل ضعفات الجسد قد تحوَّلت عنا، وصارت وحُسبت على “الكلمة”؛ أمَّا نحن فقد ارتفعنا عن التراب وأُزيلت عنَّا لعنة الخطية بواسطته وهو الكائن فينا ومن أجلنا، الذي صار وحُسبَ بسببنا وعنَّا “فاعل شر”.
وكما كنا بالحق مخلوقين من تراب، وفي آدم قَبِلْنا الموت جميعاً، هكذا إذ وُلدنا الآن من الماء والروح قَبِلْنا الحياة من المسيح.
وجسدنا لم يعد بعد ترابياً، لأنه قد صار كلمة has been made Word (هنا أصل المعنى في اليوناني يفيد الفعل من كلمة “لوغس” أو “تَلَوْغنَّا”)، وذلك بسبب “الكلمة” الذي صار جسداً من أجلنا.]([6])

هنا يكشف أثناسيوس عن الربح الهائل الذي اكتسبته البشرية ككل من التجسُّد، دون أن يفقد الله بسبب التجسُّد شيئاً بالمرة، بل اكتسب وربح خليقته التي كانت في بطن الشيطان والآن صارت مجداً دائماً لاسمه. لأن المسيح لما قَبِل الضعفات التي للطبيعة البشرية - وأخطرها الموت ومسبباته ونتائجه - ألغاها في جسده باتحاد لاهوت الكلمة.

ثم إذ أعطانا التأهُّل للاتحاد به عن طريق الروح القدس والجسد المقدَّس، ألغى من صميم طبيعتنا حكم الموت ولعنة الخطية، وعوض الموت واللعنة والفساد سلَّمنا الاتحادُ بلاهوته قداسةَ الحياة الأبدية وعدم الموت وعدم الفساد معاً.

وحينما يقول أثناسيوس عن “أن جسدنا اتحد بالكلمة”، يقصد جسدنا جميعاً، وبحسب النص اليوناني يكون المعنى المقصود أن الجسد البشري أخذ صفات الكلمة، لأن الاصطلاح كما سبق وقلنا يفيد ذلك “verbified”.

وأثناسيوس يؤكِّد المعنى الواقعي من الاتحاد، وليس الفلسفي أو الرمزي أو التشبيهي، فنحن نتحد بالابن المتجسِّد اتحاداً واقعياً يُدخلنا في صميم طبيعة الكلمة المتجسِّد جسداً، ونفساً، وفكراً، وروحاً، وامتيازات لاهوتية تتناسب مع الميراث في المسيح لله، لنصير جسداً واحداً وروحاً واحداً في الروح القدس والكلمة.

[ولأن ضعفات البشر قد رُفعت عنهم وأُبطلت بل أُبيدت في المسيح الكلمة، المنزَّه عن كل ضعف، صار البشر أقوياءً وأحراراً إلى الأبد كما يقول لنا يوحنا بهذه الكلمات: «وتعلمون أن ذاك أُظهر لكي يرفع خطايانا، وليس فيه خطيةٌ» (1يو 5:3).
فإن كان هذا الكلام حقـًّا فليس لهراطيقي بعد أن يسأل: لماذا وكيف أن الجسد وهو مائت بطبعه يعود إلى الحياة، وإذا أُعيدت له الحياة فكيف لا يعاني بعد الجوع والعطش والألم والموت؟ (بعد القيامة) أليس هو تراباً؟ فكيف يتخلَّص مما هو له بالطبيعة؟ نقول إنه إذا كان هذا هو اعتراض الهراطقة، فالجواب يأتي على لسان الجسد نفسه هكذا: نعم أنا مخلوق من تراب وأنا بطبيعتي مائت ولكني صرت جسد الكلمة وقد حمل كل ضعفاتي مع أنه منزَّه عن كل ضعف وقد صرت حرًّا فلست بعد عبداً لضعفاتي، وذلك بسب الرب الذي خلَّصني ونجاني منها. فإذا كنتم تلومونني كيف صرت حرًّا من فساد طبيعتي فاحذروا لئلاَّ بذلك تعثرون في “كلمة الله”، لأنه هو الذي أخذ حالة عبوديتي على نفسه.
لأنه كما أن الرب أخذ جسداً وصار إنساناً، هكذا نحن البشر إذ قد حُسبنا ضمن جسد الكلمة، صرنا متحدين به أو إلهيين Divine وصرنا ورثة للحياة الأبدية (فيه).]([7])

وقد يتهيَّأ للقارئ أن كلام الجسد على لسان أثناسيوس أعلاه يفيد جسد المسيح، ولكن آخر جملة تلك التي علَّق بها أثناسيوس على المعنى كله، تفيد إفادة حاسمة أن أثناسيوس يقصد الجسد البشري عامة الذي يتكلَّم هكذا ويقول: 
لقد صرت جسد الكلمة وأنه حمل ضعفاتي وصرت حرًّا، ولم أعد بعد عبداً لضعفاتي، وقد خلَّصني ونجَّاني من ضعفاتي”، هذا المتكلِّم هنا بحسب أثناسيوس هو جسدي وجسدك وبشريتنا جميعاً باعتبار أن جسد المسيح قد احتوى جسدنا وتبنَّاه وخلَّصه ونجَّاه، لأنه مات به وقام وحرَّره من الموت والفساد والعبودية، وورَّثه معه ميراث الابن في ما لله من “مجد” و“حب”، وأننا نحن المؤمنين صرنا في المسيح جسداً واحداً هو الرأس ونحن الأعضاء فيه. لذلك، فإنه في مواضع كثيرة، حينما يقول أثناسيوس “جسد المسيح”، فهو يقصدنا ضمناً([8]).

[لقد أخذ “الكلمة” ما هو لنا (الجسد) لنفسه، حتى إذا صرنا نحن جسداً واحداً فيه، وبعد أن نكون قد اتصلنا تماماً وارتبطنا بواسطة الجسد المتشابه، يمكن أن نبلغ إلى إنسان كامل وندوم في عدم الموت وعدم الفساد.]([9])

ويظل أثناسيوس متمسِّكاً بكل أمانة وثقة في الجمع بين بشرية المسيح مع بشريتنا على مستوى الواقع والشمول المذهل للعقل حقـًّا، لدرجة أنه يعتبرنا مقدَّسين ومتحدين في المسيح إلى الحد الذي يرى أن الوقار اللائق بالله وحده ينسحب على “الكلمة” الموجود فينا والمتحد بنا، أي يشمل بشريتنا المفدية والمخلَّصة والمتحدة بالرب في أشخاص المؤمنين القديسين، فهو يجمع بين بشرية المسيح الخاصة أي جسده الإنساني وبشريتنا المفدية والمتحدة معه. وأثناسيوس يرى في قول الكتاب بخصوص ارتفاع المسيح بواسطة الله بعد الموت وأن الملائكة صارت تسجد له، أنه إنما يقصدنا نحن أيضاً في المسيح، أي البشرية المفدية فيه!

[إن حقيقة تجسُّد الرب التي بها صار المسيح مسجوداً له وقد آمنا أنه ابن الله الذي أعلن لنا الآب، هذه الحقيقة تُظهر أن التمجيد والارتفاع ليست أموراً ممنوحة “للكلمة” في قدرته الخاصة باعتباره “الكلمة”، ولكن ممنوحة لنا!! لأنه بسبب قرابتنا لجسده قد صرنا أيضاً هيكلاً لله وصرنا أبناءً لله، حتى أن الرب يمكن أن يُكرم أيضاً (يُعبد adored) فينا. وكل مَنْ يرانا ونحن في حالة السمو الروحي بالروح القدس يصرخ بكلمات الرسول عينها: «يخر على وجهه ويسجد لله منادياً أن الله بالحقيقة فيكم» (1كو 25:14).]

وأثناسيوس يهتم للغاية بتوضيح معنى أننا صرنا واحداً في المسيح، بمعنى أنه يجمعنا كلنا في نفسه جسداً واحداً، حسبما ورد في إنجيل يوحنا الأصحاح 17، وهو يضيف على معنى الوحدة ما يؤكِّد وجودها ودوامها على المستوى الأخلاقي والأدبي، فالوحدة مع المسيح عند أثناسيوس ليست فلسفية أو صورية، بل واقعية كيانية أخلاقية - كاملة - لأنها بالروح القدس “وبالكلمة”، أي إلهية!

والأصل في ذلك كله أن جسد المسيح صار ممجَّداً ومكرَّماً جدًّا في عين الآب، بسبب لاهوته، وبسبب اتضاع الابن، وطاعته وحبه للآب والخليقة، فصرنا نحن - كل الذي آمنوا وتقدَّسوا في المسيح - حائزين لهذا التكريم عينه.

وأثناسيوس يستنطق “الكلمة المتجسِّد” كلاماً حلواً، مخاطباً الآب فيه هكذا:

[أنا كلِمتُكَ (أيها الآب) وأنتَ فيَّ، ولكني أنا فيهم بالجسد، وبك قد أُكمل خلاص البشرية فيَّ، لذلك أسأل أن يكونوا واحداً بحسب الجسد الذي فيَّ وبحسب الكمال الذي لهذا الجسد، حتى إذ يتحدون بهذا الجسد ويصيرون واحداً فيه، يصيرون أيضاً كاملين؛ حتى يكونوا جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً، إنساناً كاملاً، كأنما أحملهم جميعاً في ذاتي.
لأنه من حيث أننا نشترك في المسيح الواحد، ونملك في داخلنا الرب الواحد، نصير جميعاً جسداً واحداً.]([10])

يُلاحِظ القارئ أن “الكمال” الذي يبلغه الإنسان هو نتيجة اتحاد المؤمنين بجسد المسيح، وهذا معتبر أنه إحدى خصائص اللاهوت الأساسية عند أثناسيوس.

وحينما احتدم الصراع مع الأريوسيين - من جهة عدم تساوي الابن مع الآب في الجوهر - واستشهد الأريوسيون تلفيقاً بقول يوحنا الرسول: «ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد (أي الابن والآب)» (يو 22:17)، مدَّعين أن الوحدة بين الآب والابن هي مُشَابَهة فقط، لأنها تساوي الوحدة بين المسيحيين التي هي لا تزيد عن كونها وحدة تشابه فقط([11]): بادر أثناسيوس ليرد على ذلك ويقول هذا غش وخداع، وفي إجابته تظهر جدًّا وتتضح خصائص الوحدة التي تقوم بين المؤمنين في المسيح؛ فهو يصفها:

(الفصل 10:25):
[فبالرغم من أننا خُلقنا على صورة الله، ودُعينا صورة ومجد الله، إلاَّ أنه لم يكن هذا لحسابنا قط بل قد نلنا هذه النعمة لحساب الصورة الحقيقية والمجد الحقيقي الساكن فينا الذي هو “كلمته” الذي صار جسداً من أجلنا].

(الفصل 17:25):
[ولكن هؤلاء الأريوسيين المحتالين - يحتجون - ويقولون: “إذا كنا نحن نصير واحداً مع الآب (كما يقول إنجيل يوحنا 17)، فكذلك وعلى نفس المستوى يكون المسيح (الكلمة) والآب واحداً. وكذلك يكون هو أيضاً في الآب والآب فيه، فكيف تدَّعون أنه بناء على قوله: «أنا والآب واحد» و«أنا في الآب والآب فيَّ» أنه هو من جوهر الآب؟ لأنه ينتج من قولكم هذا إمَّا أننا نحن نكون أيضاً من جوهر الآب، أو أن الابن يكون غريباً عن جوهر الآب كما أننا نحن أيضاً غرباء عن جوهر الآب”!
إنهم بذلك يثرثرون ويخرِّفون، وإني أرى في عنادهم وضلالتهم نوعاً من التزييف والخداع الذي يوقعهم فيه الشيطان، لأنه على منوال كلامهم يقول الكتاب أيضاً عن أمثالهم (الشيطان) «سنصعد إلى السماء ونصير مثل العلي» (انظر: إش 14:14).
لأن الأريوسيين يريدون أن يجعلوا ما مُنح لنا بالنعمة كأنه يساوي اللاهوت جوهر الله المعطِي (النعمة). وحينما يسمعون من الإنجيل أننا صرنا أبناءً، يعتقدون أنهم صاروا بأنفسهم مثل “الابن الحقيقي” مساوين له بالجوهر. وحينما يسمعون قول المخلِّص: «ليصيروا واحداً كما أننا نحن واحد» يخدعون أنفسهم ويتعجرفون أنهم بذلك يصيرون أيضاً مثل “الابن” في الآب والآب في الابن].

(الفصل 19:25):
[ولكن بالرغم من أنه يوجد ابن واحد بالجوهر - مع الآب - حقيقي ووحيد، إلاَّ أننا نحن أيضاً نصير أبناء الله، ولكن ليس كالابن الحقيقي الذي هو بالجوهر (في الآب). إنما نحن أبناء بالنعمة، حسب عطية ذلك الذي دعانا لهذا. فبالرغم من أننا بشر من التراب أصبحنا نُدعى آلهة … ليس كالله أو كلمته اللذين هما بالحق، وإنما بحسب مسرة الله الذي أعطانا هذه النعمة ...
ويوحنا لم يقل إنه كما الابن في الآب هكذا ينبغي أن نكون نحن، لأنه كيف يكون لنا ذلك؟ فالابن هو كلمة الله وحكمته، أمَّا نحن فمخلوقون من التراب، وهو بالطبيعة والجوهر كلمة الله، وإله حق، كما يقول يوحنا: «ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرةً لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» (1يو 20:5). أمَّا نحن فجعلنا أبناءً فيه بالتبني والنعمة، باعتبارنا شركاء في روحه، كقول الكتاب: «وأمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً (قوة) أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 12:1).
أمَّا هو فهو “الحق”، لأنه قال: «أنا هو الحق». وحينما خاطب الآب عنَّا قال: «قدِّسهم في حقك، كلمتك هو حَقٌّ» (يو 17:17).
أمَّا نحن فبالاقتداء نصير مجرَّد فضلاء وأبناءً.
أي أننا لن نصير - في مثل وحدته - حينما يقول: «أن يكونوا واحداً كما أننا نحن واحد»، ولكننا نأخذ منه المثال والنموذج. وإذ ننظر إليه نصير واحداً مع بعضنا البعض في اتفاق ووحدة الروح ...].

(الفصل 20:25):
[ووحدة التدبير، ولنا في وحدة الابن الجوهرية بالآب مثال ونموذج، كما علَّمنا بقوله: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب»، لا أن نصير مساويين له، فهذا محال، وإنما بالنظر إليه نبقى وندوم في وداعته.
هكذا إذ يرغب المسيح أن يدوم تدبيرنا الصالح في صدق وثبات وبلا انحلال تجاه الآخرين، أراد أن نأخذ منه النموذج، لذلك قال: «ليكونوا واحداً كما نحن»، لأن وحدتهما غير منحلة ولا منقسمة أي ليتعلَّموا منا هذه الطبيعة غير المنقسمة فيدوموا هم أيضاً في وفاق مع بعضهم].

(الفصل 21:25):
[كذلك قوله: «ليكونوا واحداً فينا»، هذا معناه الصحيح لا أن تكون وحدانيتنا مثل وحدانية الابن في الآب، وإلاَّ كان قد قال: “ليكونوا واحداً فيك” مثله! ... فقوله: «ليكونوا واحداً فينا» أوضح الفارق والاختلاف كونه هو وحده في الآب كحالة فريدة، باعتباره كلمته الوحيد وحكمته الوحيدة، ولكننا نحن نكون في الابن، ثم من خلال الابن نصير في الآب.
وهذا معناه، إذا أردنا توضيح هذه الاية: «واحداً فينا»، يكون هكذا:
إن في قوة الآب والابن يصيرون هم واحداً، لأنه بدون الله يصير هذا مستحيلاً ... لذلك واضح أن في اسم الآب والابن نصير مؤهَّلين أن نكون واحداً حافظين جدًّا رباط المحبة.
والرب وهو حافظٌ نفس هذا المعنى في نفسه يستطرد قائلاً: «والمجد الذي أعطيتني قد أعطيتهم ليكونوا واحداً كما أننا واحد»].

(هنا أثناسيوس يريد أن يقول إن الوحدانية التي صرنا وسنصير إليها هي “عطية مجد” من الابن، وهي أصلاً من الآب لنا عن طريق الابن المتجسِّد، فالوحدة عطية فائقة وقوة ورفعة إلهية فائقة = “المجد” في الابن).

[والآن نلاحظ أن بقوله “كما” في الآية: «يكونوا واحداً كما أننا نحن واحد»، لا يعني التطابق بل التشابه، كنموذج وكمثل مقدَّم لهم].

(الفصل 22:25):
أنا فيهم وأنتَ فيَّ حتى يُكمَّلوا إلى واحد»، هنا يسأل الرب لنا شيئاً عظيماً وأكثر تكميلاً وكمالاً لنا (أي الوحدة)، لأنه واضح أن الكلمة قد أتى ليكون فينا، لأنه لبس جسدنا.
«وأنت أيها الآب فيَّ» لأني كلمتك ولأنك أنتَ فيَّ، لأني كلمتك وأنا فيهم بسبب الجسد، قد صار لهم بواسطتك كمال الخلاص فيَّ، لذلك أنا أسأل لكي يكونوا هم أيضاً واحداً بحسب الجسد الذي فيَّ وبمقتضى كماله، حتى يكونوا هم أيضاً كاملين إذ يصيرون في وحدانية (متحدين) معه (مع الجسد)، وإذ يصيرون واحداً فيه، وكأنما الجميع قد صاروا محمولين فيَّ؛ يصبحون جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً، وينمون معاً حتى إلى إنسان كامل (أف 13:4).
لأننا إذ نشترك جميعاً في المسيح الواحد نصير جسداً واحداً حائزين على الرب الواحد في داخل ذواتنا].

(الفصل 23:25):
[ونصير واحداً مثل الآب والابن وذلك بالفكر الواحد، واتفاق الروح (سيمفونيا) “وعندما يصيرون كاملين حينئذ يعلم العالم أنك أرسلتني”، لأنه إذا لم أكن قد جئت ولبست جسدهم هذا، ما كان أحد منهم قد كمل، بل لصار جميعهم في الفساد. فاعمل فيهم أنت أيها الآب. وكما أعطيتني أن أحمل ذلك (الجسد)، امنحهم روحك حتى يصيروا فيه واحداً ويصيروا كاملين فيَّ ... وكمالهم يتم بالفداء من الخطية ولا يعودون تحت الموت، بل إذ يتألَّهون (يتحدون بالله) ناظرين إليَّ، يحفظون رباط الحب مع بعضهم البعض!].

(الفصل 24:25):
[وبالاشتراك في الروح نلتحم باللاهوت، لذلك فوجودنا في الآب ليس هو منا، بل من الروح الذي فينا الساكن فينا].

(الفصل 25:25):
[لأنه من حيث أن “الكلمة في الآب” وأن الروح قد أُعطي بواسطة الكلمة، فقد أراد الله أن نقبل الروح؛ حتى إذا قبلناه نكون قد قبلنا “روح الكلمة”، الذي هو في الآب، فنصير نحن واحداً في الكلمة بسبب الروح ومن خلال الكلمة نصبح في الآب.]([12])

والقديس أثناسيوس بهذا العرض المتشعِّب النواحي لمفهوم الوحدة القائمة بين المؤمنين على أساس الشركة في الروح القدس و“الكلمة” والاتحاد بجسد المسيح، يكون قد وضع أساس إيمان الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة في هذه العقيدة الأساسية عقيدة الاتحاد بالله والوحدة في جسد المسيح.

والمعروف أن كلاًّ من القديس هيلاريون والقديس كيرلس الكبير قد بنى على هذا الأساس عينه، حتى بلغت عقيدة اتحادنا في الجسد الواحد الذي يضم المؤمنين جميعاً أقصى كمالها ونضوجها اللاهوتي عند كيرلس الكبير([13]).

وهكذا ينبغي أن يُعزَى الفضل لأثناسيوس الكبير، الذي استطاع أن ينتزع من الأريوسيين جميع أسلحتهم التي صوَّبوها ضد لاهوت المسيح المساوي للآب، وأن يستخدمها هي بذاتها في وضعها الأصيل الإلهي ليبني بها لاهوت الكنيسة الإيجابي الذي لا ينازَع ولا يُناظَر في ما يختص باتحادنا الوثيق بالمخلِّص.

وأثناسيوس في كافة المواضع لا يغيب عن رؤياه “اتحاد المخلِّص بخاصته”، هذه هي الرؤيا العظمى التي لم يهدأ يوماً واحداً على مدى خمسين عاماً من أن يوضِّحها بكافة الطرق، سواء اتحاد الكلمة بجسده الخاص أو اتحاده هو بنا جميعاً. فأثناسيوس يجمع بين الاثنين معتبراً أن هذا هو الذي جمعه الله ولا يستطيع أحد أن يفرِّقه([14]).

[كل ما كُتب عن المخلِّص بحسب بشريته، يلزم أن ننسبه لجنس البشرية عامة، لأنه أخذ جسدنا وحمل ضعفاتنا.]([15])

وأثناسيوس في دفاعه ضد الأريوسيين في حديثه الأول يستمر إلى عشرة فصول، منحصراً في موضوع واحد لا يحيد عنه في ما يختص بجسد المسيح العام الذي يجمع كل المؤمنين (الجسد السري)، موضِّحاً ذلك من قول بولس الرسول: «وضع نفسه وأطاع حتى الموت ... لذلك رفَّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم.» (في 2: 8و9)

فهذا الارتفاع أو الإعلاء الذي ناله المسيح كان موضوع تهليل الأريوسيين، باعتبار أن “الكلمة” كان في حاجة إلى تمجيد أكثر، إذن فهو لم يكن أعلى من كل شيء من البدء!!

ويزمجر أثناسيوس ضد هذا الادعاء، ويكشف غش منطق الأريوسيين. لأن هذا الارتفاع أو الإعلاء إنما يخص بشرية المخلِّص فقط، وذلك من أجلنا نحن!!

[إن الكلمة الأزلي، صورة الآب، أخذ شكل العبد. وكإنسان، عانى الموت بجسده من أجلنا، لكي يتسنَّى له أن يقدِّم ذاته إلى الآب عنَّا بالموت، لذلك أيضاً، كإنسان وبسببنا ومن أجلنا، قيل عنه أيضاً أن الله “رفَّعه”.
لأنه كما بموته مُتنا جميعاً في المسيح، هكذا سنرتفع في المسيح نفسه عندما نرتفع إلى السماء بعد قيامتنا من الأموات «حيث دخل المسيح كسابق لأجلنا» (عب 20:6)، وهو لم يدخل شيئاً (السماء) كأنه رمز أو صورة للحقيقة، ولكن دخل السماء نفسها «لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية بل إلى السماء عينها ليظهر أمام وجه الله لأجلنا» (عب 24:9).
ولكن إذا كان المسيح الذي هو دائماً رب وخالق السموات قد دخل الآن السموات من أجلنا، يلزم إذن أن يكون من أجلنا ما قد كتب: أنه ارتفع (رفَّعه الله).
وكذلك مكتوب أنه، وهو الذي يقدِّس جميع الناس، يقدِّس نفسه من أجلنا أمام الآب، هذا بكل تأكيد لا يعني أن الكلمة نفسه يلزمه أن يصير أكثر قداسة بل أنه يقدِّسنا نحن جميعاً في نفسه. وهكذا يلزمنا أن نأخذ نفس هذه الآية بنفس المعنى “قد رفَّعه الله”، لا كأنه يرفعه إلى ما هو أكثر كمالاً فهو الأعلى، ولكن لكي يصير هو برّنا فنرتفع فيه فندخل أبواب السماء التي أعاد فتحها لنا.]([16])


وفي الختام نقدِّم للقارئ شهادة حسنة من أحد لاهوتيي الألمان القدامى، وأكثر من تخصص وتحمَّس للاهوت أثناسيوس الكبير، وهو العالِم موللر:
[لقد ضرب أثناسيوس جذوره عميقاً عميقاً جدًّا في تربة الكنيسة. وقد كان أثناسيوس لا يعرف نفسه إلاَّ فيها، فكان ماضيها حاضراً دائماً أمامه، وأخذ على عاتقه أن لا يقدِّم المسيح يسوع إلاَّ متحداً بكنيسته من الداخل، وفي كلمة واحدة كان المسيح هو نفسه الكنيسة!]([17])

لقد ركَّز أثناسيوس كثيراً على “جسد المسيح”، الجسد الذي أخذه الكلمة لخاصته، من العذراء مريم دائمة البتولية والمؤمنين الذين اتحد بهم بروحه، فضمَّهم إلى جسده ونفسه، وحملهم في أحشائه، وفداهم، وتبنَّاهم، وغيَّرهم، فجدَّد خلقتهم، وقدَّسهم، ورفَّعهم، وألَّهَهم (ووحَّدهم بذاته) بنعمته.

وكان كلما تكلَّم أثناسيوس عن “جسد” الكلمة ينطلق سريعاً ليكشف فيه سر “الجسد” الفائق الذي يجمع المؤمنين:
[وعندما افتقد “الكلمة” العذراء القديسة مريم أتى الروح القدس إليها معه وصاغ الكلمة “الجسد” بالروح القدس وشكَّله لذاته، إذ أراد أن تتحد البشرية بالله ويُحضرها إليه بنفسه، وبه يصالح الكل عاملاً الصلح ...]([18])

وكان لاهوت المسيح هو المفتاح الكبير الهائل، الذي يفتح كل أسرار الخلاص والفداء والحياة الأبدية للكنيسة كلها، فلاهوت المسيح هو الذي يرفعنا من التراب ويقدِّسنا لنفسه ويوحِّدنا بجسده (يؤلِّهنا)، وهو الذي جعل التجسُّد انتصاراً على الموت والهاوية والخطية والفساد، وبه صار التجسُّد القوة الضاربة ضد الشيطان، وصار هو قوة التبني التي بها صرنا نحن الآن أبناءً لله الحي، وصار هو الحياة الأبدية للكنيسة، لأن فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس!!

ولم يكن أثناسيوس في كل هذه الحقائق الإيمانية كمستحدِث، بل كوارث - بالتقليد - جوهرة العقيدة والإيمان الحي من الرسل والآباء، ولكنه صقلها بالنعمة والإلهام تحت ضيق الاضطهاد وعناد الأريوسيين وكفرهم، وجعلها تاجاً على رأس الكنيسة تشعُّ على كل الأجيال لاهوتاً حيًّا يُفرِّح قلب المؤمنين!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
- عن كتاب: حقبة مضيئة في تاريخ الكنيسة، القديس اثناسيوس الرسولي.


([1]) Contra Arian, 1, 39, P.G. vol. 26, 93, cited by Merch.

([2]) Contra Arian, II, 69, 70, P.G. vol. 26, 293-6; cited by Merch.

([3]) Ibid., P.G., vol. 26, p. 296.

([4]) Contra Arian., II, 59, P.G. vol. 26, 273, cited by Merch.

([5])Contra Arian., III, 57, P.G. vol. 26, 444, cited by Merch.

([6]) Contra Arian, III, 33, P.G. vol. 26, 393, cited by Merch.

([7]) Contra Arian, III, 34, P.G. vol. 26, 379.

([8]) See: The Whole Christ, by Merch, p. 275.

([9]) Contra. Ar. II, 74.

([10]) Contra Arian, III, 22, P.G. vol. 26, 368, 369 cited by Merch.

([11]) Contra Arian, III, 22, P.G. vol. 26, 368.

([12]) Contra Arian, Discourse III, ch. 25:10, 19-25.

([13]) See: The Whole Christ, by Merch, p. 277.

([14]) Ibid. p. 278.

([15]) Apologia pro fuga, 13; P.G. 25, 661, cited by Nerch.

([16]) Contra Arian, 1, 21, P.G. vol 26, 96, 97, cited by Merch.

([17]) Mohler, Athanas. der Grosse und die Kirche. Mainz 1827. p. 122.


([18]) إلى سيرابيون. رسائل الروح القدس 31:1.

ليست هناك تعليقات: