الكتاب الذي قرأه أغلبية المسيحيين الأوائل هو النسخة
اليونانية من العهد القديم العبري المعروفة بالسبعينية. قليلون جدًا من مسيحي القرون
الأربعة الأولى قرأوا العهد القديم باللغة العبرية التي كُتب بها. كانت العبرية
يتحدثون بها فقط في ضواحي أورشليم في بدايات المسيحية. بينما في بقية فلسطين تحدث
اليهود الأرامية التي كانوا يتحدثون بها في سبي بابل. وعلى الأرجح كانت اليونانية
منتشرة على نطاق واسع في الجليل. ومن المؤكد أن الداخلين للمسيحية من غير اليهود خارج
فلسطين كانوا يتحدثون اليونانية. في حين أظهر كُتِّاب أسفار العهد الجديد: بولس
ومرقس ومتى ويوحنا، معرفتهم بالعهد القديم المكتوب بالعبرية، بالرغم من أن
اقتباساتهم تميل إلى اتباع السبعينية.[1]
من بين آباء الكنيسة كان أوريجانوس هو الوحيد المتحدث
باليونانية في القرن الثالث، والمتحدث باللاتينية جيروم في القرن الرابع، الذي تعلَّم
العبرية لكي يعمل على النص العبري للكتاب المقدس. ومع ذلك فأعمال أوريجانوس
الكثيرة كشروحات وعظات على العهد القديم تعتمد على الترجمة السبعينية. وقد أنتج
عملاً بحثيًا هائلاً على نص السبعينية المعروف بالهكسابلا أو السداسية (Hexapla). في هذا
العمل وضع أوريجانوس في ستة أعمدة متوازية النص اليوناني السبعيني، وثلاثة ترجمات
أخرى للعهد القديم إلى اليونانية، والنص العبري، وترجمة صوتية للنص العبري بحروف
يونانية.
ثم أدرج أوريجانوس في العمود الذي يحتوي على السبعينية
علامة النجمة (*) عندما كان يجد في السبعينية شيئًا مفقودًا في النص العبري،
وعلامة (†- obelus) أمام الكلمات التي لم تظهر في النص العبري. وعندما أنتج جيروم
ترجمته اللاتينية الجديدة للعهد القديم بناءً على النص العبري، استمر تفضيل غالبية
الكنيسة للنسخ اللاتينية الأقدم المبنية على السبعينية. بدا أن جيروم نفسه قد أنجز
جزءًا كبيرًا من ترجمته عن العبرية، والنص السبعيني كما راجعه أوريجانوس في
الهكسابلا في متناول يده. كانت السبعينية للكنيسة الأولى مثل ترجمة الملك جيمس
للكنيسة البروتستانتية المتحدثة بالإنجليزية من منتصف القرن السابع عشر إلى النصف
الثاني من القرن العشرين. كانت السبعينية هي النسخة التي تُقرأ في فترات العبادة
في الكنيسة. وكان يتعلِّم منها المرشحين للمعمودية. وكانت النسخة التي بُنيت عليها
دراسات وجدالات الدارسين في الكنيسة. وكانت ببساطة كتاب الكنيسة. ومع ذلك، لم تكن
السبعينية ترجمة أنتجها المسيحيون، لكنها كانت ترجمة أنجزها اليهود قبل الحقبة
المسيحية ليقدّموا نصًا مفهومًا للأسفار المقدسة لجموع كثيرة من اليهود كانت اليونانية
بالنسبة لهم هي اللغة الأولى.
أصلُ السبعينية
لا نعرف الكثير عن أصل السبعينية. أقدم رواية عن تكوينها
نجدها في عظة يهودية بعنوان "رسالة أرستياس" (The Letter of Aristeas)، والتي
تدّعي بأن الترجمة أُنجزت في الأسكندرية في القرن الثالث الميلادي لكيما تُضَّم
أسفار الناموس اليهودي إلى المكتبة العظيمة هناك. تذكر القصة أن الملك بطليموس
الثاني طلب من رئيس الكهنة في أورشليم أن يرسل مترجمين إلى الأسكندرية ليترجموا
الأسفار العبرية. فاستجاب رئيس الكهنة بإرسال 72 مترجمًا، 6 من كل سبط من الأسباط
الاثني عشر، وكل واحد منهم كان متمرسًا في كل من العبرية واليونانية. ثم قُرِّب
عدد المترجمين إلى 70، ليعطي اسمًا للترجمة (Septuagint) وتعني 70
باليونانية.
معظم "رسالة أرستياس" تمثل دفاعًا عن الشعب
اليهودي. تصف الهيكل وأورشليم والناموس اليهودي، وتمتدح حكمة الشيوخ الذين أُرسلوا
لترجمة الأسفار اليهودية، والاحترام الكبير الذي أظهره الملك بطليموس الثاني للشعب
اليهودي وشرائعه. عمل الترجمة الفعلي وُصف بكلمات موجزة جدًا، إذ تشير الرسالة بأن
المترجمين عملوا في مجموعات منفصلة بمهام خاصة لكل واحد، ثم اجتمعوا معًا، وقارنوا
النتائج، وتوصلوا لترجمة موحدة وافقوا عليها كلهم. ثم جمع ديمتريوس أمين المكتبة
في الأسكندرية نسخة بناءً على الترجمة المُنقحة التي اعتمدها المترجمون (رسالة
أرستياس 302-7). وقيل أن العملية بأكملها استغرقت 72 يومًا، أي ما يساوي عدد
المترجمين.
هناك اتفاق واسع على أن جزءًا كبيرًا من القصة الواردة
في "رسالة أرستياس" ذات طبيعة أسطورية. لم يعد الدارسون يعتقدون أن
الترجمة كانت عملاً رسميًا أُنجز بناءً على طلب من الملك ليضيف أسفار الناموس
اليهودي إلى مكتبة الأسكندرية. ولكن يُعتقد أن هذه الترجمة تمت على الأغلب بواسطة
اليهود الذين كانوا يحتاجون لنسخة من الناموس باللغة التي يتحدثونها، وأنها أُنجزت
في وقت ما في القرنين أو القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد. يكرر يوسيفوس، وهو
مؤرخ يهودي عاش في فلسطين في القرن الأول الميلادي، قصة أرستياس ولكن بإعادة صياغة
مطوّلة للوثيقة. ومع ذلك لا يقول أي شيء عن الأسلوب الفعلي الذي اتبعه المترجمون
في عملهم، ولم يذكر سوى كيف قُسمت أيام عملهم، وأن العمل أُنجز في 72 يومًا
("تاريخ اليهود" -Jewish Antiquities- 12: 12- 12: 118). ويعيد التأكيد الوارد في
رسالة أرستياس (311) بأن الترجمة المنجزة كانت قُرئت أمام جمع من المجمع اليهودي
في الأسكندرية. ثم صَدَّقوا على الترجمة، وأقسموا بشكل مهيب بألا يُسمح بتحريفها
بأي شكل (تاريخ اليهود 12: 109).
يروي فيلون، الفيلسوف اليهودي السكندري في القرن الأول،
رواية مختصرة عن قصة ترجمة الناموس إلى اليونانية، وتتفق إلى حدٍّ كبير مع رواية
"رسالة أرستياس". لكنه يقدِّم تفسيرًا مختلفًا عن كيف أنتج المترجمون
نسخة مشتركة. يؤكد فيلون أنهم عملوا تحت تأثير الإلهام، وأنتجوا ترجمتهم كما لو
كانت قد أُمليت عليهم. لهذا لم يكن هناك حاجة لمقارنة النصوص للوصول إلى اتفاق بين
المترجمين المختلفين، كما قال أرستياس أنه حدث. في المقابل، كل كاتب أنتج نفس
الترجمة بالضبط. وعلاوة على ذلك، يقول فيلون كانت الترجمة اليونانية تمثل النص
العبري تمثيلاً كاملاً (حياة موسى 2: 37-40). وتشير ملاحظات فيلون المبالغ فيها،
أن الترجمة السبعينية قد وضعت في مكانة عالية من قِبل الجماعة اليهودية في
الأسكندرية في القرن الأول الميلادي. معظم المسيحيين الأوائل اتفقوا مع فيلون بشأن
الإرشاد الإلهي كان وراء انتاج نص السبعينية.[2] ومع ذلك جيروم
في القرن الرابع الميلادي كان ناقدًا عنيفًا للسبعينية، ومع ذلك قبل الروايات التي
أخبرها أرستياس وكررها يوسيفوس (جيروم، الدفاع 2: 25).
تشير رسالة أرستياس إلى ترجمة الناموس اليهودي فقط. ولا
تفصح بشيء عن ترجمة أسفار أخرى من العهد القديم. ولا أحد يعرف متى تُرجمت الأسفار
الأخرى، بالرغم أن معظمها لابد أن يكون قد تُرجم قبل الحقبة المسيحية. فقد عرف
واستخدم كلٌ من فيلون ويوسيفوس، وهما كاتبان يهوديان من القرن الأول الميلادي،
الترجمة السبعينية، واقتبسا من أسفار كثيرة منها. لكن المسيحيين بعد ذلك أغفلوا
حقيقة أن الإشارة فقط إلى ترجمة الناموس التي قام بها الـ 72 مترجمًا. وقد اعتبروا
العهد القديم كاملاً باليونانية قد أُنجز في الأسكندرية في وقت ما وكانوا يشيرون
إلى الكتاب كله بالسبعينية.
الاختلافات بين
السبعينية والنص العبري
هناك اختلافان كبيران
بين السبعينية وبين النص العبري وفقًا للنصيّن اللذين بين أيدينا اليوم.
الأختلاف الأول والأوضح هو أن السبعينية كانت تضم دائمًا 15 سفرًا إضافيًا يشير
إليها البروتستانت بأسفار أبوكريفا العهد القديم. فأقدم المخطوطات وأكثرها موثوقية
للأسفار اليونانية بالكامل، التي تعود إلى القرنين الرابع والخامس الميلادي، تضع
أسفار الأبوكريفا بين أسفار العهد القديم باليونانية، ثم يتبعها أسفار العهد
الجديد باليونانية. يصعب تحديد مكانة هذه الأسفار في عقل المسيحيين الأوائل بشكل
دقيق. ويبدو أنها لم تُقبل بين الأسفار العبرية المعترف بها من اليهود، ولا يُعرف كيف
كانت مكانتها بين الجماعة اليهودية السكندرية المتحدثة باليونانية. ومع ذلك فإن
المخطوطات اليونانية القديمة المشار إليها سابقًا هي مخطوطات مسيحية بشكل واضح؛ لأنها
تضم العهد الجديد بجوار الترجمة السبعينية.
لا يبدو أن الكنيسة الأولى اعتبرت أسفار الأبوكريفا على
نفس مستوى الأسفار التي تشكِّل قائمة الأسفار القانونية. يقدّم ميليتون، الذي كان
أسقفًا على ساردس في أواخر القرن الثاني، قائمة بأسفار العهد القديم التي اعترفت
بها الكنيسة الشرقية المتحدثة باليونانية في ذلك الوقت (يوسابيوس، التاريخ الكنسي
4: 26: 12-14). وإلى حَدٍّ كبير تتطابق قائمته مع أسفار العهد القديم التي تستخدمها
الكنيسة البروتستانتية اليوم. ومع ذلك، لا تحتوي القائمة على أستير ومراثي، وتضم
حكمة سليمان من أسفار الأبوكريفا. هذه أقدم قائمة مسيحية لأسفار العهد القديم، وتُظهر
أن معظم أسفار الأبوكريفالم تُدرج في العهد القديم المعترف به في ذلك الوقت. أسفار
الأبوكريفا أُهملت بشكل كبير في الكتابات المسيحية في القرن الثاني، وقد ذكرت فقط
بشكل انتقائي بواسطة كُتّاب مسيحيين في
القرن الثالث.[3] في
حين دافع أوريجانوس عن أصالة سفر معروف ب "سوسنة"،[4] كما
استخدم هو وغيره حكمة سليمان بكثرة. ومع ذلك لا يوجد من آباء الكنيسة في القرون
الأربعة الأولى مَن كتب تفسيرًا لأي من أسفار الأبوكريفا أو استخدم نصًا من هذه
الأسفار في شكل عظة.[5] في
المقابل كانوا يقتبسون من حين لآخر نصوصًا من الأبوكريفا بدون الإشارة إلى مكانتها
أو وضعها.[6]
الاختلاف الكبير الآخر بين السبعينية والنص العبري الذي
بين أيدينا اليوم يتمثل في فوارق ملحوظة موجودة بين النصين في بعض أسفار العهد
القديم. على سبيل المثال أيوب وإرميا هما أقصر في السبعينية عن النص العبري. كما
توجد اختلافات عديدة في أسفار يشوع، صموئيل الأول، ملوك الأول، أمثال، أستير.
فضلاً عن ذلك هناك اختلافات نصية طفيفة في السبعينية والنص العبري الحالي منتشرة
في أسفار أخرى. ليس ممكنًا أن نفسِّر هذه الاختلافات بشكل مؤكد. الشيء الذي اتضح منذ
اكتشاف قصاصات عديدة من المخطوطات العبرية في قمران هو أنه لم يوجد نص وحيد معياري
للأسفار العبرية في حقبة الكنيسة الأولى.[7] النص
العبري الذي يُبنى عليه الترجمات الانجليزية الحالية يُعرف بالنص الماسوري (masoretic text). هذا النص
تم تنقيحه بواسطة بعض اليهود مؤخرًا في الحقبة المسيحية (أواخر القرن الأول حتى منتصف
القرن الثاني الميلادي).[8] كان
ولا يزال البعض يرون أنه من الممكن، أن السبعينية ربما تمثل، في كثير من نقاط
الاختلاف، قراءة عبرية أقدم من النص الماسوري، وهذا هو الرأي الراجح الآن.
[1]
See Martin Hengel, The
Septuagint as Christian Scripture, trans. M. E. Biddle (Edinburgh: T&T
Clark, 2002; repr. Grand Rapids: Baker Academic, 2004), 102.
[2] أنظر: يوستينوس "الحوار مع تريفو 68: 71؛
الدفاع الأول 31؛ حث لليونانيين 13"؛ إيرينيئوس "ضد الهرطقات 3: 21:
2"؛ إكليمندس السكندري "ستورماتا 1: 22: 148"؛ أبيفانيوس
"بناريون 3: 6"؛ يوحنا ذهبي الفم "عظات علي متى 5: 4"؛ أغسطينوس
"مدينة الله 18: 42". (ن)
[3]
نفس المرجع السابق، صفحة 66-67.
[4]
أنظر: رسالة أوريجانوس إلى يوليوس الأفريقي. (ن)
[5]
نفس المرجع السابق، صفحة 68.
[6] كما لم تظهر هذه الأسفار في أي
من قوائم أسفار الكتاب المُقدس التي وضعها آباء الكنيسة في القرون الأربعة الأولى،
أنظر علي سبيل المثال: الرساله
الفصحيه لاثناسيوس رقم 39؛ كيرلس الاورشليمي عظات لطالبي العماد 4: 3؛ يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة ترجمة القس مرقس داود،
ص 113؛ اوريجانوس مقدمه المزامير ذكره تاريخ يوسابيوس، ص 174؛ قائمة غريغوريوس النيزنزي . القصيدة الشعرية 12 : 5؛ قائمة ابيفانيوس، بناريون 8: 6؛ قائمة
جيروم في الرساله الي بولس اسقف نولا ad paulinum 53: 8؛ قائمة المؤرخ روفينوس exposition of the creed 37. (ن)
[7]
These biblical texts from Qumran
can be read in English translation in The Dead Sea Scrolls Bible, trans.
Martin Abegg Jr., Peter Flint, and Eugene Ulrich (San Francisco:
HarperSanFrancisco, 1999).
[8]
Hengel, Septuagint as Christian
Scripture, 44.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق