السبت، 16 سبتمبر 2023

سر المعمودية

 


المعموديّات غير المسيحيّة


أ ـ في الديانات الوثنية


يخبرنا ترتليانوس[1] من القرن الثالث عمّا كان يحدث في الديانات الوثنيّة السرّيّة من طقوس استحمام وغُسِل بالماء والتي كانت تتكرّر بلا انقطاع وذلك في إطار المقارنة بالمعموديّة المسيحيّة والتي كانت تجري لمرة واحدة إذ أنّها اتحاد تام ونهائيّ بالسيد المسيح، فالاستحمام الوثنيّ ليس له طابع تاريخيّ، أي لا يعود إلى حدث تاريخيّ ينبع منه وجودها وجوهرها. أمّا المعموديّة المسيحيّة فتاريخيّة، أي أنّها مرتبطة كيانيًّا بحدث تاريخيّ إلهيّ وخلاصيّ. أي حدث تمّ من أجلنا ومن أجل خلاصنا بتجسُّد يسوع المسيح ابن الله الوحيد ومعموديّته وموته على الصليب وقيامته.


ب ـ في العهد القديم


تكثر الإشارة إلى طقوس الغسيل والحميم في نصوص العهد القديم والتي تركز على الطهارة الخارجيّة بغسل الجسد والأشياء المخصّصة للخدمة الدينيّة قبل الاحتفال بأي طقس أو الإقدام على أي عمل دينيّ (انظر لاويين14: 19، 34؛ 11: 32؛ 15: 1؛ حز36: 25- 27).


ج ـ الاغتسال عند اليهود الأسينيّين


كان كلّ من يريد أن ينضم لجماعة اليهود الأسينيّين، الذين عاشوا في منطقة قمران في حياة مشتركة منتظرين مجيء المسيح، أن يتهيّأ لمدة سنة لغسل طقسيّ يُرافقه خلع ملابس وارتداء أُخرى. كان هذا ”العماد“ يتكرّر عدّة مرات للشخص الواحد، خلاف المعموديّة المسيحيّة التي تجرى لمرة واحدة.


لماذا الماء


بما أنّنا مُؤلَّفون من جسد وروح، لذلك عيّن الله أن تكون وسائط خلاصنا وأسرّار النعمة التي يفيضها علينا الروح القدس، تحت علامات حسيّة وإشارات منظورة. وهكذا يستنتج القديس غريغوريوس النيزنزيّ في عظته على المعموديّة سبب استخدام الماء في هذا السرّ، كالآتي:

1- لإنّ الماء يغسل الأقذار، والمعموديّة تنقي من جميع الخطايا.

2- الماء يجدّد وينعش الجسم، والمعموديّة تحيى خواص النفس.

3- لإنّ بالماء قوام الحياة، والمعموديّة تمنح الخلاص.

4- لإنّ المعموديّة مثال موت المسيح ودفنه ولابد أن نماثله في الدفن. فأين الدفن؟ أفي الهـــواء ونحن محاطون بـه من كلّ جهة؟ أم في النار وهيَ مُحرِقة لا تصلح لذلك؟ أم في التراب، والدفن فيه يقتضي الموت حقيقة لا مجازًا؟

فلا سبيل إذًا إلَّا بالدفن في الماء في جرن المعموديّة ولذلك قال الرسول:

”اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعموديّة للموت، حتّى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة، لأنّه إن كنّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته“ (رو6: 4و5).

 

الآباء والمعموديّة


قال القديس يوستينوس الشهيد:

”يجب أن نُفتش ونعرف من أي طريق يمكننا أن ننال صفح الخطايا، ونمتلك رجاء ميراث الخيرات الموعود بها، ولنا في ذلك طريق واحد فقط، وهو أن نعرف يسوع ونغتسل بالمعموديّة لغفران الخطايا، وهكذا نبتدىء أن نعيش بالقداسة“.[2]

وقال القديس كيرلس الأورشليميّ:

”عظيمة هيَ المعموديّة المعدّة فداء عن المأسورين، وصفحًا للأوزار، وموتًا للخطية، وولادة ثانية للنفس، وثوبًا نيّرًا، وختمًا مُقدّسًا لا ينفك، ومركبة إلى السماء، وتعليم الفردوس، وعلّة الملكوت، ومنحة التبني“.[3]

وقال القديس غريغوريوس النيسيّ:

”فالمعموديّة إذًا تنقية من الخطايا وترك المآثم وعلّة التجديد والولادة الثانية“.[4]

وقال أيضًا:

”حينما تدخلون في الماء لا تجدون بعد ماءً بسيطًا، بل تنتظرون خلاصًا بالروح القدس، لأنّكم تستطيعون بلا مانع أن تصلوا إلى الكمال. وهذا الكلام ليس كلامي بل كلام الرّبّ يسوع نفسه، الذي له السلطة التامة في هذا السرّ، كما في كلّ سرّ غيره. وهو إن كان أحد لا يولد من الماء والروح فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله الذي معناه ألَّا تكون المعموديّة بماء فقط، لأن الذي يعتمد بالماء فقط لا يستحق نعمة الله ولا ينالها كاملة، كما أنّ الذي لم ينل ختم الماء مهما كان صالحًا بأعماله لا يستطيع أن يدخل ملكوت السموات. هذا الكلام صعب، ولكنه ليس كلامي لأنّ الرّبّ يسوع هكذا تكلم. وإليك البرهان في الكتاب“. وأورد حادثة كرنيليوس وعماده، وختم كلامه بقوله: ”إنّ بطرس عمّدهم باسم الرّبّ يسوع، فأعاد ولادة النفس بالإيمان لينال الجسد أيضًا النعمة بواسطة الماء“.[5]

وقال القديس يوحنا ذهبيّ الفم للموعوظين المرشحين للعماد:

”إنّ الذين كانوا قبل عمادهم أسرى، فإنّهم يتمتعون الآن ببهاء الحرّيّة. وصاروا أعضاء الكنيسة سالكين في نور البر البهيّ، بعد ما كانوا سائرين في الضلال الحالك وظلام الخطية القاتم. حقًّا أنّهم الآن مُحرّرون، وليس ذلك فقط بل قديسون فأبرار فأبناء فورثة فإخوة المسيح وارثون معه فأعضاء لجسده الطاهر، فهياكل الروح القدس. فتأمل في العطايا الجزيلة والمواهب الثمينة التي يمنحها سرّ العماد. إنّ كثيرين يظنون أنّه يغفر الخطية فقط، وأمّا نحن فقد أُحصينا له عشرة مفاعيل تجعل النفس في مركز سام ومقام جليل لا يوصف“.

 

معموديّة الأطفال


لا تُعلِّم الأرثوذكسيّة بخطية جديّة موروثة كما قلنا، فالأطفال في التعليم الأرثوذكسيّ ليسوا مُدانين مُذنبين محكوم عليهم من الله ومغضوب عليهم أمامه!

فهذا ما نادى به اللاهوت اللاتينيّ، فمثلًا نجد أغسطينوس يكتب:

”إنّنا بميلادنا من الماء والروح القدس نتطهر من كلّ خطية، سواء كانت من آدم الذي به أخطأ الجميع، أو بفعلنا وقولنا لإنّنا نُغسَل منها بالمعموديّة“.

وقال:

”إنَّ لنا ميلادين أحدهما أرضيّ والآخر سماويّ. الأوّل من الجسد، والثاني من الروح. الأوّل صادر عن مبدأ قابل للفناء، والثاني عن مبدأ أبديّ. الأوّل عن الرجل والمرأة، والثاني عن الله والكنيسة. الأوّل يجعلنا أبناء الجسد، والثاني أبناء الروح، الأوّل يصيرنا أبناء الموت، والثاني أبناء القيامة. الأوّل يجعلنا أبناء الدهر، والثاني أبناء الله. الأوّل يجعلنا أبناء اللعنة والغضب، والثاني أبناء البركة والمحبّة. الأوّل يقيدنا بأغلال الخطية الأصليّة، والثاني يحلّنا من رباطات كلّ خطية“.[6]

وسبقه العلامة كبريانوس تلميذ العلامة ترتليان، إذ قال:

”إذا كان الذين أخطاوا سابقًا أمام الله، إذ يؤمنون يأخذون صفح خطاياهم، ولا يمنع أحد منهم عن المعموديّة والنعمة، وإن كان قد فعل خطايا غير محصاة. فالأطفال الذين ضميرهم غير متفتح ولم يخطئوا في شيء، والذين نظرًا للخطية الكامنة فيهم وتدنّسوا بها وصاروا مشاركي الموت الآدميّ، يحتاجون أيضًا إلى المعموديّة لأنّها شرط لنوال الخلاص والصفح، ليس عن الخطايا الشخصيّة بل الأبويّة. وقد حدّد مجمعنا ”بأنّه لايجوز أن نمنع أحدًا من المعموديّة ونعمة الله الذي هو صالح ورؤوف بالجميع. فالمعموديّة هيَ للجميع وخصوصًا للأطفال الصغار، الذين بنوع خصوصيّ يستميلون انتباهنا وصلاح الله“.[7]

فلماذا إذًا نُعمّد الأطفال؟ تتضح أهمّيّة معموديّة الأطفال من خلال تعاليم المسيح الآتية:

1- ”دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات“ (مت 19: 14 / 18: 3 / مر10: 15 / لو18: 15- 17)

2- أنّه جعلهم مقياسًا للكبار في الدخول إلى ملكوت السموات بقوله:

”إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات“ (مت 18: 3).

3- أوضح أنّ قبولهم بمنزلة قبول شخصه المبارك فقد قال:

”ومن قبل ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قبلني“ (مت 18: 5).

4- نهانا عن احتقارهم لاعتبارهم في عيني الله بقوله:

”انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأنّي أقـول لــكم أنّ ملائـكـتهم في السموات ينظرون وجه أبي الذي في السموات“ (مت18: 10).

5- إنّ الأولاد بمنزلة الحملان الصغار. والمسيح كراعٍ صالح يقود الخراف الكبار والحملان الصغار. ولا تخفى علاقة الأولاد بوالديهم. وقد سبق إشعياء النبي فوصف المسيح بقوله:

”كراع يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات“ (أش40: 11). ”ولما قدّموا الأطفال إلى الرّبّ يسوع احتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم“ (مر 10: 16).

 

إشارات من الكتاب المُقدّس لمعموديّة الأطفال


نرى بطرس الرسول في يوم الخمسين صرح بعماد الذين قبلوا المسيح من الكبار ولم يتأخر أن يعلن لهم قبول أولادهم معهم بقوله لهم:

”توبوا وليعتمد كلّ واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس، لأن الموعد هو لكم ولأولادكم“ (أع 2: 38).

ففي قوله (لكم ولأولادكم) تصريح واضح بقبول الأولاد في الإيمان والمعموديّة. وحيثما كرز الرسل بالإنجيل قبلوا عائلات وعمّدهم مع أهالي بيوتهم. ومن ذلك ليدية بائعة الأرجوان التي قبلت الإيمان واعتمدت هيَ وأهل بيتها (أع 16: 14و15) وبيت استفانوس (1كو1: 16) والسجّان الذي اعتمد هو والذين له أجمعون (أع 16: 33).


تعاليم الآباء عن وجوب معموديّة الأطفال


قال القديس إيرينئوس:

”إنّ يسوع المسيح أتى لكي يخلص جميع البشر أعني الذين به ولدوا ثانية لله. سواء أكانوا أطفالًا أو شبانًا أو شيوخًا“.[8]

وقال القديس غريغوريوس النيزنزيّ:

”هل عندك طفل، فلا يأخذ فيه الشرّ فرصة، بل ليُقدّس وهو رضيع وليُكرّس للروح منذ نعومة أظفاره، إنَّكٍ تخافين أيتها الأم من الختم بسبب ضعف الطبيعة بما أنّكِ ضعيفة النفس وقليلة الإيمان، لكن حنة قبل أن تلد صموئيل وعدت الله به، وبعد ولادته حالًا كرّسته وبالحُلّة الكهنوتيّة ربته، ولم تخف من الضعف البشريّ بل آمنت بالله“.[9]

ويكتب القديس بولس الرسول:

”لأَنَّ الرَّجُلَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ مُقدّس فِي الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ الْمُؤْمِنَةِ مُقدّسة فِي الرَّجُلِ. وَإِلاَّ فَأَوْلاَدُكُمْ نَجِسُونَ، وَأَمَّا الآنَ فَهُمْ مُقدّسونَ“ (1كو7: 14).

فالأطفال بحسب هذا النصّ مُقدّسين في إيمان والديهم، ليس أحد والديهم بل كليهما، أيّ أنّه باعتبار ما سيحدث سوف يتشرّب من أحد والديه هذا الإيمان. وعليه فهو مُقدّس غير حامل لخطية. ومن هذا النصّ أيضًا جائت فكرة الإشبين.


الأشبين


أمّا كلمة ”أشبين“ فإنّها سريانيّة الأصل ومعناها الحارس أو الوصي.

قال القديس ديونسيوس الأريوباغيّ عن هذه العادة:

”إنّ هذا الأمر أفتكر به معلمونا الإلهيّون (الرسل) ورأوه موافقًا أن يقبل الأطفال على هذا الوجه الشريف أعني أن يسلم الوالدان الطبيعيّان ولدهم لمربٍ صالح وأن يبقى الولد فيما بعد تحت إدارته كأنّه تحت عنايه أب إلهيّ وكفيل لخلاص مُقدّس، فمتمّم السرّ يرفعه وهو معترف إلى الحياة المُقدّسة طالبًا رفض الشيطان والإقرار الشريف“.[10]

وقال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:

”وإن كان المعمدون أطفالًا أو طرشًا لا يستطيعون استماع التعليم فليجاوب أشابينهم عنهم، وهكذا يُعمّدون حسب العادة“.[11]

وقال المطوَّب أغسطينوس:

”إننا نؤمن ونصدّق بتقوى وصواب أنّ إيمان الوالدين والأشابين يفيد الأطفال، وعلى هذا الإيمان يُعمّدون“.[12]

 

المعموديّة بالتغطيس


العلامة ترتليانوس:

”حين نأتي إلى الماء نغطس ثلاث مرات“.[13] وقال أيضًا: ”لإنَّنا نغطس لا مرة واحدة بل ثلاث مرات باسم كلّ واحد من الاقانيم“.[14]

وقال القديس باسيليوس الكبير:

”فبثلاث غطسات ودعاء مساوٍ لها في العدّد يتم سرّ المعموديّة العظيم، لكي يتصوَّر رسم الموت وتستنير نفوس المعمدين بتسليم معرفة الله“.[15]

إنَّ جميع آباء الكنيسة هكذا علموا وهكذا مارسوا، قال القديس يوستينوس:

”إنَّ جميع الذين يقتنعون ويصدقون بأن يصلوا ويطلبوا من الله بصوم مغفرة خطاياهم السالفة، ونحن نصلي ونصوم معهم، بعد ذلك نأتي بهم إلى حيث يوجد ماء. وتُعاد ولادتهم بأسلوب إعادة الولادة الذي أعيدت به ولادتنا، لأنّهم يستحمون حينئذ في الماء على (اسم) أبي الكلّ الإله السيد ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس“.[16]

والقديس كيرلس الأورشليميّ يقول:

”كما أنّ الذي يدخل في الماء ويُعمَّد ينغمر بالماء من كلّ جهة. هكذا قد اعتموا تمامًا من الروح أيضًا، لكن الماء يغمر المُعمَّد من الخارج، وأمَّا الروح فيعمّد النفس داخليًّا بلا انقطاع“.[17]

كما نجد له الكثير من الدلائل الكتابيّة، مثل:

أولًا: إنّ السيد المسيح له المجد الذي شرع هذا السرّ المُقدّس هكذا اعتمد، ليضع لنا مثالًا نحتذيه، فيقول الانجيل عن عماده ”فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء“ (مت3: 16). وفي ذلك برهان جليّ على أنّه كان مغمورًا بالماء ونازلًا فيه حتّى أنّه صعد منه.

ثانيًا: إنَّ يوحنا المعمدان والرسل الذين سلمونا وديعة الإيمان هكذا مارسوا العماد، فيوحنا المعمدان عمد الذين أتوا اليه في نهر الاردن، ولو جاز العماد بسكب الماء أو رشه لما كانت هناك حاجة للاتيان بهم إلى النهر، بل كان قليل من الماء يكفي في الحال. وفيلبس عمد الخصي وزير كنداكة ملكة الحبشة بالتغطيس. حيث جاء في سفر الاعمال قوله: ”فأمر أن تقف المركبة فنزلا كلاهما إلى الماء فيلبس والخصي فعمده. ولما صعد من الماء خطف روح الرّبّ فيلبس فلم يبصره الخصي أيضًا“ (أع8: 26- 39)، فلو كان العماد بالرش جائزا لقنع فيلبس بقليل من الماء يرشه على الخصي، وهو في المركبة دون أن يكلفه النزول إلى الماء.

ثالثًا: مما جاء في أقوال الرسل عن معنى المعموديّة: فقد قال بولس الرسول:

”أم تجهلون أنّنا كلّ من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعموديّة للموت، حتّى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدّة الحياة، لأنّه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته“ (رو6: 3- 5).

وقال:

”مدفونين معه في المعموديّة التي فيها أُقِمتُم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات“ (كو2: 12).

ففي أقوال الرسول تشبيهات كثيرة، حيث شبّه المعموديّة بالقبر، والتغطيس بالدفن، والانتشال من الماء بالقيامة. ولا يصح تشبيه الموت مع المسيح إلَّا بذلك. فحيث أنّ المعموديّة هيَ مثال موت المسيح ودفنه وقيامته، فلا يصح إتمامها إلَّا بالتغطيس الذي به نتحد مع المسيح بشبه موته ودفنه. لأنّها تُمثِّل موتنا ودفننا وقيامتنا معه.

وأيضًا يدعو الرسول المعموديّة ”غُسلًا“ بقوله:

”لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس“ (تى 3: 5).

وقد أشار حنانيا إلى هذا المعنى حيث قال لشاول:

”والآن لماذا تتوانى، قم واعتمد واغسل خطاياك داعيًا باسم الرّبّ“ (أع 22: 16).[18]

والغسل لا يمكن أن يتمّ بالسكب أو بالرش بل بانغمار الجسم كلّه في الماء. إلَّا في بعض ظروف استثنائية لا مناص منها، وعلى الخصوص للمرضى والمقعدين الذين لا يمكن عمادهم بالتغطيس.[19]

القديس كبريانوس كتب في هذا الموضوع، فقال:

”إنّ سرّ العماد لا يعدم قوته ولا صحته اذا تمّ عن الضرورة بالرش ولا حاجة إلى إعادته“.[20]

 

المعموديّة باسم المسيح أو باسم الثالوث القدوس


تمّت المعموديّة في العصر الرسوليّ باسم المسيح يسوع (أع 2: 38، 8: 16، 10: 48، 19: 20)، بينما تمّت أيضًا باسم الثالوث القدوس، وهذا واضح من أمر الرّبّ الصريح القائل ”عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس“ (مت 28: 19).

ثمّ فيما بعد، ولأجل الهرطقات التي ظهرت في وقت مُتأخر، ثبتت الكنيسة المعموديّة على اسم الثالوث القدوس، وقد ورد في القوانين الرسوليّة:

”إنّ كلّ أسقف أو قس لا يعمِّد حسب أمر الرّبّ بالآب والابن والروح القدس بل بثلاثة (آباء) عديمى الابتداء أو بثلاثة بنين أو بثلاثة معزيين، يُقطع“.

وعن ذلك يقول القديس أوريجانوس:

”معموديّة الخلاص لا ينبغي أن تتمّم على وجه آخر إلَّا باسم الثالوث القدّوس أعني باستدعاء الآب والابن والروح القدس“.

ويقول القديس كبريانوس:

”إنَّ الرّبّ ذاته أوصى بأن نعتمد باسم الثالوث القدّوس بجملته“.[21]

ويقول القديس أثناسيوس الرسوليّ:

”من يرفض هذا الأقنوم أو ذاك من الثالوث القدّوس، ويعتمد باسم الآب فقط، أو الابن وحده، أو الآب والابن خلا الروح القدس، فذاك لا يشترك بالسرّ أصلًا لأنَّ الكمال والخلاص هما في الثالوث“.[22]

 

عدم إعادة المعموديّة


طُرح هذا الموضوع في القرون الأولى للمسيحيّة، أوّلًا في روما، ثمّ في شماليّ أفريقيا بين كبريانوس أسقف قرطاجة وإسطفانوس أسقف روما.

فالاضطهادات التي كانت تصيب المسيحيّين جعلت الكثيرين منهم يجحدون إيمانهم خوفًا من التعذيب والموت، ويقدّمون ذبائح لآلهة الوثنيين أو يشترون شهادات تفيد بأنّهم قدّموا ذبائح؛ ولدى انقطاع الاضطهادات كانوا يطلبون قبولهم من جديد في حضن الكنيسة.

كان أساقفة روما يقفون من هؤلاء المسيحيّين موقفًا متسامحًا، فيفرضون عليهم التوبة ووقت امتحان ثمّ يقبلونهم لسرّ الإفخارستيا. هكذا فعل البابا كالستوس (217- 222)، ومن بعده البابا كرنيليوس (251- 253). وقد قاوم هذا الموقفَ بعض المتشدّدين من أمثال الكاهن هيبوليتوس الذي حمل حملة عنيفة على البابا كالستوس، والكاهن نوفاتيانوس الذي قاوم الباباكرنيليوس في الموضوع عينه. ومن تعاليم نوفاتيانوس نشأت بدعة ”الأطهار“ الذين كانوا يرفضون أن يُقبَل من جديد في الكنيسة مسيحيّ جحد إيمانه أو اقترف خطيئة ثقيلة، وينكرون صحة الأسرّار التي يمنحها كاهن غير ”طاهر“.

أمّا موقف الكنيسة فكان التسامح اقتداء بالسيّد المسيح الذي أن قَبِل توبة الخطأة وطلب ألاّ يُقلعَ الزؤان من حقل القمح (متى 13: 24- 30).

وفي شمالي أفريقيا وقف كبريانوس أسقف قرطاجة الموقف عينه الذي وقفه أساقفة روما، فقاومه دوناتوس وأنشأ كنيسة مستقلّة عُرفت في ما بعد ببدعة ”الدوناتيين“. ومن ممارسات هؤلاء المبتدعين إعادة معمودية المسيحيّين الذين كانوا ينتقلون إليهم، لاعتقادهم أنّ المعمودية غير صحيحة في كنيسة تتساهل مع الخطأة وجاحدي الإيمان. وفي مقابل ذلك راح كبريانوس يعيد هو أيضًا معمودية الدوناتيين الذين كانوا يأتون إليهم.

وفي هذا الموضوع الأخير حصل جدال عنيف بين كبريانوس والبابا اسطفانوس أسقف روما الذي أكّد بشدّة صحّة معمودية الدوناتيين، وطلب من كبريانوس العدول عن إعادة معموديتهم. إلاّ أنّ كنيسة شمالي أفريقيا بقيت على موقفها، ولم يحسم الخلاف بين الموقفين إلاّ سنة 314 في مجمع ”آرل“ وبعد وفاة أهمّ المتخاصمين. وقد قرّر المجمع ما يلي:

”بالنسبة إلى الأفريقيّين الذين يتبعون شريعتهم الخاصّة بإعادة المعمودية، رأى المجمع أنّه إن قدّم أحد من الهرطقة إلى الكنيسة، يُسأَل عن قانون الإيمان الذي تعمّد فيه، فإن بدا واضحًا أنّه تعمّد في الآب والابن والروح القدس، يُكتفى بأن توضع عليه الأيدي لينال الروح القدس. أمّا إذا لم يستطع الإجابة عن الثالوث، فتُعاد معموديّتُه“.[23]

احتدم النقاش من جديد بين الدوناتيين والمطوَّب أغسطينوس، الذي أظهر أنّ صحّة العماد غير مرتبطة بقداسة الكاهن الذي يمنح السرّ، بل بالسلطة التي منحها المسيح لكنيسته. فالكاهن لا يعمّد باسمه الخاص، بل باسم الكنيسة، والكنيسة تعمّد باسم المسيح: ”أبطرس عمّد أم بولس أم يهوذا، فالمسيح هو الذي يعمّد“.[24] والأمر الوحيد المطلوب من خادم السرّ هو احترام قوانين الكنيسة في منح السرّ.

وسنة 325 أقرّ المجمع المسكونيّ الأوّل في القانون 8 صحّة عماد النوفاتيين وكهنوتهم، وهم ”الذين يسمّون أنفسهم أطهارًا، إذا عادوا إلى الكنيسة الجامعة الرسوليّة“؛[25] ولكنّه في القانون 19 طلب إعادة معمودية ”أتباع بولس السميساطي اللاجئين إلى الكنيسة الجامعة“.[26] إنّ القدّيس أثناسيوس السكندريّ الذي كان له دور هام في المجمع، وكان بعد شماسًا إنجيليًا، يفسّر هذا القرار بقوله إنّ أتباع بولس السميساطي كانوا يمنحون المعمودية حسب الصيغة الكنسية الصحيحة، إلاّ أنّ إيمانهم بالثالوث القدّوس كان خاطئًا:

”فهم لا يعترفون بالآب الحقيقي، إذ ينكرون الذي وُلد منه وله جوهر مماثل؟ وينكرون أيضًا الابن الحقيقي؛ إذ يسمّون ابنًا آخر مؤكّدين أنّه مخلوق من العدم. فكيف إذن لا تكون المعمودية التي يمنحونها فارغة وباطلة؟ وكذلك القول عن أتباع آريوس. فإنّهم وإن حافظوا على قول الكتاب المُقدّس ولفظوا أسماء (الآب والابن والروح القدس)، إلاّ أنّهم يخدعون من ينال منهم المعمودية... لأن من ينال المعمودية باسم من ليس بشيء لا ينال شيئًا، بل يتّحد بالخليقة ولا ينال منها أيّ عون“.[27]

وسنة 381 أقرّ المجمع المسكوني الثاني أن تعاد معمودية الآتين من بعض البدع كأتباع بولس السميساطي، و”أتباع افنوميوس الّذين يعمّدون بغطسة واحدة، والصابيليين الذين يعلّمون أنّ الآب هو نفسه الابن“.

أمّا سائر المبتدعين من ”آريوسيين وتبّاع مكدونيوس... والذين يدعون أنفسهم أطهارًا والأَبوليناريين، فيُقبَلون بعد أن يعطوا صكًا برفضهم ضلالاتهم ولعنهم كلّ بدعة لا تتّفق مع تعليم كنيسة الله الجامعة المُقدّسة الرسوليّة، ومن ثمّ يُختَمون ويُمسَحون بالزيت المُقدّس“.[28]

وكذلك المجمع المنعقد في القسطنطينيّة سنة 691 والمدعوّ ”مجمع القبّة“ (أو ترولّو) وهو مجمع خلقيدونيّ، أعاد هذا التمييز بين البدع التي تُعتبَر المعمودية فيها صحيحة وتلك التي تعتبر المعمودية فيها باطلة. وأضاف أنّ ”النساطرة وأتباع افتيخيوس وأتباع ديسقورس وساويرس... يجب على كل منهم أن يقدّم صكًا مكتوبًا يرفض فيه بدعته، وبذلك يصيرون أهلًا لتناول سرّ الشركة المُقدّس“.[29]

من هذا نستخلص أنّ المعمودية باطلة في كنيسة لا تعتقد الاعتقاد الصحيح في الثالوث القدّوس، ويجب إعادة معمودية الذين ينتقلون منها إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة. أمّا الكنائس التي تعترف بالثالوث القدوس، فمهما اختلفت في سائر المواضيع، تبقى المعمودية فيها صحيحة، ولا تعاد معمودية من ينتقل من إحدى هذه الكنائس إلى كنيسة أخرى.

”إنه ختم لا يمحى وخاتم لا ينكسر“.[30]

”إنَّه ختم الله، وكما خلق الإنسان الأوّل على صورة الله ومثاله هكذا الذي يتبع الروح القدس يختم منه ويأخذ صورة الخالق“.[31]

ويقول المطوَّب أغسطينوس:

”إنّ السمة السيديّة لا تُمحى البتة عن الذين نقتبلهم ولا نعمدهم ثانية“.[32]

ويقول ترتليانوس:

”لا يجوز أن تعاد المعموديّة“.[33]

ويقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم:

”قد دفنا معه بالمعموديّة للموت، وكما أنّه غير ممكن أن يصلب المسيح مرة ثانية، هكذا لا يقدر من قد اعتمد مرة أن يقبل معموديّة ثانية“.[34]

ويقول القديس إفرام السريانيّ:

”إنَّ الرّبّ أوصى تلاميذه أن يُنقوا بمياه المعموديّة خطايا الطبيعة البشريّة مرة واحدة“.[35]

 

معموديّة الدم


معموديّة الدم نالها كلّ من نال الشهادة على اسم يسوع المسيح قبل العماد، إذ أنّ المعموديّة هيَ موت وقيامة مع المسيح، وقد مات هؤلاء فعليًّا وتعمّدوا في دمائهم التي سالت لأجل اسمه القدوس. وقد تأسّست تلك المعموديّة بناء على النصوص الآتية:

”كلّ من يعترف بي قدام الناس اعترف أنا أيضًا به قدام أبى في السموات“ (مت 10: 32)

”وإنَّ من أراد أن يُخلِّص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها“ (مت 16: 25)

”طوبى للمطرودين من أجل البر لأنّ لهم ملكوت السموات“ (5: 10)

”قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنّها أحبّت كثيرًا“ (لو 7: 47)

”الذي يحبّني يحبّه أبي وأنا أحبّه وأظهر له ذاتي“ (يو 14: 21)

”ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع نفسه لأجل أحبائه. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به“ (يو 15: 13 و14).

وقد اعتبر آباء الكنيسة هذه المعموديّة اعتبارًا كبيرًا. فقد قال القديس كبريانوس:

”لا يجهل أحد أنّ الموعظين بعد استشهادهم لا يكونون غير معمدين، لأنّهم اصطبغوا أعظم صبغة وأشرفها، أي صبغة الدم التي تكلم عنها المخلِّص. والرّبّ يؤكِّد أيضًا أن المعتمدين بدمهم والمُقدّسين بالتعذيبات يضحون كاملين ويأخذون نعمة الموعد الإلهيّ“.

وقال القديس كيرلس الأورشليميّ:

”من لايقبل المعموديّة في خلاص له. ما عدا الشهداء وحدهم الذين بدون الماء ينالون الخلاص. لأن المخلص لما كان يفتدى العالم كلّه بالصلب نخس في جنبه فخرج منه دم وماء، ليعتمد البعض بالماء في اوقات السلام، والبعض الآخر بدمهم في أوقات الاضطهادات. ان المخلص نفسه دعا الشهادة صبغة بقوله ”هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي اشربها أنا وأن تصبغا بالصبغة التي أصطبغ بها“.[36]

وقال القديس باسيليوس:

”إنَّ بعضًا نالوا الموت بالجهاد الذي عن حسن العبادة لأجل المسيح حقيقة لا اقتداء، ولم يحتاجوا إلى شيء من الرسوم التي من الماء لخلاصهم، لأنهم تعمدوا بدمهم“.[37]

وقال القديس غريغوريوس النيزنزيّ:

”إنّنى أعرف معموديّة أُخرى أيضًا وهيَ معموديّة الشهادة والدم، المعموديّة التي تعمّدها مخلِّصنا نفسه. هذه المعموديّة هيَ أكثر مجدًا من غيرها“.[38]

وقال المطوَّب أغسطينوس عن أطفال بيت لحم:

”الطوبى لكم لأنّكم بعد الولادة وقبل المحاربة قد تكلّلتم بالظفر، وإنّي لا أرتاب في أنّ استشهادكم قد استحق لكم إكليل عدم الموت كما لا أرتاب في أنّ المعموديّة مفيدة للأطفال“.

 

عطايا المعموديّة


أولًا: المعموديّة تعتبر الولادة الثانية وتجدّد خلقة الإنسان روحيًّا وهذا ظاهر من قول الرّبّ يسوع لنيقوديموس:

”الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله“

فلم يفهم نيقوديموس قصد المسيح وفسره تفسيرا حرفيا، وقال كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ. العله يقدر أن يدخل بطن امه ثانية ويولد؟ ففسر له الرّبّ معنى كلامه بقوله:

”الحق الحق أقول لك أن كان احد لا يولد من الماء والروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله، وأردف هذا الكلام ببيان الفرق بين الولادة الجسدية والولادة الروحية بقوله: ”المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح“ ونظرا لان هذه الولادة الروحية سرّيّة لا تدرك كيفيتها قال له: ”لا تتعجب انى قلت لك ينبغي ان تولدوا من فوق. الريح تهب من حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من اين تأتي ولا اللا أين تذهب، هكذا كلّ من ولد من الروح“ (يو3: 3- 8)

فظاهر من هذا الكلام الصريح أنّ الرّبّ يسوع يدعو المعموديّة ميلادًا ثانيًا، ويبيّن فعلها السرّيّ غير المنظور. وإلى ذلك أشار يوحنا المعمدان الذي أشاد بمعموديّة المسيح وقال عنه ”هو سيعمدكم بالروح القدس ونار“ (مت3: 11) وبولس الرسول يقول:

”لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس“ (تى3: 5).

ثانيًا: من نتائجها غير المنظورة: التبرير وغفران الخطايا. وهذا واضح أيضًا من كلام المخلص نفسه بأن:

”المولود من الجسد جسد هو، واما المولود من الروح فهو روح“

وقول بطرس الرسول:

”توبوا وليعتمد كلّ منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس“ (أع 2: 38)

وقوله أيضًا:

”الذي مثاله يخلِّصنا نحن الآن أي المعموديّة“.

موضحًا بأنّ المُراد بها:

”لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله“ (1بط 3: 21)

وقول بولس الرسول:

”أيها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلنا، لكي يقدّسها مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن، أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مُقدّسة وبلا عيب“ (اف 5: 25- 27)

فيسميها الرسول هنا ”غسل الماء“ وفي (1كو 6: 11) ويقول:

”لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبرّرتم باسم الرّبّ يسوع وبروح إلهنا“.

ثالثًا: إنّ المعموديّة تمنح الإنسان نعمة التبني حسب قول بولس الرسول:

”لإنّكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنّ كلّكم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح، ليس يهوديّ ولا يونانيّ، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة“ (غل 3: 26- 29)

وقوله أيضًا:

”لإنّنا جميعنا بروح واحد أيضًا اعتمدنا إلى جسد واحد يهودًا كنا أم يونانيّين، عبيدًا أم أحرارًا. جميعنا سقينا روحًا واحدًا“ (1كو 12: 13).[39]

 وقال القديس إكليمندس السكندريّ:

”هذا الأمر عينه يحصل لنا نحن أيضًا الذين قد صار لنا المسيح مثالًا، فإذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نتبني، وإذ نتبني نكمل، واذ نكمل نضحى غير مائتين. كما يقول ”أنا قلت أنّكم آلهة وبنو العلي جميعكم“، ويدعى هذا الفعل بأسماء كثيرة، أعني نعمة واستنارة وكمالًا وحميمًا. فهو نعمة إذ يقودنا إلى اللاهوت، وحميم لأنّنا به نغسل خطايانا“.[40]

وقال القديس غريغوريوس النيزنزيّ:

”إنَّ نعمة المعموديّة تنقي الإنسان من كلّ خطية وتغسله غسلًا كاملًا من الأوساخ والأقذار اللاحقة به من الرذيلة... وهيَ من حيث إنّها نجدة للولادة الأولى تجعلنا جدّدًا من عتق، وإلهيّين بدلًا مما نحن عليه“.[41]

وقال القديس باسيليوس الكبير:

”المعموديّة فدية المأسورين، وصفح الأوزار، وموت الخطية، وإعادة ولادة النفس، وثوب نير، وختم لا ينفك، ومركبة إلى السماء تؤدي إلى الملكوت، ومنحة التبني“.[42]

وقال القديس يوحنا ذهبيّ الفم:

”إنَّ المعموديّة النعمة تطهر كلّ إنسان سواء كان فاسدًا أو زانيًا، عابدًا للأصنام أو غير ذلك، لإنّه مهما كان غارقًا في الخطية فحالما يدخل مياه المعموديّة يخرج من هذه المياه الإلهيّة أنقى من أشعة الشمس عينها، وليس نقيًّا بل قديسًا بل بارًا أيضًا، لأنّ الرسول لم يقل: ”واغتسلتم“ فقط بل قال ”وتقدستم وتبرّرتم باسم الرّبّ يسوع“. ثمّ أنّه فضلًا عن نوالنا بالمعموديّة صفح الخطايا والتنقية من المآثم والمظالم، فإنّنا نولد بعد المعموديّة ولادة ثانية ونخلق ونصوَّر بها“.[43]

وقال المطوَّب أغسطينوس:

”إنّنا بميلادنا من الماء والروح القدس نتطهر من كلّ خطية، سواء كانت من آدم الذي به أخطأ الجميع، أو بفعلنا وقولنا لأننا نغسل منها بالمعموديّة“.[44]

 

 خادم السرّ


إنَّ الرّبّ يسوع قد جعل حق التعميد للرسل حيث قال لهم ”اذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم الخ“ (مت 28: 19، مر 16: 16) وقد انتقل هذا الحق من الرسل إلى خلفائهم الاساقفة، ومن الاساقفة إلى القسوس أي ان الذين لهم حق التعميد هم الاساقفة والقسوس لا غير مع خدمة الشماس معهم. وقد نصت القوانين الرسوليّة هكذا:

”إنّنا لا نسمح بحق التعميد لأحد من الإكليروسيّين مثل القارئين والمرتلين والبوابين والخدمة، إلَّا للأساقفة والقسوس وحدهم، الذين يخدم معهم الشمامسة“.

وقد أثبت ذلك جميع آباء الكنيسة. فقد قال القديس أغناطيوس الشهيد في رسالته إلى أهل أزمير:

”لا يسمح لكم أن تعمدوا بدون أسقف ولا أن تقربوا قرابين ولا أن تقدموا ذبيحة“

وقال العلامة ترتليانوس:

”إنَّ السلطة في تتميم المعموديّة منوطة بالأسقف ثمّ القسوس مع الشمامسة“.

وقال القديس أبيفانيوس:

”إنّه حسب النظام الكنسيّ لا يتمّم الشمامسة سرًّا من الأسرّار، ولكنهم يخدمون في خدمة الأسرار، غير أنّه حينما تدعو الضرورة يسمح للعالمين أيضًا أن يعمدوا“.[45]



[1] ترتليانوس عن المعموديّة فصل35.

[2] الحوار مع تريفون، 44.

[3] تعليم ابتدائى للموعوظين، 16.

[4] عظة على معموديّة المسيح.

[5] عظة 3: 2.

[6] تفسير انجيل يوحنا فصل 19.

[7] رسالة 59.

[8] ضد الهرطقات5: 11.

[9] عظة في المعموديّة.

[10] في رئاسة الكهنوت 7: 11.

[11] على مز 14.

[12] في السلطة الذاتية 23: 67 ورسالة 193: 3.

[13] في الإكليل 3.

[14] ضد براكسياس 26.

[15] في الروح القدس فصل 15. والذهبيّ الفم في تفسير يوحنا (مقالة 25: 2) وأمبروسيوس في الأسرّار (2: 7) وجيروم ضد لوكيفروس (فصل 4).

[16] الدفاع الأوّل 7.

[17] عظة 3: 2.

[18] راجع أيضًا (1بط 3: 18- 21، أف 5: 26).

[19] ترتليانوس في التوبة فصل 6 وتاريخ يوسابيوس 6: 43 واغسطينوس في تفسير يوحنا 80.

[20] رسالة 76.

[21] رسالة 73.

[22] الرسالة إلى سرابيون.

[23] Denzinger, 53 (23), Cite dans Hamman (A), op. cit., p. 76.

[24] في إنجيل يوحنا، 5: 7، 15، 18؛ 6: 7.

[25] حنانيا إلياس كسّاب، مجموع الشرع الكنسي، بيروت، 1975، ص 63.

[26] المرجع السابق، ص 93.

[27] ضد الآريوسيين، 2: 42، 43.

[28] مجموع الشرع الكنسيّ، 279.

[29] المرجع السابق، ص 605، 606.

[30] أوامر الرسل ك3 فصل 16.

[31] جيروم على رسالة أفسّس 1: 13.

[32] رسالة 185 إلى بونيفاتيوس فصل 13.

[33] في العفة.

[34] عظة 11: 3 على رسالة العبرانين.

[35]  في الإيمان 4: 9.

[36] عظة 3: 8.

[37] في الروح القدس، 15.

[38] عظة في عيد الظهور.

[39] راجع أيضًا (أع 2: 41، رو6: 3 و4).

[40] المربي كتاب 1 فصل 6: 226.

[41] عظة في المعموديّة.

[42] عظات منسوبة للقديس باسليوس، على المعموديّة فصل 16.

[43] عظات على المعموديّة فصل 3.

[44] رسالة 178: 28.

[45] بناريون، 89.

ليست هناك تعليقات: