السبت، 16 سبتمبر 2023

سر الإفخارستيا

 



كلمة يونانيّة بمعنى الشكر. وترد الكلمة في المصطلحات الكنسيّة أحيانًا بشكل مختلف فتصبح بمعنى الشكر الإلهيّ، أي شكر نعبر عنه بتقدمة ما، سواء بالتسبيح أو بالصّلوات أو بالذبائح، فالقديس إيرينئوس[1] يرى أنّ من الأهداف الأساسيّة لسرّ ”الإفخارستيّا “ هو أن يقدِّم الإنسان ـ بلسان الخليقة كلّها ـ شكرًا لله من أجل خلق العالم وما أُعطيَّ له من بركات.

إذًا، فالفكر المدرسيّ والذي اعتبر أنّ الإفخارستيّا فقط مجرّد سرّ من أسرّار الكنيسة، قد همّش كلّ التقليد اللِّتورجيّ، الذي كان يرى الإفخارستيّا مركزًا ومنبعًا لحياة الكنيسة، وليست لإرضاء مطالب المؤمنين الخاصة والفرديّة.

إنَّ هدف العبادة هو التعبير الدائم عن الكنيسة كوحدة الجسد والمسيح هو رأسها، وأن نعبد الله ”بفم واحد وقلب واحد“. الإفخارستيّا هيَ سرّ الكنيسة الأساسيّ، بمعنى تحقيقها كجسد المسيح، متحدة بالمسيح، بواسطة الروح القدس. وبالتالي فإنّ سرّ الإفخارستيّا ليس أعظم أو أهمّ سرّ لِّتورجيّ في الكنيسة، بل هو مصدر وهدف كلّ الحياة اللِّتورجيّة للكنيسة، فأي تعليم لِّتورجيّ لا يأخذ الإفخارستيّا كأساس للبنية الجامعة له؛ هو في الأساس تعليم ناقص. وعلى ذلك، يجب أن نعرف الخط أو الهدف العام اللِّيتورجيّ، ثمّ بعد ذلك كلّ لِّيتورجيّة على حدة، وذلك مثل البناء تمامًا يجب أن نعرف التخطيط العام له، قبل أن ندرس كلّ وحدة على حدى.

هكذا فإذا كانت الإفخارستيّا هيَ مصدر وهدف الكنيسة، وهيَ مركز العبادة اللِّتورجيّة، فبقية الأسرّار تقود إلى هذا المركز، لذلك فإنّ التعاليم اللاهوتيّة لكل سرّ ترتبط دائمًا بمفهوم طقس الإفخارستيّا، وأيضًا صّلوات السواعي اليوميّة، والطقس الأسبوعيّ، والسنة الطقسيّة يجب أن ترتبط في دراستها بالإفخارستيّا. وهكذا فإنّ اللِّيتورجيَّات المتعلقة باحتياجات المؤمنين مثل سرّ مسحة المرضى، وسر الزيجة، وسر التوبة والاعتراف، وأيضًا الصلَّاة على الموتى، وأي صلوة كنسية مثل صّلاة الحميم، وصّلاة تبريك المنازل... إلخ. كلّها تصب في سرّ الإفخارستيّا.

ويشير القديس غريغوريوس اللاهوتي إلى أنّ:

الاشتراك المنتظم في سرّ الإفخارستيّا، هو أمر هامّ وضروريّ للكمال في الحياة المسيحيّة. لأنّه بواسطة التناول من جسد المسيح ودمه، ترتبط حياة المؤمنين بحياة المسيح. وعدم الشركة في هذا السرّ يؤدي إلى تأثيرات سلبيّة وضارة على الحياة الروحيّة. لأنّ تنازل الله نحو الإنسان في هذا السرّ العظيم، يتطلّب أيضًا ارتفاع الإنسان نحو الله“.[2]

 

تأسيس السرّ


جاء الوقت الذي فيه يقدِّم المسيح نفسه ذبيحة لله أبيه لأجل خلاصنا. ففي ذلك الوقت قبل أن يقدِّم اليهود فصحهم بيوم واحد، أرسل الرّبّ اثنين من تلاميذه إلى أورشليم ليعدا الفصح وفي الليلة التي فيها أُسلِمَ حضر مع تلاميذه الاثنى عشر إلى عُليّة صهيون وهُناك غسل أرجل تلاميذه مُعلِّما إياهم التواضع، ثمّ سلّمهم سرّ جسده ودمه القدّوسين كما يقول القديس متّى الإنجيليّ:

”وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا اشربوا منها كلّكم، لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا“ (مت 26: 26- 28).

وقد كتب بولس الرسول قائلًا:

”لإنّنى تسلّمت من الرّبّ ما سلمتكم أيضًا أنّ الرّبّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضًا بعد ما تعشوا قائلًا: "هذه الكأس هيَ العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلّما شربتم لذكري، فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرّبّ إلى أن يجىء. إذًا أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرّبّ بدون استحقاق يكون مجرمًا في جسد الرّبّ ودمه. ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس لأنّ الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميّز جسد الرّبّ. من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون“ (1كو 11: 23- 30).

 

عند الآباء


قال القديس إغناطيوس عن الهراطقة:

”إنّهم يبتعدون عن الإفخارستيّا والصلَّاة لعدم اعترافهم بأن الإفخارستيّا هيَ جسد مُخلِّصنا يسوع المسيح الذي تألم لأجلنا والذي أقامه الآب بصلاحه“.[3]

وقال القديس يوستينوس الفيلسوف الشهيد:

”لاننا لا نتناولهما بمثابة خبز عادى، لكن كما أنّه بكلمة الله لما تجسد يسوع المسيح مخلصنا قد اتخذ لأجل خلاصنا لحما ودما، هكذا تعلمنا أن الغذاء الذي شكر عليه بدعاء كلامه وبه يغتذى لحمنا ودمنا بحسب الاستحالة هو لحم ودم ذلك المتجسد“.[4] ”وبعد أن يتمم الخادم الشكر ويقول الشعب ”آمين“ يناول الشمامسة جميع الحاضرين من الخبز والخمر والماء، ويحفظون جزءًا من التقدمة للغائبين“.[5]

وقال القديس إيرينئوس عن الهراطقة:

”كيف يستطيعون أن يدركوا أنّ الخبز الذي عليه تمّ الشكر هو جسد الرب، وأنّ هذه الكأس هيَ كأس دمه، ما لم يفهموا أنّه هو ابن صانع العالم“.[6]

وقال أيضًا:

”لو كانوا يتناولون الكأس وهيَ ممزوجة بالماء ويتناولون الخبز وهو معد ككلمة الله ذاته، ولو كانت لهم هكذا شركة الخبز والخمر سرّ شكر جسد المسيح ودمه اللذين يغذيان ويثبتان وجود جسدنا، فكيف يستطيعون أن يقولوا إنّ هذا الجسد الذي يغتذى من جسد المسيح ودمه لا يشترك بموهبة الله الذي هو الحياة الأبديّة“.[7]

وقال القديس كيرلس الأورشليميّ:

”لكونه هو نفسه تكلم وقال عن الخبز هذا جسدي فمن يجسر بعد ذلك أن يرتاب، ولكونه هو نفسه ثبت وقال هذا هو دمي فمن يتوهم أو يقول إنّه ليس دمه؟ لإنّ الذي حوَّل من الماء إلى خمر في قانا الجليل بإشارته، أفليس مصدقًا إذا قال إنّه حوَّل الخمر إلى دم؟ وقد دعى إلى عرس جسدي فصنع فيه تلك العجيبة الفائقة. فكيف لا نعترف له بالأحرى بأنّه منح بني العرس التمتع بجسده ودمه؟ فلنتناولهما إذًا باليقين التام أنّهما جسد المسيح ودمه. لإنّه برسم الخبز يعطى لك الجسد، وبرسم الخمر يعطى لك الدم، لكي بتناولك من جسد المسيح ودمه تصير متحدًا معه جسدًا ودمًا. لإنّنا بهذه الحالة نصير لابسي المسيح، أي بامتزاج جسده ودمه في أعضائنا، وبهذه الواسطة نصير مشاركي الطبيعة الإلهيّة كما يقول بطرس المغبوط. فلا تنظر إذًا إلى الخبز والخمر كأنّهما عاديان، إذ هما جسد ودم حسب القول السيديّ. لإنّه وإن كان الحسّ يظهرهما لك عاديّين لكن الإيمان يحقّق لك أنّهما جسد ودم. فلا تحكم إذًا بحسب الذوق الحسّيّ بل تحقق من الإيمان وتأكد بلا ارتياب أنّك قد أُهِلت لجسد المسيح ودمه“.[8]

وقال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:

”كم منكم يقول الآن ليتني كنت أرى هيئة الرّبّ وشكله وملابسه. أنت تنظر وتلمسه وتأكله هو نفسه، وأنت تشتهي أن ترى ملابسه مع أنّه هو يعطيك ذاته، لا لتراه فقط بل لتلمسه أيضًا ولتأكله ولتأخذه في داخلك، فلا يتقدّم أحد غافلًا ولا متراخيًّا، بل فلنبادر جميعنا بحماسة وحمية ونهضة.. ويجب أن نكون من كلّ جهة ساهرين، لأن القصاص المعدّ للمشتركين على خلاف الاستحقاق ليس صغيرًا. تفطن كم أنت تتمرمر من الذي خانه ومن الذي صلبوه. فاحترس إذًا من أن تصير أنت أيضًا مجرمًا في جسد المسيح ودمه. فإنّ أولئك قد ذبحوا الجسد الكلّيّ قدسه، وأمَّا أنت فتقتبله حينئذ بنفس دنسة بعد إحسانات كثيرة جدًّا. لإنّه لم يكتف بأن يصير إنسانًا ويُضرَب ويُذبَح عنّا، بل أن يمزج ذاته فينا، لا بالإيمان فقط بل بالفعل أيضًا، جاعلًا إيانا جسدًا له، أفلا ينبغي ألَّا نكون أقل نقاوة من الذي يتمتع بهذه الذبيحة. وأي شعاع شمسيّ يجب ألَّايكون أقل بهاء من اليد التي تقطع هذا الجسد، والفم الذي يمتلىء من النار الروحانيّة، واللسان الذي يصطبغ بالدم المخوف؟ فتأمّل الكرامة التي كُرِّمتها والمائدة التي تتمتع بها. إنّ الذي تنظر اليه الملائكة وترتعد ولا تجسر أن تحدِّق به بلا خوف من البرق الساطع منه، هذا نفسه نحن نغتذي به، وبه ننعجن وقد صرنا جسدًا واحدًا للمسيح لحمًا ودمًا. من يتكلم بعظائم الرّبّ ويجعل تسابيحه مسموعة؟ أي راع يغذي خرافه بأعضائه. وما لي أذكر الراعي. كثيرًا ما دفعت أمهات أولادهن بعد أوجاعهن إلى مرضعات أخر. وهو لم يطق أن يفعل ذلك، بل شاء هو نفسه أن يغذينا بدمه ويجعلنا مرتبطين ومتحدين بذاته بكلّ الوسائط“.[9]

وقال المطوَّب أمبروسيوس:

”هذا الجسد الذي نقدِّمه في سرّ الشكر قد جاء من البتول. ولماذا تبحثون هُنا وتطلبون العمل الطبيعيّ والموضوع هو جسد يسوع المسيح. أفلم يولد الرّبّ نفسه من البتول بحال تفوق الطبيعة. هذه هيَ بشرة يسوع المسيح المصلوبة والمدفونة. فهذا هو إذًا سرّ الجسد بعينه بكلّ الحقيقة“.[10]

كأنّه يقول كيف آمنتم بسر تجسده الفائق الطبيعة ثمّ تحاولون وضع سرّ الشكر تحت البحث العقليّ فقط مُجرّدًا من الإيمان. والخلاصة أنّ هذا الإيمان هو إيمان جميع الآباء في كلّ عصر منذ نشأت الكنيسة حتّى الآن، تجد هذا التعليم في مؤلفات القديس إكليمندس السكندريّ (كتاب المربى 1: 61، 11: 5) والعلامة ترتليانوس في (كتابة ضد مركيون 5: 8) وديوناسيوس السكندريّ في (مجمع القوانين) والقديس باسيليوس في (رسالته 93) والقديس أبيفانيوس والقديس كيرلس السكندريّ في (تفسير يوحنا 20: 37 وضد نسطور 4: 5: 6) وغيرهم من الآباء.

وفي رسالة القديس كيرلس بطريرك الإسكندريّة إلى نسطور:

”إنّنا ننادي بأنّ ابن الله الوحيد ربنا يسوع المسيح مات بالجسد، ونقرّ بقيامته وبصعوده إلى السموات، فنتمّم في الكنائس الذبيحة غير الدمويّة، وهكذا نقترب من الأسرّار المباركة ونتقدّس إذ نشارك جسد يسوع المسيح مخلِّصنا المُقدّس ودمه الكريم.. لكن لا ينبغي أن ننظر إلى جسده كما إلى جسد إنسان يماثلنا من كلّ الوجوه في أهوائنا، بل يجب أن نوقن أنّه بالحقيقة جسد الذي قد صار لأجلنا ابن الإنسان نفسه“.[11]

وشهادة القديس كبريانوس الذي يقول:

”إنّنا نحثهم ونحرضهم على الجهاد ولا نتركهم بلا سلاح، بل نحصنهم بالسلاح الكامل وهو جسد ودم المسيح، لأنّنا كيف نعلم أن ندعو إلى الاعتراف باسمه أن يهرقوا دمهم إذا كنّا لا نمنح دم المسيح للمجاهدين عنه؟“.[12]

 

هل الإفخارستيّا مجرد ذكرى؟


من قول السيد: ”خذوا كلوا هذا هو جسدي ـ خذوا اشربوا هذا هو دمي“..

يتضح لنا أن الإفخارستيّا هيَ جسد حقيقيّ ودم حقيقيّ لربنا يسوع المسيح وليست رموزًا. أي أنّ الخبز الذي قدّمه يسوع إلى تلاميذه، لا يرمز لجسده ولكن هو جسده، كذلك عصير الكرمة لا يرمز إلى دمه، بل هو دمه. وما يؤكِّد لنا هذا:

1 ـ إنّ اسم الإشارة ”هذا“ يعود على الخبز الذي في يد الرّبّ وكذلك في حالة الكأس.

2 ـ إنّ الكلمة المترجمة ”هو“ في الأصل اليونانى للأناجيل الثلاثة تأتي كفعل ”يكون“ أي عبارات السيد المسيح تُترجم هكذا: هذا يكون جسدي، هذا يكون دمي.

3 ـ استخدام الفعل ”يكون“ هنا لا يترك أي مجال للتفكير في الرمزية للجسد والدم بالخبز والخمر.

4 ـ في (1كو16:10) يؤكِّد الرسول بولس على أن الأكل من الخبز والشرب من الكأس في سرّ الشكر الإلهيّ، هما شركة حقيقيّة في جسد ودم المسيح.

5 ـ وفي (1كو27:11) يذكر أن من يتناول بدون استحقاق من سرّ الإفخارستيّا هو مذنب أمام نفس جسد ودم المسيح وليس أمام شيء مماثل لهما.

6 ـ وفي (يو53:6) أشار السيد إلى أن من لا يأكل جسد ابن الإنسان ويشرب دمه -وليس من شيء مماثل لهما- لن تكون له حياة.

7 ـ يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره لإنجيل لوقا الإصحاح (22):

لا تشك فإنّ هذا حق، مادام يقول بنفسه وبوضوح: ”هذا يكون جسدي“، ”هذا يكون دمي“ بل تقبل كلمة المخلص بإيمان إذ هو الحق الذي لا يمكن أن يكذب“ [13].

9 ـ في الرشومات الأخيرة في القداس الباسيليّ يقول الكاهن:

”جسد مُقدّس ودم كريم حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا آمين، مُقدّس وكريم جسد ودم حقيقيّ ليسوع المسيح ابن إلهنا آمين، جسد ودم عمانوئيل إلهنا هذا هو بالحقيقة آمين “. وفي كلّ مرة يرد الشعب آمين“[14].

10 ـ وأخيرًا هذه الحقيقة الإيمانية يعبر عنها الفن القبطيّ، عندما يرسم في أيقونة العشاء السرّيّ ”سمكة“ حيث السمكة باللغة اليونانية ترمز للحروف الأولى للعبارة ”يسوع المسيح ابن الله مخلص“. أي أن هذا الذي يُقدَّم في سرّ الشكر الإلهيّ هو نفسه يسوع المسيح ابن الله.

أخيرًا في وصية السيد ”..هذا أصنعوه لذكري“ (لو19:22) لا يطلب يسوع من تلاميذه في كلّ مرة يتممون فيها سرّ الشكر الإلهيّ أن يتذكروا فقط هذه الإفخارستيّا التي يقيمها معهم الآن، ولكن يطلب أن يتذكروا أيضًا كلّ حضوره بينهم، أي تجسُّده، حياته، موته، قيامته، صعوده إلى السموات، ومجيئه الثاني.

ووفقًا لرأي الأسقف بولس البوشي (ق13)، فإنّ السيد بقوله هذا، يأمرنا باستمراريّة ممارسة الفصح الخلاصيّ (أي سرّ الشكر الإلهيّ) كما سلّمه لنا بنفسه، كرئيس الكهنة الأعظم. هذا السرّ يجب أن يُتمّم، ليس كذكرى لنبي أو لرسول ما، ولكن لتذكُّر رّبّ المجد نفسه وحتّى مجيئه الثاني[15].

أي لا ننظر هُنا إلى حدث تسليم الجسد والدم على أنّه عمل أخير ليسوع قبل آلامه وموته، ولكن على أنّه بداية الحياة السرائريّة للكنيسة، والتي يمثل سرّ الشكر فيها مركز هذه الحياة.

هذا وكلمة الذكرى في اللغة اليونانيّة لا تعني مجرّد التذكُّر الذهنيّ لأمر حدث في الماضي، بل تحمل أيضًا إعادة تحقيقه. إذًا التذكُّر هنا يعني تذكُّر المسيح المتجسّد، المصلوب، القائم من الأموات، لا كحدث تمّ في الماضي وانتهى، بل كحدث مُعاش وذلك بتقديم ذبيحة جسده ودمه الحقيقيّة.

ويُضاف إلى ذلك أنّ الفعل ”اصنعوا“ (هو فعل أمر مستمر في المبني للمعلوم) يعني أنّ إتمام سرّ الإفخارستيّا يكون بصورة مستمرة.

وأخيرًا نقول إنّه كما طلب الرسول بولس من أهل كورنثوس كلّما أكلوا من جسد الرّبّ وشربوا من دمه أن يخبروا بموت الرّبّ إلى أن يجيء (انظر 1كو26:11). هكذا المؤمنين الآن باشتراكهم في سرّ الشكر الإلهيّ، يبشرون بموت المسيح وينتظرون مجيئه الثاني المُمجد، عندما يرتلون من بعد الترديد لكلمات السرّ التأسيسيّة.

 ”حقًا حقًا حقًا يارب بموتك نبشر، وبقيامتك المُقدّسة وصعودك إلى السموات نعترف، نسبحك، نباركك، نشكرك يارب، ونتضرع إليك يا إلهنا“[16].

 

متى يتمّ التقديس


من البديهي أنّ الأرثوذكسيّين والكاثوليك يفهمون (وقت) تقديس القرابين بشكل مختلف.

فحسب اللاهوت اللاتينيّ، يتمّ التقديس عن طريق كلام التأسيس أي: (هذا هو جسدي... هذا هو دمي).

أمّا حسب اللاهوت الأرثوذكسيّ، فإنّ فعل التقديس لا يكتمل قبل استدعاء الروح القدس. وتُحرّم الكنيسة الأرثوذكسيّة تكريم القرابين المُقدّسة قبل هذه اللحظة.

لكنّ التعاليم الأرثوذكسيّة لا تقول بإنّ التقديس يتم من طريق استدعاء الروح القدس فقط، ولا تعتبر أنّ كلام التأسيس كلامًا عابرًا أو قليل الأهمّيّة. إنّها بالعكس من ذلك تعتبر قانون الشكر كُلًا لا يتجزّأ، حيث إنّ أقسامه الرئيسيّة الثلاثة، أي صّلاة الشكر، وذكرى حياة المسيح، واستدعاء الروح القدس، تُشكِّل جزءًا لا يتجزّأ في فعل واحد هو فعل التقديس.

ولكن إذا جاز اختيار وقت معيّن للتقديس، فلابد أن يكون بعد الانتهاء من تلاوة عبارة: آمين في آخر صّلاة استدعاء الروح القدس.


مفهوم الاستحالة


كلمات استدعاء الروح القدس تدل دلالة واضحة على أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تؤمن بأنّ الخبز والخمر يستحيلان حقيقة بعد التقديس إلى جسد المسيح ودمه، وأنّهما ليسا رمزين لهذا الجسد وهذا الدم بل هما الجسد والدم عينهما. ولكن مع تأكيدها على حقيقة الاستحالة، لم تحاول الأرثوذكسيّة قط تفسير الطريقة التي تجري بها. والعبارات المستخدمة في قانون الشكر للدلالة على هذا الأمر، أي: (ناقلًا إياهما) لا تُعطي أي توضيح.

وصحيح أنّ بعض الكتّاب الأرثوذكسيّين في القرن السابع عشر، وحتّى بعض المجامع (مثل مجمع أورشليم لعام 1672)[17] استخدموا عبارة (استحالة الجوهر- Transubstantiatio) اللاتينيّة، كما استعملوا التمايز الذي تحدثت عنه المدرسة السكولستيكيّة بين الجوهر والأعراض. لكن المجتمعين بمجمع أورشليم أضافوا في الوقت نفسه قولهم بإنّ استخدام مثل هذه التعابير لا يعني تفسيرًا للطريقة التي تتمّ بها الاستحالة، لأنّ ذلك سرّ ينبغي أن يظل دائمًا غير مفهوم!

تميِّز فلسفة العصر الوسيط بين الجوهر (الذي يكوّن الشيء، ويجعله ما هو عليه) والأعراض أو الصفات التي تخصُّ الجوهر (أي كلّ ما تدركه الحواس: الحجم، الوزن، الشكل، اللون، الذوق، الرائحة الخ...).[18] والجوهر شيء موجود بذاته (ens per se)، أمّا الأعراض فموجودة في داخل شيء غيرها ليس إلاّ (ens in alio).

إذا ما طبقنا هذا التمايز على الإفخارستيّا، فإنّنا نصل إلى عقيدة (استحالة الجوهر). وفق هذه العقيدة، عند تقديس القرابين في القداس الإلهيّ يحدث تغيير في الجوهر في حين تظل الأعراض هيَ هيَ. فجوهرا الخبز والخمر يتغيّران إلى جوهريّ جسد المسيح ودمه، لكن أعراض الخبز والخمر، أي لونهما ورائحتهما إلخ...، تستمر في الوجود على نحو عجائبيّ وتبقى خاضعة لإدراك الحواس. لكن على الرغم من هذا، أحسّ الكثيرون من الأرثوذكسيّين بأنّ مجمع أورشليم هذا قد ذهب بَعيدًا في التوافق مع التعبير اللاتينيّ والسكولستيكيّ.

وفي السنة الـ1838 أصدرت الكنيسة الروسيّة ترجمة لأعمال مجمع أورشليم، استعملت فيها تعبير (Transubstantiatio) لكنها تجنّبت ذكر تعابير الجوهر والأعراض، وذلك من طريق تحوير النص الأصليّ.[19]

والكتّاب الأرثوذكسيّون المعاصرون ما زالوا يستخدمون تعبير (استحالة الجوهر) ولكن مع التشديد على نقطتين:

أولًا، يمكن استخدام الكثير من الكلمات الأخرى، وبشكل مشروع، للدلالة على التقديس. من هذه الكلمات، ليس لتعبير (استحالة الجوهر) سلطة حاسمة.

ثانيًا، استخدام العبارة بالضرورة قبول معانيها الفلسفيّة الأرسطوطاليّة. والموقف الأرثوذكسيّ العام بشأن هذه القضية موجز بوضوح في (التعليم الديني الموسّع) الذي كتبه فيلاريت، متروبوليت موسكو (1782- 1867)، والذي أقرّته الكنيسة الروسيّة السنة الـ1839:

”سؤال: كيف ينبغي أن نفهم عبارة (استحالة الجوهر)؟

جواب: ..... كلمة (استحالة الجوهر) لا تحدّد الطريقة التي يتغيّر بها الخبز والخمر إلى جسد الرّبّ ودمه. فهذا لا يستطيع أن يفهمه أحد غير الله. لكن الكلمة تدل فقط على أن الخبز يتحوّل في الواقع والحقيقة والجوهر إلى جسد ربنا يسوع المسيح والخمر يصبح الدم الحقيقيّ للرّبّ“.

وكذلك يذكر (التعليم الدينيّ الموسّع) استشهادًا من يوحنا الدمشقيّ:

”إذا كنتم تسعون لمعرفة كيف يتمّ ذلك، يكفي أن تعلموا بأنّ ذلك يتمّ بواسطة الروح القدس... ولا نعرف شيئًا أكثر من أنّ كلام الله صحيح وفاعل وكلّيّ القدرة، ولكنه يفوق الإدراك“.[20]

وهكذا، فإنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ يرفض اللاهوت الكاثوليكيّ الذي يقول إنّ ما يتحوّل في الافخارستيّا هو فقط جوهر الخبز والخمر فيما أشكال الخبز والخمر تبقى على ما هيَ عليه، كما يرفض اللاهوت اللوثريّ الذي يقول بوجود جوهرين معًا. فالمسيح، في نظر اللاهوت الأرثوذكسيّ، لا ينزل من السماء ليحتجب تحت أشكال الخبز والخمر، كما يقول الكاثوليك، ولا إلى جانب جوهر الخبز والخمر، كما يقول اللوثريّون.

يوضِّح إفدوكيموف في كتابه ”الأرثوذكسيّة“ المفهوم الأرثوذكسيّ لحضور المسيح ولتحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، فيقول:

”إنّ جسد المسيح لم يعد من هذا العالم، إنّه جسد سماويّ. إنّه ليس ”في أي مكان“، لأنّه خارج المكان ويسمو كلّ حيّز مكانيّ. ولكنه يستطيع متى شاء أن يوجد في أيّ موضع مكانيّ ويتجلّى فيه. إنّ هذا الحصر في موضعٍ ما ضروريّ لنا، وبدونه لا نستطيع أن ندخل في شركة غير المنظور. ولكنّ الجسد السماويّ ليس تحت الخبز ولا معه ولا فيه، كما يقول لوثر، ولا مكان الخبز، كما يقول الكاثوليك، بل هو هذا الخبز: ”هذا بعينه هو جسديّ“. حسب القديس إيرينيئوس: "إنّ الخبز الافخارستيّ، باستدعاء الروح القدس، لا يحجب حضورًا آخر، بل يوحّد الطعام السماويّ وطعام الأرض، إذ يجعلهما الشيء نفسه، وتلك هيَ المعجزة".[21]

يغطس الكاهن الحملَ في دمه، وإذا هو الجسد الحيّ، وليس علامة أو خداع الأعراض. وليس هو تجسّد ثانٍ للمسيح في الأشكال، بل التحوّل الكامل، تحوّل الجوهر والأعراض إلى جسد سماويّ. ليست أعراض الخبز هيَ التي تبقى، بل حالة أعيننا التي لا تقوى على تأمل الجسد السماويّ المحافظ على خداع الأشكال. إنّ خطأ العقيدة يقوم على الاهتمام بالموضوع وليس بالشخص، بالخبز وليس بالإنسان. يجب ألاّ نحلِّل المعجزة، على غرار التحليل الكيميائيّ، تبعًا لحواسّنا. بل يجب بالحريّ أن نتّهم حواسّنا بأنّها لا ترى المعجزة الحقيقيّة، الحقيقة السماويّة. هناك شبه مع معجزة تجلّي المخلّص على جبل ثابور، فليس المسيح هو الذي يتغيّر، بل أعين الرسل التي تنفتح زهاء لحظة. يقول يوحنا الدمشقي:

”إنّ استدعاء الروح القدس يحقّق ما لا يمكن أن يقبله إلاَّ الإيمان وحده“.[22]

فمن غير المجدي أن نفلسف في هذا الموضوع. إنّ الغربيّين، في عقائدهم، يحاولون الولوج إلى قلب المعجزة وتفسير ما تعنيه. أمّا الشرقيّون فينظرون بأعين الإيمان ويرون لأوّل وهلة الجسد والدم، ولا شيء سوى ذلك.[23]

وتظلّ القرابين المُقدّسة، محفوظة في كلّ كنيسة أرثوذكسيّة فوق المذبح. ولكن لا تُعرض للعبادة، كما هو شائع في الكنيسة الكاثوليكيّة. خلال القداس الإلهيّ، يُبارك الكاهن المؤمنين بالقرابين المُقدّسة، ولكن ليس خارج هذه الفترة أبدًا.

ومن الدلائل الكتابيّة التي تُشير إلى هذا التعليم:

أولًا: من عبارات الكتاب الإلهيّ التي أوردناها سابقًا، فإنّ الرّبّ جل ذكره لما وعد بهذا السرّ قال:

”أنا هو الخبز الحى الذي نزل من السماء. أن أكل أحد من هذا يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم“ (يو 6: 51)

وحين سلّم تلاميذه هذا السرّ قال:

”كأس البركة التي نباركها أليست هيَ شركة دم المسيح الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح“ (1كو 10: 16)

وقال:

”اذن أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرّبّ بدون استحقاق يكون مجرما في جسد الرّبّ ودمه. ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس. لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب“ (1كو 11: 27- 29).

والحقيقة هنا واضحة من كلّ هذه النصوص وهيَ أن الرّبّ والرسول يسميان الخبز جسد المسيح، والخمر دم المسيح بأصرح عبارة. ولم يقل الكتاب أن جسد المسيح يكون في الخبز، أو مع الخبز، أو تحت الخبز. ولم يقل السيد أن الخبز الذي أعطيه يكون فيه جسدي، بل قال ”الخبز الذي أنا أعطى هو جسدي“.

ثانيًا: إذا راجعنا جميع كتب القداسات المستعملة في كلّ الكنائس شرقًا وغربًا، وهيَ قديمة جدًّا. نجدها كلّها متفقة في تضرعاتها على هذه الكلمات:

”ليحل روحك القدوس على هذه القرابين الموضوعة ويطهرها وينقلها ويظهرها قدسك لقديسيك. وهذا الخبز يجعله جسدا مُقدّسا له، وهذه الكأس أيضًا دما كريما للعهد الجديد الذي له.. الخ“

وهذا يدل على إيمان الكنيسة الجامعة الذي لم يتغيّر منذ القديم حتّى الآن.

ثالثا: مما ورد في أقوال الآباء التي سبق ذكرها حيث وردت فيها كلمات ”ينتقلان، يتغيران، يستحيلان“، كما قال القديس غريغوريوس:

”إنّني اعتقد وأقر بالحقيقة أنّ الخبز يستحيل اليوم أيضًا إذ يتقدّس بالكلمة الإلهيّة إلى جسد الإله الكلمة“.

وقال القديس أمبروسيوس:

”كلّما تناولنا القرابين المُقدّسة التي تتحول سرّيًّا بالطلبة المُقدّسة إلى جسد المسيح ودمه نخبر بموت الرب“.[24]

وقال القديس إفرام السريانيّ:

”إنّكم تشتركون في جسد الرّبّ الكلّيّ قدسه بإيمان كامل غير مرتابين بأنّكم تأكلون الحمل كلّه“. وقال في موضع آخر: ”إنّ جسد الرّبّ يتحد بجسدنا على وجه لا يلفظ به أيضًا ودمه الطاهر يصب في شراييننا. وهو كلّه بصلاحه الأقصى يدخل فينا“.

الإفخارستيّا هيَ جسد ربنا يسوع المسيح الذي تألم عن خطايانا، الذي أقامه الله الآب[25]. أي جسد المسيح المصلوب والمُمجد في السماء. هذا ما رآه يوحنا في السماء ” ورأيت في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح “ (رؤ6:5). وما يشدّد عليه الأب الكاهن في صّلاة الاعتراف:

أومن أنّ هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح من سيدتنا وملكتنا كلّنا والدة الإله القديسة مريم وجعله واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. واعترف الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي. وأسلمه عنّا على خشبة الصليب المُقدّسة بإرادته وحده عنا كلنا“.

ولكن حفظ الرّبّ المادة المصنوع منها الخبز من أن تتحوَّل عن شكلها الظاهر (كما تحوّل الماء خمرًا سابقًا بإرادته ـ انظر يو1:2ـ11). إذ جعل التحوُّل هُنا ليس في الشكل أو المظهر أو الطعم بل في طبيعة المادة، أي أنّ الرّبّ أعطى للخبز طبيعة جديدة وصفات جديدة لم تكن له أصلًا.

هذه الطبيعة الجديدة لا تخضع للتغيرات الماديّة ولا تدركها الحواس الجسديّة، تمامًا مثل جسد المسيح الذي كان يعيش به على الأرض. فالمسيح الإله ظهر في شكل وصورة جسد ترابيّ والحواس لم تستطع أن تدرك لاهوته. ولكن بالإيمان فقط أدرك بطرس حقيقته (انظر مت16:16).

قال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:

”هذا الجسد لما كان بعد في هذا المذود خجل منه المجوس. ورجال كفرة وبرابرة تركوا أوطانهم وبيوتهم وقطعوا طريقًا طويلة، وأتوا بخوف وارتجاف كثير وسجدوا له. فلنقتدين إذًا بالبرابرة على الأقل نحن أبناء السموات. لأنّ أولئك مع أنّهم رأوه في مذود وضمن كوخ، ولم يروا شيئًا مما تراه أنت الآن تقدموا برعب كثير. وأمَّا أنت فلست تراه في مذود بل على مذبح، ولست ترى امرأة حاملة إياه بل كاهنًا، وروحًا طائرًا على الموضوعات ونازلًا عليها بغزارة لأنّك لست تنظر الجسد وحده فقط على بسيط الحال مثل أولئك، لكنك تعلم أيضًا قدرته وكلّ التدبير، وليس خافيًا عليك شيء مما تمّم به لأنّك متعلّم جميع الأسرّار بتدقيق“.[26]

وقال المطوَّب أغسطينوس:

”ما من أحد يُشارك جسد يسوع المسيح ما لم يقدم له عبادة إلهيّة“.[27]

 

ما معنى ”أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي“؟


”وأقول لكم “إنى من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبى“ (مت29:26، مر25:14، لو18:22)

”لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتّى يكمل في ملكوت الله“ (لو16:22).

كلمات السيد هذه لا تأخذ معنى أسخاتولوجيّ (آخرويّ) غير محدّد، ولكن بالتحديد معنى كنسيّ حيث ملكوت الله هُنا يُفسر على أنّه التحقيق للكنيسة. ففي داخل الكنيسة يرى المؤمن ويتذوَّق خيرات ملكوت الله الآتي. أو بكلام آخر يعيش المؤمنين داخل الكنيسة ملكوت الله الحاضر وفي نفس الوقت ينتظرون ملكوت الله الآتى.

وبالتالى فإنّ السيد المسيح بكلماته هذه يعني أنّه بعد أن يكمل عمل الفداء بالصلب والقيامة والصعود، تتحقق الكنيسة بإرسال الروح القدس على التلاميذ وإيمان الشعوب بشخصه، فهو كما كان حاضرًا مع التلاميذ في هذه الإفخارستيّا، سيكون أيضًا حاضرًا معهم ومع المؤمنين باسمه الذين صاروا خليقة جديدة فيه في كلّ إفخارستيّا تُقام في الكنيسة:

”إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكلّ قد صار جديدًا“ (2كو17:5)

و”ها أنا معكم كلّ الأيام وإلى انقضاء الدهر “ (مت20:28).

كلمات يسوع ”إنّي لا أشرب...“ ليس لها معنى إسخاتولوجي (أخروي)، غير محدّد كما يزعم بعض المفسرين[28]، ولكن بالتحديد معنى كنسيّ، يكتب القديس كيرلس السكندريّ:

”أن يُسمّى التبرير الذي يأتي بالإيمان، والتطهير الذي يأتي بالمعموديّة، وشركة الروح القدس، والقوة التي نأخذها من الحياة بالروح، كلّ هذه يسميها ملكوت الله[29].

وأيضًا رأى سمعان بن كليل (ق12)، والذي وفقًا له فإنّ ملكوت الله يُفسر على أنّه قيامة المسيح، لأنه على الرغم من أن جسد القيامة ليس له حاجة للأكل والشرب، إلاَّ أن السيد آنذاك أكل أمام التلاميذ (انظر لو24: 41ـ43) لكي يبرهن لهم أنّه هو نفسه معلمهم الذي صلب ومات[30].

استمرارًا لعرض الآراء، نقدم رأى أسقف مصر في القرن الـ 13 بولس البوشي الذي يرى أن الكلمات السابقة التي نطق بها السيد تعني الإبطال للفصح القديم، الذي فيما عدا أنّه كان وقتيًا، كان أيضًا مثالًا مصورًا مسبقًا للفصح الجديد الأصلي. ويسوق الكاتب لتعضيد رأيه الشاهد من الرسالة إلى العبرانيين (10: 1) القائل ”لأن الناموس له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء[31].

وبحسب رأينا، فإنّ معنى الآية يتركز حول كلمةجديدًا“ (مر14: 25) التي تُظهر عمل الروح القدس في الخليقة. فالإنسان الجديد، هو الذي يعيش بحسب الروح (انظر رو8: 12ـ14)، وحتّى السماء الجديدة والأرض الجديدة هيَ أيضًا روحية (رؤ1:21). فالروح القدس الذي نأخذه عن طريق أسرار الكنيسة هو الذي يساعدنا على تحقيق حياتنا الجديدة خلال حياتنا الأرضية، أي يجعل سيرتنا الأرضية هيَ سماوية (انظر فيلبي3: 20).[32]

وبالتالي يمكن تفسير الآية كالآتي: إنّه عندما يتم الفداء ويحل الروح القدس على التلاميذ حسب وعد المسيح (انظر مثلًا: لو49:24، أع1:4، 1:2ـ4) وتتم الشهادة والكرازة باسمه في اليهودية والسامرة وفي أقصى الأرض (انظر أع8:1) ستنضم أعضاء أخرى لكنيسة المسيح، هذه الأعضاء ستصير جديدة بعمل الروح القدس فيها داخل الكنيسة، وكما كان السيد حاضرًا مع تلاميذه في إفخارستية يوم الخميس الكبير، فإنه سيكون حاضرًا أيضًا مع هذه الأعضاء الجديدة في كلّ إفخارستيّا تُقام. وما يؤكِّد هذا، أن كنيستنا القبطية تبدأ لِّيتورجيّة القديس باسيليوس (بالطقس الإسكندري)، معترفةً بحضور الله وسط شعبه قائلة:

”مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس سلامًا وبنيانًا لكنيسة الله“[33].

ومن جانب آخر، فإنّ هذا الحضور وعمل الثالوث القدوس في الكنيسة ما هو إلا دليل قوي على أن ملكوت الله قد بدأ الآن وأما استعلانه الكامل فسيكون في الدهر الآتي (انظر لو17: 20ـ21).

من كلّ التفاسير السابقة التي قدمها أباء الإسكندريّة والكتاب الأقباط للشواهد (مر14: 25، مت26: 29، لو22: 18)، يمكننا أن نلخص معنى ملكوت الله في النقاط التالية:

1 ـ هو اكتمال العهد القديم بالعهد الجديد.

2 ـ هو دخول المؤمنين إلى الحياة الجديدة عن طريق الإيمان باسم المسيح والاعتماد على اسم الثالوث.

3 ـ هو التمتع بجمال تلك الحياة الجديدة عن طريق عمل الروح القدس من خلال أسرار الكنيسة في حياة المؤمنين بمشاركتهم في حياة الكنيسة التعبدية.

4 ـ وهو انتظار قيامة الأجساد والحياة السماوية المستقبلية.

إذًا، ملكوت الله يتحقق الآن بصورة جزئية هنا على الأرض، وذلك عندما يعيش المؤمنون في شركة الروح مع المسيح، عن طريق الكنيسة، متذوقين عربون خيرات هذا الملكوت ثمّ يتحقق بصورة كاملة هناك في السماء بعد قيامة الأجساد[34].

 

مفهوم التناول باستحقاق


هذا لا يعني بطبيعة الحال، أن الاشتراك في سرّ الإفخارستيّا يتطلب استحقاق معين، فلا يوجد أحد مستحق لهذا السر، الاستحقاق يأتي فقط من خلال نعمة الله، ثمّ الاستجابة لهذه النعمة الغنية.

ولكن النص الكتابيّ هُنا يُعالج مشكلة الإنقسامات في كنيسة كورنثوس، حيث صار الجميع في عداوة، والتطهُّر المطلوب هو وحدانية القلب والروح داخل الكنيسة، فلا توجد ضغينة أو بغضة أو انقسامات أو أعمال شريرة نصنعها، ثمّ نتقدم بقلبنا الذي ملأه السواد هذا نحو المائدة السماويّة!

لكن، أي حديث عن تطهرات جسديّة أو أعمال نعملها لنكون مستحقين للتناول من جسد الرّبّ ودمه فهو حديث غريب عن الأرثوذكسيّة، فلا يمكن لأحد بقدراته الشخصيّة وبره الذاتيّ أن يتجاسر ويشترك في جسد المسيح الذي لا تجسر الملائكة أن تتقدم نحوه!

ولذلك فإنّ سرّ الإفخارستيّا كما لاحظ نيقولا كاباسيلاس:

”هو نور لمن تنقي، ونقاوة لمن هم في احتياج لتنقية، وسند للمجاهدين ضد الخطية وضد الشهوات“[35].

ولن ينال الإنسان حياة حقيقيّة، إلاّ من خلال ثباته في شخص المسيح الواهب حياة للجميع.

يقول القديس إيرينيئوس:

”كمثل النسمة للمخلوق التي تجعل الأعضاء قادرة على الحياة، هكذا الكنيسة، مذخر فيها الشركة مع المسيح“[36].

 

الإفخارستيّا سرّ الوحدة


تأتي أهمّيّة التناول من جسد الرّبّ ودمه، فالكنيسة كلها يجب أن تشترك في هذه الوليمة السمائية. هذا ما يقوله القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد في دفاعه والتي يشير فيه إلى اشتراك الجميع في التناول من الجسد والدم، قائلًا:

”في هذا اليوم الذي يُدعى الأحد، يجتمع كلّ الذين يعيشون في المدن والقرى في مكان واحد وتبدأ اللِّتورجيّا بقراءات من مذكرات الرسل، أو من كتب الأنبياء، على قدر ما يسمح به الوقت، ثمّ نقف جميعًا ونرفع صلواتنا من أجل المسيحيّين ومن أجل البشر في العالم أجمع. وعندما ننتهي من الصلوات، يقبّل كلّ منا الآخر بقبلة السلام. ثمّ يصلي الكاهن صّلاة التقديس على الخبز والخمر، ثمّ يتقدم الجميع ويتناولون من الجسد والدم. ونرسل للغائبين أيضًا مع الشمامسة[37].

ولذلك فالقانون الثاني من قوانين الرسل القديسين يعتبر:

”إنّ الذين يحضرون إلى الكنيسة ويستمعون إلى قراءات الكتاب المُقدّس.. ولا يتناولون من الأسرّار المُقدّسة، فإنّ مثل هؤلاء يُعزلون عن الكنيسة إلى أن يعترفوا ويُظهرون ثمار تليق بالتوبة“.

ذلك لأن الاشتراك في سرّ الإفخارستيّا هو ضرورة مُلحة لحياة الشركة، أو أن حياة الشركة لا تتحقق إلاّ من خلال سرّ الإفخارستيّا. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم وهو بصدّد الحديث عن احتفالات الشهداء:

”إنّ احتفالات الشهداء يستحيل أن تكتمل، إن لم تشترك الكنيسة كلها في التناول من جسد الرّبّ ودمه“[38].

هذا هو مبعث الحياة في الكنيسة أن المؤمنين يشتركون جميعًا في التناول من الأسرّار المُقدّسة المُحيية. القديس إيرينئوس أسقف ليون (القرن الثاني) يؤكِّد على هذه الحقيقيّة قائلًا:

”أجسادنا لاشتراكها في القرابين لم تعد تبقى قابلة للفساد، إذ لها رجاء القيامة الأبدية“[39].

فالإفخارستيّا هيَ ”دواء للخلود“ كما يقول الآباء. ويتحدث القديس كيرلس السكندريّ عن الإفخارستيّا فيصفها بأنها:

تحقق أسمى نموذج للاتحاد الممكن مع المسيح. لأنها تحقق الشركة في حياة الكلمة المتجسد، ليس على مستوى روحي فقط، بل أيضًا على مستوى جسدي“[40].

ثم يتساءل القديس كيرلس:

”من يمكنه أن يفصل ويفرق هذا الاتحاد الطبيعي بين المؤمنين بعضهم وبعض، هؤلاء الذين من خلال جسد المسيح الواحد المُقدّس.. ارتبطوا باتحاد مع المسيح“[41].

كل هذا يؤكِّد على أهمّيّة الثبات في المسيح من أجل تحقيق حياة الشركة. التناول من الأسرّار المُقدّسة يحقق هذا الثبات، وعليه تتحقق الوحدة بين المؤمنين. يتساءل القديس يوحنا ذهبي الفم:

ماذا يحدث للمتناولين؟ يقول: إنهم يصيرون جسد المسيح، جسد واحد وليس أجساد كثيرة. مثلما أن الخبز الواحد يُصنع من حبوب كثيرة ومتفرقة، إلاّ أنها لا تظهر بعد كحبوب، وتختفي الفروق الظاهرية فيما بينها. هكذا يكون أعضاء جسد المسيح الواحد“[42].

عندما تتحقق هذه الوحدة من خلال سرّ الإفخارستيّا، يصير على الكنيسة دور تجاه العالم، وهو إعلان المحبّة وتجسيدها كحياة والحياة كمحبّة. ولا يمكن للكنيسة أن تشهد للمحبة، ولا يمكنها أن تكون جسرًا تعبر عليه هذه المحبة إلى العالم، ولا أن تعتق الخليقة من عبوديتها لناموس الانقسام والموت، ما لم تجد كمالها في المحبة. ويؤكد الأب ألكسندر شميمن على أننا:

”لا يمكننا أن نقيم ذكرى المسيح والاتحاد بجسده ودمه والتوق إلى الملكوت الإلهيّ وحياة الدهر الآتي، ما لم نلبس حُلة المحبة. ارتداء هذه الحُلة هو شرط أساسيّ للمشاركة في الاحتفال الإفخارستي“[43].

هذا هو محتوى الحياة الجديدة، أنها حياة قائمة ومؤسّسة على الحب، وهذا ما حمل الرسول بولس على القول:

”إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبّة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن. وإن كلّ لي نبوة وأعلم جميع الأسرّار وكلّ علم. وإن كان لي كلّ الإيمان حتّى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبّة فلست شيئًا. وإن أطعمت كلّ أموالي وإن سلّمت جسدي حتّى احترق ولكن ليست لي محبّة فلا انتفع شيئًا“ (1كو1:13ـ13).

ولذلك قال اللاهوتي الروسى خومياكوف:

”إن الكنيسة محبّة تجسدت في جماعة“[44].

ولذلك فكل من يتناول من الأسرّار المُقدّسة عليه التزام نحو محبّة القريب والسعي نحو خدمته وتغطية احتياجاته. القديس يوحنا ذهبي الفم يتكلم عن مذبحين، واحد نعرفه كلنا ونكرمه وهذا هو المذبح الموجود داخل الكنيسة، لكن هناك مذبح آخر نحن نجهله ونحتقره ولا نلاحظه ولكننا نستطيع أن نقدم على هذا المذبح ذبائح كلّ يوم، المذبح الآخر، هم الفقراء والذين هم في ضيقة[45].


الإفخارستيّا ذبيحة


تؤمن الكنيسة الأرثوذكسيّة أن الإفخارستيّا هيَ ذبيحة. والتعليم الأرثوذكسيّ بهذا الشأن واضح جدًّا في النص اللِّتورجيّ نفسه:

(التي لك، مما لك، نقدمها لك، على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء).

(التي لك مما لك): الذبيحة التي تُقدم في الإفخارستيّا هيَ المسيح نفسه، والمسيح نفسه هو الذي يقوم في الكنيسة بفعل التقدمة. فهو الكاهن والضحية في آن واحد:

(أنت الموزِّع والموزَّع... والمقرِّب والمقرَّب...) {صّلاة الكاهن قبل الدورة الكبرى}.

2) (نقدمها لك): الإفخارستيّا تُقدم لله الثالوث ليس للآب فقط، بل كذلك للروح القدس وللمسيح نفسه. هكذا حين نسأل: ما هيَ ذبيحة الإفخارستيّا؟ ومن ذا الذي يقدمها؟ وإلى من تُقدَّم؟ فالجواب في كلّ مرة هو: المسيح.

3) (على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء): إن الإفخارستيّا حسب اللاهوت الأرثوذكسيّ ذبيحة تكفير تُقدم عن الأحياء والأموات.

فذبيحة المسيح إذًا هيَ الذبيحة التي تُقدم في الإفخارستيّا، ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟ نظريات اللاهوتيّين عديدة بهذا الشأن، والكنيسة رفضت بعضها باعتبارها غير ملائمة، لكنها لم تدعم قط بصورة نهائية أيًا من هذه النظريات. ويوجز نقولا كباسيلاس الموقف الأرثوذكسيّ كما يلي:

”أولًا، الذبيحة ليست مجرد صورة أو رمز، بل هيَ ذبيحة حقيقيّة. حمل الله ذُبح مرة واحدة وإلى الأبد... ولا تتمثل الذبيحة في الإفخارستيّا في إراقة دم الحمل، بل بتحويل الخبز إلى الحمل المذبوح“.[46]

والإفخارستيّا ليست إحياء لذكرى ذبيحة المسيح أو تصويرًا خياليًّا لها، بل هيَ الذبيحة الحقيقيّة عينها. لكنها ليست بذبيحة جديدة، كما أنها ليست تكرارًا لذبيحة الجلجلة إذ أن الحمل ذُبح (مرة واحدة وإلى الأبد). جميع عناصر ذبيحة التسبيح، التجسد، والعشاء الأخير، والصلب، والقيامة، والصعود، لا يجري تكرارها في الإفخارستيّا، بل هيَ معاشة من جديد.

”خلال القداس الإلهي، وبفعل قوته الإلهية، نُقذف إلى نقطة تلتقي فيها الأبدية مع الزمان. عند هذه النقطة نصبح معاصرين حقيقيّين للأحداث التي نحيي ذكراها“.[47]

”وجميع العشاءات السرّيّة المُقدّسة في الكنيسة ليست سوى عشاء سرّي واحد أزلي فريد، عشاء المسيح في العلّية. فالفعل الإلهيّ نفسه وقع مرة في فترة محدّدة من التاريخ ويُعاد إحياؤه دائمًا في السرّ المُقدّس“.[48]

فقد قال القديس إغناطيوس:

”إنّ جسد الرّبّ يسوع واحد. دمه المهرق عنّا واحد. خبز واحد كُسِر. وكأس واحد وزعت للجميع. ومذبح واحد لكلّ الكنيسة“.[49]

وقال المطوَّب كبريانوس:

”إنّ دم المسيح لا يُقدّم ما لم يكن في الكأس خمر. وتقديس ”ذبيحة الرب“ لا يتمّ قانونيًّا ما لم يكن ”قرباننا وذبيحتنا“ مطابقين لآلامه.. لأنّه إذا كان إلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح وهو رئيس الكهنة العظيم للآب قد قدّم نفسه ضحية وأمرنا أن نصنع ذلك لذكره فلا يتمّم الكاهن على الحقيقة عمل المسيح ما لم يعمل كما عمل يسوع المسيح نفسه. أعني أن يقدّم في الكنيسة للإله الآب ”الذبيحة الحقيقيّة بتمامها“ متبعا في ذلك مثال المخلص نفسه“.[50]

وقال القديس غريغوريوس:

”لإنّ المدبّر لكلّ شيء بحسب سلطانه السيديّ لم ينتظر الاضطرار الناتج عن الخيانة ولا هجوم اليهود اللصيّ، ولا محاكمة بيلاطس الخارجة عن الشريعة، كي لا يكون شرّ هؤلاء بدءًا لخلاص الناس العام وعلّة له. لكنه بتدبيره قد سبق هجومهم وهو نفسه قدّم ذاته قربانًا وذبيحة عنّا بعمل التقديس الذي لا يُنطق به، غير المنظور من البشر إذ هو كاهن وحمل الله الرافع خطية العالم. وإن سألت متى كان هذا؟ أجيبك. أنّه كان عندما جعل جسده مأكلًا بصريح العبارة وأعطاه للأكل وصارت ذبيحة الحمل كاملة. لإنّه لو كان الجسد ذا روح لما كان ضحية تصلح للأكل. فلما منح تلاميذه أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه ”ضحى جسده بوجه لا ينطق به وغير منظور. مدبرًا هذا السرّ كما أرادت سلطته“.[51]

وقال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:

”ألسنا نحن نقدِّم كلّ يوم قرابين؟ نعم نقدِّم ولكننا نصنع تذكار موته، وهذه الذبيحة ”التي كلّ يوم نقدّمها هيَ واحدة لا أكثر لأنّه قدَّم مرة واحدة مثل الذبيحة التي كانت تُقدَّم إلى قدس القديسين. وكما أنّه هو رسم لتلك هكذا هذه ”الذبيحة“ رسم لها. لإنّنا نقدِّمه نفسه دائمًا حملًا واحد، ولا نقدِّم الآن خروفًا آخر بل الحمل نفسه دائمًا. ”فالذبيحة“ إذًا هو واحدة. أو هل المسحاء كثيرون لأن ”الذبيحة“ تقدّم في كنائس كثيرة؟ حاشا. لأنّ المسيح واحد في كلّ مكان، وهو هُنا بكليته جسدًا واحدًا، كما أنّه يقدَّم في أماكن متعدّدة ولا يزال جسدًا واحدًا لا أجسادًا كثيرة، هكذا ”الذبيحة“ أيضًا واحدة هيَ“.[52]

ونجد مثل هذه الاقوال في تعاليم جميع آباء الكنيسة شرقًا وغربًا.

بالتعبيرات ”هذا يكون جسدي“، ”هذا يكون دمي“ يريد السيد أن يوضِّح لنا أن الإفخارستيّا هيَ ذبيحة، إذ وفقًا للطقوس اليهوديّة، فإنّ المصطلحات ”جسد“ (لحم)، و”دم“ تدل على العناصر التي تتكوَّن منها الذبيحة، والتي يجب أن تقدَّم إلى الله على المذبح، فتعمل محرقاتك اللحم والدم على مذبح الرّبّ إلهك. أما ذبائحك فيسفك دمها على مذبح الرّبّ إلهك، واللحم تأكله“ (تث11: 27).

أيضًا العبارات ” مبذولًا عنكم... مسفوكا عنكم وعن كثيرين “ تجعلنا نعترف بالخاصية الكفارية والخلاصيّة للإفخارستيّا، فجسد المسيح دائمًا في حالة بذل، ودم المسيح دائمًا في حالة سفك، وذلك ”لمغفرة الخطايا“ كما يقول الإنجيليّ متّى (26: 28)، ولكي ”يهب حياة للعالم“ كما يقول الإنجيليّ يوحنا (6: 33).

هذا، وإنه لمن الواضح، أن كلمة ” كثيرين “ هنا ليس لها معنى محدود، ولكن متسع، أي أن جسد المسيح مبذول ودمه مسفوك لأجل كلّ البشر عامة، ولأجل كلّ واحد وحده خاصة، في كلّ مكان على الأرض، وعلى مر العصور كلها، وحتّى نهاية هذا العالم[53].

وعلى أي الأحوال، فإنّ التعبيرات الإنجيلية ” من أجل كثيرين“ (مر14: 24، مت26: 28) ” عنكم“ (لو22: 20) ” من أجل حياة العالم“ (يو6: 51) تُحضر إلى ذهننا كلمات الإصحاح 53 لإشعياء، حيث السيد المسيح يُصَوَر كالعبد المتألم الذي ” حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين “ (أش53: 12).

هذه الخاصية الخلاصية لسرّ الإفخارستيّا، يشدّد عليها كلّ كاهن قبطي أثناء نطقه بالاعتراف، وقبل أن يناول المتقدمين للشركة كالآتي: ”أؤمن، أؤمن، أؤمن وأعترف إلى النفس الأخير، أن هذا هو الجسد المحيي لابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.. يعطى عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه“[54].

أيضًا، في كنيستنا القبطية الأرثوذكسيّة يحافظ الكاهن على الطقس كما مارسه السيد، إذ يناول المؤمنين الجسد أولًا ثمّ الدم، مؤكدًا بهذا على حقيقة كون الإفخارستيّا ذبيحة.


تُقدَّم عن الأحياء والأموات


إنّ الكنيسة مجتمعة لها سلطان على كلّ الخليقة، إذ هيَ جسد المسيح، أي امتداد لتجسُّد الله وسط العالم، فلها ما للمسيح من سلطان إلهيّ (يو14: 12)، لذا فهي تغفر الخطايا، وتشفي المرضى، وتقيم المائتين في الخطايا وفي موت الجسد أيضًا،[55] وتشفع حتّى في المائتين، وهذا بحسب إيمان كنيستنا. لكن فوق كلّ شيء، نحن لا نتحكم في هذه الأمور بشكل آلي، بل نؤمن بها ونصدقها، ونترك البقية لمراحم الله.

قال العلامة ترتليانوس:

”إنّها تُقدّم عن الأحياء والأموات“.[56]

وقال المطوَّب كبريانوس:

”إنّها تُقدّم عن الأموات“.[57]

وقال القديس كيرلس الأورشليميّ:

”إنّها ذبيحة استغفاريّة. وإنّنا نقدِّم المسيح مذبوحًا لأجل خطايانا، مستغفرين الإله المُحبّ البشر عنا (الأحياء) وعنهم (الذين رقدوا)“.[58]

وقال القديس يوحنا ذهبيّ الفم

”لإنّه لم يرتب هذا الترتيب على بسيط الحال، ولا باطلًا نذكر المتوفين على الأسرّار الإلهيّة، ونأتي متضرعين لأجلهم للحمل الموضوع الرافع خطية العالم، بل لكي تحصل من ذلك تعزية لهم. ولا عبثًا يصرخ الواقف على المذبح عند تتميم الأسرّار الرهيبة من أجل جميع الراقدين بالمسيح والذين يصنعون التذكار من أجلهم. ولو لم يقم التذكار من أجلهم لما قيلت هذه الكلمات. فلا نكل إذًا في مساعدتنا الراقدين بتقديمنا الصّلوات من أجلهم لأنّ التنقية العامة لكلّ المسكونة هيَ حاضرة. ولهذا نتجاسر أن نطلب من أجل المسكونة وقتئذ وندعو للراقدين والشهداء والمعترفين والكهنة“.[59]

وفي محل آخر يشهد أن اقامة التذكارات في سرّ الإفخارستيّا عن الراقدين شريعة رسوليّة ويقول:

”لم يشرع عبثًا من الرسل إقامة تذكار الراقدين حين تتميم الأسرّار الرهيبة لأنّ الرسل يعرفون أنّ للراقدين ربحًا عظيمًا ونفعًا جزيلًا من ذلك“.[60]

ويقول القديس كيرلس الأورشليميّ:

”ثمّ بعد أن نتمّم الذبيحة الروحيّة والعبادة غير الدمويّة نتضرّع إلى الله تجاه ذبيحة الاستغفار هذه من أجل سلامة الكنائس عمومًا، ومن أجل الملوك، ومن أجل الجنود والمحاربين معهم، من أجل الذين في الأمراض، ومن أجل المتعبين، وبالأحمال من أجل جميع المحتاجين إلى مساعدة.فنطلب نحن جميعًا ونقدِّم هذه الذبيحة“.[61]

 


[1] إيرينئوس: ضد الهرطقات 4: 18: 14.

3 القديس غريغوريوس اللاهوتي: عظة على عيد الخمسين 12:41، P.G. 36, 445B.

[3] رسالة إلى أزمير 7.

[4] الدفاع الأوّل 1: 16؛

[5]  الدفاع الأوّل، 1: .85

[6] ضد الهرطقات 4: 18، 4و5.

[7] ضد الهرطقات 5: 2، 4: 17: 5،23: 2.

[8] في الأسرّار 4: 1- 6.

[9] تفسير متّى مقالة 82: 4 و5.

[10] في الأسرّار 9: 53، 8: 37 و48.

[11] ذُكِرَ في مجمع أفسّس الجلسة الأولى.

[12] رسالة 54، اقرأ أيضًا: كيرلس الأورشليميّ في (الأسرار4: 3 و6)، والقديس يوحنا ذهبيّ الفم في (مقالة 82 على تفسير متّى)، والقديس أمبروسيوس في (الأسرار8: 58)، والقديس إيرينئوس (ضد الهرطقات 4: 18: 5، 5: 2)، وترتليانوس في (قيامة الأموات فصل 8).

[13] PG72, 912.

2 الخولاجى المُقدّس، إعداد القمص إسيذوروس البراموسيّ، ص 184ـ185.

19 انظر مقالات الأنبا بولس البوشي، عن الصلب، ص 60.

6 الخولاجى السابق، ص 158.

[17] مجمع للكنائس الأرثوذكسيّة الخلقيدونيّة، لا تعترف به كنيستنا القبطيّة.

[18] راجع ما ذكرناه في شرح فلسفة أرسطو في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

[19] فالكنيسة انتقائيّة فيما يخصّ المجامع المحليّة.

[20] في الإيمان الأرثوذكسي، 4، 13.

[21] ضد الهرطقات 4: 34.

[22] المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، 4: 13.

[23] Evdokimov. Le orthodoxie, pp. 246: 248.

[24] في الإيمان 4: 10: 124.

3 الرسالة إلى أزميرـ عن كتاب الآباء الرسوليّين لمطران حلب إلياس معوض، ص 135.

[26] عظة على تفسير 1كو 24: 5.

[27] على مزمور 98.

[28] F.X.P. LEBEAU ” Les Paroles eschatolgiques de Jésus á la céne (mt26, 19) dans L’exégés Patristique st. Patr VII, 1966 P. 516 – 523.

13 تفسير إنجيل لوقا P.G. 72, 905. انظر أيضًا الترجمة العربية، الجزء الخامس، ص 106.

13 انظر مخطوط 31 لاهوت، ورقة 298 ظ.

15 انظر مقالات الأنبا بولس البوشي، عن الصلب، إصدار القمص منقريوس عوض الله، القاهرة 21972، ص 178.

[32] القس المتنيح صموئيل وهبه، مقال بدورية المركز الأرثوذكسيّ للرداسات الآبائيّة.

16 انظر ”الخولاجي المُقدّس وخدمة الشماس” ص 115.

[34] P.Vassiliadis , ” Orthodxy and Ecumenism ” Thessaloniki 1996 , p. 161.

4 نيقولا كاباسيلاس: ”الحياة في المسيح” P.G. 150, 596A.

5 ضد الهرطقات: 1:24:3.

[37] يوستينوس: الدفاع الأوّل 67:1: 3ـ5.

[38] عظة عن الشهداء 59.

[39] عن كتاب ” كلمات حول الإفخارستيّا”، سرّ الشكر في الكنيسة للمطران جورج خضر ص 59.

[40] P.G. 74, 809 CD.

[41] P.G. 74, 560B.

[42] عظة 24 على كورنثوس الأولي.

[43] ألكسندر شميمين: الإفخارستيّا سرّ الملكوت، ص203ـ204.

8 ألسكندر شميمن: الإفخارستيّا سرّ الملكوت، منشورات النور، لبنان1993، ص 203.

[45] كلمات حول الإفخارستيّا: ” شركة الإفخارستيّا المُقدّسةـ للأسقف كالستوس وير”، بيت التكريس لخدمة الكرازة، القاهرة 1998م، ص 51.

[46] شرح القداس الإلهيّ، 32.

[47] بول افدوكيموف، (الأرثوذكسيّة)، ص241.

[48] المصدر نفسه، ص208.

[49] رسالة لاهل فيلادلفيا فصل 4 والى أهل مغنيسيا فصل 8 والى أهل أفسّس فصل 5.

[50] رسالة 43.

[51] عظة على قيامة المسيح، 1.

[52] في تفسير العبرانيين، 16: 7، وعلى 1كو24: 4، وعلى رسالة افسّس 3: 5، وفي الكهنوت 3: 4، 4:4.

10 من الشواهد التالية يتضح لنا أن كلمة كثيرين ليس لها معنى محدود ولكن متسع، وكثيرا ما تستخدم بدلًا من كلمة ”كلّ” (انظر على سبيل المثال: مت10: 45 مع 1 تيمو2:2، 6، رو 5: 12 مع 5: 16).

11 انظر ”الخولاجي المُقدّس وخدمة الشماس” ص 185 ـ 186.

[55]  ليس بحسب الهوى أو لعمل أعمال مبهرة بكلّ تأكيد، بل على مستوى المعجزات الإلهيّة التي للمسيح ربنا.

[56] في الأكاليل 3 وفي وحدة الزيجة فصل 9.

[57] رسالة 66.

[58] في الأسرّار 6: 8، 5: 8 و10.

[59] عظة 41: 4 على 1كو.

[60] عظة 3 على رسالة فيلبى.

[61] في الاسرار5: 1.

ليست هناك تعليقات: