الذبائح
في
العالم القديم كانت السمة الأكثر تميزًا للعبادة هي الذبيحة، تقديم القرابين كهدية
للإله أو في أغلب الأحيان كانت الذبيحة حيوانية، حيث كان دمه يُعتبر كفارة لتجنب
غضب الإله أو تكفيرًا لمحو خطايا العابد. كان هذا هو السبب الرئيسي وراء الحاجة
إلى وجود مكان مقدس، مكان محمي من التلوث البشري، حتى يمكن تقديم ذبيحة مقبولة لدى
الإله هناك. اليوم نجد أنهار الدماء التي لا تنتهي والتي تتدفق من المذابح في معظم
المعابد مروعة. كان هذا هو مصدر اللحوم المستخدمة في وجبات الطعام في غرف الطعام
في المعبد - لم يكن اللحم يستخدم في الذبيحة نفسها أو يُعطى للكهنة. كانت الذبيحة
والوجبة يذهبان معًا؛ أولئك الذين يأكلون الذبائح كانوا شركاء في المذبح (1
كورنثوس 10: 18). كان هذا هو السبب الرئيسي وراء ضرورة وجود الكهنة: كان الكاهن
والذبيحة يذهبان معًا؛ لا كاهن، إذًا لا ذبيحة مقبولة. لقد كان هذا المنطق هو الذي
شكَّل الفكر المسيحي منذ القرن الثاني فصاعدًا: بما أنّ موت المسيح كان ذبيحة، كان
لابد من وجود كاهن لتقديم الذبيحة ومذبح تقدم عليه الذبيحة.
إنَّ
النقطة المهمة هنا هي أنّ الذبيحة واللاهوت يسيران جنباً إلى جنب أيضاً. كانت
الذبيحة هي الاعتراف الأسمى بألوهية الشخص الذي قُدِّمت له الذبيحة. ويمكن وصف
الذبيحة بأنها "المعيار النهائي للألوهية".[1]
ولهذا السبب كانت عبادة الإمبراطور مهمة للغاية عندما انتشرت غرباً في
الإمبراطورية الرومانية. ذلك أنّ تقديم ذبيحة للإمبراطور كان بمثابة تأكيد واعتراف
بأن الإمبراطور كان (بالفعل) إلهاً، على الرغم من أن الأباطرة خلال الجيل الأول من
المسيحية كانوا يقاومون عبادة الإمبراطور عادةً بسبب هذا الأمر. ولنفس السبب اعتبر
اليهود تقديم الذبائح للأصنام أمراً غير مقبول على الإطلاق، لأن الممارسة كانت
بمثابة تأكيد علني على ألوهية قطع الحجر والخشب، وكان الإله المصنوع بأيدي بشرية أمر
متناقض في ذاته ومستحيل.
لقد
لعبت الذبيحة في ديانة إسرائيل دوراً حاسماً، ولكن دائماً باعتبارها ذبيحة لإله
إسرائيل وحده. ففي هيكل أورشليم كان يتمّ تقديم خروف ذكر صغير مرتين في اليوم،
صباحاً ومساءً، كذبيحة محرقة لله، إلى جانب الدقيق والزيت والخمر (خر 29: 40).
وكان الأفراد يضحون بانتظام بذبائح المحرقة وذبائح السلامة (لاويين 1: 4؛ 3: 1)،
وخاصة ذبائح الخطيئة وذبائح الإثم (لاويين 5).[2]
وكانت هاتان الذبيحتان الأخيرتان هما الذبيحتان الرئيسيتان، لأنهما كانتا تكفران
عن الخطايا والتعديات. وكما تقول الرسالة إلى العبرانيين: "بدون سفك دم لا
تحصل مغفرة للخطايا" (عبرانيين 9: 22). وكانت ذبيحة الخطيئة وكبش الفداء
تشكلان محور طقوس يوم الكفارة السنوي، والتي كانت تُعالَج بها خطايا الشعب ككل
(لاويين 16). ولم يكن هناك أي تفكير في تقديم مثل هذه الذبيحة لأي شخص آخر غير
الله. كانت التضحيات المقدمة لأية آلهة أخرى مجرد تضحيات لأصنام بلا حياة.
إنَّ
الموقف المسيحي الأقدم من طقوس الذبائح في إسرائيل غامض. فوفقاً لإنجيل متّى، قَبِل
يسوع الالتزام بدفع ضريبة الهيكل، التي كانت تموِّل الذبائح اليومية في الصباح
والمساء (متى 17: 24-27). ولكنه أعلن أيضاً غفران الخطايا، دون أي إشارة إلى كاهن
أو ذبيحة خطيئة.[3]
وتطهير يسوع للهيكل ونبوءته بتدميره يمكن تفسيرهما على أنهما رفض لطقوس الذبائح.
ولكن حديثه عن تجديد العهد (أو العهد الجديد) في العشاء الأخير (مرقس 14: 22-24)
يمكن أن يعني أيضاً أنه رأى موته الوشيك كذبيحة عهد، ذبيحة تختم العهد (خروج 24:
8).
وعلى
نحو مماثل، يتسم موقف المسيحيين الأوائل بالغموض. فوفقاً للوقا، كان المؤمنون
الأوائل يتواجدون باستمرار في الهيكل،[4]
وكان بطرس ويوحنا يذهبان إلى الهيكل في ساعة الذبيحة المسائية (أعمال الرسل 3: 1).
ويقول لوقا إن بولس نفسه شارك في طقوس الهيكل (21: 23-24، 26). وبناءً على اقتراح
يعقوب، انضم إلى أربعة رجال كانوا تحت نذر. فتطهّر معهم ودفع نفقاتهم حتّى يتمكّنوا
من حلق رؤوسهم. ومن المُفترض أنّ هذا يُشير إلى التشريع في العدد 6: 9-12، حيث كان
تدنيس النذير يتطلب تطهيره لمدة سبعة أيام، وحلق الشعر غير المقصوص، وفي اليوم
الثامن تقديم يمامتين أو فرخي حمام، أحدهما ذبيحة خطيئة والأُخرى ذبيحة محرقة
للتكفير عن خطيئته.
في
مقطع ذي أهمية كبيرة، يذكر بولس أن إيمان الإنجيل الذي ورثه أكّد "أنّ المسيح
مات من أجل خطايانا حسب الكتب" (1 كورنثوس 15: 3). وقد تلقى هذا الاعتراف على
الأرجح فور اعتناقه المسيحية، والذي كان على الأرجح في غضون عامين من صلب المسيح.
لذا كان هذا أحد أقدم التصريحات المسيحية عن الإيمان.
إن
اعتبار موت المسيح على هذا النحو بمثابة ذبيحة خطيئة، أو ما يعادل حمل الفداء في
يوم الكفارة، يؤكده مقاطع بولسية أخرى.[5]
ومن هذا يمكن الاستدلال على أن (العديد أو معظم) المسيحيين الأوائل اعتبروا موت
المسيح ذبيحة، ذبيحة تزيل الخطيئة وتكفر عنها وتطهرها. ويمكن توسيع الاستدلال هكذا:
الإشارة إلى موت المسيح باعتباره ذبيحة عن الخطيئة كان يعني ضمناً أنه لم تكن هناك
ذبائح أخرى عن الخطيئة ضرورية بعد ذلك لأولئك الذين آمنوا بيسوع. هذا هو الخط الذي
طوّرته الرسالة إلى العبرانيين بقوّة: كانت الذبائح القديمة غير فعّالة؛ إنَّ
ذبيحة المسيح كانت وحدها فعَّالة؛ فقد أبرزت تلك الذبيحة التي قُدِّمَت مرة واحدة
وإلى الأبد عدم كفاية الذبائح القديمة وجعلتها غير ضرورية (عبرانيين 10: 1-18).
"حيث يوجد غفران (للخطايا) لا يكون بعد ذبيحة للخطية" (10: 18). ولعلّ
اليونانيين، مثل استفانوس، الذين نأوا بأنفسهم عن هيكل أورشليم، كانوا قد توصّلوا
بالفعل إلى هذا الاستنتاج، وكانوا هم الذين صاغوا الاعتراف الذي ورثه بولس.
في
الوقت نفسه، ينبغي لنا أن نُلاحظ أنّ الصور التي تصف فعالية موت المسيح "عن
الخطيئة" مستمدة من طقوس التضحية التي كان يمارسها شعب إسرائيل. والواقع أننا
نستطيع أن نقول إنَّ هذه الصور لا يمكن أن تكون ذات معنى إلَّا إذا اعتبرنا أنّ
طقوس التضحية ذات معنى وفعالية. وهذه هي الطريقة التي تعامل بها شعب إسرائيل مع
خطاياهم لقرون عديدة. وعلى هذا فإنَّ استخدام صور التضحية لإضفاء معنى لاهوتي على
موت المسيح كان يعتمد على افتراض أنّ طقوس التضحية بذبيحة الخطيئة ذاتها كانت ذات
معنى لاهوتي. وليس هذا فحسب، بل وربما كان السبب في ذلك هو أنّ المسيحيين الأوائل
كانوا يعتبرون موت المسيح ذبيحة لأن التضحية الدموية كانت تعتبر عموماً في العالم
القديم جزءاً من العبادة الدينية.
إنَّ هذا الخط من التأمل يأخذنا بعيداً جداً عن بحثنا الرئيسي، لذا فلن أواصله هنا. ولكن النقطة المهمة بالنسبة لنا والتي تظهر هنا هي أنه في المسيحية الأولى، لم يُفهَم المسيح قط باعتباره الشخص الذي تُقَدَّم له الذبيحة، حتى عندما استُخدِمت صورة الذبيحة رمزياً للخدمة المسيحية.[6] كان يُفهَم المسيح عموماً باعتباره الذبيحة التي تعاملت بفعالية مع الخطيئة. وكان يُفهَم المسيح بشكل أقل على أنه الكاهن الذي قدم الذبيحة، باستثناء الرسالة إلى العبرانيين، حيث كان المسيح هو رئيس الكهنة الذي يُقدم الذبيحة وهو الذبيحة في نفس الوقت! وحتّى في سفر الرؤيا، كان المسيح هو "الحمل الذي ذُبِح". فإذا كان تقديم الذبيحة هو "المعيار النهائي للألوهية"، فإن يسوع لا يبدو مؤهلاً لذلك. ومع ذلك، يجب أن نتذكر في الوقت نفسه أن بولس رأى موت يسوع كعمل من أعمال الله: لقد قدم الله المسيح كذبيحة كفارة (رومية 3: 25)؛ إن موت المسيح هو الذي يُظهِر محبة الله (رومية 5: 8). يبدو أن المنطق يتعارض مع المنطق الذي يقوم عليه تقديم الذبيحة لله. فقد كان الله مشاركاً في الذبيحة ذاتها وفي تقديم الذبيحة، وكذلك في تلقي الذبيحة. لذا فإذا كان الله على جانبي الصفقة، فمن المفترض ألا نضغط على النقيض الصارم بين الفاعل والمفعول به عند النظر إلى من قُدِّمَت له ذبيحة المسيح. ولعل الله كان على جانبي ذبيحة المسيح، فكذلك كان يسوع أيضاً على كلا الجانبين بطريقة ما ـ ليس باعتباره الشخص الذي قُدِّمَت له الذبيحة في موت المسيح، بل باعتباره مرتبطاً بتلقي الله تماماً كما كان الله مرتبطاً بتقديم المسيح كذبيحة.
[1]
نورث North،
‘Jesus and Worship’ 200. ويتفق ماكجراث McGrath مع هذا الرأي: "كانت العبادة بالذبائح هي
السمة المميزة للعبادة اليهودية الحصرية لإله واحد فقط"؛ "كانت العبادة الذبائحية
للإله الواحد الذي لا صورة له هي القضية الحاسمة" (The Only True God Ch. 2; here 31, 35).
[2]
For detail see Sanders, Judaism Ch. 7.
[3]
Mark 2:5–7, 10; 3:28; Luke 7:47–49. Similarly John the Baptist?—Jesus
Remembered 358–61.
[4]
لوقا 24: 53؛ أعمال الرسل 2: 46؛ 5: 42.
[5]
رومية 3: 25؛ 8: 3؛ 2 كورنثوس 5: 21.
See further Theology of Paul
#9.2–3.
[6]
North, ‘Jesus and Worship’ 199, referring to Rom. 12:1; Phil. 2:17;
4:18; Heb. 13:15–16; 1 Pet. 2:5.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق