أناجيل الطفولة
إن
النوع الأول من الأناجيل المنحولة والذي نتناوله هُنا هُو “أناجيل الطفولة”. وتدعى
هذه الأناجيل بـ “أناجيل الطفولة” لأنّها تحتوي على قصص يسوع في سنواته الأولى
فقط. ففي الأناجيل الكنسيّة، لا يورد مرقس مثلًا أي شيء عن ولادة يسوع.
أما
متّى ولوقا فيورد كل منهما أصحاحين كمُقدِّمة لمُهمّة يسوع التبشيريّة، كما أنّ
يوحنا لا يورد شيئاً عن ولادة يسوع، ولإصدار حكم بناءً على هذه الكتابات، وبناءً
على كل كتابات المسيحية الأرثوذكسية والمسيحية الغنوصية خارج العهد الجديد، يبدو
أن المسيحيين كانوا يهتمون في المقام الأول بأقوال وأفعال يسوع بعد الثلاثين، أي
مع بداية خدمته.
ومع
مرور الوقت، ابتداءً من القرن الأول، زاد الكثير من المسيحيين اهتمامهم بولادة
يسوع وبسنواته الأولى، حيث ظهرت التقاليد الشفهية لتكمل إنجيل متّى ولوقا، في أغلب
الأوقات، بخيال مسيحي شعبي، وبأساطير يونانية رومانية وهندية حول ولادة الأطفال
الخارقين.
لم
يكن هدف أناجيل الطفولة ملء فجوات موجودة في الأناجيل. لقد كان لديها دافع
عقائدي ودفاعي كبير، وهو: التعريف بنسب يسوع الذي يعود إلى داود عن
طريق افتراض أن مريم من ذرية دواد، وصد الهجمات اليهودية المتزايدة التي
تطعن في شرعية ولادة يسوع.
إن
أناجيل الطفولة في مراحلها الشفهية والمكتوبة استمدت أفكارها من إنجيلي متّى
ولوقا، إلَّا أنّها ذهبت إلى أبعد من ذلك. وكما ذكر أوسكار كولمان:
"أن هذه الأناجيل اعتمدت على الأساطير الغريبة التي تم ملاحظتها مسبقاً في القصص السردية عن الطفولة وخلطها بتلك الواردة في إنجيلي متّى ولوقا".
كما
سنقوم بمسح مختصر على إنجيلي الطفولة الرئيسيين اللذان يتم دراستهما من حين إلى
آخر من أجل التقاليد الأولى عن يسوع، وهما إنجيل يعقوب التمهيدي وقصة
الطفولة لتوما.
إنجيل
يعقوب
إن
إنجيل يعقوب التمهيدي، المعروف في العالم القديم بالعنوان الأكثر دقة ألا وهو:
“ولادة مريم”، وهو عمل يعود للقرن الثاني لكاتب مسيحي غير يهودي. وبما أنه يحظى
بشعبية واسعة في مسيحية العصور القديمة والوسطى نظراً لأنه عمل نابع من مؤمنين
ونظراً لجماله الأدبي، بقيَّ على قيد الحياة في العديد من المخطوطات في الأصل
اليوناني وفي النسخ اللاحقة في ثماني لغات مختلفة.
فهذا
العمل يروي قصة مريم أم يسوع: والديها هما: يواقيم وحنة، حملها المعجز، ولادتها،
طفولتها ونشأتها في المعبد، خطوبتها من الكثيرين وصولاً إلى يوسف الشيخ الأرمل،
وعذريتها الدائمة، وأخيراً حملها بيسوع.
يستخدم
إنجيل يعقوب القصص السردية للطفولة الواردة في متّى ولوقا، ومن ثم يقوم بتوسيع هذه
القصص. إن الموضوع الرئيسي لهذا العمل هو الثناء على العذرية، الأمر الهام في
حركات الزهد والرهبنة في المسيحية المبكرة. ولأنّه يُركِّز على مريم العذراء،
مستخدماً التنميق الأسطوريّ لسرد قصتها ومستمداً ما يقوله عن ولادة يسوع من
الأناجيل الكنسية والأساطير الشعبية، فإنّه يتمتع بالقليل من الأهمية.
ينتمي
إنجيل يعقوب التمهيدي إلى مجموعة أناجيل الطفولة التي تحكي بشيء من الإسهاب عن
فترة شباب مريم العذراء وميلاد يسوع وطفولته. أما تسمية الإنجيل بـ “التمهيدي” (Protoevangelium)
فحديثة؛ فقط أطلقت على إنجيل يعقوب لأول مرة عام 1552م في ترجمة لاتينية قام بها
جويلاوم بوستيل (Guillaume Postel)، وقد كان أوريحانوس هو أول من أشار إلى
“كتاب يعقوب” مشيراً إلى أن هذا الكتاب يذكر أن “إخوة الرب” كانوا أبناء ليوسف –
النجار – من زوجة سابقة. لكن حتى أوريجينوس، ذكر معلمه كليمندس السكندري،
وكذلك يوستينوس الشهيد، أحداثاُ تتعلق بميلاد يسوع جاء ذكرها في إنجيل يعقوب
التمهيدي.
كان
هذا الكتاب على الأرجح نتاج منتصف القرن الثاني الميلادي، فمن المؤكد أنه
كان موجوداً في نهاية ذلك القرن، كما أنه يحتوي على أقدم رواية لدينا عن ميلاد
العذراء المعجزي وطفولتها، ونجد فيه لأول مرة أسماء أبوي العذراء مريم: يواقيم
وحنة. أما الأكثر تشويقاً فهي رواية تكريس الطفلة وتقديمها للهيكل حيث أتى بها
أبواها وهي في عمر ثلاث سنوات (فصل 6-8):
“واشتد عود الطفلة يوماً بعد يوم، وعندما أصبحت في عمر ستة الأشهر، أوقفتها أمها على الأرض لكي ترى إذا كانت ستستطيع الوقوف؛ فسارت سبع خطوات ثم عادت إلى حضنها مرة أخرى، فأمسكت بها قائلة: “حي هو الرب، لن تسيري على هذه الأرض مرة أخرى حتى أتي بك إلى هيكل الرب”، ثم صنعت محراباً في غرفة نومها، ولم تدع أي شيء رديء أو غير طاهر يمر به. ثم أحضرت فتيات عبرانيات غير دنسات، فحملنها من ذراعيها. وعندما أتمت الطفلة سنتها الأولى، صنع يواقيم وليمة عظيمة ودعى الكهنة والكتبة ومجمع الشيوخ وكل شعب إسرائيل. ثم أحضر يواقيم الطفلة للكهنة، فباركوها قائلين: “يا إله آبائنا بارك هذه الطفلة واعطها اسماً مشهوراً للأبد في كل الأجيال”، فرد كل الشعب قائلاً: “ليكن هذا، ليكن هذا، آمين”، ثم أحضرها لرؤساء الكهنة، فباركوها قائلين: “يا إله الأعالي، انظر لهذا الطفلة، وباركها بالبركة الأخيرة التي ليس بعدها بركة”. ثم أمسكتها أمها ووضعتها في غرفة نومها وأرضعتها. ورنمت حنة للرب قائلة: “سوف أرنم تسبحة للرب إلهي، لأنه افتقدني ورفع عني تعييرات أعدائي، لقد منحني الرب ثمرة بره أمامه مرة ومرات، ومن ذا الذي سيُخبر بني رأوبين أن حنة تُرضع؟ اسمعوا اسمعوا يا أسباط إسرائيل الاثني عشر، أن حنة تُرضع”. ثم وضعت الطفلة لتستريح في غرفة النوم التي بها محرابها، ثم ذهبت لتخدمهم. وعندما انتهت الوليمة، ذهبوا مبتهجين وممجدين إله إسرائيل. وازدادت شهور عمر الطفلة حتى بلغت السنتين، فقال يواقيم: “لنذهب بها إلى هيكل الرب حتى نوفي النذر الذي نذرناه حتى لا يطالبنا الله به وتصبح تقدمتنا غير مقبولة”. فقالت حنة: “لننتظر حتى السنة الثالثة حتى لا تشتاق الطفلة إلى أبيها وأمها”، فقال يواقيم: “لننتظر”. وعندما بلغت الطفلة ثلاث سنوات، قال يواقيم: “ادع الفتيات العبرانيات غير الدنسات، ولتأخذ كل واحدة مصباحاً وتشعله، حتى لا تلتفت الطفلة إلى الوراء ولكي يأسر هيكل الرب قلبها”. وفعلوا هكذا حتى صعدوا إلى هيكل الرب. فاستقبلها الكاهن وقبلها وباركها قائلاً: “الرب عظّم اسمه في كل الأجيال وفي آخر الأيام سيظهر الرب فيكي خلاصه لكل بني إسرائيل”. ثم أجلسها على الدرجة الثالثة للمذبح، ووضع الرب نعمته عليها وكانت فرحة وأحبها كل بيت إسرائيل. ثم رجع أبواها متعجبين وممجدين الرب الإله لأن الطفلة لم تلتفت للوراء، وكانت مريم في الهيكل مثل حمامة، تتغذى وتتلقى طعاماً من يد ملاك. وعندما بلغت مريم اثني عشر عاماً، اجتمع مجمع من الكهنة قائلين: انظروا، قد بلغت مريم الثانية عشرة من العمر وهي في هيكل الرب، ماذا نفعل بها لئلا تدنس قدس الرب؟ فقالوا لرئيس الكهنة: قف أنت على مذبح الرب وادخل وصلِ من أجلها، ومهما يكن الأمر الذي سيعلنه لك الرب دعنا نفعله”.
ثم
يستمر الإنجيل (الأبوكريفي) ليروي قصة خطبة مريم ليوسف الذي كان حينئذ رجلاً
عجوزاً وله أولاد، ثم يذكر بالتفصيل ميلاد يسوع في كهف والمعجزات المصاحبة له؛
وهي من النوع الأكثر إفراطاً في الخيال.
أما
الهدف الرئيس من الكتاب كله فهو اثبات بتولية العذراء الدائمة التي لم تمس
قبلاً، وأثناء، وبعد ميلاد المسيح. وهكذا، شربت العذراء “ماء الإيمان
الراسخ الذي للرب” حتى تزيل من نفسها أي شك (فصل 16). كما شهدت لدوام بتوليتها
القابلة التي حضرت حادثة الميلاد (فصل 20). وبهذا الخصوص، يبدو أن كلميندس
السكندري كان يعرف هذا الإنجيل أو مصادره الأسطورية، فهي يقول في كتابه
“المتفرقات” (Strom 7: 93: 7):
“يقول البعض أنها بعد أن ولدت، اعتنت بها قابلة فوجدت أنها لا تزال عذراء”.
ويختتم
الإنجيل بحادثة استشهاد زكريا أبي يوحنا المعمدان وموت هيرودس، ثم تأتي في
نهايته فقرة بخصوص المؤلف هي:
“والآن أنا يعقوب الذي كتبت هذا التاريخ في أورشليم عندما اندلع شغب هناك بسبب موت هيرودس، فانسحبت إلى البرية حتى ينتهي الشغب في أورشليم، ممجداً للرب الإله الذي منحني الموهبة والحكمة لأكتب هذا التاريخ”.
ولا
شك أن الكاتب يريد أن يعطي هنا انطباعاً بأنه هو يعقوب الصغير أسقف أورشليم؛ وهو
أمر يتعذر اثباته، فالكاتب يُظهر جهلاً شديداً بجغرافية فلسطين. وعلى الجانب
الآخر؛ تظهر الحكايات التي أوردها الكاتب في هذا الإنجيل أنه متأثر بشدة بالعهد
القديم، وهذا يشير إلى أنه مسيحي من أصل يهودي يسكن في مكان ما خارج فلسطين،
ربما مصر. ولا يمكننا أن نعتبر أن الإنجيل في شكله الحالي من قلم مؤلف واحد،
فروايتا موت زكريا وهروب يوحنا المعمدان تبدوان كأنهما إضافتان لاحقتان على هذا
الكتاب، كما أن تسلسل الأحداث ينقطع عدة مرات فجأة، وهكذا نرى في الفصل الثامن
عشر أن يوسف النجار يقتحم الأحداث بغتة ويبدأ في التكلم بدون أي مقدمات.
ويرجع
شكل النص اليوناني الموجود بين أيدينا اليوم إلى القرن الرابع الميلادي؛ حيث كان
أبيفانيوس قد استخدمه في الجزء الأخير من ذلك القرن. أما الانتشار الواسع الذي كان
يحظى به “إنجيل يعقوب التمهيدي” فيمكننا أن نراه في حقيقة كون النص اليوناني قد
حُفظ فيما لا يقل عن ثلاثين مخطوطة. علاوة على ذلك، لدينا ترجمات قديمة له في
السريانية، والأرمنية، والقبطية، والسلافية، لكننا لم نعثر له على أي مخطوطة
لاتينية.
وبالرغم من أن “المرسوم الجلاسياني”[1] – الذي يعود إلى القرن السادس الميلادي – قد أدان هذا الكتاب باعتباره من الكتب المنحولة، إلا أننا لسنا نبالغ في تقدير مدى التأثير الذي تركه إنجيل الميلاد (انجيل يعقوب التمهيدي) على الليتورجية، والأدب، والفن؛ فكلها قد تأثرت به على نحو مماثل. ولقد استمد كل من تكريم “القديسة حنة” والعيد الكنسي الخاص بـ “دخول العذراء إلى الهيكل” مصدره من التقاليد المسجلة في هذا الكتاب، كما أن كثيراً من الأساطير الجميلة التي تدور حول سيدتنا العذراء تعتمد على القصص التي وردت في إنجيل يعقوب التمهيدي، بالإضافة إلى أنه قد ألهم الفنانين مراراً وتكراراً.
إنجيل
توما
يقول
أوريجينوس في عظته الأولى على إنجيل لوقا: “هناك أيضاً إنجيل متداول بحسب توما”.
ولقد نشأ هذا الإنجيل الأبوكريفي في دوائر هرطوقية كانت على الأرجح غنوسية. وبينما
ينسبه هيبوليتوس الروماني[2] إلى
فرقة “الناسيين”[3] (The
Naassenes)،
يتكلم كيرلس الأورشليمي عنه باعتباره عملاً مانوياً؛[4] فهو
يقول في عظاته للموعوظين (4: 36):
“ومن العهد الجديد اقرأوا أربعة أناجيل فقط، فالباقي أبوكريفي ومُضر. ولقد كتب المانويون أيضاً انجيلاً منسوباً إلى توما، وبالرغم من أنه يحمل اسماً جميلاً هو اسم الإنجيل، إلا أنه يفسد نفوس البسطاء”.
وكذلك
في عبارة مشابهة يقول في (6: 31):
“لا تدعوا أحد يقرأ إنجيل توما، فهو لم يُكتب بواسطة أحد الاثني عشر رسولاً، لكن كتبه أحد تلاميذ ماني الثلاثة الأشرار”.
ويبدو
أن هيبوليتوس كان يقصد أيضاً هذا الإنجيل نفسه؛ لكن بينما يتكلم هيبوليتوس عن مؤلف
هذا الكتاب باعتباره أحد أعضاء فرقة “الناسيين” الغنوسية؛ ينسب كيرلس كتابته إلى
المانويين، وربما يمكننا أن نتخطى هذه المعضلة إذا افترضنا أن إنجيل توما المانوي
كان مجرد اختصار وإعادة صياغة لإنجيل توما الغنوسي. على أي حال، لقد ضاع كل من
إنجيل توما المانوي وإنجيل توما الغنوسي، أما “إنجيل توما الطفولي”، الموجود لدينا
في نسخ يونانية وسريانية وأرمينة وسلافية ولاتينية، فهو في الغالب عبارة عن نسخة
منقحة ومختصرة للأصل. وهو يورد رواية عن طفولة يسوع، كما أن القصص التي فيه
وتحكي عن معرفة وقوة يسوع المعجزية قد نُسخت معاً لتبين أن القوة الإلهية كانت
تسكن يسوع قبل معموديته. وتشكل الحياة القروية اليومية خلفية هذه القصص، وذلك كما
يظهر مثلاً في القصة التالية:
“عندما كان الطفل يسوع في الخامسة من عمره كان يلعب عند النهر، وكان يجمع الماء الذي كان يجري فيه في برك، ثم يجعلها نقية فوراً، ويأمرها بكلمته فقط. وبعد أن صنع طيناً ليناً، شكَّله على شكل اثني عشر عصفوراً، وكان هذا يوم سبت حينما عمل يسوع هذه الأشياء، وكان هناك أطفال آخرون كثيرون يلعبون معه. وحينما رأى أحد اليهود يسوع وهو يفعل هذا، أي وهو يلعب في السبت، ذهب من فوره وأخبر أباه يوسف قائلاً: “إن ابنك عند النهر، وقد أخذ طيناً وصنع منه اثني عشر طائراً صغيراً ونجس السبت”. فجاء يوسف إلى المكان ورآه، فصاح به قائلاً: “لماذا تصنع هذه الأشياء في السبت وهو أمر ضد الناموس؟” ولكن يسوع صفق بيديه معاً وصاح في العصافير – الطينية – قائلاً: “طيري!” فطارت العصافير وهي تغرد، وعندما رأي اليهود هذا ذهلوا وذهبوا إلى رؤسائهم وأخبروهم بما فعل يسوع”. (فصل 2).
كما
أن بعض المعجزات – التي وردت في هذا الإنجيل – ليست مستساغة، فيبدو أن الكاتب لديه
مفهوم شاذ عن الألوهة لأنه يصوِّر الصبي يسوع وهو يستخدم قوته في الانتقام:
“بعد هذا، ذهب يسوع ليتمشى في أرجاء القرية، فأتى أحد الأطفال جرياً وصدم كتفه، فاستفز هذا يسوع، فقال له: “إنك لن تُكمل طريقك”، فسقط الطفل ميتاً لوقته، لكن عندما رأى البعض ما حدث، قالوا: “من أين أتى هذا الصبي، حتى إن كل كلمة منه بمثابة عمل قد اكتمل؟ّ" ثم جاء أهل الصبي الميت إلى يوسف، ولاموه قائلين: “بما إنك تربي مثل هذا الصبي لا يمكنك إذن أن تعيش معنا في القرية، إلا بأن تعلمه أن يبارك ولا يلعن، لأنه يميت أولادنا”. فدعا يوسف الصبي الصغير على انفراد ولامه قائلاً: “لماذا تفعل هذه الأشياء التي تجعلهم يكرهوننا ويضطهدوننا؟” ولكن يسوع قال: أنا أعرف أن هذه الكلمات ليست لك، ورغم ذلك من أجلك سوف أؤثر السلامة، ولكنهم سينالون عقابهم”، وللحال أًصيب الذين اتهموه بالعمى”. (فصل 4، 5).
ومن
المرجح أن تعود تلك النسخة الحالية المنقحة من إنجيل الطفولة هذا إلى ما بعد
القرن السادس الميلادي.
كما
أن لغته ليست متطورة من الناحية الأدبية واللاهوتية كإنجيل يعقوب، إلا أن قصة
الطفولة لتوما تتصف بالتأكيد الصريح على المعجزات، حيث يملك يسوع حتى عندما كان
غلاماً قدرة كلية ومعرفية ونفوذاً غير محدود، الصفات التي لا تنسبها الأناجيل
الكنسية ليسوع الراشد خلال مهمته التبشيرية.
ويقوم
يسوع الغلام ببعض الأعمال الخيرة مستخدماً قوته الإعجازية، إلا أنه غالباً ما
يستخدمها بقسوة كما قلنا، حيث يوجد به أيضًا أنه يُذهِب ببصر أولئك الذين يتهمونه
(5: 1)، حتى أنه وجَّه تهديداً خفيًّا ليوسف عندما كان يقوم بتأديبه (5: 2). وتتجه
محتويات هذه الوثيقة إلى حد كبير نحو التقوى الشعبية ورؤيتها ليسوع كإله.
-إنجيل الطفولة لتوما 3: 1-3، يدعو الطفل يسوع (عندما كان في الخامسة من عمره تقريبًا) أحد رفاقه في اللعب “وقحاً ومغفلً وغير تقي” عندما بعثر الطفل بعض الماء الذي كان يسوع بصورة ما قد “جمعه معا”. وعندها ارتعش الطفل ومات في مكانه عند أمر يسوع.
-إنجيل الطفولة لتوما 4: 1-2، عندما اصطدم صبي بدون قصد بيسوع، أعلن يسوع قائلآ: "لم تمضي في طريقك كما كنت"، وفى الحال سقط الصبي ومات. فشكا بعض القرويين ليوسف، طالبين منه أن يأخذ أسرته ويرحل قائلين: "حيث أن لديك طفل مثل هذا فلا يمكنك أن تعيش معنا في القرية، وإلا فعلّمه أن يبارك وألا يلعن، لأنه يقتل أطفالنا".
-إنجيل الطفولة لتوما 5: 1-3، عندما وبّخ يوسف يسوع على هذه الأمور، قام يسوع بإنزال العمى بمتهميه ووبخ يوسف قائلآ، “لا تغيظنى”.
-إنجيل الطفولة لتوما 7: 2، مرة أخرى، عندما كان يسوع في الخامسة من العمر، فإن زكا، معلمه اليوناني، ادّعى قائلآ: “إن هذا الطفل ليس من الأرض؛ فإنه يستطيع أن يروّض حتى النار. ربما كان موجودًا حتى قبل خلق العالم". وكانت هذه العبارة التي قالها زكا هي رد فعله عندما فك يسوع غموض وأسرار الأبجدية اليونانية أمام عينيه. ويبدو إن إنجيل توما قد تناول ما قد أهمله إنجيل الطفولة لتوما في رؤيته ليسوع “كرجل غامض”.
-إنجيل الطفولة لتوما 14: 3، خاف الناس من الصبي يسوع، وفى أحد المرات أخبر يوسف مريم قائلآ: “لا تجعليه يخرج من الباب، لأن كل من يضايقه يموت.”
إنجيل
الطفولة العربي
-في
إنجيل الطفولة العربي، الذي كُتِب في القرن الخامس أو السادس، نقرأ عن الصبي المؤذي
يسوع. ففي إحدى الأيام، ذهب يسوع إلى ورشة صباغة، ووضع كل الملابس في مرجل ملئ
بالصبغة الزرقاء مما أدى إلى تلفها. عندما اكتشف صاحب المصبغة هذا الأمر، ذُهِل
وقال ليسوع: "ما الذي فعلته بي يا ابن مريم؟ لقد أفسدت سمعتي في عيون كل
المدينة، لأن كل واحد يطلب لونًا خاصًا به، ولكنك أتيت وأفسدت كل شيء. ولكن الطفل
يسوع يجيب: “سوف أغير لك أي لون للملابس ترغب في تغييره". وعندما قام
يسوع بهذه المعجزة، دهشوا أهل القرية وسبحوا الله.
- فى مكان آخر في نفس إنجيل الطفولة، حوّل يسوع رفاقه في اللعب إلى ماعز، ثم أعادهم أطفالًا مرة أخرى! ومن الواضح أن هؤلاء الأطفال لم يهمهم ما حدث في الحالتين، لأنهم بدأوا “يقفزون حوله” عندما كانوا ماعزًا.
التاريخ
العربي ليوسف النجار
هناك
عمل مشابه يدعى “التاريخ العربي ليوسف النجار”، وهو يحكي قصة حياة يوسف النجار
وموته وتأبين يسوع له. ولقد ضمن الكاتب في هذا العمل بعضاً من مادة إنجيل
يعقوب التمهيدي وإنجيل توما، تلك التي أضاف إليها عدة تفاصيل مختلفة. أما هدف هذا
الإنجيل فهو الإعلاء من شأن يوسف النجار والتشجيع على تكريمه الذي كان معتاداً
في مصر. ولدينا نص هذا الإنجيل كاملاً في العربية واللهجة القبطية البحيرية،
وشذارت منه في اللهجة القبطية الصعيدية؛ ولقد ترجم في القرن الرابع عشر إلى
اللاتينية. أما بالنسبة لزمن كتابته، فلا بد أن هذا الإنجيل لم يكتب قبل القرن
الرابع، كما أن زمن كتابته لا يتعدى القرن الخامس.
إنجيل متى المنحول
–
متى المزيف، وهو عمل تمت كتابته ما بين القرنين الثامن والتاسع، كان له
تأثير هائل في تصوير فن العصور الوسطى ليسوع ومريم. فمثل البروتوفانجيليوم
ليعقوب، كان إنجيل الطفولة هذا يعظّم مريم. كما كان يصوّر الطفل يسوع على أنه في
تمام النضج في تفكيره، وقادر على صنع المعجزات، وعميق الأهتمام بوالدته. فالطفل
يسوع، بينما كان يهرب إلى مصر مع يوسف ومريم، نجده يتحدث كبالغ يجرى العديد من
المعجزات، حتى أثناء حمل والدته له عبر الصحراء.
فمثلآ،
شكى يوسف ليسوع من الحرارة الشديدة التي لا تُحتمل، فأجاب يسوع، “لا تخف يا
يوسف؛ سوف أقصر رحلتك، فما كان من المفترض أن تعبره في ثلاثين يومآ، سوف تنجزه في
يوم واحد". وهكذا تحقق النبوة والمعجزة معًا.
تعقيب
على أناجيل الطفولة
إنَّ
مثل هذه القصص الغريبة والسخيفة، لا تُحقّق بالتأكيد العدل ليسوع التاريخيّ. فهل
هذه حقًا من الأناجيل التي يُمكنها أن تنافس الأناجيل القانونيّة لكى تدمج معها
ضمن الأسفار القانونيّة!! إن المشكلة في رؤية مثل هذه الأناجيل على أنها تنافس
الأناجيل القانونية بأية صورة تكمن في ثلاثة أمور:
(1)
أنها متأخرة، في بعض الأحيان بعدة قرون عن الأناجيل القانونية.
(2)
بالرغم من أن البعض منها كان مشهورًا بين الناس، إلَّا إنَّ الكُتّاب الآباء
أدانوها بوصفها كانت تُقدِّم وصفًا خاطئًا ولا يليق بيسوع الحقيقيّ، فكان من
الواضح جدًّا أنّها ساذجة وغير حقيقيّة بطريقة ملموسة.
(3)
كانت في المعتاد تحوي أفكار بأنّ المسيح يبدو فقط أنّه إنسان، أو حتّى أفكارًا
غنوسيّة. وبهذه الطريقة فإنّها لا ترى يسوع من أية ناحية على أنّه إنسان حقيقيّ
تطوَّر ونما بصورة طبيعيّة، ولكن ككائن فوق طبيعيّ وُلِدّ ولديه بالفعل فكر ناضج
وقدرة على صنع المعجزات، حتّى المعجزات المؤذية. وهكذا فقد كانت الأناجيل غير
مستقيمة العقيدة لأنّها قللت بصورة كبيرة من بشرية يسوع بينما رفعت من ألوهيته.
[1]
ان البابا جلاسيوس الذي تولى باباوية الكنيسة
الكاثوليكية من سنة 492-496م قد أصدر قراراً في نهاية القرن الخامس يحتوي على
أسماء الكتب المقدسة القانونية والكتب المنحولة. في الجزء الثاني منه نجد أسماء
الأسفار القانونية (27 سفراً للعهد
الجديد) وفي الجزء الخامس من القائمة نجد أسماء كتب مرفوضة وممنوع قراءتها. وقد
ورد فيها كتاب باسم إنجيل برنابا وبقية أسماء الكتب المذكورة هي كتب غنوسية. منها
أعمال اندراوس، أعمال بطرس، أعمال توما، أعمال فيلبس، انجيل يعقوب الصغير، انجيل برثلماوس، إنجيل
بطرس، انجيل اندراوس، كتاب طفولة المخلص، رؤيا توما، رؤيا بطرس، رؤيا استفانوس….
وغيرها. ويقول البابا جلاسيوس: “إن هذه الكتب (المنحولة) وما شابهها قد علمها
ودونها الهراطقة والمنشقون وأتباعهم. فنحن نرفض هذه الكتب ونستبعدها في كل الكنيسة
الرومانية الكاثوليكية الرسولية ونحرمها مع كاتبيها”.
[2]
Philos 5: 7.
[3]
الناسيين” هي جماعة ربما يكون اسمها مشتق من
الكلمة العبرية (nahash)، والتي معناها (ثعبان). وهي جماعة ظهرت حوالي
عام 100م تقريباً، ولم تعرف إلا من خلال كتابات هيبوليتوس الروماني، وقد زعموا
أنهم تلقوا تعاليمهم من مارياميني تلميذة يعقوب البار، ويمكن اعتبار أن تعليمهم
ينتمي إلى المراحل الأولى من البدعة الغنوسية.
[4]
البدعة المانوية نسبة إلى ماني (215 – 276م)
وهو فارسي الأصل، كان تعليمه مزيجاً من الديانات (المسيحية والبوذية وازرادشتية)،
علم بوجود مبدأين للخلق (إله النور/ الخير)، (إله الظلمة/ الشر) فكل ما هو خير هو
روحي، وكل ما هو مادي فهو شر. لذلك رفض التجسد، وعلم بأن الشر له كيان مادي وأنه
كائن في الطبيعة البشرية. ونادى بعدم الزواج لأنه الوسيلة التي ينتقل بها الشر في
الكيان الإنساني. والخلاص في المانوية هو تحرر الروح من سجن الجسد حتى تتحد بمبدأ
الخير وذلك لن يتم إلى عن طريق تعذيب الجسد، بالزهد والتنسك والتصوف وإيقاف الغرائز
الجسدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق