يتلخص
فكر الآباء عن هذا الموضوع في ثلاث نقاط:
1 – لأننا لازلنا في صورة العبد التي أخذها المُخلّص ونحيا كما عاش هوَّ، نتألم بألمه ونموت كموته حتّى نستطيع أنّ نحيا ونصعد ونتمجد أيضًا فيه.
2 – يستخدم الله المرض كتجربة أو كإنذار أو كضيقة طبيعية تصيب الإنسان ويتزكى حين يقبلها بشكر.
3 – لم يكتمل فداء الجسد بعد: “نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا” (رومية 8: 23)، ونحن ننتظر تغيير جسد تواضعنا في يوم إعلان مجيئه: “الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أنّ يخضع لنفسه كلّ شيء” (فيلبي 3: 21).
إنَّ الإنسان منذ سقوطه قد
أُغلق علىه في الجسد الترابي، وصارت نظرته جسدية، وأفكاره محصورة في الأرضيات، وقلبه
لا يقدر أنّ يرتفع عن الملموسات والمرئيات. لهذا لم يسمح الله لنا أنّ نبقى هنا في
الجسد إلى الأبد، لئلا تتركز أنظارنا في الأرضيات، ولا يرتفع رجاؤنا إلى الأبديات.
و“إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس” (1كو15:
9).
لو كان الأمر هو هكذا، أنّ نبقى
إلى الأبد في هذا العالم، لارتبط إيماننا بالأرضيات وأحببنا عطايا الله وبركاته
الأرضية أكثر منه. وهذه أنانية وليس عبادة وحب وعشق بين الله والإنسان. فالله في
محبّته ارتفع إلى السماء حتّى تشخص أنظارنا إلى فوق، وتنتظر اللقاء مع الله، من
أجل الله ذاته وبه وفيه، ويكون هو الكل في الكل.
فنحن نحيا في هذه الدنيا على
مثال ربنا يسوع المسيح، فإذ صار هو رأسًا جديدًا للبشرية، فإننا نسير ذات الدرب
الذي ساره، حتّى نتشبّه به في كلّ شئ، ونحصل على تلك النِعم التي أعطانا إياها
بتجسده، فنحن نولد كما وُلِد هو، ونحيا على مثال حياته، ونتألم كما اختبر هو
التألُم، ونموت كما مات، حتّى يتسنّى لنا أنّ نقوم أيضًا على مثاله (1يو3: 2)،
ونصعد معه ونتمجد معه أيضًا (كو3: 4).
لهذا أعلن لنا الرب، أنه ينبغي
لنا أنّ نتألم حاملين الصليب الذي ياتي علينا من شرور العالم، سالكين كغرباء
ونزلاء، منتظرين بفرح داخلي وبهجة داخلية التحرر من هذا الجسد الذي لازال يحمل
باقي عوامل الفساد لأنه لازال يمرض ويموت.
فأولاد الله الذين عرفوا الرب، وتمتعوا
بالشركة معه، يفرحون بالآلام والأتعاب والأمراض، ليس لأنهم لا يحسون، لكن لأن
أحاسيسهم انطلقت إلى السماء. فكلما كثرت الآلام والأمراض أحسوا بقرب انطلاق النفس،
لذلك يترنمون مع الرسول، قائلين: “عالمين أنّ الذي أقام يسوع سيقيمنا نحن
أيضًا بيسوع. لذلك لا نفشل، بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا
فيومًا. لأن خفَّة ضيقتنا الوقتية تنشيء لنا أكثر فأكثر ثقْل مجد أبدي. ونحن غير
ناظرين إلى الأشياء التي تُرى، بل التي لا تُرى. لأن التي تُرى وقتية، أمَّا التي
لا ترى فأبدية” (2كو4: 13-18).
كلما تزايدت الأثقال وأحسّسنا
بموت الجسد يعمل فينا، ابتهجت نفوسنا بانطلاقها وتجدد إنساننا الداخلي يومًا فيومًا.
فكلما ضعف الجسد، لا ييأس الإنسان ولا يتراخى، بل يُسَرّ ويفرح من أجل قرب انطلاقه،
قائلًا: مع الرسول “ليَ اشتهاء أنّ أنطلق وأكون مع المسيح” (في1: 23).
لقد رأى سمعان الشيخ أنه قد طال
زمن بقائه في الجسد، بوعد أخذه أنّ يعاين المخلّص المولود من العذراء، فما أنّ رأى
المخلّص وحمله على ذراعيه، حتّى صرخت نفسه فيه إلى الرب: “الآن تطلق عبدك ياسيد
حسب قولك بسلام. لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب”
(لو2: 29-30).
هذا لا يعني – بالطبع –الإهمال
والاستهتار بالجسد، لأنه عطية من الله، وهو عطية صالحة، بدونها لا نعرف كيف نتعبد
لله في هذا العالم! حقًا يلزمنا أنّ نسجد لله بالروح والحق، إذ هو روح، لكن هل
تستطيع النفس أنّ تتعبد لله بينما يكون الجسد في وادٍ آخر؟! فبدون الجسد لا يستطيع
الإنسان - في العالم - أنّ يتعبد لله بالروح.
فالجسد عطية من يد الله، هو
رداء النفس، يُعينها في العبادة متى خضع لها وسلك حسب إرشاد الروح القدس، لكن
عندما يتثقَّل بالألم أو المرض لا نحزن، إنما نتغنى قائلين: “أما الروح
فنشيط، وأما الجسد فضعيف” (مت26: 41). ويقول القديس مقاريوس الكبير:
“لو كان جسد الإنسان غير قابل للموت وغير مائل للفساد، لكان أهل العالم كله عندما يرون هذا الأمر الفائق، أي أنّ أجساد المسيحيّين لا تفسد، ينجذبون إلى فعل ما هو خير بالضرورة لا باختيارٍ منهم، ولكن المراد أنّ تظهر الحرية التي منحها الله للإنسان منذ البدء، وتظل ثابتة. لهذا السبب نُظمَت الأمور بتدبير مخصوص وتقرر انحلال الجسد، لكي يميل الإنسان إلى الخير أو الشر بإرادة منه”.[1] الموت الحقيقيّ هو في الداخل، في القلب، وهو مُخْتَفٍ، والإنسان الباطن هو الذي يهلك، ولذلك فإذا انتقل أحد “من الموت إلى الحياة” (يوحنا 5: 24) في ذلك المكان الخفي، فإنّه يحيا حقيقة إلى الأبد ولا يموت أبدًا. ورغم أنّ أجساد مثل هؤلاء الناس تتحلل إلى فترة من الزمن، إلاَّ إنهم يقومون ثانية في مجد، لأنهم مُقدّسون. لهذا السبب نحن نسمى موت المسيحيّين رقادًا وراحةً. فلو أنّ الإنسان كان غير قابل للموت، وجسده محفوظ من التحلّل، فإنّ العالم كله حينئذ حينما يرون هذه الحقيقة الغريبة أنّ أجساد المسيحيّين غير قابلة للفساد، فإنهم يأتون إلى فعل الخير بنوع من الإجبار وليس بحرية الاختيار. فلكي تظهر حرية الإرادة وتظل ثابتة، تلك الحرية التي منحها الله للإنسان منذ البدء، لهذا السبب فإنّ العناية نظمت هذه الأمور، وجعلت تحلل الأجساد (أي الفساد) أمرًا واقعًا حتّى يكون الأمر متروكًا لاختيار الإنسان وتمييزه أنّ يتحول إلى الخير أو إلى الشر. لأنه حتّى الإنسان المتأصل في الشر والمتعمق في الخطية، والذي يجعل نفسه أداة للشيطان ليتسلط عليه تمامًا، فحتى هذا الإنسان ليس مربوطًا بأي اضطرار، بل أنّ له الحرية أنّ يصير “ إناء مختار” (أعمال 9: 15)، إناءً للحياة. وبنفس الطريقة، فمن الناحية الأخرى أولئك الذين يتشربون باللاهوت، ولو كانوا مملوئين بالروح القدس وهم تحت سيادته، فإنهم ليسوا مُقيدين بأي اضطرار، بل لهم حرية الاختيار أنّ يتحولوا ويفعلوا ما يشاءون في العالم الحاضر”.[2]
و يضيف القديس كبريانوس أسقف
قرطاجنة:
“يظن البعض أنه لا يجب أنّ يخضع المسيحيّ للموت، مُعتبرين أنّ المرض يجب ألاَّ يُصيب إلاَّ غير المؤمنين، كما لو كانت غاية الإيمان المسيحيّ هيَ اتقّاء خطر أمراض هذه الحياة، لكي يستمتع المرء بالحياة، وليس أنّ يُجاهد ويتألم على الأرض لكي يُكلل ويفرح فيما بعد. أنّ البعض يتساءل عن سبب خضوعنا للموت كالوثنيين وغير المؤمنين قائلين: فيما إذًا الفرق بيننا وبينهم مادام لا يزال جسدنا خاضعًا للموت مثلهم؟ إننا نشترك مع البشريّة في كلّ ما يخص الجسد مثلنا مثل كلّ البشر تمامًا، طالما نحن في هذا العالم، ولكننا نتميز عنهم في الروح. وحتي يلبس هذا الفاسد عدم فساد، وهذا المائت عدم موت، ويقودنا الروح القدس إلى الآب، فإننا نشترك هنا مع غير المؤمنين في كلّ شيء، فإذا حدث قحط واشتدت المجاعة، ليس هناك فرق بين المؤمن وغير المؤمن، وإذا تعرضت المدينة لغزو، وشمل السبي الجميع بلا تفرقة، وإذا امتنع المطر أصابت المجاعة الكل، وإذا تحطمت سفينه غرق كلّ من على متنها بلا تمييز، وهكذا يعاني الجميع من أمراض العيون والحمى، طالما نحن نحمل هذا الجسد المشترك في هذا العالم”.[3]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق