الأحد، 23 مايو 2021

الله والشر.. رؤية آبائية




كثيرًا ما نرى شرًّا يحدث في العالم من حروب وقتل وعمليات إرهابيّة وكوارث طبيعية؛ زلازل، أعاصير، براكين، وغير ذلك من الشرور والأهوال التي يذهب ضحيتها العشرات من الأرواح البريئة..

وما أكثر ضيقات الحياة التي ندخل فيها ونختبرها في حياتنا من أمراض ووفاة أقرب الأقرباء وخيانة أحبّ الأحبّاء ونرى أو نختبر الفقر والأزمات الماليّة والحاجة الشديدة إلى المُساعدة أو حتّى إلى شخص ثقة يستمع إلينا فِي كلّ هذا ولا نجد!

حقًّا إنَّ كلّ ما سبق وغيره الكثير أمور صعبة جدًّا على النفس أن تحتملها أو تختبرها. والسؤال الذي نقف أمامه حائرين دائمًا:

هل الله هو مصدر هذه كلها؟ لماذا الشرّ إن كان هُناك إله صالح وكُلِّي القُدرة ومُحبّ؟ كيف يحبّني الله وهو يتركني ادخل في الضيقة وأتألم ويقف ساكنًا؟!

وفي هذا البحث لا أحاول أن أُجيب على هذه التساؤلات بالإيجاب أو بالنفي لكني أحاول أن اتعلم معكم من هو الله وما هو موقفه تجاه الشرّ والضيقات ولماذا تصدر منه، إن كانت صادرة منه أو يسمح بها كونه كُلِّي القُدرة مع ذكر أحد الأخطاء الشائعة عندما نحاول الرد على تلك التساؤلات.

عالمين أن هذه التساؤلات ليست جديدة ولم نسألها نحن فقط وليست وليدة هذا العصر فغالبيّة آباء الكنيسة ومنذ القرن الأوَّل وضِعُوا أمام هذه التساؤلات وأجابوا عنها كما سنرى.. بل إنّ هذه التساؤلات قائمة في العقل البشريّ منذ العهد القديم..

 

ما هو الشر؟ وهل الله خالق الشرّ؟

 

الشر هو عدم لا كيان له ولا جوهر فتعريف الشرّ هو غياب الخير تمامًا مثل الظُلمة فهيَ لا وجود لها ولكن النور هو الذي له كيان ماديّ ومصدر ينبع منه وبغيابه توجد الظلمة التي هي عدم أو تعبير عن غياب النور. أيضًا مثل إن هُناك شخص مريض فإن زرته واعتنيت به فهذا خير وهو ما يحتاج إلى عمل ماديّ، أما إن لم يعتن به احد فهذا هو الشرّ الذي هو لا شيء في ذاته إلَّا إنّه غياب عمل الخير..

فالشرّ في حقيقته لا كيان له وليس كما يدعي البعض إنَّ له خالق أوجده. الشرّ هو غياب الخير، كما أنّ الظُلمة لا وجود لها إنّما هيَ غياب الإبصار، والرزيلة ليست إلَّا غيابًا للفضيلة.[1] القمص تادرس يعقوب

لم يوجد للشر أصل قط في الإرادة الإلهيّة. لو كان الله هو خالق الشرّ وأباه لما كان هُنالك لوم على ارتكاب الشرّ، بلى، فإنَّ الشرّ ينشأ بطريقة ما في الداخل ويظهر في الإرادة عندما تشحب النفس من الصلاح. الإبصار قدرة طبيعيّة أمّا العمى فما هو إلَّا حرمان من القدرة الطبيعية، هكذا يوجد تضاد بين الفضيلة والشر فلا يمكن فهم الشرّ إلَّا بكونه غيابًا للفضيلة! فباستبعاد النور يحلّ الظلام ولا وجود للظلام بوجود النور، هكذا طالما يلتصق الصلاح للطبيعة فما يحل وجود الشرّ.[2] غريغوريوس النيسي

إذ تدرك النفس السلطان (المُعطي لها) للتصرُّف بحرّيَّة في كلا الطريقين، فإنَّها تعرف أنّها تستطيع استخدام أعضائها الجسدانيّة للسعي للخير أو إلى الشرّ. فالأمور الخيّرة هي التي توجد أمَّا الشريرة فهيَ التي لا وجود لها، لأنّها بالرغم من عدميتها اخترعتها تصورات أذهان البشر.[3] أثناسيوس

وبما أنّ الشرّ ليس كيانًا ماديًّا فهو ليس من خليقة الله، فالله لم يخلق الشرّ لأنّ الله خلق كلّ ما هو كائن أمَّا الشرّ فهو غياب أمر أو كيان أو عمل كائن وبهذا فهو خارج خليقة الله! كما أنّنا تعلمنا من الله انه لا تنبع من نفس عين واحدة ماء حلو ومر: "أَلَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ 12 هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟ وَلاَ كَذلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا"! (يع 3: 11، 12) وهذا ضد المنطق السليم فلا يمكن أن يكون الله مصدر للخير والبلايا معًا..

ليس للشر وجود في ذاته لأنَّه ليس من ضمن المخلوقات وليس له مادة.[4] دوروثيؤس

وإذا انحرف بعض اليونانيّين عن الطريق المستقيم ولم يعرفوا المسيح، نسبوا للشرّ وجودًا دهريًّا مستقلًا! وبهذا ارتكبوا خطًأ مزدوجًا بإنكارهم أنّ الخالق خلق كلّ الأشياء، وذلك إن كان للشرّ كيان مُستقل من تلقاء ذاته أو أنهم كانوا يقصدون أنّه خالق كلّ الأشياء، فإنَّهم بالطبيعة يعترفون أنّه خالق للشر أيضًا لأنّ الشرّ حسب ادعائهم كائن ضمن الأشياء الموجودة، على أنّ الأمر واضح كلّ الوضوح أنّ هذا ملئ بالتناقضات، علاوة على استحالته، لأنَّ الشرّ لا يخرج من الخير كما أنّه غير موجود في الخير ولا هو نتيجة له. وإلَّا ففي هذه الحالة لا يمكن أن يكون الخير خيرًا طالما كان مختلطًا بطبيعة الشرّ أو نتيجة له.[5] أثناسيوس

 

كيف وجد الشرّ؟

 

لكن إن كان الله ليس هو خالق الشرّ لان الشرّ لا وجود له بل هو عدم لوجود الخير فكيف وجِد الشرّ في العالم؟!

وجِد الشرّ في العالم من أعمال البشر الشريرة، فالدمار والحروب والفقر والأمراض سببها الأصليّ هو البشر وجشعهم وشهواتهم للسيطرة واشباع رغباتهم حتّى وإن كان على حساب الإنسان وإن كان على حساب الطبيعة التي بدورها عندما تدخَّل الإنسان بجشعه فيها وأضر بها أضرت هِيَ الأُخرى به وأحدثت كوارث نتيجة اختلال التوازن البيئيّ كما سنرى.

وهكذا، فإنّنا نرى الشرّ دائمًا مصدره الإنسان وللأسف عندما نرى حربًا أو فقرًا ومجاعات أو كارثة طبيعيّة فإنَّنا ننسبها بجهل إلى الله. برغم أنّ الفقر والمجاعات هِيَ من صنع الحكومات الظالمة والاستبداد والجشع البشريّ..

لا يمكننا أن نقول إنَّ الشرّ يأتي من الله دون أن نُخطئ إلى الإيمان. فلا حياة تلد الموت ولا ليل يخلق النور ولا مرض يمنح الصحة، لأنّ الله الذي هو الخير والصلاح بالذات لا يُمكنه أن يخلق ما هو ضده أي الشر. الجواب الصحيح هو أنّ الشرّ ليس حقيقة حيّة، بل هو ارتياح النفس لأمر يخالف الفضيلة، وهو نتيجة رفضنا للخير وتساهلنا وتهاوننا. فلا نبحث عن الشرّ خارجًا عنَّا! ففي أعماقنا تكمن طبيعة أوليّة فاسدة، فعلى كلّ منا أن يُقر أنّه أصل الرداءة التي فيه، قدر ما تتسلط على نفسك يكون الشرّ خارجًا عنك. اعلم أنّ أصل الخبث الحقيقيّ هو استسلامك لضعفك بحرّيّتك ولو لم يكن الأمر كذلك لما أمكن سن شرائع ولا جاز إقامة محاكم ومعاقبة مجرمين.[6] باسيليوس

ليس للشر وجود في ذاته لأنّه ليس من ضمن المخلوقات وليس له مادة، إنّما النفس بانحرافها عن الفضيلة تصير شهوانيّة وتلد الخطية فتتألم حيث لا تجد لها راحة طبيعيّة في ذاتها. هكذا تنتج النفس الشرّ بذاتها وتعود تتألم منه.

يقول غريغوريوس اللاهوتي تتولد النار من مادة وهِيَ تحرق المادة هكذا يفسد الشرّ الإنسان الشرير.[7] دوروثيؤس

الله لم يخلق الشر. الآخرين هم الذين أنشأوه، إنّه يستطيع أن يمنعه ولم يفعل ذلك مع هؤلاء الأشرار.[8] أوريجينوس

كذلك فإنّنا تعودنا أن نجعل الله مسؤولًا عن البؤس والفقر والجوع في حين أن السبب الرئيسيّ هو جشع الإنسان ورفضه مشاركة أمواله وطعامه مع أخيه في الإنسانيّة. فالمسؤول الحقيقيّ ليس الله وإنّما أنانيتنا ونهمنا ورغبتنا في الامتلاك.[9] هرمينا البراموسي

في بعض الأحيان نشعر بالحزن أمام الشرّ ونسأل: لماذا يسمح الله بأمور كهذه لكي تتمّ؟ لماذا لا يتدخل وينهي هذا الشقاء؟ وكأنّ الله هو المسؤول عن كلّ هذا الشرّ وننسي ببساطة أنّ الله هو من يتألم لما يُصيبنا ناسين أيضًا أنّه لن يتدخل لمنع هذا الشرّ بدون رضانا، فالإنسان هو مؤسِّس الحروب والظلم والعنف وهو صانعها والشرّ ينبع من قلب الإنسان ويفيض على العالم حينما يترك ذاته في يد الشيطان واقتراحاته له.[10] هرمينا البراموسي

أمَّا الكوارث والمصائب الطبيعيّة في الكون فهِيَ ناتجة من خلق الكون من العدم ويتحتم إذًا وجود بصمة العدم فيه، أي عدم الثبات والتغيُّر هذا التغيُّر طبيعيّ يظهر في صور شتى كالزلازل والبراكين، ولكن في أحيان أُخرى يكون ناتجًا عن فعل الإنسان. فحينما خلق الله العالم أوكله لآدم ونسله ليعملوا فيه، ولكن للأسف بملء الإرادة والحُرّيّة، أضرّ البشر ببعض أنظمة الكون التي عيّنها الله لثبات الحياة على الأرض، وذلك بشرور البشر. وأكبر دليل على ذلك هو ثقب الأوزون، الذي هو نتاج جشع الدول الصناعية الكُبرى التي لا تُريد أن تُقلِّل من الانبعاثات الواردة من حرق الوقود الإحفوريّ حتّى لا تتأثر الصناعة بها مما أدى إلى تآكُل تلك الطبقة وهو ما انعكس سلبًا على الإنسان والحيوان والنبات.

والدليل الثاني هو قطع الإنسان لمساحات هائلة من الغابات مما أدى إلى تغيُّر التنوع البيولوجيّ في تلك المناطق وهو ما أدى إلى انقراض أنواع كثيرة من الكائنات الحيّة.

أخيرًا وليس آخرًا هو ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب كثرة الانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون مما يؤدي إلى الاحتباس الحراريّ والذي إن لم يكترث له الإنسان ستغرق بسببه مدن ساحليّة بأكملها.[11] هرمينا البراموسي

فنحن بإرادتنا الحُرّة نختار الشرّ طريقًا ونصنعه ونصبح مصدرًا له يمتد منه إلى العالم ويقول في ذلك أوريجينوس:

في بيت كبير لا توجد أنية من ذهب وفضة فحسب، بل توجد أيضًا أنية من خشب وخذف وتلك للكرامة وهذه للهوان (2تي2: 20) لكن الكُلّ ضروريّ في الحقيقة وبما أنّ الأنية التي نتحدث عنها هي أنية عاقلة ولها حُرّيّة الإرادة فإنّه ليس بحادث أو بالصدفة أن نصبح إناء للكرامة وإناء للهوان، فالذي اظهر استحقاقات للكرامة يُصبح إناء للكرامة (اع 9: 15) وبالعكس الذي يعيش بأفكار غير لائقة وشريرة يأخذ صورة إناء الاحتقار نتيجة أسباب لم تأت من خالقه لكن من نفسه، ليس الخالق هو الذي عمل من هؤلاء الناس ما أصبحوا عليه. لكنه يُعطيهم بحسب اختيار إرادتهم بشريعة عادلة وفائقة الوصف من حكمته الإلهيّة.[12] أوريجينوس

 

الضيقات والتجارب!

 

أمَّا عن الضيقات والتجارب التي يمرّ فيها الجميع فهيَ نتجت عن الشرّ الذي كان مصدره البشر سواء أكان مرض أو فقر أو أي شيء آخر، ولكن الله يتدخل ويستخدم حتّى هذه الشرور لصالح البشر – وهذا ما يعني كلمة سماح الله بالتجربة – حيث إنَّ تدخل الله في أنّه يستخدم حتّى هذا الضيق ويحوِّله لفائدة الإنسان هُنا في العالم أو خارج هنا في الدهر الآتي.

لذلك لا يستخدم الله الخير فقط لفعل صالح، لكن أيضًا يستخدم الشرّ. إنَّه شيء عجيب، الله يستخدم الشرّ لعمل عمل الصلاح.[13] أوريجينوس

لا يمنع الله الذين يسبّبون الأحزان إذ يهب الناس حُرّيّة الإرادة، لكنّه يُحوِّل اختيارهم الشرير إلى صلاح. لم يمنع جهالة الصليب لكنه اخرج منه صلاحًا.[14] اكليمندس السكندري

إنّما عمل الله فوق كلّ شيء أن يُحقِّق غاية الخير والنفع فيما يحدث من أفعال شريرة يقوم بها أي إنسان، مستخدمًا للخير كلّ ما يراه الإنسان شرًا، تمامًا كما في حالة الشهادة لله التي تُحقَّق خلال التجربة.[15] إكليمندس السكندري

الله لم يخلق الشر! الآخرين هم الذين أنشأوه، إنَّه يستطيع أن يمنعه ولم يفعل ذلك مع هؤلاء الأشرار.... فهو بأفعالهم يُمجِّد ويُشجِّع الذين يبتغون مجد الفضائل، فعند محو الخبث سوف لا تقابل الفضائل أبدًا خصمًا وبدون خصم سوف لا تلمع الفضيلة، سينقصها المجد والتجربة. فأيّة فضيله لا تُقاوم ولا تُجرب لا تكون بعد فضيلة.[16] أوريجينوس

والتجارب والضيقات تجلب معها النعمة والتعزية من الله..

فهِيَ ليست نعمة واحدة بل نعمة مضاعفة. إنَّ من يؤمن ينبغي أن يتألم لأجل الرب يسوع، إذًا فمن يؤمن ينال نعمته ولكنه ينال نعمة ثانية إذا توِّج بالآلام. لأن بطرس لم يكن بدون نعمة قبل أن بتألم، ولكن حينما تألَّم نال هبة ثانية.[17] أمبرسيوس

ولكن سوف يقول البعض فما فائدة الفداء إذًا إن كان المسيحيّ يتألم في العالم مثله مثل غير المؤمن..

يظن البعض أنه يجب ألا يخضع المسيحيّ للموت معتبرين أن الموت لا يجب أن يُصيب إلَّا غير المؤمنين، كما لو كانت غاية الإيمان المسيحيّ هي اتقاء خطر أمراض هذه الحياه لكي يستمتع المرء بالحياة، وليس أن يُجاهد ويتألم على الأرض ليُكلَّل ويفرح فيما بعد... إنَّنا نُترَك مع البشر في كلّ ما يخصّ الجسد مثلنا مثل كلّ البشر تمامًا، طالما نحن في هذا العالم. ولكننا نتميَّز عنهم في الروح، وحتّى يلبس هذا الفاسد عدم فساد وهذا المائت عدم موت ويقودنا الروح القدس إلى الآب فإنّنا نشترك هُنا مع غير المؤمنين في كلّ شيء، فإذا حدث قحط واشتدت مجاعة فليس هُناك فرق بين المؤمن وغير المؤمن، وإذا تعرضت المدينة لغزو شمل السبي الجميع بغير تفرقة، وإذا امتنع المطر أصابت المجاعة الكلّ، واذا تحطمت سفينة غرق كلّ من على متنها بلا تمييز. وهكذا يُعاني الجميع من أمراض العيون والحُمى طالما نحن نحمل هذا الجسد المُوجود في هذا العالم.[18] كبريانوس

والله عندما يسمح لنا بالتجربة فإنّ هذا يحدث لفائدتنا! إمَّا لكي نستفيق من الغفلة في حياة الخطية، أو ليُزكي إيماننا ويعطينا في وقت التقبُّل بالشكر التعزية ووجوده الإلهيّ في داخلنا كما يقول الكتاب الإلهيّ: "عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي، تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي." (مز 94: 19).. (مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقْ، أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. 16 مِنْ طُولِ الأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاَصِي. مز 91: 15 - 16)

إنَّ هذه الضربة تبدو مرعبة، وهذا الوباء يفتك بالناس، ولكن في الوقت عينه يُختَبر بر كلّ إنسان وتمتحن أذهان البشر فتكشف عن مدى اهتمام الأصّحاء بالمرضى ومدى رفق الإنسان بقريبه ومدى عطف السادة على خدامهم ومدى استجابة الأطباء لصرخات المصابين. إنَّ هذا الوباء يحث القُساة أن يتركوا عنهم قساوة قلوبهم وأن يترك الجشعين محبة المال وأن يحنوا المتشامخين رقابهم وأن ينزع الأشرّار عنهم شرّهم.[19] كبريانوس

أيًا كان الضيق الذي نعانيه وأيًا كانت خطورة الوضع، فالله يستطيع أن يُصلِح كلّ شيء ويرفع كلّ بليّة. فلنمتنع اذًا عن التذمُّر كعبيد حمقى ونلوم سيدنا، ونشكره على إحساناته ولا ننسى على الإطلاق أنّ الشيء الوحيد الذي لنا أن نخشاه فوق كلّ شيء هو أن نُهين الله ونضايقه، فإن كان لنا مثل هذه المقاصد تجاه الرب فنحن سوف نرتفع فوق المرض والألم والسخرية والعقم وكلّ البلايا الأُخرى، وبعد أن نستمتع على مدى حياتنا بسعادة تامّة نحصل على الخيرات الأبديّة بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي يملك في المجد مع الآب والروح القدس الآن ودائمًا وإلى دهر الدهور، آمين.[20] فم الذهب

وإن كانت توجد هذه الضيقات في حياتنا فكيف نقول إنَّ الهنا هو الله المحب..

الله محب البشر، وحبه ليس حب عاطفي، لا يُقارن بحب الأم لرضيعها أو حب الزوج لزوجته أو حب الحبيب لمحبوبته، إنّه حب علويّ فائق غايته الدخول بالإنسان إلى شركة المجد الأبديّ... لذا فهو لا يُريد لنا الألم إنما يسمح به لخيرنا، لتأديبنا أو تزكيتنا، للدخول بنا إلى الميراث الأبديّ.[21] فم الذهب

وجود الشرّ لا يضاد العناية الإلهيّة أو صلاح الله، فإنَّه مع وجود العناية الإلهيّة يتمتع الإنسان بحرية الإرادة واحدة من أعظم عطايا الله. لهذا فإنَّ الله لا يمنع الشرّ لكن لا يسببه وتقع المسؤولية على من اختاره. الله ليس مسؤولًا.[22] اكليمندس السكندري

لذلك يؤكَّد القديس بولس الرسول أن الله آمين فيما له، أي فيما يخص الحقّ. لذلك لا يجعل الإنسان يُجرب بالشرور أو بالباطل فوق احتماله أو طاقته، بل يجعل مع التجربة البشريّة منفذًا إلهيًّا، هذا المنفذ هو التدخل السريع والآمين والأكيد من قِبَل الروح القدس ليرفع الإنسان فوق مستواه وليُعين المُجربين لحساب تجربة المسيح. لإنّه بذلك يتزكى ضد الباطل وينتصر للمسيح الذي دفع لكلّ من يؤمن به ثمن النصرة على العالم.[23] متّى المسكين

رُبّما الأعمال الصالحة تجلب بعض المُكافآة، كذلك الأوجاع التي يختبرها الواحد مِنا في حياته كما علّمنا إبراهيم في موضوع لعازر. لكن المعرفة الكُليّة لهذه الأشياء قد حُفِظت للذي قد أُعطى له الأب كلّ الدينونة (يو 5: 5).[24] اوريجينوس

بالضيقة نرى مجد الله الذي ما كان ممكنًا أن نراه ونحن في رخاء وخمول..

لما اجتمعت الجماعة على موسي وهارون انصرفا إلى خيمة الاجتماع وإذا السحابة قد غطتهما وتراءى مجد الرب، مهما عظُمَ موسي وهارون باستحقاقات حياتهما ومهما ارتفعت فضائلهما لما كان مجد الله قد ظهر لهما لو لم يكونا هدفًا للاضطهادات والشدائد والمخاطر حتّى الموت. لا تأمل إذًا أن ترى مجد الله إذا كنت متكاسلًا ومتراخيًا.. كلّما كثرت الآلام كُلّما جلبت مجد الله للذين احتملوها بشجاعة.[25] أوريجينوس

 

ولماذا ترك الله الشيطان إن كان هو أصل كلّ غواية وشر؟

 

لو كانت الحُرّيّة متروكة للشياطين لكانوا أبادوا شعب الله وبالعكس لو رُفِعت منهم حُرّيّة التصرُّف لكان هذا قضاء على خليقة عاقلة وتقديم وقت الدينونة، ويكون هُناك أضرار بالذين كان في استطاعتهم أن يحصلوا على الأكاليل بصراعهم ضدهم.[26] اوريجينوس

الشيطان مُضلِّل... لكن كثيرون غلبوه فصارت لهم تزكية وكرامة أفضل بكثير من المغلوبين، وحتّى لو كان المغلوبون كثيرين إذ يُقال (ولد واحد خير من ألف منافقين.. سيراخ 16: 3). لو أنّ الله استبعد الشيطان لأنّه مُضلِّل وبسببه يتعثُّر كثيرون فهل يستبعد الله الخليقة الجميلة بسبب عثرة البعض فيها، وهل يستبعد الله أعضائنا التي نستخدمها استخدامًا شريرًا، ولماذا؟ فإنَّ البعض تعثّر في الصليب (1 كو 1: 18) وفي الرسل (2 كو 2: 16) وفي السيد المسيح نفسه (يو 9: 39).[27] فم الذهب

 

الأمراض الوراثية

 

أمَّا عن الأمراض الوراثيّة أو ما يسميَّ بالعيب الخُلقي فهو نتيجة تأثيرات من الطبيعة أو الحالة الصحيّة للأم أو الأب وسأكتفي في هذا الشأن بقول القديس أثناسيوس الرسوليّ تاركًا الرأي العلميّ لموضوع آخر:

تفوَّه الرب قائلًا: (لا هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ) (يو 9: 3) بمعني أنّ عماه الآن ليس هو بسبب خطايا لكن خطأ الطبيعة، مثل نبات قبل أن يُنبت من الأرض تعرضت جذوره مرات كثيرة لضرّر وظرف ما خارجيّ، هكذا الأعمي من ولادته تعرّض للإعاقة في بطن أمه سواء إن الحضن الأمويّ لم يكن بحالة جيّدة أو أن البذرة الأبويّة أُعطيت مشوهة.[28] اثناسيوس

 



[1] الحب الإلهيّ.الأب تادرس يعقوب. 103

[2] غريغوريوس النيسي. الحب الإلهيّ. للقمص تادرس يعقوب. 103. oration, cat , 5

[3] اثناسيوس. النعمة عند القديس اثناسيوس. وهيب قزمان بولس. ج1 ص 40 , الرساله إلى الوثنيين 4 pg 9:4 , النسخه العربيه ف 4:3-4 ص 24

[4] دوروثيؤس.. الحب الإلهيّ. 104. د / عدنان الطرابلسي – الرؤيه الارثوذكسيه للانسان

[5] اثناسيوس. رسالة الوثنيين. 6 : 1-2

[6] باسيليوس. الحب الإلهيّ. 104. hexamaeron 2 : 5

[7] دوروثيؤس.. الحب الإلهيّ. 104. د / عدنان الطرابلسي – الرؤيه الارثوذكسيه للانسان

[8] اوريجينوس. عظات على العدد. المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه. ج1 ص 196

[9] الأب هرمينا البراموسي. اتركها هذه السنة ايضاً. 28

[10] الأب هرمينا البراموسي. اتركها هذه السنه ايضاً. 26

[11] اتركها هذه السنه ايضاً. الأب هرمينا البراموسي , ص 27 , 28

[12] اوريجينوس. عظات على سفر العدد. ج1 ص 198 , 199

[13] اوريجينوس. عظات على سفر العدد. ج1 ص 198

[14] اكليمندس. الحب الإلهي. 340. stromata 4:12_87

[15] اكليمندس. الحب الإلهيّ. 341. stromata 1 : 86 , 2 : 55

[16] اوريجينوس. عظات على العدد. ج1 ص 196

[17] امبرسيوس. التوبه. 34

[18] كبريانوس. مقالات القديس كبريانوس اسقف قرطاجنه. الأب مرقريوس الانبا بيشوي. 101

[19] كبريانوس. مرجع سابق. ص 106

[20] فم الذهب. التوبه. ترجمة نشأت مرجان. دار النشر الاسقفيه. 77

[21] فم الذهب. تادرس يعقوب. 323 , in hebr , hom , 29 : 1

[22] اكليمندس. الحب الإلهيّ. 339. the philosophy of clement of Alexandria ch , 6 – 8

[23] متّى المسكين. الروح القدس ج2 ص 757

[24] اوريجين. عظات على سفر العدد ج1 ص 91

[25] اوريجين. عظات على العدد. 100 – 101

[26] اوريجينوس. عظات على العدد. ج1 ص 190

[27] فم الذهب. تادرس يعقوب مالطي. 320. هل للشيطان سلطان عليك. 52 : 62 )

[28] اثناسيوس. حديث عن المولود اعمي , benez 36 , 249 , الصحة والمرض في التقليد الكنسيّ. د \ جورج عوض ابراهيم. ص 17

ليست هناك تعليقات: