يوسيفوس المؤرخ اليهودي (37 – 97 م)
في ذلك الزمان عاش يسوع، إنسان حكيم، لو كنا فعلاً ينبغي أن نسميه إنسان. لأنه كان الشخص الذي صنع أعمالاً فذة مدهشة وكان معلماً للناس الذين يقبلون الحق بسرور. وقد كسب أتباعاً عديدين من اليهود ومن اليونانيين. لقد كان هو المسيح. وعندما سمع بيلاطس أن رجالاً من أعلى المراكز بيننا يتهمونه حكم عليه بأن يصلب، فأولئك الذين كانوا يحبونه في المقام الأول لم يتخلوا عن محبتهم له، وفي اليوم الثالث ظهر لهم وقد عاد إلى الحياة لأن أنبياء الله كانوا قد تنبأوا بهذه الأمور وبأشياء أخرى عجيبة وعديدة عن يسوع، وجماعة المسيحيين الذين دُعيوا باسمه مازالوا موجودين حتى يومنا هذا ولم يختفوا. (Antiquities 18.3, 63-64).
تاسيتوس (56- 120 م)
ويشهد التاريخ الروماني لصحة الحادثة بحسب ما يذكر
كورنيليوس تاسيتوس (55-125م)، وهو مؤلف روماني عاصر ستة أباطرة ولُقب بمؤرخ روما
العظيم. وقال عنه ف. ف بروس F.F.Bruce أنه، تاسيتوس، كان، بحكم علاقته بالحكومة الرومانية، مطلعاً على
تقارير حكام أقاليم الإمبراطورية وسجلات الدولة الرسمية. وقد أشار إلى المسيح في
كتابيه " الحوليات والتواريخ " ثلاث مرات أهمها قوله في الحوليات الجزء
الثالث:
" لكي يتخلص نيرون من التهمة (أي حرق روما) ألصق هذه الجريمة بطبقة مكروهة معروفة باسم المسيحيّين، ونكَّل بها أشد تنكيل. فالمسيح الذي اشتق المسيحيون منه اسمهم، كان قد تعرض لأقصى عقاب في عهد طيباريوس على يد أحد ولاتنا المدعو بيلاطس البنطي. وقد راجت خرافة من أشد الخرافات إيذاء، وإن كانت قد شُكمت لفترة قصيرة، ولكنها عادت فشاعت ليس فقط في اليهودية المصدر الأول لكل شر، بل انتشرت أيضاً في روما التي أصبحت بؤرة لكل الأشياء الخبيثة والمخزية التي شرعت ترد إليها من جميع أقطار العالم "( Tacitus, Annals, 15, 44 & The Verdict of History, p. 100 & He Walked Among Us p. 53,54).
المؤرخ اليوناني لوسيان الساموساطي (120 – 195 م)
وكذلك أيضا شهادة التاريخ اليوناني حيث يقول لوسيان
اليوناني: والذي كان أحد مؤرخو اليونان البارزين في مطلع القرن الثاني الميلادي.
وقد علق في مقال نقدي ساخر على المسيحيين والمسيح. وإذ كان ينتمي إلى المذهب
الأبيقوري فقد عجز عن استيعاب طبيعة الإيمان المسيحي واستعداد المسيحيين للاستشهاد
في سبيل عقيدتهم، وحسبهم شعباً مخدوعاً يتعلق بأوهام عالم ما بعد الموت بدلاً من
التمتع بمباهج العالم الحاضر وملذاته وأبرز ما قاله:
" إن المسيحيين، كما تعلم، ما زالوا إلى هذا اليوم يعبدون رجلاً - وهو شخصية متميزة، استنّ لهم طقوسهم الجديدة وصُلب من أجلها ومنذ اللحظة التي اهتدوا فيها (إلى المسيحية) وأنكروا آلهة اليونان وعبدوا الحكيم المصلوب، استقرّ في عرفهم أنهم أخوة "( The Verdict of History, p. 100 & He Walked Among Us p. 53,54, The Death of Peregrine ).
مار بار سارابيون الرواقي السوري (73 م تقريبًأ)
كتب في رسالة له لابنه سيرابيون، كتبها من السجن، عن
يسوع باعتباره ملك حكيم كسقراط وفيثاغورس قائلاً:
" أية فائدة جناها اليهود من قتل ملكهم الحكيم لم يمت هذا الملك الحكيم إلى الأبد لأنه عاش من خلال تعاليمه التي علم بها "، ولكن الله أنتقم له " بتدميرهم وتشتيتهم في كل مكان "( He Walked Among Us p. 54).
التلمود البالي (70 – 200 م)
ويقر اليهود في تلمودهم بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه فقد
جاء في نسخته التي نشرت في أمستردام عام 1943 قوله:
" لقد صُلب يسوع قبل الفصح بيوم واحد. وقبل تنفيذ الحكم فيه، ولمدة أربعين يوماً خرج مناد ينادي: إن (يسوع) سيُقتل لأنه مارس السحر وأغرى إسرائيل على الارتداد، فعلى من يشاء الدفاع عنه لمصلحته والاستعطاف من أجله أن يتقدم. وإذ لم يتقدم (أحد) للدفاع من أجله في مساء (ليلة) الفصح. وهل يجرؤ أحد عن الدفاع عنه ؟ ألم يكن مفسداً ؟ وقد قيل في الأنبياء إن شخصاً مثل هذا: " لا تَسْمَعْ لَهُ وَلا تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ وَلا تَرِقَّ لَهُ وَلا تَسْتُرْهُ، بَلْ قَتْلاً تَقْتُلُهُ " (تث8:13و9). (Sanhedrin 43a ; Josh McDowell & Bill Wilson. He Walked Among Us p. 64; Paul L. Maier, In the Fullness of Time: A Historian Looks at Christmas, Easter, and the Early Church (Grand Rapids: Kregel, 1997), 197)
تلاميذ الرسل والسند المتصل لحقيقة صلب المسيح:
تسلم التلاميذ ورسله الرسالة من الرب يسوع المسيح، وكان لهؤلاء التلاميذ والرسل خلفاء وتلاميذ، أسمتهم الكنيسة بالآباء الرسوليين، ومن هؤلاء من كان تلميذاً للقديس بطرس مثل أغناطيوس أسقف إنطاكية، وبوليكاربوس أسقف سميرنا بآسيا الصغرى والذي كان تلميذا للقديس يوحنا الرسول تلميذ المسيح، واكليمندس الروماني تلميذ القديس بولس وغيرهم. هؤلاء استلموا منهم الإنجيل الشفوي قبل أن يكتب، مع بقية المؤمنين، ثم الإنجيل المكتوب، ثم سلموه بدورهم لخلفائهم هم أيضا، مع بقية الجماعة والكنيسة المسيحية.
كانت هناك دائما
سلسلة متواصلة من الشهود. فمثلا كان القديس يوحنا تلميذا للمسيح وكان من ضمن
تلاميذ يوحنا القديس بوليكاربوس ومن تلاميذ القديس بوليكاربوس القديس أريناؤس أسقف
ليون بفرنسا، وبالتالي ما يقوله الواحد هو ما نقله عن الآخر، فقد نقل بوليكاربوس
عن يوحنا الرسول، ونقل أريناؤس عن بوليكاربوس وبالتالي ما كتبه أريناؤس هو شهادة
القديس يوحنا المنقولة عبر بوليكاربوس، وهكذا. وهؤلاء سلموه بدورهم لمن بعدهم حتى
جاءت المجامع الكنسية سواء المحلية والتالي بدأت في نهاية القرن الثاني الميلادي،
أو المسكونية التي بدأت بمجمع نيقية سنة 325م. وقد واجه هؤلاء العالم كله بحقيقة
الصلب والقيامة، وكان العالم جميعه ينظر إليهم كأتباع المصلوب الذي صلبه اليهود
ولكنهم واجهوه بحقيقة قيامته وانتصاره على الموت وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين
العظمة في السماء. وهذه بعض فقرات مما كتبوه:
(1) اكليمندس الروماني (30 – 100م): تلميذ الرسل وأسقف روما: يقول في رسالته:
" لنركز أنظارنا على دم المسيح متحققين كم هو ثمين لدى أبيه، إذ سفكه لأجل خلاصنا، وقدم نعمه التوبة للعالم كله ". " لنكرم الرب يسوع المسيح الذي قدم دمه لأجلنا ". " وقد صار الرب يسوع المسيح باكورة القائمين من الموت ". " وبعدما تسلم الرسل أوامرهم واقتنعوا بقيامه ربنا يسوع المسيح تماماً، وتأكدوا من كلمه الله، ذهبوا في ثقة الروح القدس للكرازة ".
(2) أغناطيوس الأنطاكي ( 30 – 107م) تلميذ بطرس الرسول وأسقف كنيسة إنطاكية: يقول في رسالته إلى أفسس
" أن روحي هي ضحية الصليب، والصليب هو عثره لغير المؤمنين، أما لنا نحن فهو خلاص وحياه أبديه " (أف 1:18).
ويقول في رسالته إلى ترالس
" يسوع المسيح تألم حقاً على عهد بيلاطس البنطى، وصلب حقاً ومات حقاً أمام السمائيين والأرضيين ومن تحت الأرض قام حقاً من الأموات " (1:9،2).
وقال في رسالته إلى سميرنا
" أنا أؤمن أنه بعد القيامة كان ما يزال له جسد، وأؤمن أنه هكذا الآن، ومثال ذلك، عندما جاء للذين كانوا مع بطرس قال لهم "جسونى وانظروا أنى لست روحاً بدون جسد " وفي الحال لمسوه وأمنوا أنه كان روحاً وجسداً وبعد قيامته أكل وشرب معهم " (ف2).
(3) بوليكاربوس (65-155م) تلميذ القديس يوحنا الرسول: يقول في رسالته إلى فيلبى:
" يسوع المسيح سيدنا الذي تحمل الموت من أجلنا وأقامه الله حالاً رباطات الجحيم " (2:1). " أمنوا بمن أقام سيدنا يسوع المسيح من بين الأموات وأعطاه مجداً " (1:2). " فلنلتصق دائماً برجائنا وعريس عدالتنا يسوع المسيح الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة (الصليب) " (1:7).
(4) رسالة برنابا المكتوبة سنة 100م وقد جاء فيها:
" أن السيد قد أحتمل تسليم جسده إلى الفساد. كان المقصود هو تنقيتنا وغفران خطايانا الذي تم بنضح دمه " (1:5). " يا أخوتي إذا كان السيد قد أحتمل أن يتألم من أجل نفوسنا وهو رب المسكونة فكيف قبل أن يتألم على أيدي الناس؟ ولكي يعطل الموت ويبرهن على القيامة من الأموات ظهر بالجسد وأحتمل الآلام " (5:5). " أنه هو الذي أراد أن يتألم هكذا، وكان عليه أن يتألم على الصليب " (12:5).
وأيضا " قد تألم ليحيينا بجراحه، فلنؤمن أن أبن الله لم يتألم إلا لأجلنا وقد سقى الخل والمر أره عندما صلب " (2:7،3). " لذلك نعيد اليوم الثامن بفرح. اليوم الذي قام فيه المسيح من الأموات وظهر وصعد إلى السماء " (9:15).
(5) يوستينوس الشهيد (100-165م): يقول في حواره مع تريفو اليهودي
" لأنه حقاً بقى المسيح على الشجرة (الصليب) حتى المساء تقريباً ودفنوه في المساء وفي اليوم الثالث قام ثانيه " (الحوار، فصل 97).
وقال في كتابه على القيامة
" لماذا قام (المسيح) في الجسد الذي تألم به إلا لكي يبين قيامه الجسد ؟ وتأكيداً لهذا، فعندما لم يعرف تلاميذه أن كان قد قام بالجسد حقاً وكانوا ينظرون إليه بشك قال لهم: " أليس لكم إيمان حتى الآن، انظروا أنى أنا، وسمح لهم أن يجسوه ويروا آثار المسامير في يديه، وعندما اقتنعوا تماماً أنه هو نفسه وفي الجسد سألوه أن يأكل معهم كي ما يكونوا أكثر يقيناً، أنه قام في جسده الحقيقي ؟ فأكل شهد عسل وسمكاً " (On Resurrection. Ch. 9).
(6) ايريناؤس (120 – 220) أسقف ليون بفرنسا: هذا القديس كتب فصولاً طويلة شرح فيها آلام السيد المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته نكتفي منها بهذه الفقرة:
" وكما قام المسيح بجوهر الجسد وكشف لتلاميذه أثار المسامير والفتحة في جنبه فقد قام بقوته هو"( Against Her. B. 5:7).
الممارسات
الكنسية منذ عصر الرسل
العديد
من الممارسات الكنسية التي مارسها الرسل وتسلمتها منهم الكنيسة حتى يومنا هذا هي
مبنية على حقيقة موت المسيح مصلوبًا، وقيامته، ومنها:
(1)
المائدة وكسر الخبز: والذي يتركز جوهره حول موت المسيح مصلوباً ودفنه وقيامته من
الأموات وصعوده. وقد مُورست صلوات المائدة منذ فجر الكنيسة على أيدي الرسل، حيث
بدأ بعد حلول الروح القدس مباشرة " كانوا يواظبن على تعليم الرسل والشركة
وكسر الخبز والصلوات " (أع42:2).
يقول القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس "
كأس البركة التي نباركها أليست هي شركه دم المسيح. الخبز الذي نكسره أليس هو شركه
جسد المسيح " (1كو16:10)، " لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضا أن الرب
يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً شكر فكسر وقال (خذوا كلوا) هذا هو جسدي
المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكرى. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً هذه الكأس
هي العهد الجديد بدمى. اصنعوا هذا كل ما شربتم لذكرى. فأنكم كلما أكلتم هذا الخبز
وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجئ " (1كو23:11،26).
(2)
يوم الأحد: قدست الكنيسة منذ فجرها يوم الأحد تذكاراً لقيامه السيد المسيح فيه من
الموت، وكانت تدعوه اليوم الأول من الأسبوع " وفي أول الأسبوع (الأحد) إذ كان
التلاميذ مجتمعين ليكسروا خبزاً " (أع 7:20)، ويوم الرب " كنت في الروح
في يوم الرب " (رؤ4:1) ، وجاء في رسالة برنابا (9:15) " لذلك نُعيد
اليوم الثامن بفرح. اليوم الذي قام فيه المسيح من الأموات "، ويقول القديس
يوستينوس الشهيد في بداية القرن الثاني " وفي اليوم المسمى يوم الشمس (الأحد)
يجتمع معاً كل الذين يعيشون في المدن والريف وتقرأ مذكرات الرسل (الأناجيل) أو
كتابات الأنبياء الأحد هو اليوم الذي نجتمع فيه جميعاً لأنه اليوم الأول الذي غير
الله فيه الظلمة والمادة وعمل العالم وفي نفس اليوم قام يسوع المسيح مخلصنا من
الموت لأنه صُلب في اليوم الذي قبل السبت وفي اليوم الذي بعد السبت، الذي هو يوم
الأحد ظهر لرسله وتلاميذه وعلمهم هذه الأمور التي سملناها لكم أيضاً لفائدتكم
"( First Apology Ch. 67).
(3) علامة الصليب: كان الصليب قبل صلب المسيح عليه علامة
خزي وعار، وبعد قيامته صارت علامة مجد وفخر " نحن نكرز بالمسيح مصلوباً
لليهود عثرة ولليونانيين جهالة. أما المدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله
وحكمة الله " (كو23:1،24)، " أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب
ربنا يسوع المسيح "، ومن ثم صارت علامة الصليب مصدر فخر لجميع المؤمنين،
وكانوا يرسمونه على منازلهم ومقابرهم وكنائسهم، ويرى البعض في قوله: " أنتم
الذين أمام عيونكم قد رسُم يسوع المسيح بينكم مصلوباً " (غل 14:6)، رسم
للصليب. وكان المؤمنون يطردون الأرواح النجسة برسم علامة الصليب.
ماذا عن الشبيه؟
تعليقًا على ما جاء في سورة النساء "وَقَوْلِهِمْ
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا" (النساء 157)
يقول فخر الدين الرازي:
"اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهًا.. وهذه الوجوه متعارضة متدافعة واللَّه أعلم بحقائق الأمور" (تفسير الرازي جـ 3 ص 350)
ويظهر العلامة الرازي ست إشكاليات لو أخذنا بالرأي
القائل أن شبه المسيح وقع على غيره، أيًا كان هذا الغير فهناك أكثر من 15 رأي من
علماء المسلمين يقول بمن أُلقيَّ عليه الشبه! فيقول:
رأى الإمام فخر الدين الرازي، وهو من أجمل وأعمق الآراء في موضوع إلقاء شبه السيد المسيح على شخص آخَر فيقول: "من مباحث هذه الآية موضوع مشكل، وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى بشبهه على غيره، على ما قال: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم"، والأخبار أيضًا واردة بذلك. إلاَّ إن الروايات اختلفت، فتارة يُروى أن اللَّه تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه. وتارة يُروى أنه رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقى شبهه حتى يُقتَل مكانه، وبالجملة فكيفما كان، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات:
الإشكال الأول:
إن جاز أن يُقال أن اللَّه تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخَر، فهذا يفتح باب
السفسطة، فإني إن رأيت ولدي ثم رأيته ثانيًا فحينئذٍ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته
ثانيًا ليس بولدي بل هو إنسان أُلقي شبهه عليه. وحينئذٍ يرتفع الأمان على
المحسوسات، وأيضًا فالصحابة الذي رأوا محمدًا (صلعم) يأمرهم وينهاهم وجب أن لا
يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه أُلقي شبهه على غيره. وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع
وأيضًا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة وعلى أن يكون المخبّر الأول إنما أخبر عن
المحسوس، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى، وبالجملة
ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخِره إبطال النبوات بالكلية.
الإشكال الثاني:
وهو أن اللَّه تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثـر الأحوال.
هكذا قال المفسّرون في تفسير قوله: "إذ أيدتك بروح القدس" (المائدة 110)
ثم أن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل كان يكفي العالم من البشر، فكيف لا يكفِ في
منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضًا أنه (المسيح) عليه السلام لمّا كان قادرًا على إحياء
الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، فكيف لا يقدر على إماتة أولئك اليهود، الذين قصدوا
بالسوء، وعلى اسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيرون عاجزين عن التعرُّض
له؟
الأشكال الثالث:
إنه تعالى كان قادرًا على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء، فما
الفائدة في إلقاء شبهه على غيره إلاَّ إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟
الإشكال الرابع:
إنه ألقى شبهه على غيره. ثم أنه رُفِع بعد ذلك إلى السماء، فالقوم اعتقدوا أنه
عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق
بحكمة اللَّه.
الإشكال الخامس:
إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام،
وغلوهم في أمره، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولًا مصلوبًا، فلو أنكرنا ذلك كان طعنًا في
التواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد (صلعم) ونبوّة عيسى، بل في
وجودهما ووجود سائر الأنبياء وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس:
إنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقيَ حيًّا زمانًا طويلًا، فلو لم يكن ذلك عيسى بل
كان غيره لأظهر الجزع، ولقال: "إني لست بعيسى، بل إنما أنا غيره، ولبالغ في
تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لأشتُهِر عند الخلق هذا المعنى، فلمّا لم يوجد شيء
من هذا علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم. فهذا جملة ما في الوضع من تساؤلات"
(التفسير الكبير 7: 70 ـ 71، أورده جمال محمد أبو زيد في كتابه "الأسبوع
الأخير للمسيح بين المسيحية والإسلام" ص 85 ـ 88).
الايات القرآنية التي تشهد لموت المسيح
أ - في سورة مريم آيتان تتحدث الأولى عن يوحنا المعمدان
(يحيى) والثانية تتحدّث عن السيد المسيح.. لاحظ ترتيب وتطابق الآيتان وتكرار نفس
الألفاظ " وسلام عليه (يحيى) يوم وُلِد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا"
(مريم 15). "والسلام عليَّ (المسيح) يوم وُلدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ
حيَّا" (مريم 34) يوحنا وُلِد واستشهد على يد هيرودس الملك الطاغية وسوف يبعث
حيًّا في اليوم الأخير، وأيضًا السيد المسيح وُلِد، ومات صلبًا على يد بيلاطس
البنطي، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث.
ب - في سورة آل عمران 55 يتحدّث عن موت السيد المسيح "إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ من الَّذِينَ كَفَرُواْ وجَاعِلُ الذين اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يوم القِيَامَةِ ثُمَّ إليَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فيما كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"، وقد اتفق المسفرون على أن "الوفاة" هنا تعني الموت، فقال الإمام البيضاوي: "يا عيسى إني متوفيك"، قيل أماته اللَّه سبع ساعات، ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى، ورافعك إليَّ إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي".
وقال محمد بن
إسحق "إن معنى متوفيك مميتك.. المسيح تُوفي سبع ساعات، ثم أحياه اللَّه
ورفعه" (تفسير الرازي جـ 2 ص 457، 458).
وعن ابن حميد قال: حدّثنا مسلمة عن ابن إسحق عن وهب بن
منبه أنه قال: "توفى اللَّه عيسى بن مريم ثلاث ساعات ثم رفعه" (انظر جامع
البيان جـ 3 ص 289 ـ 292).
ج- في سورة المائدة 117 يقول على لسان السيد المسيح: "وكنت عليكم شهيدًا ما دمت فيهم فلمَّا توفيتني كنت أنـت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد" توفيتني أي أن الوفاة قد حدثت في الماضي، وقوله: "كنت أنت الرقيب عليهم" أي أن الوفاة حدثت بسبب مؤامرة اليهـود، ولكن مؤامرتهم كانت مكشوفة أمام اللَّه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق