طُرح هذا الموضوع في القرون الأولى للمسيحية،
أوّلاً في رومة، ثمّ في شمالي أفريقيا بين كبريانوس أسقف قرطاجة واسطفانوس أسقف
رومة.
فالاضطهادات التي كانت تصيب المسيحيين جعلت
الكثيرين منهم يجحدون إيمانهم خوفًا من التعذيب والموت، ويقدّمون ذبائح لآلهة
الوثنيين أو يشترون شهادات تفيد بأنّهم قدّموا ذبائح؛ ولدى انقطاع الاضطهادات
كانوا يطلبون قبولهم من جديد في حضن الكنيسة.
كان أساقفة رومة يقفون من هؤلاء المسيحيين موقفًا
متسامحًا، فيفرضون عليهم التوبة ووقت امتحان ثمّ يقبلونهم لسرّ الإفخارستيا. هكذا
فعل البابا كالستوس (217- 222)، ومن
بعده البابا كرنيليوس (251- 253). وقد قاوم هذا الموقفَ بعض المتشدِّدين من أمثال
الكاهن هيبوليتوس الذي حمل حملة عنيفة على البابا كالستوس، والكاهن نوفاسيانوس
الذي قاوم الباباكرنيليوس في الموضوع عينه. ومن تعاليم نوفاسيانوس نشأت بدعة
"الأطهار" الذين كانوا يرفضون أن يُقبَل من جديد في الكنيسة مسيحي جحد
إيمانه أو اقترف خطيئة ثقيلة، وينكرون صحة الأسرار التي يمنحها كاهن غير
"طاهر".
أمّا موقف الكنيسة الكاثوليكية فكان التسامح
اقتداء بالسيّد المسيح الذي أن روبل توبة الخطأة وطلب ألاّ يُقلعَ الزؤان من حقل
القمح (متى 13: 24- 30).
وفي شمالي أفريقيا وقف كبريانوس أسقف قرطاجة
الموقف عينه الذي وقفه أساقفة رومة، فقاومه دوناتوس وأنشأ كنيسة مستقلّة عُرفت في
ما بعد ببدعة "الدوناتيين". ومن ممارسات هؤلاء المبتدعين إعادة معمودية
الكاثوليكيين الذين كانوا ينتقلون إليهم، لاعتقادهم أنّ المعمودية غير صحيحة في
كنيسة تتساهل مع الخطأة وجاحدي الإيمان. وفي مقابل ذلك راح كبريانوس والكاثوليكيون
يعيدون هم أيضاً معمودية الدوناتيين الذين كانوا يأتون إليهم.
وفي هذا الموضوع الأخير حصل جدال عنيف بين كبريانوس
والبابا اسطفانوس أسقف رومة الذي أكّد بشدّة صحّة معمودية الدوناتيين، وطلب من
كبريانوس العدول عن إعادة معموديتهم. إلاّ أنّ كنيسة شمالي أفريقيا بقيت على
موقفها، ولم يحسم الخلاف بين الموقفين إلاّ سنة 314 في مجمع "أرل" وبعد
وفاة أهم المتخاصمين. وقد قرّر المجمع ما يلي:
"بالنسبة الى الأفريقيين الذين يتبعون شريعتهم الخاصّة بإعادة المعمودية، رأى المجمع أنّه إن قدم أحد من الهرطقة إلى الكنيسة، يُسأَل عن قانون الإيمان الذي تعمّد فيه، فإن بدا واضحًا أنّه تعمّد في الآب والابن والروح القدس، يُكتفى بأن توضع عليه الأيدي لينال الروح القدس. أمّا إذا لم يستطع الإجابة عن الثالوث، فتُعاد معموديّتُه".[1]
احتدم النقاش من جديد بين الدوناتيين والقديس
أغوسطينوس، الذي أظهر أنّ صحّة العماد غير مرتبطة بقداسة الكاهن الذي يمنح السرّ،
بل بالسلطة التي منحيا المسيح لكنيسته. فالكاهن
لا يعمّد باسمه الخاص، بل باسم الكنيسة، والكنيسة تعمّد باسم المسيح: "أبطرس عمّد أم بولس أم يهوذا، فالمسيح
هو الذي يعمّد".[2]
والأمر الوحيد المطلوب من خادم السرّ هو احترام قوانين الكنيسة في منح السرّ.
وسنة 325 أقرّ المجمع المسكونيّ الأوّل في
القانون 8 صحّة عماد النوفاتيين وكهنوتهم، وهم "الذين يسمّون أنفسهم أطهارًا،
إذا عادوا الى الكنيسة الجامعة الرسولية"؛[3]
ولكنّه في القانون 19 طلب إعادة معمودية "أتباع بولس السميساطي اللاجئين الى
الكنيسة الجامعة".[4]
إنّ القدّيس أثناسيوس الاسكندري الذي كان له دور هام في المجمع، وكان بعد شماسًا
إنجيليًا، يفسّر هذا القرار بقوله إنّ أتباع بولس السميساطي كانوا يمنحون
المعمودية حسب الصيغة الكنسية الصحيحة، إلاّ أنّ إيمانهم بالثالوث الأقدس كان
خاطئًا:
"فهم لا يعترفون بالآب الحقيقي، إذ ينكرون الذي وُلد منه وله جوهر مماثل؟ وينكرون أيضاً الابن الحقيقي؛ إذ يسمّون ابنًا آخر مؤكّدين أنّه مخلوق من العدم. فكيف إذن لا تكون المعمودية التي يمنحونها فارغة وباطلة؟ وكذلك القول عن أتباع آريوس. فإنّهم وإن حافظوا على قول الكتاب المقدّس ولفظوا أسماء (الآب والابن والروح القدس)، إلاّ أنّهم يخدعون من ينال منهم المعمودية... لأن من ينال المعمودية باسم من ليس بشيء لا ينال شيئًا، بل يتّحد بالخليقة ولا ينال منها أيّ عون".[5]
وسنة 381 أقرّ المجمع المسكوني الثاني أن تعاد
معمودية الآتين من بعض البدع كأتباع بولس السميساطي، و"أتباع افنوميوس الّذين
يعمّدون بغطسة واحدة، والصابيليين الذين يعلّمون أنّ الآب هو نفسه الابن".
أمّا سائر المبتدعين من "آريوسيين وتبّاع مكدونيوس... والذين يدعون أنفسهم
أطهارًا والأَبوليناريين، فيُقبَلون بعد أن يعطوا صكًا برفضهم ضلالاتهم ولعنهم كلّ
بدعة لا تتّفق مع تعليم كنيسة الله الجامعة المقدّسة الرسولية، ومن ثمّ يُختَمون
ويُمسَحون بالزيت المقدّس".[6]
وكذلك المجمع المنعقد في القسطنطينية سنة 691
والمدعوّ "مجمع القبّة" (أو ترولّو)، أعاد هذا التمييز بين البدع التي
تُعتبَر المعمودية فيها صحيحة وتلك التي تعتبر المعمودية فيها باطلة. وأضاف أنّ
"النساطرة وأتباع افتيخيوس وأتباع ديوسقوروس وساويروس... يجب على كل منهم أن
يقدّم صكًا مكتوبًا يرفض فيه بدعته، وبذلك يصيرون أهلاً لتناول سرّ الشركة
المقدّس".[7]
من هذا نستخلص أنّ المعمودية باطلة في كنيسة لا
تعتقد الاعتقاد الصحيح في الثالوث الأقدس، ويجب إعادة معمودية الذين ينتقلون منها
إلى الكنيسة الكاثوليكية. أمّا الكنائس التي تعترف بالثالوث الأقدس، فمهما اختلفت
في سائر المواضيع، تبقى المعمودية فيها صحيحة، ولا تعاد معمودية من ينتقل من إحدى
هذه الكنائس إلى كنيسة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق