"حضور المسيح الحقيقي" في سرّ الافخارستيا:
سرّ الافخارستيا هو سرّ حضور يسوع المسيح القائم من بين
الأموات من خلال الخبز الخمر المكرّسين. فكيف نفهم هذا الحضور؟ هل هو حضور
"رمزي" أم حضور "حقيقي"؟ وإذا كان حضوراً حقيقياً، فكيف
السبيل إلى التوفيق بين وجود المسيح إلى يمين الآب بعد قيامته وصعوده إلى السماء
وحضوره في مادة الخبز والخمر في الافخارستيا؟
1- اللاهوت الكاثوليكي التقليدي:
لقد شغل هذا الموضوع اللاهوت الكاثوليكي في الغرب منذ
القرن التاسع.
١- فأكّد بعض اللاهوتيين "الحضور الحقيقي"،
وقالوا أن ما يصير حاضراً في الافخارستيا هو جسد المسيح نفسه الذي وُلِد من مريم
العذراء، فيما أكّد غيرهم الحضور الرمزي والروحي، وقالوا ان ما يحضر في الخبز
والخمر هو قوّة وفاعلية جسد المسيح ودمه.
٢- وأشهر الذين قالوا بالحضور الرمزي هو بيرنجيه لاهوتي
مدرسة تور في فرنسة. فقال أن ما نتناوله هو "صورة المسيح". فحُكِم عليه
في عدّة مجامع محلية، وفي مجمع اللاتران سنة 1059. أُرغم على الاعتراف بأن
"الخبز والخمر على الهيكل، بعد التكريس، ليسا فقط سر ربنا يسوع المسيح، بل
جسده ودمه الحقيقيان اللذان، بشكل حسّي، يمسّها ويكسرهما أيدي الكهنة ويأكلهـا
المؤمنون". لكنه ما عتّم أن أنكر اعترافه هذا، ثم عاد عن إنكاره، وقبل تحديد
مجمع رومة (11 شباط 1079) الذي ميّز بين الجوهر والأشكال. فالمسيح حاضر في حقيقة
الجوهر. أما الأشكال فهي أشكال الخبز والخمر.
٣- ان اللاهوت الكاثوليكي منذ القرون الوسطى يفسّر حضور
المسيح في الافخارستيا استناداً إلى هذا التمييز الذي أخذه عن فلسفة أرسطوطاليس
بين الجوهر والأعراض. وهذا ما سيتوسّع فيه بشكل خاص القديس توما الأكويني.
فحضور المسيح في
الافخارستيا هو حضور حقيقي، أي بجسده ودمه، ولكن ليس بشكل مادي وحسّي. فما نأكله
ونمضغه هو حقاً جسد الرب ودمه ولكن تحت أشكال أو أعراض الخبز والخمر.
٥- ان ما يتحوّل هو جوهر الخبز والخمر، أما الأعراض
فتبقى على ما هي عليه. وبهذا "التحوّل الجوهري"، لا يعود على الهيكل
جوهر الخبز والخمر، بل جوهر السيد المسيح الذي يستطيع الإيمان وحده أن يعرفه
ويتّصل به.
ان السيد المسيح حاضر في الإفخارستيا بجسده ودمه، ولكن
ليس على غرار حضور أجسادنا في الزمان والمكان. وللردّ على الذين كانوا يطلبون أن
يروا بأعين الجسد المسيح في القربان، أو يشيّعون حدوث عجائب كظهور طفل في القربانة
أو خروج دم منها، خصّص توما الأكويني مقالة كاملة في "خلاصته
اللاهوتيّة" للتأكيد أن الخبز يتحوّل إلى جسد المسيح الممجَّد، الذي لا يمكن
أن يُرى بأعين الجسد، وأنه من المستحيل أن يخرج دم من القربانة المكرّسة.
2- لاهوت الكنائس البروتستانتية:
١- لم يرفض لوثر "الحضور الحقيقي" لجسد المسيح
في سرّ الافخارستيا، ولكنه رفض اللاهوت الكاثوليكي ومفهوم "التحوّل الجوهري".
ففي نظر لوثر، لا بدّ من القول، استناداً إلى الكتاب المقدس، إنّ جسد المسيح ودمه
حاضران في سرّ الافخارستيا. فعبارة "هذا هو جسدي… هذا هو دمي" يجب
فهمها بالمعنى الحقيقي، وليس بالمعنى الرمزي.
٢- ولكن جوهر الخبز والخمر لا يتحوّلان، بل يضاف إليهما
جوهر جسد المسيح ودمه. ويفسّر وجود جوهرين معاً من خلال مثل الحديد الذي يوضع في
النار، فيبقى جوهره على ما هو عليه، ولكن يضاف إليه جوهر النار. كما يشبّه وجود
جوهرين في الافخارستيا بوجود طبيعتين في شخص المسيح: الطبيعة الإلهية والطبيعة
الانسانية.
٣- ان تعليم لوثر هذا قد حرمته الكنيسة الكاثوليكية في
المجمع التريدنتيني (1545- 1563) الذي تبنّى "التحوّل الجوهري" كتعبير
أوحد عن سرّ حضور المسيح الحقيقي في الافخارستيا.
٤- أما الكنائس اللوثرية فأعلنت إيمانها بحضور المسيح في
"صيغة الاتفاق" سنة 1577 في العبارة التالية: "ان جسد المسيح يقدّم
للمؤمنين في القرابين الافخارستية، معها وتحتها".
٥- انطلاقاً من هذا التحديد، انتشرت في اللوثرية النظرية
القائلة إن المسيح حاضر في القرابين فقط في أثناء الاحتفال الافخارستي والمناولة،
غير أن تلك النظرية لا وجود لها كما هي عند لوثر.
٦- هناك كنائس بروتستنتية أخرى تؤثر التكلم على نوع من
الحضور الروحي غير محدود في جسد المسيح ودمه من خلال الخبز والخمر. فالافخارستيا
ذكرى موت المسيح وقيامته. ومن خلال هذه الذكرى، وبواسطة الروح القدس، وإيمان
الجماعة المسيحية، يصير المسيح حاضراً في الاحتفال الافخارستي بمجمله، الذي تدعوه
تلك الكنائس "عشاء الرب".
3- اللاهوت الأرثوذكسي:
١- يرفض اللاهوت الارثوذكسي اللاهوت الكاثوليكي الذي
يقول أن ما يتحوّل في الافخارستيا هو فقط جوهر الخبز والخمر فيما أشكال الخبز
والخمر تبقى على ما هي عليه.
٢- كما يرفض اللاهوت اللوثري الذي يقول بوجود جوهرين
معاً.
فالمسيح، في نظر اللاهوت الارثوذكسي، لا ينزل من السماء
ليحتجب تحت أشكال الخبز والخمر، كما يقول الكاثوليك، ولا إلى جانب جوهر الخبز
والخمر، كما يقول اللوثريون.
٣- يوضح افدوكيموف في كتابه "الأرثوذكسية"
المفهوم الأرثوذكسي لحضور المسيح ولتحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه،
فيقول:
"إنّ جسد المسيح لم يعد من هذا العالم، إنّه جسد سماوي. إنّه ليس "في أي مكان"، لأنه خارج المكان ويسمو كل حيّز مكاني. ولكنه يستطيع متى شاء أن يوجد في أيّ موضع مكاني ويتجلّى فيه. إنّ هذا الحصر في موضعٍ ما ضروري لنا، وبدونه لا نستطيع أن ندخل في شركة غير المنظور. ولكنّ الجسد السماوي ليس تحت الخبز ولا معه ولا فيه، كما يقول لوثر، ولا مكان الخبز، كما يقول الكاثوليك، بل هو هذا الخبز: "هذا بعينه هو جسدي". حسب القديس ايريناوس، أن الخبز الافخارستي، باستدعاء الروح القدس، لا يحجب حضوراً آخر، بل يوحّد الطعام السماوي وطعام الأرض، إذ يجعلهما الشيء نفسه، وتلك هي المعجزة."[1]
٤- يغطس الكاهن الحملَ في دمه، وإذا هو الجسد الحيّ،
وليس علامة أو خداع الأعراض. وليس هو تجسّد ثانٍ للمسيح في الأشكال، بل التحوّل
الكامل، تحوّل الجوهر والأعراض إلى جسد سماوي. ليست أعراض الخبز هي التي تبقى، بل
حالة أعيننا التي لا تقوى على تأمل الجسد السماوي المحافظ على خداع الأشكال. إن
خطأ العقيدة يقوم على الاهتمام بالموضوع وليس بالشخص، بالخبز وليس بالإنسان. يجب
ألاّ نحلِّل المعجزة، على غرار التحليل الكيميائي، تبعاً لحواسّنا. بل يجب بالحريّ
أن نتّهم حواسّنا بأنها لا ترى المعجزة الحقيقية، الحقيقة السماوية. هناك شبه مع
معجزة تجلّي المخلّص على جبل ثابور. فليس المسيح هو الذي يتغيّر، بل أعين الرسل
التي تنفتح زهاء لحظة. يقول يوحنا الدمشقي: "ان استدعاء الروح القدس يحقّق ما
لا يمكن أن يقبله إلاَّ الإيمان وحده".[2]
٥- فمن غير المجدي أن نفلسف في هذا الموضوع. ان الغربيين،
في عقائدهم، يحاولون الولوج إلى قلب المعجزة وتفسير ما تعنيه. أما الشرقيون
فينظرون بأعين الإيمان ويرون لأوّل وهلة الجسد والدم، ولا شيء سوى ذلك[3]".
4- لاهوت الآباء:
لقد حافظ اللاهوت الأرثوذكسيّ على تعليم الآباء الذين
يؤكّدون الحضور الحقيقي والتحوّل إلى جسد المسيح ودمه، دون محاولة تفسير هذا
التحوّل بلغة الفلسفة. لأن السرّ يفوق كل ادراك بشري. وهذه بعض أقوال الآباء:
"عندما نضع القرابين أمام الله نصلّي بإلحاح لكي تتحوَل لنا إلى "بركة روحية"، حتى إنّنا إذا تناولنا منها نتقدّس في أجسادنا وأرواحنا. ثم يقول الكاهن مشيراً إلى القرابين: "هذا هو جسدي... هذا هو دمي"، لكي لا تظنّ أن ما يظهر أمامك هو مجرّد رمز، بل لكي تعرف جيداً أنه بفعل قدرة الله الضابط الكل الفائقة كل وصف، قد تحوّلت القرابين بالحقيقة إلى جسد المسيح ودمه" (القديس كيرلس الاسكندري).[4]
"لم يقل الرب: "هذا رمز جسدي، وهذا رمز دمي"، بل: "هذا هو جسدي، هذا هو دمي"؛ وبذلك أعلمنا أنه يجب علينا ألاّ ننظر إلى طبيعة ما يقدَّم، بل إلى أنه بواسطة الافخارستيا يصير تحوّل إلى الجسد والدم" (تيودوروس المصيصي).[5]
"بما أن يسوع صرّح بذلك وقال عن الخبز: "هذا هو جسدي"، فمن يتجاسر ويشكّ بعد ذلك؟ وعندما يؤكد هو نفسه بكلام جازم: "هذا هو دمي"، فمن الذي يعارض ويقول إنه ليس دمه؟ لقد سبق له في قانا الجليل أن حوّل الماء إلى خمر بفعل إرادته (يو 2: 1- 11)، أفلا يكون جديراً بالتصديق عندما يحوّل الخمر إلى دمه؟ لقد قام بهذه الآية العجيبة عندما دُعي إلى عرس دنيوي، وعندما يهب لأصدقاء العريس (متى 9: 15) أن يتنعّموا بجسده ودمه، أفلا نعترف به بالأكثر؟ فبكلّ ثقة إذن نتناول جسد المسيح ودمه. فجسده يُعطى لك في صورة الخبز، ودمه يُعطى لك في صورة الخمر، حتى إنك، إذ تشترك في جسد المسيح ودمه، تصير مع المسيح جسداً واحداً ودماً واحداً. وهكذا نصير حاملي المسيح، بما أن جسده ودمه ينتشران في أعضائنا؛ وهكذا نصير، حسب قول الطوباوي بطرس، "شركاء في الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4)... فلا تنظر إلى الخبز والخمر كأنّهما عنصران طبيعيان، إذ إنّهمَا جسد ودم، حسب قول المعلّم. إن كانت الحواس توحي إليك ذلك، فليثبّتك الإيمان. لا تحكم في هذا الأمر بحسب الذوق، ولكن امتلئ ثقة بحسب الإيمان، وقد وُجدتَ أهلاً لجسد المسيح ودمه" (القديس كيرلس الأورشليمي).[6]
أن قول القديس كيرلس الأورشليمي: "جسد المسيح يعطى
لنا في صورة الخبز، ودم المسيح يعطى لنا في صورة الخمر"، يوضح لنا كيف حاول
الآباء أن يتخطّوا مشكلة الاختيار بين الحقيقة والرمز في سرّ الافخارستيا. أن
المسيح حاضر حضوراً حقيقياً بجسده ودمه، لكنّ هذا الحضور ليست حضوراً مادياً بل
حضور سرّيّ في الصورة والرسم.
لفهم تعبير الآباء، لا بدّ من وضعه في إطار الفلسفة
الأفلاطونية التي تأثّروا بها. فالحقيقة في نظر أفلاطون لا تكمن في العالم الحسّي،
بل في عالم المُثُل أو العالم الإلهي. فكأن البشر في مغارة، والأشياء الحقيقية
خارج المغارة، ولا يدرك البشر من الحقائق إلاَّ ظلّها وصورتها. إنّ تشبيه المغارة
لا يعني أنّ ما ندركه هو وهم وخيال، بل انه الحقيقة عينها، ولكن في صورتها.
هذا التصوّر الأفلاطوني لإدراك الإنسان للحقيقة، طبّقه
الآباء، ابتداء من اوريجانوس، على علاقة العهد القديم بالعهد الجديد. فالعهد
القديم، في طقوسه ونبوءاته، هو صورة للحقيقة التي تجلّت لنا في ملء الأزمنة في شخص
يسوع المسيح كلمة الله المتجسّد. ولكنّنا الآن أيضاً، في العهد الجديد، لا نزال
بحاجة إلى البلوغ إلى التجلّي الحقيقي دون حجاب. وسبيلنا إلى ذلك هو الكنيسة
والمعمودية والافخارستيا. ففيها يتجلّى لنا المسيح بحقيقة جسده ودمه، ولكن من خلال
الخبز والخمر اللذين هما صورة ورسم للجسد والدم. في هذه النظرة، يتّضح تشبيه
افدوكيموف للمعجزة الافخارستية بتجلّي المسيح على جبل ثابور: فالمسيح حاضر هنا كما
كان حاضراً على جبل ثابور، في حقيقة جسده ودمه، ولكنّ أعيننا البشرية لا تستطيع
رؤيته رؤية مباشرة، بل نراه بأعين الإيمان.
قد نجد في مقاطع لبعض الآباء تركيزاً على حقيقة حضور
المسيح في جسده ودمه ونوعاً من الإغفال عن الصورة والرسم. وما ذلك إلاَّ بهدف
التأكيد أن لا خلاصِ للإنسان إلاَّ باتحاده بالله. فالجسد الذي نتناوله في
الافخارستيا لا يخلّصنا إلاَّ إذا كان حقاً جسد المسيح نفسه. يقول القديس
غريغوريوس النيصي:
"ما هو إذن هذا الدواء (لسمّ الخطيئة المميت العامل في جسدنا)؟ انه بالذات هذا الجسد الممجّد الذي ظهر أقوى من الموت وصار لنا ينبوع الحياة. كما أنّ بعض الخمير، حسب قول الرسول، يخمّر العجين كلّه، هكذا الجسد الذي رفعه الله إلى الخلود، متى أُدخل في جسدنا، يغيّره ويحوّله كلّه إلى جوهره الخاص".[7]
وكذلك يقول القديس كيرلس الاسكندري:
"فلنبحث بكلّ طاقتنا في سرّ الافخارستيا: لقد خلق الله كلّ شيء للخلود... ولكنّ الموت دخل إلى العالم بجسد إبليس... فكيف يمكن للإنسان الذي صار تحت سلطان الموت أن يستعيد الخلود؟ كان لا بدّ من أن يدخل جسده الميت في شركة قوة الله المحيية. أمّا قوّة الله المحيية فهي الكلمة. لذلك صار الكلمة جسداً، واتّحد بجسد قابل للموت، وأعطاه مناعة ضد الفساد، وجعله جسداً محيياً. لكن ينبغي أن يحلّ فينا إلهياً بواسطة الروح القدس، وان يمتزج بطريقة ما بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الكريم. وهذا هو ما نناله في الافخارستيا المحيية كما بخبز وخمر".[8]
وهذا ما يؤكّده أيضاً بكل شدّة القديس يوحنا الدمشقي في
كتابه "المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي".[9]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن كتاب: اللاهوت المسيحي والإنسان المُعاصر، ج3،
للمُطران كيرلس سليم بسترس.
[1] ضد الهرطقات 4: 34
[2] يوحنا الدمشقي، الماة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي،
4: 13
[3] EVDOKIMOV. Le orthodoxie, pp. 246: 248
[4] P. G. LXII, 452B. في تفسيره
لإنجيل ق. متي
راجع نصوصاً أُخري في كتاب الإفخارستيا والقُداس للأب
متي المسكين، ص 496.
[5] P. G. 66, 714.مقاطع من
تفسير إنجيل متي 26: 26،
[6] العظة الرابعة عن الأسرار. S. C. H. 126. PP,
135: 137
[7] Catechetiques, 37, 3
[8] تعليقه علي لوقا 22: 19
[9] الكتاب الرابع الرأس الثالث عشر، ص 235، 236
راجع ايضاً ما يقوله كابسيلاس في كتاب حياتي في المسيح
منشورات النور، ص 27: 114
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق