كما
أمر مخلصنا المسيح وعلّمنا فنحن نقول بشجاعة في الصلاة الربانية
أبانا، فهو (أي المسيح) يعمل على صياغة صّلاة طقسية قديمة، مؤكدًا لنا على صّلاة (أبانا
الذي) كأمر، واستخدامها كسلاح جريء. فهي سلاحنا القوي، ولكن عدم فهمها يجعلنا نفشل
في الوصول إلى أكثر شيء رائع بخصوص الصلاة الربانية
والميزة الأساسية التي تشير إليها هذه الصلاة، فالصلاة الربانية دعوة، دعوة لمشاركة
يسوع نفسه.
بالنظر
إلى المفهوم المسيحيّ للثالوث، فإنّ الصّلاة الربانية دعوة للمشاركة في الحياة
الإلهية نفسها. فهي أحد الطرق الهامة إلى السر المركزي للخلاص والوجود المسيحيّ:
فالشخص المسيحيّ المؤمن والمعتمد 1-مندمج في الحياة الداخلية للثالوث و2-لديه
النية (القصد) ليس فقط أنّ يؤمن ولكن أنّ يختبر أيضًا.
إنَّ
الصّلاة الربانية مع التناول، تُشكِّل الايمان الطقسي الذي تؤمن به الكنيسة الشرقية
الارثوذكسية، فالله الذي تعبده الكنيسة ليس دكتاتورًا بعيدًا ولا ببساطة نتاج فكر إنساني.
فهذا الإله موجود دائمًا مع العالم وفي نفس الوقت بعيد عنه. إنَّه موجود ليَفرَح
مع الناس ويحزن معهم، ليعطيهم بركاته الغنية وينقذهم من المرض، هذا لأنّه متسلِّط
على السماوات والأرض، البحر والبر، وكل قوات هذا العالم، وحتى متسلط على قلوب البشر،
الصّلاة الربانية هي دعوة لمعرفة هذا الإله والمشاركة في حياته العميقة.
هذا
كله خاص جدًا، لأنّ الصّلاة الربانية هي "المخرج الحقيقيّ" فهيَ صّلاة شعب
الله. فهذه الصّلاة وُضِعت أساسًا في سياق أخرويّ (سياق له علاقة بالملكوت)، فكلّ
فقرة من هذه الصّلاة هيَ إعلان يسوع على أنّ ملكوت الله بدأ يدخل قصة إسرائيل
والعالم، فهذه الصّلاة توضِّح العالم الجديد الذي وعد به الله طويلًا، وتدعو الناس
للمشاركة فيه. لذا يقول المطوَّب
أغسطينوس:
"لقد علّم ابن الله ذاته تلاميذه ومؤمنيه هذه الصلّاة، لذلك لنا رجاء عظيم في الفوز في القضيَّة مادام لنا مثل هذا الشفيع الذي يلقِّننا ما نطلبه. إنَّه الديان الجالس عن يمين الآب كما تعرفون، هو شفيعنا وفي نفس الوقت هو الذي سيديننا، لذلك تعلَّموا هذه الصلّاة"[1].
ويقول القديس كبريانوس القرطاجني:
"هناك صّلاة أكثر روحانيَّة من تلك التي أعطانا إيَّاها المسيح الذي فيه أيضًا (أي المسيح) نلنا الروح القدس؟ هل هناك صّلاة للآب صادقة أكثر من تلك التي أعطانا إيَّاها الابن - الذي هو الحق - من فمه؟ هكذا فالصّلاة بخلاف ما علَّم لا تكون جهل فحسب بل تكون خطيَّة أيضًا إذ قد أسَّس المبدأ قائلًا: "رفضتم وصيَّة اللَّه لتحفظوا تقليدكم"[2] (مر7: 9).
لذلك أيُّها
الاخوة الأحبَّاء فلنُصلِ كما علَّمنا اللَّه معلِّمنا. فالصّلاة تكون أكثر قربًا
ودالَّةً عند اللَّه عندما نتضرَّع إليه، بنفس كلماته الخاصة ونُصعِد إلى آذانه صّلاة
المسيح. وهكذا يقبل الآب كلمات ابنه عندما نصلِّي. ولنجعل الابن الذي يسكن في
قلوبنا ينطق أيضًا في أفواهنا. وحيث إنّه شفيع لنا أمام اللَّه من أجل خطايانا،
فلنقدِّم كلمات شفيعنا عندما نطلب كخطاة من أجل خطايانا. لأنَّه قال إنّ "كل
ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم" (يو16: 23) فما أعظم الفاعليَّة التي بها
ننال ما نطلب باسم المسيح أنّ كنَّا نطلب بصلاته الخاصة"[3]؟!
تنقسم
الصّلاة الربانية إلى سبعة توسلات، يمكن تقسيمها إلى قسمين:
( أ ) القسم الأول: ثلاثة توسلات بروح البنين تخص مجد الآب: اسمك، وملكوتك، ومشيئتك!
(ب) القسم الثاني: أربعة توسلات تخص حياتنا أمامه: خبز الحياة في اليوم الزمني، غفران ذنوبنا، لا تدخلنا في التجربة، نجنا من الشرير.
ولكن
في مضمون السبعة توسلات يعطينا المسيح القاعدة الراسخة التي تنطلق بها من الأرض
إلى السماء كاستجابة ورد فعل لما عمله الآب في ابنه من أجلنا ونزل من السماء إلى الأرض.
وهنا
لو دققنا الرؤية نجد أنّ الثلاثة توسلات الأُولى هيَ تطُّلع نحو السماء لاكتشاف
قداسة الاسم ومجد الملكوت وصلاح المشيئة، ثم رجاء بعشم عظيم في يسوع المسيح الذي
كان في الحضن الأبوي ونزل إلى أرضنا، أنّ يظل الاسم يتقدَّس في الأرض كما هو في
السماء، ويتمجد الملكوت كما هو في السموات يكون على الأرض، وتتراءف المشيئة
الصالحة لتكون كما في السماء كذلك على الأرض. فلأن المسيح وهو الله ظهر في الجسد
ونزل إلينا، نطمع فيه أنّ تنزل معه وبسببه قداسة الاسم ومجد الملكوت وصلاح المشيئة
على الأرض كما في السماء. وقد احترس المسيح جدًا أنّ يتمِّم ذلك بالفعل[4].
كان
يسوع بشكل منتظم ينادي الله على انه "الآب" بالرغم أنّ الكلمة الآرامية
آبا تُوجد فقط في الاناجيل في جثسيماني في مرقس 14: 36، إلَّا إنّ هناك اتفاق عام
أنّ 1-يسوع بالفعل استخدم هذه الكلمة في الصّلاة و2-أن مفهوم أبوة الله-على الرغم
بالطبع أنه معروف في اليهودية-اتخذ موقعًا مركزيًا في تصرف يسوع تجاه الله بطريقة
مميزة. لذا عندما نرى الصّلاة التي اعطاها لتلاميذه تبدأ بالآب في (لوقا 11: 2) أو
أبانا (متي 6: 9) (الديداخي 8: 2-3 يبدأ أيضًا بأبانا) يجب أنّ نفهم أنّ يسوع يريد
منهم أنّ يشتركوا معه في حياته الروحية المتميزة، فالله بالنسبة ليسوع صديقه
الحميم وأبوه الحقيقي، فكرة أبوة الله، ووجود هذا المبدأ في الصّلاة لم يكن بدعة
من اليهودية ولكن مركزية هذا التعليم وتوكيد يسوع عليه يمثل انطلاقة جديدة.
يقول المطوَّب أغسطينوس:
"فصلُّوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات"، ففي قوله هذا نرى أنّ الله صار أبًا لنا. إنَّه يكون أباكم متى وُلدتم (بالمعموديَّة) ولادة جديدة. فالآن (وأنتم على أهبَّة العماد) قبل ميلادكم الجديد، قد حُبل بكم بزرع الله. إنَّكم على وشك الوجود حيث تُجلبون إلى جرن المعموديَّة رحم الكنيسة.
تذكَّروا أنّ لكم أبًا في السماوات، تذكَّروا إنَّكم وُلدتم من أبيكم آدم للموت، وأنَّكم تولدون مرَّة أخرى من الله الآب للحياة – فما تصلُّون به قولوه بقلوبكم[5].
ويكمل قائلًا:
"لنا والدان قد ولدانا على الأرض للشقاء ثم نموت. لكنَّنا وجدنا والدين آخرين، فالله أبونا والكنيسة أمِّنا، ولدانا للحياة الأبديّة.
لنتأمَّل أيها الأحبَّاء أبناء من قد صرنا. لنسلك بما يليق بأبٍ كهذا، انظروا كيف تنازل خالقنا ليكون أبًا لنا؟!
لقد وجدنا لنا أبًا في السماوات، لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض، لأن من ينتسب لأبٍ كهذا ينبغي عليه السلوك بطريقة يستحق بها أنّ ينال ميراثه"[6].
ويقول القديس يوحنا فم الذهب:
"لكنه حين يقول "في السماوات" لا يقول ذلك وكأنه يغلق على الله هناك، بل ليرفع من يُصلّي من مستوى الأرض إلى فوق، ليثبته في الأعالي وفي المساكن الفوقانية"[7].
ويقول
القديس كيرلس الاورشليمي:
"والذين يحملون صورة السماوات، هم أيضًا سماوات حيث يسكن الله، ويمشي فيهم"[8].
ويقول القديس كبريانوس:
"فيجب إذن أيُّها الإخوة الأحبَّاء أنّ نتذكَّر ونعرف أنَّنا عندما ندعو اللَّه "أبانا" يجب أنّ نسلك كأبناء اللَّه، حتّى كما أنَّنا نجد المسرة في اعتبار اللَّه أب، يجد هو أيضًا مسرَّته فينا. فلنسلك إذن كهياكل للَّه، حتّى يظهر جليًا أنّ اللَّه ساكن فينا. فليت أفعالنا لا تحيد عن الطريق الروحيّ لأنَّنا نحن الذين صرنا روحيّين ومنتمين للسماء، علينا إلَّا نفكِّر ولا نفعل إلَّا ما هو روحيّ وسماوي لأن الرّب الإله نفسه قد قال: "فإنِّي أُكرم الذين يكرمونني والذين يحتقرونني يصغرون" (1صم2: 30). والرسول المبارك قد قال في رسالته "إنَّكم لستم لأنفسكم لأنَّكم قد اشتُريتم بثمن فمجِّدوا اللَّه في أجسادكم" (1كو6: 19-20)"[9].
ويقول القديس كيرلس السكندري: "إن تعليم المسيح لنا أنّ نصّلي كأبناء هو
جودٌ فائقٌ ولطفٌ لا يبارى وأنه بذلك يمنحنا مجده الخاص، ويستشهد على نوال نعمة
البنوة من (مز6:81س) " أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلى كلكم " وأنه بذلك
حررنا من العبودية وأدخلنا في مرتبة البنين، ويستشهد أيضًا عن نوال البنوة
بـ(يو11:1ـ13) " وكل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أنّ يصيروا أولاد الله.. الذين
وُلدوا من الله "، وأيضًا بـ(1بط23:1) " مولودين ثانية بكلمة الله الحية
الباقية إلى الأبد "، وأيضًا بـ(يع18:1) " شاء فولدنا بكلمة الحق
"، ويشير القديس كيرلس إلى الولادة الروحيّة التي يتحدث عنها المسيح في (يو5:3)
" أنّ كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أنّ يدخل ملكوت الله "،
وهو بإشارته هذه يقصد أننا ننال البنوة بواسطة المعمودية[10].
وبعد
ذلك ينتقل القديس كيرلس ليتكلم عن مسئولية الذين يدعون الله " أبًا "،
وكأنه يقول إنّه في مقابل امتياز وكرامة البنوة لله، هناك مسئولية تنبع من هذا
الامتياز وهيَ: "إنه ينبغي أنّ نسلك بسيرة مُقدّسة وبلا لوم وأن نحيا هكذا
كما يرضى أبانا[11]".
ويستشهد في ذلك بقول الرسول بطرس " وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير
محاباة.. فسيروا زمان غربتكم بخوفٍ " (1بط17:1). ويحذر من " خطورة إحزان
الله أبانا وإغضابه بالانحراف وراء الأمور غير المستقيمة، وأن من لا يراعى نفسه
ولا يبالى بسخاء النعمة التي اعطيت له، فإنه يكون محبًا للذّة أكثر من حبه للآب السماويّ،
وأن الذين يتمردون على الآب يرتكبون جرمًا عظيمًا. وبالعكس فإنّ الذين يخضعون للآب
ويطيعونه ويكرّمونه، فإنّ الآب يكرمهم ويجعلهم شركاء في الميراث مع ابنه الوحيد
بالطبيعة؛ وإذ نسلك بطريقة تليق بمن أكرمنا هكذا، فإنه سيقبل ابتهالاتنا التي نقدمها
في المسيح[12] ".
إن
تقديس اسم الله كما في الفقرة "ليتقدس اسمك" (لو 11: 2، مت6: 9) ليس
موضوعًا رئيسيًا في الأناجيل. فهو يوجد على سبيل المثال في هتاف مريم عندما قالت: "واسمه
قدوس" (لو 1: 49)، ونجده في صّلاة يسوع: "أيها الآب مجد اسمك"،
واستجابة الآب: "مجدت، وأمجد ايضًا" (يو 12: 28)، فتقديس اسم الله يظهر
على أنّه تأكيد طبيعيّ وتقليد يهوديّ على قداسة الله وعظمته. ولكنه متناغم بشكل
كامل مع طبيعة العمل الذي قام به يسوع.
يقول المطوَّب أغسطينوس:
"لماذا تسألون من أجل تقديس اسم الله؟! أنَّه قدُّوس، فلماذا تسألون القداسة لمن هو قدُّوس أصلًا؟! إنَّكم إذ تسألونه ذلك هل تطلبون لأجل الله وليس لأجل صالحكم؟! لا، افهموا هذا جيِّدًا، وهو إنَّكم تسألون هذا لأجل أنفسكم. إنَّكم تسألون من هو قدُّوس في ذاته دائمًا أنّ يكون مقدَّسًا فيكم.
ماذا تعني كلمة "ليتقدَّس"؟ إنَّها تعني أنّ يتقدَّس اسم الله فيكم ولا يُحتقر فيكم. لذلك فإنّ ما تطلبونه هو لخيركم، لأنَّكم أنّ احتقرتم اسم الله تصيرون (وليس الله) أشرارًا.
يتقدَّس اسم الله فيكم بنوالكم سرّ المعموديَّة، ولكنَّكم لماذا تطلبون هذه الطلبة بعد العماد، إلَّا لكي يبقى فيكم ما استلمتموه بالعماد إلى الأبد"[13].
يشرح
القديس كيرلس قول الأبناء للآب "ليتقدس اسمك"، بأنّ "الله ليس
محتاجًا إلى مزيد من القداسة، منا إذ هو كُلىَّ القداسة وهو مانح القداسة للخليقة".
بل أنّ ليتقدس اسمك معناها: "ليت اسمك يُحفظ مقدسًا فينا، في أذهاننا
وإرادتنا". "وإن من يصّلي قائلًا ليتقدس اسمك، فهو يطلب أنّه هو نفسه
يقتنى ذهنًا مُقدّسًا وإيمانًا، لكي يشعر بأنّ اسم الله مُكرَّم وقدوس، فالتقديس
هو مصدر الحياة وسبب كلّ بركة". وأنّ "من يصلون بجد معتمدين على محبته،
فإنهم لا يطلبون التقديس لأنفسهم فقط، بل لأجل كلّ سكان الأرض سواء الذين آمنوا أو
الذين لم يقبلوا الإيمان بعد، لكى يشرق عليهم نور الحق ويعرفون الله أنه قدوس".
ويقول إنّ عبارة "الله يتقدس بواسطتنا هو اعتراف منا بأنه "قدوس الأقداس"،
ويستشهد بقول إشعياء النبي: "قدسوا الرّب فيكون مخافتكم، ويصير قداسة لكم"
(إش13:8س). ويقول إنّ ما يعلّمه لنا الرّب في الصّلاة هو: آمنوا إنّه قدوس.. وهكذا
سيصير هو نفسه واسطة تقديسكم[14].
إنّ قدوم ملكوت الله، كما تمّ التعبير عنه "ليأت ملكوتك"
في (مت 6: 10، لو 11: 2) موضوع رئيسيّ خلال تقليد الإنجيل بأكمله. وعلى الرغم من
أنّ هذا الموضوع كان أحيانًا مثيرًا للجدل إلَّا إنّه لا شك أنّ 1-يسوع جعل من الملكوت
موضوعًا رئيسيًا لكرازته و2-أنّ يسوع كان يقصد بهذا أنّ المملكة التي انتظرها الشعب
طويلًا أو أنّ حُكم الله والذي تضمن خلاص إسرائيل، القضاء على الشر وعودة يهوه إلى
صهيون كان أخيرًا يحدث الآن.
إنَّ اعلان قدوم الملكوت كان أحد العلامات المميَّزة لكرازة
يسوع، فأينما كان يوجد المسيَّا كان يوجد الملكوت بالفعل. ولكن كان مازال هناك فداء
يتم إنجازه. إنّ الحاضر والمستقبل لم يلغ أحدهما الآخر كما في بعض التفسيرات الدراسية
غير المفهومة. ولا أنّ الحاضر يعني خبرة دينيّة خاصة والمستقبل يعني أحد السيناريوهات
المخيفة كما تُقدِّمه أفلام حرب النجوم!
حضور الملكوت كان يعني أنّ المسيح كان يعمل على ممارسة مُلكه
وإنقاذ حكم الله كما أظهرت الأحداث. أمَّا مستقبل الملكوت، فكان الوقت عندما يعم العدل
والسلام أرجاء الأرض كلّها، فهو الوقت الذي إذا نظر منه الفرد إلى الوراء يرى أنّ العمل
بدأ بالفعل بحضور وعمل المسيح.
أن نصّلي "ليأت ملكوتك" في دعوة يسوع، كان يعني
أن يدعم كلّ فرد مِنَّا حركة الملكوت ونسعى إلى قوة الله في إنجاز عمل الله النهائيّ.
لقد حملت معني الفرح بحضور الله وحقيقة أنّ الملكوت يقترب، والنظر بشوق وحماس إلى تحقيقه،
تحقيقه هُنا والآن.
يقول المطوَّب أغسطينوس:
"ينبغي علينا أنّ نعلم أنَّنا نصّلي بهذه الطلبة لأجل أنفسنا وليس لأجل الله، لأنَّنا لا نقول "ليأتِ ملكوتك"، كما لو كنَّا نسأل من أجل أنّ يملك الله، بل لكي نكون نحن من ملكوته، وذلك أنّ آمنّا به وتقدَّمنا في إيماننا هذا. كلّ المؤمنين الذين يخلصون بدم ابنه الوحيد سيكونون ملكوته[15]. وهذا الملكوت آتٍ بعد القيامة، حيث يأتي الابن بنفسه ويقيم الأموات. ويقول للذين عن يمينه: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت" (مت ٢٥: ٣٤). هذا هو الملكوت الذي نرغبه ونطلبه بقولنا: "ليأت ملكوتك". إنَّنا نطلب أنّ يأتي بالنسبة لنا، لأنَّه وإن لم يأتِ بالنسبة لنا فسيأتي ولكنَّ للآخرين. أمّا إذا اِنتمينا إلى أعضاء ابنه المولود الوحيد، فسيأتي ملكوته بالنسبة لنا ولا يتأخَّر"[16].
و يقول القديس كيرلس السكندري:
"الذين يدعون الله أبًا يطلبون مجىء الملكوت، بمعنى مجىء المسيح بملكه الكامل لأنهم ينتظرون الأكاليل عند مجيئه، ويقتبس " تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت.. " (مت34:25)، لأنهم جاهدوا وصاروا أنقياء، واحتملوا الآلام والاضطهادات لأجل مجد المسيح، و(2تى12:2) " أنّ كنا نصبر فسنملك أيضًا معه " و(فى21:3) " سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده ". وإنهم آمنوا بما قاله عن نهاية العالم أنهم " سيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم " (مت43:12)"[17].
ويقول كبريانوس:
"نحن نصّلي أنّ يأتي ملكوتنا الذي وعدنا به اللَّه، الذي نلناه بدم المسيح وآلامه، حتّى أنَّنا نحن الذين كنَّا خاصَّته في العالم نملك معه في ملكوته، كما يعدنا هو نفسه ويقول: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). أيُّها الإخوة الأحبَّاء، نستطيع أنّ نعتبر المسيح نفسه هو "ملكوت اللَّه" الذي نريده كلّ يوم أنّ يأتي، الذي نشتهي أنّ يُستعلَن لنا سريعًا. حيث إنّه هو نفسه القيامة[18]، إذ فيه سنقوم من جديد، فهكذا أيضًا نستطيع أنّ نفهم أنّ ملكوت اللَّه هو المسيح نفسه حيث إنّنا سنملك فيه"[19].
لتكن مشيئتك
كما في السماء كذلك على الأرض
يقول المطوَّب أغسطينوس[20]:
"إذن ماذا يقصد بالطلبة "لتكن مشيئتك"؟ إنَّه يقصد بها أنّ تعمل مشيئته فيّ ولا أقاومها. وبذلك تطلبون من أجل أنفسكم لا من أجل الله لأن مشيئة الله عاملة فيكم ولو لم تكن بواسطتكم[21].
إنَّنا نقبل وصايا الله، وهي مبهجة لنا... مبهجة لعقولنا، "فإنَّنا نُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن" (رو ٧: ٢٢). وهذه هيَ مشيئته النافذة في السماء، لأن أرواحنا تشبه السماء، وأما الأرض فهي أجسادنا. إذن ماذا يقصد بالطلبة: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؟ يقصد بذلك كما تبتهج عقولنا بوصاياك، فلتُسر أيضًا بها أجسادنا. بهذا ينتهي الصراع الذي وصفه الرسول. فعندما تشتهي الروح ضدّ الجسد تكون مشئيته عاملة في السماء، وعندما لا يشتهي الجسد ضد الروح حينئذ تنفذ مشيئته على الأرض أيضًا. فإذ تتم مشيئة الله، يحدث وفاق تام بينهما ويتحوَّل الصراع الحالي إلى نصرة فيما بعد[22].
يوجد معنى روحيّ آخر... فقد طلب منَّا أنّ نصّلي لأجل أعدائنا. فالكنيسة هيَ السماء، وأعداؤها هم الأرض، فماذا يعني "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؟ أي أنّ يؤمن بك الأعداء، كما نؤمن نحن بك. إنَّهم أرض لذلك هم يعادوننا، فليصيروا سماءً، يكونوا معنا.
السماء هيَ الكنيسة، لأنَّها عرش الله. والأرض هيَ غير المؤمنين، الذين قيل عنهم "لأنَّك تراب earth وإلى التراب تعود" (تك ٣: ١٦LXX )... فيقصد بـ "كما في السماء كذلك على الأرض"، أي كما في مؤمنيك كذلك في الذين يجدِّفون عليك حتّى يصيروا "سماءً"[23]... لقد وهبنا الله ميثاقًا وعهدًا وارتباطًا راسخًا فيه، فمن أراد القول "اغفر لنا ذنوبنا" بطريقة مجدية، عليه أنّ ينطق بحق قائلًا: "كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا". فإنّ لم ننطق بهذا القول الأخير، أو قلناه بخداعٍ يكون طلبنا الغفران باطلًا"[24].
و
يقول القديس كيرلس السكندري:
"الذين يصلون كأبناء، يطلبون أنّ تتم مشيئة الله على الأرض بمعنى أنّ يحيوا هم أنفسهم بلا لوم.. وكذلك سكان الأرض أنّ يهبهم " الله القوة ليصنعوا مشيئته، ويتمثلوا بالملائكة في السماء.. يصلون أنّ يروا توقف الخطية ولا يتبعوا مشيئتهم الخاصة. فالأبناء يبتهلون من أجل جميع الناس.. ليُحسبوا أهلًا للسلام الذي من فوق.. ويجدوا راحة القلب.. وهم مثابرون على التمثل بالجمال الروحانيّ للأرواح السماوية"[25].
الصّلاة
من اجل الخبز اليومي كما في "أعطينا اليوم" أو "يومًا بيوم" (مت
6: 11، لو 11: 3)، نجدها خلال فترة خدمة يسوع. كلا الانجيليين (متى ولوقا) الذين كتبا
لنا الصّلاة الربانيّة كتبا لنا أيضًا أمورًا مُلهِمة، حيث قصة صوم يسوع ورفضه أنّ
يحوِّل الحجارة إلى خبز تحتل مكانة بارزة (مت 4: 2-4، لو 4: 2-3). قصص اشباع الجموع
في البرية تضمنت إطعام حرفي ومعجزة برهنت قوة يسوع الإلهية، لتوفير احتياجات الناس
(مر 6: 32-44، 8: 1-10) صلوات الشكر التي صلاها يسوع في هذه المناسبات (مر 6: 41،
8: 6، أيضًا لو 24: 30) تُترجم بواسطة الصّلاة الربانية إلى ثقة في بركة الله المنتظمة.
تسلسل
الوجبات في قصة يسوع بالطبع يصل أقصاه في العشاء الأخير. ففي العشاء الأخير-كما في
الصّلاة الربانية- يسوع اعطى للخبز معنى خاص، والذي تكرّر خلال حياة يسوع حتّى صلبه
وقيامته. أن نُصّلي من أجل الخبز (سواء كان اليوم كما في متى أو يومًا بيوم كما في
لوقا) يعني أن يوائم كلّ فرد منا حياته مع واحدة من أكثر الرموز مركزيّة وعمليّة في
كرازة يسوع بالملكوت. الخبز يتبع الملكوت ويرمز له في كلٍ من الصّلاة الربانيّة وحياة
يسوع العمليّة.
والذين
يُصَلُّون للآب كأبناء، يمكن أنّ يطلبوا منه الخبز الضروريّ للحياة اليوميّة. ويقول
القديس كيرلس إنّ هذا الخبز الذي يطلبه القديسون، هو الخبز الروحى النازل من
السماء، هذا أولًا، ولكن من جهة أخرى، يقول إنّه لا لوم عليهم البتة أنّ يطلبوا
مجرد الخبز العادى اللازم لاحتياجات الجسد يوم بيوم، ويقول إنّ هذا يليق بتقوى حياتهم
على أساس أنّ القديسين الذين يطلبون خبز يوم واحد، فهذا برهان واضح على أنّ الرّب لا
يسمح لهم بامتلاك أي شئ، ولا يريدهم أنّ يبتغوا الغنى الأرضى كما قال في مناسبة
أخرى " لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون … لأن أباكم يعلم أنكم تحتاجونها "
(مت25:6،32). ويشرح الكلمة اليونانية "إيبى أوسيوس epiousios" ويقول إنّ معناها ما هو ضروري وكافي،
ويقول إنّ طلب الخبز الضرورى لليوم الواحد مرتبط بالتجرُّد من الهموم الدنيويّة
والشهوات الجسدانيّة ومن الغنى، لتكون حياتهم نقيّة من محبّة المال ويثقون أنّ الآب
سيعطيهم ما وعد به ويسد احتياجهم روحيًّا وجسديًّا عندما يسألونه ما يكفي لحياتهم
من طعام وكساء[26].
يقول المطوَّب أغسطينوس:
اعطنا أشياء زمنيَّة. إن كنت قد وُعِدت بالملكوت، فلا تمسك عنَّا الوسيلة التي نعيش بها. ستهبنا مجدًا أبديًا بإعطائنا ذاتك فيما بعد. أعطنا في هذه الأرض المئونة الزمنيَّة التي نقتات بها. لذلك فهو خبز يومي، وليعطنا إيَّاه "اليوم" أي في هذه الحياة. لأنَّكم هل تطلبون خبزًا يوميًا بعد عبوركم هذه الحياة؟! هناك لا تقال كلمة "يوميًا" بل "اليوم"[27]. الآن يقال يوميًا، أمّا هناك فهل سيُدعى "يوميًا" حيث يكون يومًا واحدًا أبديًا[28]؟!
ويقول أيضًا:
يوجد خبز آخر. ويُدعى خبزًا يوميًا، لأنَّه ضروري كالخبز العادي، بدونه لا نستطيع أنّ نحيا... إلَّا وهو كلمة الله التي توزَّع يوميًا!
خبزنا خبز يومي، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، ضروري لنا نحن الذين لا نزال نعمل في الكرمة. هو غذاؤنا وليس أجرتنا، فمن يستأجر عاملًا يحق عليه الغذاء الذي بدونه يخور العامل. كما تحق عليه الأجرة التي بها يُسر العامل. غذاؤنا اليومي في هذه الحياة هو كلمة الله التي توزع على الدوام في الكنائس، أمّا الأجرة (المكافأة) التي ننالها بعد العمل فهي ما تدعى بالحياة الأبديّة.
أما ما عالجته الآن أمامكم (أي شرح الصّلاة الربانيَّة نفسه) هو خبز يومي، كذلك فصول الكتاب المقدَّس اليوميَّة التي تسمعونها في الكنيسة هيَ خبز يومي. كذلك التسابيح التي تسمعونها وتمجِّدون بها الله هيَ خبز يومي. لأن هذه جميعها لازمة لنا أثناء رحلتنا[29].
أغفر لنا
ذنوبنا كما نغفر نحن للمسيئين إلينا
المسيح
يعلّم تلاميذه بعدما يطلبون الخبز الضروريّ من الآب أن يطلبوا كأبناء "اغفر
لنا خطايانا". ويقول القديس كيرلس إنّهم بعدما يسألونه غفران خطاياهم بعد ذلك
يعترفون أنّهم يغفرون للذين يسيئون إليهم، فنوال الغفران يستلزم الاعتراف أولًا
بالخطايا أمام الله، ويقتبس قول إشعياء: "اعترف أولًا بتعدياتك لكى تتبرر"
(إش26:43س) ومزمور(5:32): "قلت اعترف للرب بذنبى وأنت غفرت آثام خطيتي".
فطريق الخلاص هو الإقرار بالذنوب وأن نطلب من الذي يبرر الأثيم قائلين: "اغفر
لنا خطايانا". ويقول القديس كيرلس أنّ الرّب اهتم بأن يضيف بعد "اغفر لنا خطايانا"، قوله: "إننا
نحن أيضًا قد غفرنا لكل من أساء إلينا"، لأن الذين يصلون هكذا يتحلُون بطول
الأناة ويغفرون للمسيئين[30].
يقول
المطوَّب أغسطينوس:
"اغفروا من القلب، أي انزعوا الغضب من قلوبكم. لنقل في كلّ يوم: "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، وليكن هذا القول من القلب، عالمين بما نقوله. أنَّه عهد وميثاق، إنَّه ارتباط بيننا وبين الله. فالرب إلهنا يقول لنا: "اغفروا يغفر لكم"، فإنّ لم نغفر للآخرين تبقى خطايانا علينا وليس عليهم"[31].
ويقول القديس كيرلس الاورشليمي:
"إذ لنا ذنوب كثيرة لأننا نسيء بالقول والفكر وأشياء كثيرة جدًا نعملها نستحق عليها القصاص. "فإن قلنا ليس لنا خطية، نضل أنفسنا، وليس الحق فينا" كما قال المطوّب يوحنا (1 يو 1: 8). فنصنع مع الله عهدًا نستعطفه، ليغفر لنا خطايانا كما نغفر نحن لإخواننا ذنوبهم، مترجين ذلك فيما نتقبله، مستبدلين به غفراننا للآخرين، فلا نهمل أو نتأخر في تسامح بعضنا بعضًا. فالإساءات التي تُرتكب ضدنا خفيفة وزهيدة وتنتهي بسرعة. لكن التي تُرتكب ضد الله عظيمة وتحتاج إلى رحمة كرحمته فقط. لذلك انتبه لئلا من أجل الذنوب الزهيدة الطفيفة، تمنع عن نفسك غفرانًا من الله لخطاياك المحزنة"[32].
عند
الصّلاة عن الخلاص من التجربة والشرير في مت 6: 13 نحن نتذكر يسوع مجددًا. حيث روايات
تجربة إبليس ليسوع في (متي 4: 1-11) و (لوقا 4: 1-13) في متناول اليد. وايضًا مشهد
جثسيماني ومجموعة المحاكمات من قبل قيافا وبيلاطس وهم يقدمون أنفسهم كالحاكم العالي.
حياة
يسوع العملية بأكملها تميزت بالتجارب من نوع أو آخر-بما رآه هو والانجيليين كمعركة
دائرة مع قوي الشر، سواء كان اليهود المتعصبين في المجامع اليهودية أو النفوس الغاضبة
والتي تتحداه في ساحات الاسواق. حقيقة أنّ يسوع لم يتجنب هذه التجارب بل اضطر إلى مواجهتها،
تقدم دليل لمعني هذه الفقرة المثيرة للجدل.
لذا
عندما نصّلي هذه الطلبة، نجد واحدة من أوضح الايحاءات في الصّلاة الربانية: “دعني أكون
كسيدي” يقول يسوع في (لوقا 22: 28) “أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي”
لذا عندما اعطي يسوع تلاميذه هذه الصّلاة كان يدعوهم لمشاركته في تجاربه واختبار نفس
الضيقة الروحية التي أصابته.
الأبناء
الذين يصلون للآب السماويّ يعلّمهم الرّب أنّ يختموا صلاتهم قائلين: " ولا
تدخلنا في تجربة". ويقول القديس كيرلس أنّ طلب عدم الدخول في التجربة لا يعنى
الجبن أو التكاسل، بل يعنى اعترافًا بخطورة التجارب التي يسوقها الشيطان، فيقول "
أنّ عنف التجربة قد يهز أحيانًا عقل أشد الناس شجاعة "، ويحذر من الثقة في النفس
بزيادة بل " يجب أنّ نعرف ضعف ذهننا "، ويقول " فلنصل أنّ لا
نُجَرَّبْ.. ولكن إذا ما دعت الضرورة وأُلقينا فيها رغمًا عنان فلابد أنّ نبذل
أقصى جهدنا ونصارع من أجل نفوسنا.. طالبين معونة الرّب لنا ". ويذكر نوعين من
التجارب:
1 ـ تجارب تأتى من الهراطقة.
2 ـ تجارب الخطية.
ويقتبس
(1بط19:4) " الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعون أنفسهم لخالق أمين
"، (1بط15:4) " أنّ كان يتألم كمسيحى فلا يخجل بل يمجد الله "، وأن
الذين يحتملون هذه الآلام ينالون الأكاليل. " جاهدت الجهاد الحسن.. وأخيرًا
وُضع لى إكليل البر " (2تى7:4). وعن تجارب الخطية يقتبس (يع13:1ـ15) "
كلّ واحد يُجرب إذا انجذب ينخدع من شهوته..". وهناك أيضًا تجارب " حب
الربح المادى " و" حب الاكتناز الخسيس ". " لذلك يليق بنا
حسنًا نحن المُعَرَّضين لمثل هذه الشرور الخطيرة حتّى أنّ لم نكن قد سقطنا فيها
بعد، أنّ نصّلي قائلين " لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير"".
والله الذي نحبه أكثر من أي شيء سوف يعيننا ويهبنا النصرة فهو مخلص الكل[33].
ويتسائل
اغسطينوس: لماذا نصلي: "لا تدخلنا في تجربة"؟
غالبًا
أنت لا تعرف حتّى نفسك؛ لا تعرف ما يمكنك أنّ تحتمله وما لا يمكنك. أحيانًا تظن
أنك تثبت فيما هو فوق طاقتك، وأحيانًا تيأس. تأتي التجربة، كما لو كانت سؤالًا،
فتجد نفسك شاردًا لأنك لا تعرف حتّى نفسك[34].
يقسم
المطوَّب أغسطينوس التجارب إلى نوعين: الأول يخدع الإنسان، والثاني يمتحنه ليعلن
للإنسان عن ضعفه أو قوته الروحيّة.
يستخدم الله النوع الثاني لا ليتعلم شيئًا لم
يعرفه قبلًا، وإنما لكي بامتحانك، يسحبك خارجًا ليعلن لك ما هو خفي فيك. إذ توجد
فيك أشياء خفية حتّى عن نفسك. تُكتشف هذه الأشياء، وتُخرج خارجًا عن المكشوف وذلك
بالتجارب وحدها. فإنّ توقف الله عن السماح للتجربة، إنما يتوقف السيد عن أنّ يعلم[35].
ليس حسنًا لك أنّ تكون بلا تجربة لا تسأل الله ألَّا
تُجرَّب بل ألَّا تدخل في تجربة[36].
لا يدخل في تجربة من يغلب رغبته الشريرة بانحناء
إرادته يعمل الصلاح. ومع ذلك فإن الإرادة البشريّة غير كافية أنّ ترفض الدخول في
تجربة ما لم يمنحها الرّب نصرة كاستجابة للصلّاة[37].
ويقول
القديس كيرلس الأورشليمي: هل هذا ما يعلمنا الرّب أنّ نصّلي لكي لا نُجرّب أبدًا؟
فكيف إذن يُقال في موضع آخر: "الرجل غير المُجرب، يعلم قليلًا" (سي 34:
10، رو 5: 3-4)، وأيضًا يقول يعقوب: "احسبوا كلّ فرح يا إخوتي حينما تقعون في
تجارب متنوعة" (يع 1: 2).
لكن
هل يعني الوقوع في التجربة إلَّا يدع التجربة تغمرنا وتجرفنا؟ لأن التجربة كسيل
الشتاء يصعب عبوره. لذا فهؤلاء الذين لا يغرقون فيها يمرّون مظهرين أنفسهم سبّاحين
ممتازين، ولم يُجرفوا في تيارها أبدًا. بينما الآخرون يدخلون فيها ويغرقون. مثلًا
دخل يهوذا الإسخريوطي في تجربة حب المال، فلم يَسبح فيها بل غَرق، وشُنق نفسه
بالجسد والروح (مت 27: 5). وبطرس دخل في تجربة الإنكار، لكنه
دخل ولم يُسحق بها. لكن كرجل سبح فيها ونجا منها. أنصت ثانية في موضع آخر إلى
جماعة من القديسين لم يُصابوا بضررٍ يقدمون الشكر لنجاتهم من التجربة. جربتنا يا الله - جربتنا بالنار كتجربة الفضة -
وضعتنا في الشبكة، وضعت عذابات على ظهورنا. جعلت الناس يركبون على رؤوسنا. "جزنا في النار والماء لكن أخرجتنا إلى
موضع راحة" (مز 65: 10-12). فخروجهم إلى موضع راحة يعني نجاتهم من التجربة[38].
[1] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ترجمة الاب تادرس يعقوب، ص 11
[2] يقصد القديس كبريانوس
أنّ المسيح بعد أنّ علَّمنا كيف نصّلي يحثنا على إلَّا نخالف قانون
الصّلاة هذا لنصلِّي بطريقتنا الخاصة.
[3] الصّلاة الربانيه، فقره 2، 3
[4] شرح الانجيل بحسب القديس متي، للاب متى المسكين، ص 267
[5] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ترجمة الاب تادرس يعقوب، ص 13
[6] المرجع السابق، ص 14
[7]
عظة ربنا يسوع المسيح على الجبل، للقديس يوحنا ذهبي الفم، ص 85
[8]
مقالة، 23: 11
[9] الصّلاة الربانية، 11
[10]
انظر لوقا جـ3 عظة71 ص18،19.
[11]
انظر عظة71 ص20
[12]
انظر عظة71 ص21،22
[13] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ترجمة الاب تادرس يعقوب، ص 16
[14]
انظر لوقا جـ3 عظة72 ص23ـ26
[15] لكن يوجد من يتمتَّعون بالدم ثم
يعودون فينحرفون فلا يتمتَّعوا بالملكوت، وذلك واضح من بقيَّة الحديث.
[16] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ترجمة الاب تادرس يعقوب، ص
17، 18
[17]
انظر لوقا ج3 عظة73 ص29ـ32
[18]
انظر (يو11: 25)
[19] الصّلاة الربانية، 13
[20] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ترجمة الاب تادرس يعقوب، ص
18، 19
[21] يميِّز المطوَّب أغسطينوس بين
"أن مشيئة اللَّه عاملة فينا" وبين "عاملة بواسطتنا"، فهي
عاملة فينا أنّ أردنا أو لم نرد، أمّا كونها عاملة بواسطتنا،
فيعني أنَّنا نريد أنّ نصنع مشيئته.
[22] المرجع السابق، ص 20، 21
[23] المرجع السابق، ص 21، 22
[24] المرجع السابق، ص30
[25]
انظر لوقا جـ3 عظة73 ص33ـ37
[26]
انظر لوقا جـ3 عظة75 ص38ـ42
[27] لأن الحياة الأبديّة يوم واحد، ليس
فيها زمان.
[28] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ترجمة الاب تادرس يعقوب، ص 23
[29] المرجع السابق، ص 24
[30] لوقا ج3 عظة76 ص43،45ـ48
[31] الصّلاة الربانيه للمستعدين للعماد، ص29
[32] مقالة، 23: 16
[33]
انظر لوقا جـ3 عظة 77 ص54،53،52،51،50
[34] On Ps.
55:2.
[35] Sermon
2:3.
[36] On Ps 63:1.
[37] On
Grace and Free Will, 9.
[38]
المقالة، 23: 17
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق