الصّلاة في الإيمان المسيحيّ ليست عملًا نُقدّمه إلى
الله لإرضائه، ولا طقسًا فُرِض علينا نقوم به إبتغاء للهبات المُعطاة لنا خلاله أو
طمعًا في الحياة الأبديّة
والنجاة من الدينونة.
إنما
الصّلاة هيَ حركة شوق داخليّة في الإنسان للتلاقي مع وجه الأبديّة، لقاء مع شخص
الله، فيه التعبير عن الحب والشكر وكل ما نشعر به كأنّما نتحدث إلى أقرب قريب،
الله محبوب النفس:
"لأَنَّهُ أَيُّ شَعْبٍ هُوَ عَظِيمٌ لهُ آلِهَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْهُ كَالرَّبِّ إِلهِنَا فِي كلّ أَدْعِيَتِنَا إِليْهِ؟" (تث 4: 7). "لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟» أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ،7أَوْ «مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ" (رو 10: 6-7).
فالله قريب منّا بل في داخلنا يسكن القدوس ذاته: "أَمَا
تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟.. لأَنَّ
هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ" (1كو 3: 16، 17).
لذلك فكثيرًا ما أكَّد الآباء أنّ الصّلاة الحقيقيّة هيَ
استجماع العقل والقلب والدخول بهما في عمق الذات، وهكذا قال أيضًا القديس أنطونيوس
إنّنا بمعرفتنا لأنفسنا نعرف الله وما أخذنا منه[1]. فيقول: "لإنّ من عرف نفسه عرف
الله ومن عرف الله يستحق أنّ يعبده بالحق".[2]
فالصّلاة ليست مجرّد كلمات نرددها أو خُطب رنانة، بل الصّلاة
هيَ تعبير إرداي عن شوق اللقاء مع الله والدخول في حالة الأبديّة والاتحاد به،
وبهذا فليس المهمّ فيها حجم الكلمات وبلاغتها وعددها، بل المهم أن تكون بسيطة
صادرة بنقاء من داخل القلب.
والصّلاة هيَ التأمُّل في الجمال، فعندما سأل القديس يوحنا الصليبي إحدى
المعترفات قائلًا: "مما تتكوَّن صلاتك؟" فأجابته قائلة: "التأمُّل
في جمال الله، وفي التهليل والفرح لأن له مثل هذا الجمال".[3]
هذه
هيَ طبيعة العبادة. أنّ نصّلي وأن نعبد هو أن نشعر بالجمال الروحانيّ للملكوت السماويّ؛
وأن نعبِّر عن ذلك الجمال بواسطة الكلمات كما بالشعر والموسيقى، ومن خلال الفن والأعمال
الرمزيّة، ومن خلال كلّ حياتنا؛ وبهذه الطريقة فإنّنا ننشر الجمال الإلهيّ في
العالم حولنا، وهكذا نحوِّل الخليقة الساقطة ونجعلها تتجلّى[4].
ويصفها مارإسحق بأنّها تليق بالكمال، وهي استقامة الضمير،
ووعظ الأنواع الحسنة، والحرّيّة إلى الأمور المرتفعة، وهذيذ الروح وتذكار السمائيّات
والهمّ بالخفيّات[5].
والصّلاة
أيضًا أهمّ ما يميزها أنها ذبيحة كما اسماها الرسول بولس:"فَأَطْلُبُ
إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أنّ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ
ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقدّسة مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ..
رو12: 1". ففي الصّلاة أقدم
ذاتي ذبيحة لله –ليس ذبيحة بأن أتلاشى أنا وأكون بلا قيمة- بل بالحمد والشكر
والتسبيح والتمجيد الذي يُقدم بفهم وذهن حاضر وإحساس كيانيّ وتذوق لكل كلمة تخرج
من الفم موجهة إلى الله هيَ بالنسبة إليه كذبيحة مُقدّمة له يستأنس بها الله
ويتلذذ ويقبلها ويُنميها. فالذبائح الدموية لا ترضي الله ولا هيَ حسب مشيئته بل
فقط وضعها الله من أجل أنّ يتذكره الشعب دائمًا وأيضًا يتذكرون انهم في حاجة إلى
الخلاص من الخطيه، وليعرفوا أنّ هذه الذبائح والافعال البشريّة لا تنفع الإنسان
شيئًا وإننا نحتاج إلى تدخل إلهي في حياتنا بل إلى اعماق النفس، وهذا ما أعلنه
الوحي بطول الكتاب المقدس..
+ "ذابح الحمد يمجدني" (مز 50: 23)
+"أسبح اسم الله بتسبيح، وأعظمه بحمدٍ، فيُستطاب عند الرّب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف" (مز 69: 30-31)
+"لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ. 15فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كلّ حِينٍ لِلَّهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسمهِ" (عب 13: 14- 15)
والصّلاة أيضًا هيَ سكيب للنفس أمام الله، في الصّلاة آاتي
وأُسكب نفسي في يدي الله، حالة من الاشتياق للدخول في شركة فيه، والإحساس بإنسداد
كلّ الطرق وضعفها وطلبه وحده. أعتقد هذا ما كان يشعر به المُرنم حين قال:
"بِصَوْتِي إِلَى الرّب أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى الرّب أَتَضَرَّعُ. 2أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِي قُدَّامَهُ أُخْبِرُ. 3عِنْدَ مَا أَعْيَتْ روحيّ فِيَّ.. مز 142: 1- 3".
وما أختبرته أيضًا حنه أم صموئيل:
"إِنِّي امْرَأَةٌ حَزِينَةُ الرُّوحِ وَلَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا وَلاَ مُسْكِرًا، بَلْ أَسْكُبُ نَفْسِي أمام الرَّبِّ.. 1صم1: 15".
فنحن نأتي إلى الله مُحملين بأثقال كثيرة من خطايا
وضيقات وتجارب يمر بها الأحبّاء وضعفات الجسد، وآاتي لأسكب ذاتي بكل ما أحمل أمام الله
على مذبح الصّلاة طالبًا أخذ القوة التي غلبت العالم والتي ترفعني بدورها فوق ضيق
العالم، لا إلَّا أدخل في الضيق، بل أن أملك القوة الإلهيّة على تحمُّل الضيق بصبر
وثقة ورجاء وإرادة على الخروج منه.
[1]
لإنّه إذا اقترب إنسان من النعمة
فإنّ يسوع سيقول له "سوف لا أدعوكم عبيدًا، بل أدعوكم أصدقائى وإخوتى لأن كلّ
الأشياء التي سمعتها من أبى أخبرتكم بها" (يو15:15) فإنّ كلّ الذين اقتربوا
من النعمة وتعلّموا من الروح القدس قد عرفوا
أنفسهم حسب جوهرهم العقليّ. وفي معرفتهم لأنفسهم صرخوا قائلين: "لإنّنا لم
نأخذ روح العبوديّة للخوف ولكن روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب"
(رو15:8) حتّى نعرف ماذا أعطانا
الله، "إذا كنّا أبناء فإننا ورثة أيضًا، ورثة الله، ووارثون مع
القديسين" (رو17:8). (الرسالة الرابعة)
[2]
الرسالة الرابعة
[3]
E. Underhill, Worship, 5.
[4] الأب كاليستوس وير، العبادة الأرثوذكسيّة، ص 19
[5]
الميمر 1: 39
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق