لقد أوضح العهد الجديد لاهوت
المسيح بشكل جليّ على مستويين: الأوّل: هو الإعلان المباشر عن لاهوته. والثاني:
الإعلان غير المباشر الذي يشمل: غفرانه للخطايا، قبوله للعبادة، سلطانه غير
المحدود... وسوف نكتفي في دراستنا هُنا على الإعلانات المباشرة عن لاهوت السيد
المسيح فقط، وكيف قرأتها الكنيسة الأولى.[1]
الإعلان المباشر عن لاهوت السيد
المسيح في العهد الجديد
مساواته
للآب
أعلن يسوع مساواته مع الله الآب في عدّد من المناسبات.
1-
يوحنا 10: 25- 33:
”أجابهم يسوع.. أنا والآب واحد. فتناول اليهود أيضا حجارة ليرجموه. أجابهم يسوع أعمالًا كثيرة حسنة أريتـكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني. أجـابه اليهود قائلين لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجـل تجـديـف. فـإنـك وأنـت إنسان تجعل نفسك إلهًا“.
وتوضح هذه الفقرة أنّ اليهود
فهموا بوضوح كلمات المسيح على أنّها ادِّعاء بالإلوهيّة. ويبيّن ردّ فعلهم، أنّهم
قد فهموا تمامًا ماذا يعنيه بهذه الكلمات. كما يكتب العالم الكتابيّ ف. بروس:
”لم
يكن أمام اليهود إلا أن يعتبروا كلمات يسوع تجديفًا،
فمضوا ينفذون الحكم بأيديهم. لقد نصَّت الشريعة على أن التجديف عقوبته الرجم
(لاويين 24: 16). ولكنهم لم يكونوا ليسمحوا بأن تسير إجراءات ا1لشريعة في مجراها
الطبيعي. فلم يعدوا اتِّهامًا على أساسه يمكن للسلطات أن تتخذ
الإجراء اللازم بموجبه. بل في غضبهم نصبوا أنفسهم قضاة وجلادين في آن واحد. وتشير
كلمة «أيضًا»
إلى محاولتهم السابقة لرجمه (يوحنا 8: 59)“.[2]
2-
يوحنا 5: 17و 18:
”فأجابهم يسوع أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل. فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه. لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضًا إن الله أبوه معادلًا نفسه بالله“.
من الواضح أنّ يسوع يساوي
عمله بعمل الآب، فالآب يعمل، والابن يعمل أيضًا، الآب يعمل في السبت، والابن كذلك
لا يتوقف عن العمل، واضعًا نفسه على قدم المساواة مع الأعمال التي في قدرة الآب أن
يعملها. كما يُعلِّق على هذا النص المطوَّب أمبرسيوس في كتابه عن الروح القدس:
”لكي نعرف بطريقة أكمل عن مساواة الآب والابن، إذ تكلم الآب عمل الابن، هكذا أيضًا الآب يعمل، والابن يتكلم. الأب يعمل كما هو مكتوب: "أبى يعمل حتى الآن، وأنا أعمل". تجد انه قيل للابن: "قل كلمة فقط فيبرأ غلامي" (مت 8:8). ويقول الابن للآب: "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني ليكونون معي حيث أكون أنا" (يو 17:14)، فالآب عمل ما قاله الابن“.[3]
ويكتب
المطوَّب أغسطينوس في تعليقاته على إنجيل يوحنّا:
”الإيمان الجامعي (للكنيسة الجامعة) هو أن أعمال الآب وأعمال الابن غير منفصلة... كما أن الآب والابن غير منفصلين، هكذا أيضًا أعمال الآب وأعمال الابن غير منفصلة... ما يفعله الآب يفعله أيضًا الابن والروح القدس. فإن كل الأشياء صُنعت بالكلمة، عندما "تكلم كانت"“.[4]
لكن، ما أثار حفيظة اليهود
ليس ذلك فقط، بل أنّه صرَّح هُنا بعلاقة فريدة مع الله قائلًا إنه
أباه. وكما أن ابن أي شخص من البشر يجب أن يكون إنسانًا من البشر بالتمام، فهكذا
ابن الله يجب أن يكون هو الله
بالتمام. وكل ما للآب فهو للابن. ويشير يسوع أيضًا إلى أنه مادام الله يعمل فإنه،
أي الابن، يعمل أيضًا . ومرة أخرى يفهم اليهود الإشارة إلى أنه ابن الله. ونتيجة
لهذا التصريح، فإن كراهية اليهود قد بلغت مداها.
الوجود الأزلي
3- يوحنا 8: 58:
”قال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن“.
في تفسيره على إنجيل القديس
يوحنا يكتب ذهبي الفم
موضحًا أنّ الكائن تعني الذي فوق الزمان، فيقول:
”لماذا لم يقل:" قبل أن كان إبراهيم أنا كنت" بل "أنا الكائن"... يستخدم المسيح هذا التعبير ليعني استمرار الكائن فوق كل زمان. لهذا حُسب هذا التعبير تجديفًا“.[5]
ويكتب أغسطينوس بأكثر بيان:
”لتزنوا الكلمات، ولتتعرفوا على السرّ. "قبل أن يكون (يُخلق was made) أنا كائن". لتفهموا أن "خُلق" تشير إلى الخلق البشري، أما "أنا كائن" فتشير إلى الجوهر الإلهي. لم يقل: "قبل أن يكون (was) أنا كنت"، ذاك الذي لم يُخلق إلاَّ بي أنا الكائن. ولم يقل "قبل أن يُخلق إبراهيم أنا خُلقت"... لتميزوا بين الخالق والمخلوق“.[6]
يسوع له نفس الكرامة التي تليق بالله
4- يوحنا 5: 23 و24:
”لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله. الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة“.
في الجزء الأخير من هذه
الآية يحذِّر يسوع من يتهمونه بالتجديف. فهو يقول لهم إنهم بإساءة معاملتهم له
فإنما يسيئون معاملة الله، وأن الله هو الذي سيغضب بسبب معاملتهم ليسوع، ويصرِّح
يسوع أيضًا بأن له الحق في أن تقدم له العبادة مثل الله. وعلى ذلك، وكما أشرنا
سلفًا، فإن من لا يكرم يسوع فإنه لا يكرم الله. ويعلِّق
القديس يوحنّا ذهبي الفم على هذا النصّ قائلًا:
”ألا ترون كيف ترتبط كرامة الابن بكرامة الآب؛ قد يقول أحد: ما هذا؟ فإننا نرى نفس الشيء في حالة الرسل إذ يقول المسيح: "من يقبلكم يقبلني" (مت 10 :40). في ذلك يتحدث هكذا، لأنه مهتم بخدامه الذين هم له، أما هنا فالسبب هو أن الجوهر واحد والمجد واحد مع الآب. لذلك لم يقل عن الرسل "لكي يكرمونهم"، أما هنا فبحق يقول: "من لا يكرم الابن لا يكرم الآب". فإنه متى وجد ملكان، من يسب الواحد يكون قد سب الآخر، خاصة إن كان ابنه وأيضًا من يسيء إلي جنوده يحسب كمن أساء إليه، لكن بطريقة مختلفة“.[7]
الإله يسوع المسيح
5- رومية 9: 5:
”ولهم (شعب اليهود) الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكلّ إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين“.
بولس... يعلن أن المسيح،
الذي قال عنه توًا إنه بحسب الطبيعة البشرية أو كإنسان من نسل إسرائيل، هو من
ناحية أخرى الله المهيمن أو الله الكائن على الكلّ والمبارك إلى الأبد... ومن ثمّ تبين
هذه الفقرة أن المسيح هو الله بأسمى ما في الكلمة من معنى. فما ىؤكد عليه الرسول
في نهاية رومية 9: 1- 5 هو ما يلي: على النقيض من الإهانة والرفض الذي يلقاه من
شعبه الإسرائيلي، فإن المسيا، يسوع المسيح، في الحقيقة ممجد على كل الخليقة الحية
وغير الحية، ومن بين ذلك اليهود الذين رفضوه باعتبار أنه الله بطبيعته والهدف
الأزلي للعبادة. يعلِّق القديس هيبوليتس الرومانيّ على هذا النصّ في الكتاب الذي
وضعه ضد المُهرطق نويتيوس قائلًا:
”هذه الكلمة تعلن سرّ الحق باستقامة ووضوح، فإنه ذاك الكائن على الكلّ هو الله، القائل بدالة: "كل شيء قد دُفع إلى من أبي" (مت 11: 27). الكائن على الكلّ هو الله المبارك وقد وُلد إذ صار إنسانًا، لكنه هو الله إلى الأبد. في هذا يقول يوحنا أيضًا: "الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء" (رؤ 1: 8). حسنًا دُعي المسيح بالقادر، إذ بهذا ينطق بما شهد به المسيح عن نفسه“.[8]
6-فيلبي
2: 6- 11
”الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رّبّ لمجد الله الآب“.
تصف ذه النصوص المسيح الممجد
وطبيعتيه: طبيعة الله (2: 6) وطبيعة العبد (2: 7). وتقدِّم هذه الفقرة يسوع
باعتباره الله الكامل والإنسان الكامل بالطبيعة، فهي توحي المقابلة بين السماويّ
والأرضيّ، أنّ كلمة morphe (المستخدمة في الآية 6 والآية 7 والمترجمة «صورة أو طبيعة الله أو
العبد) تشير إلى المشاركة في الله وهي حقيقيّة، تمامًا كما كان الاشتراك في الحياة
والتاريخ البشريّ حقيقيًّا بالنسبة ليسوع.
والآيات من 9- 11 تعادل
المسيح بالله. كتب ف.ف بروس:
”تشتمل هذه الأنشودة على أصداء من إشعياء 52: 13.. وأيضًا إشعياء 45: 23 حيث يقسم الله الحقيقي الواحد بنفسه: «لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان». ولكن في أنشودة المسيح فإن الله نفسه هو الذي يأمر بأن تنحني كل ركبة لاسم يسوع ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب...
وأحيانًا يسأل البعض عن المقصود من عبارة «اسمًا فوق كل اسم» في أنشودة المسيح، فهل هو «يسوع» أم «الرب» إن هذا الاسم يشتمل على كليهما معًا، لأنه بموجب القرار الإلهيّ أصبح اسم «يسوع» منذ تلك اللحظة مساويًا للاسم «الرب» بكل ما فيه وأسمى ما فيه من معاني -معاني الاسم العبري يهوه.[9]
7-
كولوسي 2:9:
”فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًّا“.
تلفت هذه العبارة البسيطة
أنظارنا إلى حقيقة يسوع وأهمّيّته بالنسبة لنا. فإنّ العقيدة التي يتفرّد بها
الإيمان المسيحيّ -وهيَ أنّه في يسوع المسيح حلّ «كل ملء اللاهوت جسديًّا» (كولوسي
2: 9) هيَ مكوِّن أساسيّ وجوهريّ في تعاليم العهد الجديد، فقد كرّره وأكَّد عليه
الرسل الذين عاصروا يسوع.
[1] لمزيد من الدراسة حول لاهوت المسيح في العهد القديم
والجديد والليتورجيّات الأولى والنصوص الأبوكريفيّة، يمكن الرجوع إلى: ”الثالوث
القدوس قبل نيقية“، لأمجد بشارة.
[2] F. F. Bruce, the New International Commentary
on the New Testament, Grand Rapids:1971, p 575.
[3] On
the Holy Spirit, Book 2, jutr.(2).
[4] On
the Gospel of St. John, tractate 20:3.
[5] Hom
55. PG 59:324.
[6] On
the Gospel of St. John, tractate 4 3: 17.
[7]
Homilies on St. John,39:2.
[8]
Against heresy of Noetius 6.
[9] F. F. Bruce, The Real Jesus: Who is He? In the
Jesus Library, London: 1985. P, 202.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق