لقد عانت الكنيسة أشد المعاناة وتعذَّبت أشد التعاذيب بسبب إشاعة الأخبار الكاذبة عن الإفخارستيا في الدوائر الحكومية وبين رعاع الوثنيين، سواء من جهة مواد أسرارها أو كيفية ممارستها أو ماذا يحدث في الاجتماعات أثناءها.
فقد ذاعت الإشاعات أنهم في اجتماعاتهم السريَّة يذبحون الأطفال ويشربون الدم ويُفسدون الأخلاق ويدبِّرون المؤامرات ويقاومون السلطات، وكل هذا كان يسبِّب القلق الشديد للحكَّام ويثير حب استطلاع الرعاع لاقتحام الاجتماعات.
والخطاب الرسمي المشهور المسمَّى » خطاب بليني «إلى الإمبراطور تراجان سنة 112م، يشير إلى هذا:
[إنه بعد امتحانه للمسيحيين قد اتضح له أنه لا خطر ولا ضرر من الطعام الذي يشترك فيه هؤلاء المسيحيون في اجتماعاتهم.]([1])
وكذلك القديس بطرس الرسول يشير إلى هذه الظروف بقوله:
+ » وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا فيما يفترون عليكم كفاعلي شر، يمجِّدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها. «(1بط 12:2)
+ » أيها الأحباء لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة لأجل امتحانكم كأنه أصابكم أمر غريب ... إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم. «(1بط 4: 12و14)
والواقع أن هذا كان بسبب السرية المطلقة التي كانت تمارسها الكنيسة في ممارستها للأسرار سواء المعمودية أو الإفخارستيا، فلا يُسمح لأقرب المقرَّبين أن يعرفوا شيئاً عنها، وحتى المتقدمون للإيمان كان يُخفى عنهم كل التعاليم، حتى الصلاة » أبانا الذي في السموات « والإيمان بالثالوث، وقانون الإيمان، وما يجري في العماد، أو ما هو سر الإفخارستيا وما يجري فيه، كل ذلك كان محظوراً أن يعرفه المتقدِّم للإيمان وإلى يوم عماده!!
كذلك فإن الأسلوب والألفاظ التي كانت تستخدمها الكنيسة في الإشارة أو التعبير عن الأسرار كانت كلها رموزاً واصطلاحات وإشارات سرية، وهذه كانت تحيِّر غير المؤمنين وتجعلهم يظنون الظنون ويفهمون أموراً خاطئة مهولة ومشوَّشة عن الأسرار المسيحية وما يجري فيها.
وقد كانت الكنيسة مضطرة إلى اتخاذ هذا الأسلوب خوفاً من الوثنيين، وفي نفس الوقت كانت تعاني بسببه. فالتقليد الكنسي كله تسليم وتسلُّم شفاهي ويقوم على سريِّة مطلقة، لأن المعرفة بالأسرار كانت تُعتبر أيضاً سر الله، والمسيح أشار إلى هذا النوع من المعرفة التي كانت رأسمال الكتبة والفريسيين: » أخذتم مفاتيح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم «(لو 52:11). هنا كلمة “مفتاح المعرفة” تشير إلى الخزانة المغلقة!
وقد ظلت هذه التعاليم السرية Disciplina Arcani منهجاً رسمياً في الكنيسة([2]) حتى القرن الثاني، فكان محظوراً على أي كاتب أن يسجِّل التعاليم السرية على ورقة أو في رسالة أو في كتاب، وكان محظوراً على أي مسئول أن يسلِّم التقليد لأكثر من واحد.
ولكن هذا كله ليس بالأمر المستغرب، فالسيد المسيح له المجد اتَّخذ هذا الأسلوب: » فقال لهم: قد أُعطي لكم أن تعرفوا سرَّ ملكوت الله، وأمَّا الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء. «(مر 11:4)
وكانت هناك أمور يهتم الرب جداً أن تُحفظ في طي الكتمان أو في مفهومها السري مثل الآتي:
1- أنه هو المسيا:
+ » وأنتم مَنْ تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح (المسيا)، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه. «(مر 8: 29و30)
2 - أخبار آلامه وموته:
+ » ولم يُرِد أن يَعلم أحدٌ، لأنه كان يعلِّم تلاميذه (سراً) ويقول لهم إن ابن الإنسان (التعبير السري عن المسيا) يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث. وأمَّا هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه. «(مر 9: 30-32)
3 - نبوات آخر الأيام:
+ » سأله بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس على انفراد: قُل لنا متى يكون هذا وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا؟ ... فانظروا أنتم ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء. «(مر 13: 3و23)
وكان السيد المسيح دائماً يشير إلى التعاليم الخاصة أو السرية بقوله:
+ » مَنْ له أذنان للسمع فليسمع «(مت 15:11؛ 9:13)،
+ » الذي تسمعونه في الأذن (أي في السر) نادوا به على السطوح «(مت 27:10)،
+ » ليس مكتومٌ لن يُستعلن «(مت 26:10)،
+ » لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا دُرركم قدَّام الخنازير «(مت 6:7)،
+ » ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب «(مت 26:15)،
+ » ليفهم القارىء. «(مر 14:13)
كذلك كان الرب يُخفي حقائق إرساليته وعودته إلى الآب في قالب القصة والمثل الذي يحتاج إلى ذكاء وإعمال الفكر.
والقديس بولس الرسول يحفظ نفس الطريقة، فهو يعتبر نفسه والرسل » خدام المسيح ووكلاء سرائر الله «(1كو 1:4). وهو وإن كان يتكلَّم ويكتب للجميع ولكن لا يزال عنده من أقوال الحكمة التي لا ينبغي أن يتكلَّم بها للجميع بل للأخصَّاء جداً: » لكننا نتكلَّم بحكمةٍ بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من (أقوال) عظماء هذا الدهر الذين يُبطَلون، بل نتكلَّم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر. «(1كو 2: 6-8)
وهو إنما يعطي أهل كورنثوس (وهم أهل حكمة أفلاطون وأرسطو) مجرد لبن كغذاء يتناسب مع ضعف قدرتهم الطفولية وحكمتهم الجسدية!! أمَّا الغذاء الكامل فأبقاه وأخفاه للكاملين بالروح! الذين يمكن أن يبلغوا إلى معرفة » أعماق الله «! (1كو 1:3؛ 10:2)، هؤلاء يمكن أن تُكشف لهم الأسرار المخفية والمكتومة، فإن كان هذا بالنسبة لمسيحيي كورنثوس الذين لهم في المسيح عدة سنوات، فكم ينبغي أن يكون الكلام للمبتدئين والذين لم يُعمَّدوا والذين ليسوا بمسيحيين؟
كذلك يرى القديس بولس الرسول أن كل ما يختص بدقائق الأسرار وممارستها لا ينبغي أن يكتبها في رسالة بل ينبغي أن يُبقي عليها مكتومة حتى يسلِّمها شفاهاً: » وأمَّا الأمور الباقية فعندما أجيء أُرتبها «(1كو 34:11)، وهذا بالنسبة لترتيب إقامة الإفخارستيا.
كذلك كل ما يختص بكشف أسرار المسيح ورموزه في العهد القديم، وخصوصاً فيما يختص بتجسده واتضاعه وارتفاعه: » الذي من جهته الكلام كثير عندنا وعسر التفسير لننطق به (محفوظ للتسليم الشفاهي) إذ قد صرتم متباطئي المسامع، لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون أن يعلِّمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله، وصرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعامٍ قوي. «(عب 5: 11و12)
لذلك نجد القديس بولس الرسول في موضع آخر يجمع كل هذه الحقائق في جملة واحدة مقتضبة غاية الاقتضاب، عن قصد واضح وإحجام متعمَّد عن الشرح أو التفسير: » وبالإجماع عظيم هو سرُّ التقوى الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أُومِنَ به في العالم، رُفع في المجد. «(1تي 16:3)
وفي موضع آخر يقول صراحة إنه: » سمع كلمات لا يُنطَق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلَّم بها. «(2كو 4:12)
كذلك يَعتبر القديس بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين أن بعض التعاليم التي تُقدَّم للمؤمنين في البداية، ينبغي أن تُقدَّم بمفردها، وعلى أكثر تحقيق تُقدَّم شفاهاً، ولذلك رفض تسجيل شيء عنها في رسالته. وقد قسَّمها بولس الرسول إلى ثلاثة أقسام:
( أ ) التوبة من الأعمال الميتة،
(ب) الإيمان بالله،
(ج) تعليم المعمودية ووضع الأيادي (يساوي الآن مسحة الميرون)، والقيامة من الأموات والدينونة الآتية (الحديث عن القيامة، وأغلبه على الشيطان، كان من الأمور التي يتحفَّظ فيها الإنجيليون جداً ولم يقدِّموا دقائق أسرارها).
ويلاحَظ هنا عدم ذكر الإفخارستيا باعتبارها تعليماً خاصاً لا يُقدَّم للمبتدئين.
بهذا الفكر وعلى أساس ما قدمناه من اتجاه الإنجيليين والرسل في رسائلهم، من جهة إخفاء هذه الحقائق أو محاولة صياغتها في ألفاظ مقتضبة جداً ومبهمة أحياناً بصورة شديدة، يتضح لنا لماذا
ارتأى القديس يوحنا الرسول أن لا يكتب شيئاً عن العشاء السري بخصوص ممارسة السرّ نفسه، واكتفى بشرح كل التعاليم الخاصة به في الأصحاحات الأُولى من إنجيله!! وشرح القديس يوحنا الرسول هذا لسر الإفخارستيا يعتبره كثير من العلماء الآن، بديلاً مقصوداً عن الحديث السري ليلة الخميس على العشاء السري.
كذلك فالإقتضاب الشديد جداً في سرد أخبار عشاء الرب والإكتفاء بوضعه في الصيغة الليتورجية وفي أضيق ألفاظها، هو عمل مقصود من الإنجيليين! لأن مسألة «أكل» الجسد و«شرب» الدم، وكلمة » الذبيحة «و» المذبح «كانت وقت كتابة الأناجيل نقطة حساسة وخطرة للغاية بالنسبة لليهود والأمميين على السواء، ولا ننسى أن بعض التلاميذ القدامى تركوا المسيح ولم يعودوا يسيرون معه بسبب هذا الأكل وهذا الشرب من ا لجسد والدم: » فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعب مَنْ يقدر أن يسمعه. «(يو 60:6)
من أجل هذا نجد في تسجيل كلٍّ من القديس بولس الرسول والقديس لوقا الإنجيلي محاولة لعدم إبراز شرب الدم بصورة واضحة، فجاء الشرب من الدم عند بولس الرسول بصورة مُضمَرة غير مباشرة: » هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري «(1كو 25:11)، أمَّا القديس لوقا الرسول فجعل الأكل من الجسد والشرب من الدم عملاً يُفهم بدون أن يُذكر: » هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم اصنعوا هذا لذكري «كذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفَك عنكم «(لو 22: 19و20). الاختصار هنا مقصود وواضح، وتضمين الكلمات للمعاني العملية واضح أيضاً، ولكن في صورة مخفية لا يمكن أن يدركها غير المؤمن!!
كذلك نجد في سفر الأعمال - وهو من تسجيلات القديس لوقا الإنجيلي - أنه يجعل للإفخارستيا اصطلاحاً بسيطاً ولكنه يكشف عن طبيعة الإفخارستيا وهو » كسر الخبز « لأن الإفخارستيا تبدأ بكسر الخبز. وهذا الاصطلاح لا يُفيد معنى ولائم المحبة، لأنه يُذكر دائماً بالإضافة إليها، والقصد من هذا الاختصار هو عدم ذكر شرب دم المسيح.
وفي كتاب “الديداخي” أي “تعاليم الرسل” الذي اكتُشف حديثاً، وهو من مدوِّنات القرن الأول ويتضمن تعاليم من الرسل، يتضح من تركيبها وترتيب مواضيعها مكانة سرِّ الإفخارستيا والليتورجيا الخاصة بها بالنسبة لقامة المؤمن ودرجة نضوجه:
فالأجزاء من (1-6) تعاليم المبتدئين، والجزء (7) يُخصص للمعمودية، بعد ذلك تبدأ أقوال عن الصوم والصلاة، ثم صلاة » أبانا «!، الأجزاء (8-15) نظام الكنيسة وتعاليمها، والجزءان (9و10) نظام الأغابي. وفي نهاية الجزء العاشر تبدأ تعاليم الإفخارستيا بعد كل خدم الليتورجيا، ولكن بدون وصف للإفخارستيا وبدون ذكر الكلمات أو الممارسات أو الصلوات التي يُتمَّم بها السر، حيث في (6:10) ينتهي الكتاب مباشرةً، وفجأة عند كلمة «ماران آثا» بحروفها الآرامية السرية، أي » تعالَ أيها الرب يسوع «آمين.
هذا الاقتضاب الشديد والسرِّية في كشف تعاليم سر الإفخارستيا كان تقليداً له رهبته واحترامه وتدقيقه منذ أيام الرسل، والأسباب كثيرة ومتعددة كما قلنا، فمنها الأسباب الروحية باعتبار الإفخارستيا سر الأسرار جميعاً وهو آخر ما يمكن أن يُلقَّن للمؤمن الكامل، ومنها الأسباب السياسية باعتبار أن السر يتم في اجتماع عام وأن فيه عبادة واضحة لغير آلهة الملوك، ومنها الأسباب العقائدية حتى لا تُسلَّم الممارسات لذوي العقائد المخالفة، ومنها الأسباب الدينية الخالصة التي تمنع على عامة الشعب التعرُّف على خصائص الليتورجيا حتى تحتفظ برهبتها وكرامتها وأثرها في القلوب.
وحتى الآباء الأوائل المدافعون عن العقيدة، مثل القديس يوستين الشهيد، حينما بدأ يرد على مزاعم الوثنيين بخصوص ما توهموه من ممارسات في سر الإفخارستيا، كانت ردوده مقتضبة أيضاً، ولم يحاول أن يزيد على نصوص الإفخارستيا أو يشرحها إلاَّ بالقدر الوارد منها في الإنجيل، حتى لا يكشف أسرار الليتورجيا وخصائصها باعتبارها عبادة سرية!
ولقد ورث الشعب كله عن طريق التعليم والتلقين والتحذير أن لا يبوح بأسرار كنيسته أو عقيدته لغير المعمَّدين، وكان يتعهد بذلك أثناء العماد.
ومن أروع ما وصلنا عن استخدام لغة الرموز والإشارات السرية للتعبير عن سر الإفخارستيا، النقوش التي وُجدت باسم كاتبها “أبيركيوس Abercius”، وهو أسقف لمدينة “هيرابوليس” في نهاية القرن الثاني الميلادي. ومن أعجب الصدف أن وُجدت كتابة أخرى مذكور تاريخها سنة 216م لصاحبها إسكندر من “هيرابوليس” ذَكَرَ فيها » أبيركيوس «والنقش الذي تركه باسمه. لذلك فإن تاريخ نقوش أبيركيوس صارت معتمدة للغاية.
هذه النقوش وُجدت في إقليم “فريجيا” بآسيا الصغرى، وهي الآن في “اللاتران” بالفاتيكان، وهي من 22 بيتاً يصف فيها أبيركيوس حياته وأعماله، وقد كتبها وعمره 72 سنة وتوفى قبل نهاية القرن الثاني. وأعظم ما سجله هو رحلته إلى روما، والكلام كله رموز، والأسلوب سرِّي تصوفي للغاية. فهو يكتب كل شيء عن أسرار الحياة المسيحية بشرط أن أي قارىء مهما بلغ من الحذق لا يمكنه أن يفهم أن كاتبها رجل مسيحي، وحتى العلماء شكُّوا في بادىء الأمر، ولكن حينما كُشف السر عن الكلمات ظهرت واضحة وهي تعبِّر عمَّا كانت عليه الكنيسة من حذر وحذق شديدين في إخفاء حياتها وأسرارها. وننقل هنا بعض سطورها:
[بالاسم أنا أبيركيوس، تلميذ للراعي الصالح! ... لقد علَّمني التقوى بكتاباته! ... أرسلني إلى روما لأطَّلع على المملكة وأرى الملكة بلباسها الموشَّى بالذهب، ... ذهبت في كل النواحي، ورأيت الشعب الذي عليه الختم العظيم، وكان بولس معي رفيقاً يقودني بالإيمان أينما سرت، ووُضع أمامي طعامٌ » سمكة «من الينبوع، عظيمة، وطاهرة، كانت قد اصطادتها عذراء بلا دنس وأعطتها للأصدقاء ليأكلوا منها على الدوام!! مع خمر حلو، وكأس ممزوج، مع خبز.
أنا أبيركيوس الواقف الآن أمرت أن تُنقش هذه الكلمات، وفي الحق أنا في طريقي لأكمِّل اثنين وسبعين سنة. فمَن يفهم هذا ويؤمن بالذي كتبت، عليه أن يصلِّي من أجل أبيركيوس!!]([3])
ويُعتبر هذا الحجر الذي حمل هذه النقوش أقدم أثر في العالم يتحدَّث عن الإفخارستيا هكذا:
الراعي الصالح هو المسيح، الملكة الموشاة بالذهب هي الكنيسة، الشعب ذو الختم العظيم هم المؤمنون المعمَّدون. وأينما سار وجد كنيسة وتناول فيها من الأسرار من الخبز والكأس الممزوج، فالسمكة هي المسيح (إخثوس ICQUS)([4])، والعذراء الطاهرة التي اصطادتها هي العذراء التي حبلت بالكلمة، أمَّا بولس رفيق السفر فهو الرسائل التي كان يتعزَّى بها.
وهيبوليتس يقول صراحةً في كتابه “التقليد الرسولي” (سنة 215م) في الفصل 23 عن المعمودية والإفخارستيا بهذا القول القاطع:
[إنه لن يبوح بهذا الكلام إلاَّ للمؤمنين.]([5])
هذه هي الصورة الكاملة لسرية الممارسات داخل الكنيسة وبالأخص الإفخارستيا، فالحلقة محكمة من كافة الجهات حول التقليد السرائري سواء في الإنجيل حيث الاختصار والاكتفاء بالعناصر
الأساسية المنطوقة في الليتورجيا دون التطرُّق إلى أي توضيح في الممارسة، أو سفر الأعمال حيث يسير على نفس المنوال، ويختص شرح الإفخارستيا للبالغين في الإيمان.
والقديس بولس الرسول يُبقي بقية التعاليم دائماً للتسليم الشفاهي ضماناً لنقاوة التعليم وعدم إذاعة أسراره.
وسفر العبرانيين يَعِدْ بأنه سيعود لشرح وتوضيح هذه المواضيع إنما خارج الرسالة.
ثم “الديداخي” لا تدخل في تفصيلات أو حتى شرح الممارسة للسر.
وينقل إلينا هيبوليتس قوانين الرسل مع إضافات خفيفة، ثم يمتنع صراحةً عن تقديم أي تعليم عام، ويجعله وقفاً على المؤمنين وجهاً لوجه.
أبيركيوس أسقف هيرابوليس يرفع السر إلى مستوى الشِفْرة!!
الإفخارستيا تنفصل عن وليمة المحبة كليًّا، ضماناً لبقاء الأسرار للأخصاء من المؤمنين الموثوق بهم جداً حيث لا يُسمح لغير المعمَّدين حتى بحضور ممارسة (عشاء الرب) سرّ الإفخارستيا، ثم يُمنع الموعوظون من حضور وليمة المحبة أيضاً لضمان الانتقال من وليمة المحبة إلى الإفخارستيا بدون خوف.
والقديس يوحنا الرسول في هذا الجو السري العجيب عندما طُلب إليه أن يكتب إنجيله في نهاية القرن الأول ارتأى أيضاً أن لا يتعرض لممارسة السر بحد ذاته، واكتفى بشرح كل ما يتعلَّق بالسر لاهوتياً في أصحاحاته الأُولى، بحيث لا يستطيع أحد أن يُدرك صلتها بالإفخارستيا إلاَّ المؤمنون فقط!!
وبذلك نرى أن ممارسة سر الإفخارستيا في وقت سابق على كتابة الأناجيل والرسائل، واستقراره في الكنيسة كليتورجيا ذات تقليد مسلَّم وصلوات محفوظة ومسلَّمة، ودخوله في دائرة التعاليم السرية الكنسية التي تتبع أصولاً دقيقة في الإخفاء والمحافظة والتسليم، جعلت تسجيل النصوص الإفخارستية في أضيق حدودها سواء في الإنجيل أو الرسائل أو بقية الكتب التي وصلتنا بعد ذلك. ولكن اتفاق التقليد الكنسي الليتورجي مع التقليد الإنجيلي المكتوب يوضِّح لنا حقيقة عظيمة ومهمة للغاية، وهي أن هناك مجرى واحداً لتقليد إفخارستي واحد استقت منه الكنيسة بالتسليم فماً لفم ويداً ليد، واستقى منه الإنجيليون والرسل بالرؤيا وبالروح وبالإلهام، وأن الصلوات التي تُقال قبل التقديس وبعد التقديس، أي مضمون الليتورجيا الأساسي، ليس هو زيادة أو إضافة على النصوص الإنجيلية، بل هو جزء لا يتجزأ من التقليد الأساسي، إنما ظلَّ محصوراً في دائرة الليتورجيا فقط بمقتضى تقليد التعاليم السرية Disciplina Arcani، ولم يسجَّل إلاَّ في العصور الأخيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
عن: الاب متي المسكين، الافخارستيا عشاء الرب، ص 262: 268
([1])Pliny, Letters, X, 96.
([2]) يقول أحد حكماء اليهود وهو «رابِّي سمعون»، وهو من بداية القرن الأول المسيحي في Aboth. II. 17.: [الذي يكتب الصلوات يخطيء كأنما هو يحرق التوراة]، وهو يقصد بذلك أنه يجعل الكلام المقدَّس في متناول أيدٍ نجسة.
([3])J. Quasten, I, p. 172.
([4]) كلمة يونانية تعني سمكة وحروفها هي في الوقت نفسه تكوِّن الحروف اليونانية الأُولى من مجموعة كلمات تعني: يسوع المسيح ابن الله المخلِّص.
([5])Hippolytus, Ap. Tr., 23. 14.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق