لمَّا كان الموت قد دخل إلى العالم بالخطيئة دخول بهيمة
وحشية شرسة مُفسِدة للحياة البشريّة، فقد وَجَب على من يفتديه أنّ يكون مُنزّهًا
عن الخطية وغير محكوم عليه بالموت من جرّاء الخطية، بل عليه أيضًا أنّ يُعضد
طبيعتنا ويُجددها، وأن يهذِّبنا بعمله ويُعلمنا طرق الفضيلة التي تبعدنا عن الفساد
وتسدد خطواتنا نحو الحياة الأبدية. وأخيرًا يجب عليه أنّ يُظهِر لنا في ذاته عظمة
لجة محبّة الله للبشر. ومن ثمّ فإنّ الرب البارئ نفسه قد اتخذ على عاتقه الدفاع عن
جبلته الخاصة، فصار بعمله مُعلمًا. بهذه الكلمات يبدأ المُطوّب الأب يوحنا
الدمشقي تعليمه اللاهوتيّ المُختص بقضية الفداء.[1]
وبحسب القديس أثناسيوس لم تكن هُناك طريقه أُخرى
لتحقيق مجد الله وصلاحه تجاه خليقته سوى بتدخل إلهي:
“لأن مجد الله الآب هو: أنّ يوجد الإنسان الذي كان قد خُلِق ثمّ هَلَك، وهو: أنّ يحيا الذي مات، وهو: أنّ يصير الإنسان هيكل الله... وهذا قطعًا ـ لم يكن ممكنًا أنّ يحدث بأية طريقة أخرى، اللهم إلاّ إذا كان هذا الذي كان موجودًا في صورة الله، قد أتخّذ لنفسه صورة العبد، وأذلّ ذاته، راضيًا بأن يصل جسده حتّى إلى الموت”.[2]
لم
يكن يستطيع أحد أنّ يقدم هذا الخلاص للبشر، لأن جميع البشر كانوا خطاة، فكل واحد
منهم كان يحتاج أولًا أنّ يخلّص هو. وأيضًا حتّى الملاك أو أي كائن آخر لا يستطيع
أنّ يقدم الخلاص لكلّ جنس البشر.[3]
ولأن الجرح كان عظيمًا، واحتاجت البشريّة التي عبدت المخلوق
دون الخالق أنّ يُعلَن لها أخيرًا عن خالقها فيقول ق. كيرلس الأورشليمي:
“إذًا، هل جاء ابن الله من السماء باطلًا؟! ألم يأتِ ليشفي جرحًا كان عظيمًا هكذا؟! هل جاء الابن باطلًا؟ أم جاء لكي يخبر عن الآب؟! لقد عرفت ما هو الدافع لمجيء الابن الوحيد من العرش عن يمين الآب فإذ هم احتقروا الآب جاء الابن يصلح الأمر. إذ به خُلق كلّ شيء التزم أنّ يحضر ‘الخليقة’ بأسرها كتقدمة لرب الكون! لاقَ به أنّ يضمد الجراح، لأنه أي جرح أشر من أنّ يُعبد الحجر عوض الله؟!”[4]
ويقول
العلاَّمة أوريجانوس: “من كان قادرًا أنّ يحطم
وباء الجهل والظلمة والدمار؟ ليس نبي ولا رسول أو أي رجل متدين آخر. بالأحرى كان
لازمًا للقوة الإلهية النازلة من السماء، القادرة أنّ تموت لحسابنا جميعًا، لكي
بموتها يصير لنا دفاع ضد الشيطان”.[5]
وكان يجب أنّ الخالق الإله الوحيد هو من يأتي ويُخلّصنا
لئلا بعد خلاصنا نصير مديونين لآخر، وفي ذلك يتحدث أثناسيوس الرسوليّ، قائلًا:
“لأنه لا يجب أنّ يكون الفداء عن أي طريق آخر سوى عن طريق ذاك الذي هو رب بالطبيعة، لئلا بعد أنّ خلقنا الابن فإننا ندعو لنا ربًا آخر، أو نسقط في الحماقة الآريوسية والوثنية بأن نعبد المخلوق من دون خالق جميع الأشياء”.[6]
وكيف
كان سينجو المُخلّص من الموت أنّ كان هو نفسه ليس فيه حياة من ذاته، فأهم ما فعله
لنا المسيح انه غلب الموت بموته حيث يشرح الآباء ذلك؛ على أنّ الموت دخل في مصارعة
مع جسد الكلمة، وإذ كان الكلمة نفسه هو الحياة فقد أستنزف الموت فيه كلّ قوته وهُزِم
تمامًا وأصبح بلا قوة، فابتلع الله الموت لأنه هو الحياة ذاتها. فإنّ لم يكن المُخلّص
هو الحياة، فلماذ أتى؟ وكيف وقتها سيغلب الموت وهو نفسه بلا حياة في ذاته؟! وهذا
ما قاله أثناسيوس:
“من غير الممكن أنّ يموت الكلمة لأنه غير مائت بسبب أنه هو ابن الآب غير المائتولهذا اتخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت حتّى إنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع، يصبح جديرًا ليس فقط أنّ يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب اتحاد الكلمة به”.[7]
ويكمل في موضع آخر:
“ولكن فليسمعوا، لأنه لو أنّ الكلمة كان مخلوقًا، لمَا اتخذ جسدًا مخلوقًالكي يهبه الحياة، لأنه أية معونة تحصل علىها المخلوقات من مخلوق هو نفسه يحتاج إلى الخلاص؟ ولكن حيث إنّ الكلمة خالق، فقد تمم خلقة المخلوقات”.[8]
ويقول العلاَّمة أوريجانوس: “لا يقدر أحد أنّ يموت الموت الذي ماته
يسوع عنّا كلنا لكي نحيا، لأن الجميع وُجِدُوا في الخطيّة، وهم في حاجة إلى آخر
يموت عنهم، لا أنّ يموتوا هم عن غيرهم”.[9]
وهناك أيضًا سببٌ آخر، فعندما فقدنا صورة الله المطبوعة
في داخلنا وأراد الله إعادة تلك الصورة مطبوعة بختم في داخلنا مرة أُخرى، فكان يجب
أنّ من يطبع تلك الصورة في داخلنا من جديد أنّ يكون هو نفسه صورة الله الحقيقيّ، وإلاَّ
فالذي سيطبعه داخلنا –إن كان المُخلّص مخلوقًا - سيكون صورة أُخرى غير صورة لله، بل
صورة مخلوق، وهذا ليس استعادة لصورتنا الأصلية، بل تشويه أكثر لتلك الصورة الإلهية
التي طُبِعت داخلنا باحتواء الابن الوحيد لطبيعتنا في جسده، ويقول القديس كيرلس
السكندري شارحًا ذلك:
“استمع لي جيدًا وسأشرح لك هذا على قدر استطاعتي: لو أنّ أحدًا من الصُنَّاع، وعلى سبيل المثال أحد هؤلاء الذين يعملون في تشكيل النحاس، قد صنع تمثالًا معطيًا إياه شكله وملامحه، ثمّ سقط هذا التمثال من على قاعدته بفعل أحد الحاسدين وتحطّم وفقد جماله، ولو أنّ صانع التمثال ـ لأنه لم يحتمل أنّ يرى تمثاله محطمًا ـ أراد أنّ يقتل ذلك الحاسد الذي حطّم التمثال، نجده وقد أعاد صنع التمثال مستخدمًا نارًا أشد قوة معيدًا إياه إلى حالته الأولى بعد أنّ يكون قد رفع عنه ما أصابه من أضرار. وهل كنت تعتقد أنه كان من الصواب لو أنّ الصانع قد ترك صنعته كي تتشكّل بشكل آخر غير الأول، وفي هذا تتضح عدم قدرته؟..، فما هو الأمر الذي تُصدق أنّ يكون الله الآب قد فعله، أنّ كان الإنسان قد خُلق ‘على صورته كشبهه’ هو وحده فقط. لأن هذا الكلام تقريبًا هو ما يقوله المخالفون. أي عندما أراد أنّ يعيد خلقة الإنسان الذي انزلق وتشوّه، ويجدّده لم يعطِ له ملمحه الذي كان عليه في الأصل، أي لم يصيّره شبيهًا بنفسه بل أعطاه شكلًا آخر؟ وهذا سيحدث بالطبع لو أنّ الابن الذي أُعيدت خلقتنا على صورته كان مختلفًا في الطبيعة عنه (عن الآب). لأن بولس الحكيم يكتب للبعض ما يلى ‘يا أولادي الذين اتمخض بكم أيضًا إلى أنّ يتصور المسيح فيكم’.[10] وفي موضع آخر يقول: ‘لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه’.[11] لأن المسيح قد شكّلنا مرةً ثانيةً بالروح القدس حسب صورته واهبًا جمال طبيعته لنفوس الأتقياء وبطريقة عقلية وغير موصوفة. بمعنى أننا - كما أعتقد - نتشكّل لا لنصير كالله الحقيقيّ، لكننا نأخذ شكل يتناسب وطبيعتنا المخلوقة. وإلاّ فإنّ ما ذكره المزمور منذ القديم بأنه ‘يتجدّد كالنسر شبابك’،[12] كان سيضيع هباء، ويظهر أنه بدون هدف. لأن التجديد بحسب الكتاب ليس هو شيء آخر سوى أنه تجديد نفوسنا التي لم ترتفع إلى أعلى إطلاقًا والتي لم ترجع لِمَا كانت عليه أولًا، ولكنها صارت في وضع أقل كرامة مما كانت عليه قبلًا وهيَ هكذا تعاني من هذه الحالة”.[13]
ويُضيف أثناسيوس الرسوليّ:
“لذلك فإنّه عند اكتمال الدهور أيضًا فقد لبس هو نفسه ما هو مخلوق (أي الجسد) لكي يجدده بنفسه مرة أخرى كخالق؛ ولكي يستطيع أنّ يُقيمه. لا يستطيع مخلوق أنّ يُخلّص مخلوقًا على الإطلاق، كما أنّ المخلوقات لم تُخلق بواسطة مخلوق، وذلك أنّ لم يكن الكلمة هو الخالق (كما يدّعى الآريوسيين)”.[14]
ويقول أيضًا:
“إنه لم يكن ممكنًا أنّ يُحوَّل الفاسد إلى عدم فساد إلاّ المخلّص نفسه، الذي خلق منذ البدء كلّ شيء من العدم، ولم يكن ممكنًا أنّ يعيد خلق البشر، ليكونوا على صورة الله إلاّ الذي هو صورة الآب، ولم يكن ممكنًا أنّ يجعل الإنسان المائت غير مائتٍ إلاّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكنًا أنّ يُعلّم البشر عن الآب، ويقضي على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذي يضبط الأشياء، وهو وحده الابن الوحيد الحقيقيّ”.[15]
وأيضًا لكي يحمل حكم الموت مائتًا عن كلّ البشريّة. فلا
يقدر إنسان على حمل هذا الحكم إلا الإله الوحيد غير المحدود الذي بتجسده جمع البشريّة
في ذاته[16]، يقول
كيرلس السكندري:
“لأنه لأجلنا احتمل عقاب خطايانا. فرغم أنّ الذي تألم هو(إنسان) واحد فقط، إلاَّ إنه هو عال فوق كلّ خليقة، كإله، وهو أثمن من حياة الجميع. لذلك كما يقول المُرنم: (كل إثم يسد فاه.. مزمور 107: 42)، وأُسكِتَ لسان الخطية، ولا يعود قادرًا أنّ يتكلم ضد الخطاة. لأننا قد تبررنا الآن لأن المسيح احتمل العقوبة عنا...[17] الطبيعة التي خضعت للفساد لا يُمكن أنّ ترتفع إلى عدم الفساد، إلا بنزول الطبيعة التي تعلو على كلّ أنواع الفساد والتغير وباتحادها بها، وبالاتحاد ترتفع تلك الساقطة، إلى صلاحها الدائم، أي عدم الفساد”.[18]
[1] المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ.
تعريب الأرشمندريت إدريانوس شكور. 3: 1. ص 151.
[2] ضد
الآريوسيين المقالة الأولى فصل 11. عربها عن اليونانية أ/ صموئيل كامل عبد السيد، د/
نصحي عبد الشهيد. إصدار المركز الأرثوذكسيّ للدراسات الآبائية.
[3]
تعليقات القديس كيرلس السكندري على: رو5: 20.
[4] كيرلس الأورشليمي (القديس). حياته – مقالاته
لطالبي العماد – الأسرار.
تعريب الأب تادرس يعقوب ملطي. إصدار كنيسة مارجرجس إسبورتنج. ص 109.
[5] Commentary on 1 Cor. 1:6:8-12.
[6]
ضد الآريوسيين المقالة الأولى. عربها عن اليونانية أ/ صموئيل
كامل عبد السيد، د/ نصحي عبد الشهيد. إصدار المركز الأرثوذكسيّ للدراسات الآبائية.
[7]
“تجسد الكلمة” مؤسّسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسيّ
للدراسات الآبائية، نصوص
آبائية 107 صفحة 23.
[8] المسيح في رسائل القديس أثناسيوس
إلى سرابيون وأدلفيوس وابيكتيتوس. عربها عن اليونانية أ/ صموئيل كامل عبد السيد، د/
نصحي عبد الشهيد. إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة. ص 31.
[9] Com. Ser. Matt. 88.
[10] غلاطية4: 19.
[11] رومية8: 29.
[12] مزمور130: 5.
[13] كيرلس السكندري (القديس). حوار حول الثالوث. الجزء
الثاني الحوار الثالث. ترجمة د/ جوزيف موريس فلتس. ص 29، 30.
[14]المسيح في
رسائل القديس أثناسيوس، مرجع سابق. ص 30.
[15]تجسد الكلمة
فصل 20/1.
[16]سيتم شرح
ذلك تفصيليًا في فصل قادم (انظر ص 28).
[17]شرح إنجيل
يوحنا. ج2 ص 470.
[18]شرح انجيل
يوحنا الكتاب 11 فصل 12.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق