متى ٢٧ : ٤٦ وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: "إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟"
مرقس ١٥ : ٣٤ وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا:"إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟"
السؤال هُنا، هل تخلّى الله عن المسيح على الصليب أو الآب حجب وجهة عن الابن؟
بكل تأكيد لا.. ولا يمكن أن نفسر النص هكذا (كما فسره المطوب أغسطينوس، كما ذكره توما الإكويني في تعليقاته على الأناجيل الأربعة Catena Aurea)
هل هو تلاوة للمزمور على أذان صالبيه؟
دا مش صحيح..
فما معنى النص؟
1- إنّ الكلمة اليونانيّة المستخدمة هُنا للتعبير عن الصُراخ هي ἀνεβόησεν وجدير بالذكر أنّها لم تُستخدم في كلّ العهد الجديد سوى في هذا الموضع،( ١) وهذا هو المعنى الرئيسيّ للكأس في بستان جثيماني (مر14: 35).( ٢)
2- كان ذكر للمزمور 22 لداود، لكنه لم يكن ليعرِّف صاليبيه هذا المزمور، فهم لم يفهموه كما رأينا، بعضهم اعتقده يناجي إيليا، والبعض الآخر لم يفسر الكلمات من الأصل. لكنه تذكرة وتقوية له هو، كي يستمد من هذا المزمور الذي يبدأ بالألم وينتهي بالقيامة قوته. وجدير بالذكر أنّ كلمة (إيلي) التي استخدمها القديس متّى هُنا هي الترجمة الشائعة والتي وردت في ترجوم على المزامير.(٣ ) ويرى العالم الكتابيّ رايموند براون أنّ المسيح هُنا كان يستمد من صلاته بالمزمور شجاعة وقوة وسط أحلك لحظات حياته وأشدها قسوة وظُلمة.(٤ )
3- وربما لا ننكر حالة التخلي التي حدثت للمسيح هُنا، ولكن أي نوع من التخلي عاناه المسيح؟ إنّه الترك، لا حجب الآب وجهه عنه كما قال بعض المفسرين، ولا ترك اللاهوت له ليعاني الآلام، كما اعتقد البعض، وهو رأي الهرطقة النسطوريّة.
بل حالة الترك هُنا هي أن يُترك ليُسلَّم ويصلب ويتألم ويحمل خطايا البشريّة ليموت. لكنه شعور من يعرف النهاية، من يعرف أنّه لهذه الساعة قد أتى (مت26: 45؛ مر14: 41؛ يو12: 23، 27؛ 17: 1). فقد تُرِك ليطيع بكلّ هذه الآلام التدبير الإلهيّ الموضوع أمامه (عب5: 8؛ 12: 2)، وهو تدبير شارك فيه وخطط له بكلّ تأكيد، ولكن لحظة التنفيذ هذه صعبة على النفس البشريّة، وقد كان المسيح إنسان كامل كما نعلم أنّه إله كامل، ولم تنتقص أي من طبيعتيه من الأخرى.
هذا ما يقول به العلَّامة أوريجانوس، حين يكتب:
”نفهم بوضوح قوله لماذا تركتني حين نقارنه مع المجد الذي للمسيح عند الآب بالاحتقار الذي كابده على الصليب، ذاك الذي عرشه كان الشمس ومثل القمر يكون للأبد ثابتًا وشاهدًا“.(٥)
٤- وهذا أهمّ من جميع النقاط السابقة، أنّ المسيح هُنا يتحدث لا بلسانه كالابن الوحيد، ولا بلسانه حال إنسانيّته، بل بلسان البشريّة، فنحن من خرجنا من معيّة الآب، وهُنا يصرخ يسوع بلساننا طالبًا عودة وجه الآب علينا، وإحاطته برحمة إلهيّة بنا، كما يقول الآباء:
قال القديس غريغوريوس النيزنزيّ:
"وظهر في التعبير "إلهي إلهي لماذا تركتنى؟" أنَّه لم يكن هو الذي تُرك سواء من الآب أو من لاهوته كما ذكر البعض، كما لو أنَّه كان خائفًا من الألم... ولكن كما قلت كان في شخصه ممثلًا لنا، لأنّنا نحن الذين كنا متروكين ومحتقرين من قبل ولكن الآن ارتفعنا ونجينا بمعاناة ذاك (المسيح) الذي كان يمكن أن لا يعانى (يتألم) فقد جعل عصياننا وخطأنا خاص به هو".(٦)
وكتب يوحنا الدمشقيّ:
"ومن المقولات ما هى التماس للعون والنجدة. مثلًا: "إلهي إلهي، لماذا تركتني" و"إنَّ الذي لم يعرف الخطية جعله خطيئة لنا". و"صار لعنة لأجلنا" (غلا 13: 3). و"يخضع الابن نفسه للذي أُخضِعَ له كلّ شيء" (1كو 28: 15). والحال أنّ الآب لم يترك ابنه قط لا من حيث هو إله، ولا من حيث هو إنسان. ولم يكن الابن قط خطيئة ولا لعنة، ولم يكن بحاجة أن يخضع للآب. فمن حيث هو إله، وهو مساو للآب وهو ليس معاديًا له ومن حيث هو إنسان، فلم يكن قط مقاومًا لأبيه كي يضطر إلى تقديم الخضوع له. وإنَّما قال هذا لإنَّه أختصّ بشخصنا وجعل ذاته بمستوانا، لأنَّنا كُنَّا خاضعين للخطية واللعنة. ولذلك كُنَّا متروكين".( ٧)
"أما قول المسيح: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" فمعناه أن المسيح أختص شخصيًا، فإنَّ الآب لا يكون إلهه إلَّا إذا فصل العقل بتصوُّرات دقيقة بين ما يرى وما يعقل جاعلًا المسيح معنا في صفنا دون أن يفصله البتة عن لاهوته الخاص، لكننا كُنَّا نحن المهملين والمنسيين، حتّى أنّه وقد أختص شخصنا صلى الصلاة المذكورة".( ٨)
والقديس كيرلس السكندريّ يكتب:
"إذا أعتبرنا أن الابن الوحيد تأنس، فهذا الإعتبار هو الذي يجعلنا نفهم لماذا صدرت عنه هذه الكلمات، لأنه صار كواحد منا ونائب عن كلّ الإنسانية، وقال هذه الكلمات لأنّ الإنسان الأوَّل تعدى وسقط في عدم الطاعة ولم يسمع الوصية التي أعطيت له وإنما تعداها بمكر التنين، فصار أسيرًا للتعدي ولذلك بكلّ حقّ أُخضِعَ للفساد والموت. ولكن الابن صار البداية الجديدة على الأرض ودعيَّ آدم الثاني. وكان الابن الوحيد يقول: "أنت ترى فيَّ أنا الجنس البشريّ وقد وصل إلى عدم الخطأ وقدوس وطاهر" فأعطه الآن البشارة المفرحة الخاصّة بتعطفك وأزل تخليك، وأنتهر الفساد وليصل غضبك إلى نهايته. لقد غلبت الشيطان نفسه الذي نجح قديمًا ولكنه لم يجد فيَّ شيئًا يخصَّه. هذه معاني كلمات المخلِّص التي كان يستدعي بها تعطُّف الآب، ليس عليه هو، بل على الجنس البشريّ الذي كان يمثله".( ٩)
________________________________
1 James Swanson, Dictionary of Biblical Languages With Semantic Domains : Greek (New Testament), electronic ed. (Oak Harbor: Logos Research Systems, Inc., 1997), DBLG 331.
2 R. T. France, vol. 1, Matthew: An Introduction and Commentary, Tyndale New Testament Commentaries (Nottingham, England: Inter-Varsity Press, 1985), 404.
R. Alan Cole, vol. 2, Mark: An Introduction and Commentary, Tyndale New Testament Commentaries (Nottingham, England: Inter-Varsity Press, 1989), 327.
3 לשבחא על תקוף קורבן תדירא דקריצתא תושבחתא לדוד
Comprehensive Aramaic Lexicon, Targum Psalms (Hebrew Union College, 2005; 2005), Ps 22:1.
4 R. E. Brown’s discussion, Death of the Messiah, 1044–51.
5 Manlio Simonetti, Matthew 14-28, Ancient Christian Commentary on Scripture NT 1b. (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 2002), 294.
6 On The Son: 4: 1.
7 المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ، مقالة 91.
8 المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ، 205.
9 المسيح واحد 78.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق