ترتليان (160-240م):
صوت مدوي يظهر مبكِّراً من شمال إفريقيا في نهاية القرن الثاني، يمثِّل تعبيراً حراً ومستقلاً، هو صوت ترتليان، وذلك في معرض كتاباته ضد الموحدين Monarchians وكان يمثلهم آنئذ براكسياس.
وترتليان يُحسب كواضع لأساس التعليم الجامعي بخصوص الانبثاق.
ولكن نجد في كتاباته ما يفيد تعبير الكنيسة الرومانية الآن: أن انبثاق الروح القدس هو من الآب والابن([1]).
كما نجد في مواضع أخرى بكل وضوح تعبيره الآخر وهو الأرثوذكسي السليم أن: [الروح القدس منبثق من الآب في الابن: Spiritum non aliunde pute quam a Patre per Filium.]([2])
كما يقول إن الروح القدس يأخذ دائماً من الابن، كما أن الابن يأخذ دائماً من الآب، وهكذا فإن الثلاثة متحدون معاً في حياة إلهية واحدة: [الآب في الابن والابن في البراكليت ثلاثة متحدون ...]
[Ita connexus patris in Filio et Filii in paracleto tres officit cohaerentes alterum ex altero]([3])
ولكن يشط ترتليان في فهم العلاقة الأقنومية التي تربط بين الآب والابن والروح القدس. فبالرغم من عقيدته أن جوهر - أو طبيعة - الأقانيم واحد، إلاَّ أنه يقول بخضوع الروح القدس للآب والابن([4]) . وكأنما يُفهم مما سبق أن قال به إيرينيئوس من أن الروح القدس والابن يخدمان الآب، أن الخدمة هي تدني في الدرجة الوظيفية بين الأقانيم، والتسلسل في الانحراف واضح، فإيرينيئوس يقول بخدمة الابن والروح القدس للآب، ويقول ترتليان إن الروح القدس هو الذي يخضع للآب والابن.
(الروح هو “اسم ثالث للاهوت”،([5])
و“الدرجة الثالثة هي في الباراكليت”([6])).
(There is a “tertium nomen divinitatis”
.(& a “tertium gradus in Paracleteto”
ويعود ترتليان فيضع ضوابط لهذا التدرُّج حتى لا ينقسم الجوهر هكذا:
(Yet the persons are “tres non statu sed gradu nec substantia sed forma nec potestat sed specie”).
[الأقانيم هم: “ثلاثة ليس في الكيان بل في الدرجة،
ليس في الجوهر بل في الهيأة،
ليس في القدرة بل في النوع”.]([7])
أمَّا في ما يختص بعمل الروح القدس، فيتكلَّم ترتليان عن يقين كجزء لا يتجزَّأ من الإيمان، إن الروح القدس أُرسل ليملأ مكان صعود المسيح، وذلك لكي يقدِّس الكنيسة. ففي المعمودية ينزل الروح القدس من السماء ويقدِّس الماء معطياً للماء قوة التقديس([8]).
ثم إن حضور الروح القدس يُستدعى بالإضافة إلى تقديسه الماء ليحل بوضع الأيادي الذي يتبع طقس العماد([9]).
كبريانوس († 258م):
يُعتبر كبريانوس أكبر تلاميذ ترتليان. وهو يذكر موضوع أقنوم الروح القدس عبوراً([10])، ولكنه يؤكِّد وحدة الأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس، أي توحيد الله هكذا:
“De unitate Patris et Filii et spiritus sancti plebs adunata”
[إن أفضل ذبيحة لدى الله هي سلامنا وتوافقنا الأخوي، (وظهور) وحدة الآب والابن والروح القدس في تآلف الشعب (المسيحي).]([11])
ولكن يركِّز كبريانوس كثيراً على علاقة الروح القدس بالكنيسة كجسد وكأفراد في الجسد، أمَّا ما يتبع هذا من نمو أو فقدان في النعمة فهذا يرجع في عقيدة كبريانوس، إلى سلوك الفرد.
وعن الروح القدس يقول: Totus infunditur se qualiter sumitur كله يُفاض بقدر ما يُقبل([12]).
ولكن لكي تكون المعمودية ذات مفعول يتحتَّم أن تُجرى بواسطة إنسان يكون هو نفسه يملك الروح القدس([13]).
والكنيسة الجامعة باعتبارها عروس المسيح الوحيدة هي وحدها التي لها القوة على ميلاد (تجديد) أولاد الله([14])، لأنها هي وحدها التي تملك ينابيع المياه الحية (يقصد التعاليم المحيية السليمة)([15]).
ويتبع كبريانوس خط ترتليان في تأكيده أن وضع الأيادي بعد المعمودية يكمل بالضرورة طقس المعمودية لإعطاء الروح القدس([16]). كذلك فإن كبريانوس يتبع خط ترتليان في كون الروح القدس هو مصدر الإلهام للأنبياء والرسل وكتابة الأسفار جميعاً([17]).
هيبوليتس([18]) (160-258م):
وإذ كان هيبوليتس أسقفاً على بورتس رومانو (ربما بعد رعاية إيرينيئوس لها فترة من الزمن)([19])، قيل إنه كان أول أساقفة روما ثم ضخَّموا الأسقفية - إن كانت هي أسقفية روما - فقالوا بابا روما!! وقد فرح مؤرِّخو اللاتين بهذا الإلتباس في النساخة وقالوا إنه فعلاً بابا روما لأنهم اكتشفوا أخيراً جدًّا أن كتاباته في تقليد الرسل عن الليتورجيا يطابق ليتورجية روما، ثم إذ لم يجدوا ما يبرهنون به على صحة تزييف نسبته لروما قالوا إن بورتس رومانو كانت قرية بجوار روما؛ وللأسف أثبتت السجلات أنه لم توجد قط أسقفية بجوار روما بهذا الاسم ولا وُجِدَ بابا لروما بهذا الاسم، ولمَّا اكتشفوا في آثار روما كرسيًّا حجرياً وتمثالاً لا يحمل اسم هيبوليتس وبدون ذكر أي لقب بابوي عليه ولكن وجد على ظهر الكرسي مؤلَّفات هيبوليتس اعتبروا هذا دليلاً على صدق امتلاكهم لشخصية هيبوليتس، وقالوا بلاتينيَّتهُ ونسبته لروما. والحقيقة إن هذا العالم إسكندري الجنس وكان أسقفاً على عدن كل أيام حياته. وبسبب صراعه ضد بابا روما، وتصحيحه لهراطقة اثنين من هؤلاء الباباوات وبما أنه كان أيضاً أسقفاً على مدينة تحت الولاية الرومانية، اعتبروه رومانياً. وكان صراعه هذا ضد هرطقة البابا زفرينوس (199-217م) والبابا كالليستوس (217-222م)، كما قاوم انحراف البابا فابيانوس. وإن تسمية مؤلَّفات هيبوليتس الليتورجية باسم “نظام الإسكندرية في الرسامات القبطية” منذ أقدم العصور لهو دليل كافٍ لتدعيم علاقة هيبوليتس بالإسكندرية وليس بروما.
أمَّا كل ما يعرفه تاريخ العقيدة والإيمان عن علاقة هيبوليتس بروما فهو مهاجمة هيبوليتس لهرطقة زفرينوس وكالليستوس وفابيانوس باباوات روما، حيث كانت روما في ذلك الوقت هي مرتع ومهد هرطقة المونوأرخيزم([20])، أي “منكري الثالوث” كما كتب أيضاً هيبوليتس ضد نوئيتس Noetus.
ولكن كتابات هيبوليتس عن الروح القدس جاءت قليلة، ولكنه أكَّد على لاهوت الروح القدس بوضوح حيث يقول:
[إنه يستحيل أن نمجِّد الله دون أن نتجه مباشرة إلى الاعتراف بكل أقنوم في الثالوث الأقدس، بواسطة هذا الثالوث يتمجَّد الآب].
[ونحن عن طريق تجسُّد الكلمة صرنا نعبد ونكرِّم (proskunoàmen) الروح القدس، كذلك فإنه يستحيل علينا أن نكوِّن فكرة عن الوحدة أو الوحدانية في الله إلاَّ بالإيمان بالآب والابن والروح القدس (كونهم في اتحاد مطلق).]([21])
وهيبوليتس يدحض فكرة خضوع الروح القدس للمسيح بقوله:
[إن الآب أخضع كل شيء للابن المتجسِّد ما خلا الآب والروح القدس.]([22])
ولكن للأسف لم يستطع هيبوليتس أن يرقى للتساوي المطلق بين الروح القدس والآب أو الابن، فهو يقصر تسمية الأقنوم أو الشخص أو الوجه prزswpon في الثالوث كصفة شخصية على الآب والابن فقط، أمَّا الروح القدس فيقصر عليه صفة النعمة، أمَّا الثالوث فهو متساوي في التدبير:
أقنومان، وبالتدبير نعمة الروح القدس هي الثالثة.]([23])
ويهتم هيبوليتس بتحديد الصفة أو الوظيفة الخاصة للروح القدس في التدبير الإلهي بالإنارة أو الاستنارة هكذا:
لأن الآب هو الذي يأمر، والابن هو الذي يطيع، والروح القدس يوحِّد. لأن الآب أراد، والابن صنع، والروح أنار.]([24])
كما يقول هيبوليتس أيضاً إن الأنبياء يظهرون دائماً مؤيَّدين بروح النبوَّة ومكرَّمين من جهة الابن الكلمة ذاته([25])، وإن إلهامهم ينبع من قوة الآب. ([26])
ديونيسيوس الروماني (269م):
في احتجاجه ضد الذين انحرفوا نحو فصل الثلاثة أقانيم وضد مبادئ سابيليوس، أوضح ديونيسيوس الروماني عقيدته عن الروح القدس بالنسبة لعلاقته بأقنومي الآب والابن في الثالوث قائلاً إنه ينبغي أن لا نقسم الوحدة الإلهية القائمة في الثالوث إلى ثلاثة أقانيم منفصلة.
ولكن سقط ديونيسيوس هو الآخر في فهمه الخاطئ لوضع الروح القدس في الثالوث بقوله إن أقنوم الابن وأقنوم الروح القدس هما، من جهة الأصل والمنبع، خاضعان لله الآب. على أن ديونيسيوس يقول إن الابن متحد بالآب والروح القدس قائم (ساكن) فيه، فالثالوث الأقدس ينجمع في ذات واحدة حيث الآب مصدر ورأس فائق، وفي نفس الوقت يشدِّد أن ننتبه حتى لا نفرِّق الوحدة إلى ثلاثة آلهة، حيث يلزم جدًّا أن نحتفظ بوحدة الأصل وهكذا نحتفظ ونُقيم حقيقة الإيمان بالثالوث في المعمودية الآب والابن والروح القدس؛ أمَّا الذي نقل لنا ذلك عن ديونيسيوس الروماني فهو القديس أثناسيوس([27]).
([18])وهو تلميذ
إيرينيئوس، والمسمَّى في المخطوطات القبطية “أبوليدس”، شرقي المولد، إسكندري الجنس
وقد نسب خطأ إلى روما وأُعطي خطأ لقب بابا روما في المخطوطات القبطية. وذلك
الالتباس أصله كلمة “بورتس رومانو” وترجمتها الحرفية المرفأ الروماني، وهو مرفأ
عدن الآن، وكانت المرفأ الروماني الهام في مدخل البحر الأحمر. وقد قرأها النساخ الأقباط
بورتس = الأول (خطأ)، رومانو = الروماني، فقرأوها “الأول” في أساقفة روما، ثم بابا
روما ومع أن كلمة بورتس هي مرفأ وليس بروتو = الأول وسيصدر الكاتب نبذة تاريخية
مفصَّلة ومدعَّمة بالحقائق التاريخية عن هيبوليتس كأسقف عدن وأصالته كعالم قبطي
إسكندري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق