الإنسان كائن يحيا في نطاق يقع بين المنظور وغير المنظور، بين عالم المادة والجسد وبين عالم الروح والروحانيّات. فهو مدعو لأن يحمل الكون كلّه في كيانه وأن يضع الخليقة بكاملها في وعيه ويشملها بحبه، ويقول عنه القديس غريغوريوس النيسيّ الإنسان كائن ماديّ روحيّ في نفس الوقت، أرضيّ وسماويّ:
”تناول كلمة الله جزءًا صغيرًا من الأرض التي أبرأها حديثًا، وصاغ بيديه الأبديتين جُبْلتنا البشريّة وبَثَّ فيها الحياة: لإنّ النسمة التي بثّها في الإنسان هيَ إنبثاق من لاهوته المستتر اللامنظور. وهكذا من التراب ومن نفخة القدير أُبدِع الإنسان على صورة الحي الأبدي... فبصفتي من الأرض أجد نفسي مرتبطًا بالحياة الأرضيّة ولكنني أحمل في كياني صورة الله التي خُلِقت عليها، لذا أجد قلبي منشغلًا بالتَوق إلى الحياة الأبديّة الآتية“.[1]
لم يجر تثبيت هذه اللائحة نهائيًا إلاّ في القرن السابع عشر، بتأثير اللاتين الذي كان وقتئذ في أَوجِّهِ. وقد كان
الكتّاب الأرثوذكسيّون قبل ذلك يختلفون اختلافًا كبيرًا حول عدّد الأسرار، فيوحنا
الدمشقيّ يتكلم عن سرّين فقط، وديونيسيوس الأريوباغيّ يحدثنا عن ستة،
أمّا يوشافاط متروبوليت أفسّس (في القرن الخامس عشر) فيذكر عشرة وهنالك
عدّد من اللاهوتيّين البيزنطيّين يتفقون على سبعة أسرار لكنهم يختلفون على
نوعيّتها. والراهب
أيوب (في القرن الثالث عشر)، في بحث له في الأسرّار، يحدّد عدّد الأسرّار بسبعة،
ولكنّه يعتبر التكريس الرهبانيّ سرًّا،
ويجمع التوبة ومسحة المرضى في سرّ واحد. كذلك سمعان التسالونيكيّ (في القرن
الخامس عشر) يعتبر التكريس الرهبانيّ سرًّا، لكنّه يضمّه إلى سرّ التوبة.
أمَّا جوازاف ميتروبوليت أفسّس، ومعاصر سمعان التسالونيكيّ، فيقول:
”أعتقد أنّ أسرّار الكنيسة ليست سبعة وحسب، بل أكثر من ذلك“.
ويقدّم لائحة
بعشرة أسرّار تتضمّن التكريس الرهبانيّ، ورتبة الجناز وتكريس الكنائس.
وحتّى الآن لم يتخذ
العدّد سبعة أي دلالة عقائديّة مطلقة في اللاهوت الأرثوذكسيّ، وهو لا يُستخدم في
غالب الأحيان إلاّ من أجل تسهيل العليم الدينيّ.
وقد تمّ هذا التحديد في القرن الثاني عشر مع
اللاهوتي بيير لومبار الذي توفيَّ سنة 1160، وأُعلنت اللائحة الحاليّة للأسرّار
إعلانًا رسميًّا سنة 1274 في مجمع ليون الذي حاول إعادة الوحدة بين الشرق
والغرب،[2]
ثمّ في مجمع فلورنسا سنة 1439 في ”القرار
الموجَّه إلى الأرمن“،[3]
وأخيرًا في المجمع التريدنتيني الذي أكّد في جلسته السابعة سنة 1547 أنّ
الأسرّار السبعة قد أسّسها يسوع المسيح نفسه، دون الدخول في طريقة هذا التأسيس
الذي تمّ على يد المسيح.[4]
يقول اللاهوتي الأرثوذكسيّ جون مايندورف في كتابه
مدخل إلى اللاهوت البيزنطيّ:
”إنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ يجهل التمييز الغربيّ بين ”الأسرار“ و”أشباه الأسرّار“. لذلك لم يقتصر قط على عدّد محدّد من الأسرّار معلنًا إعلانًا رسميًّا. ففي زمن الآباء، لم تكن هُناك لفظة للدلالة على ”الأسرار“ كنوع معيّن من الأعمال الكنسيّة. فلفظة سرّ كانت تُستعمل في درجة أولى بالمعنى الواسع والعام، أي بمعنى ”سرّ الخلاص“، ثمّ في درجة ثانية فقط كانت تشير إلى الأعمال الخاصة التي تَمنَح الخلاص. وللدلالة على هذا المعنى الأخير، كانت نُستعمل أيضًا لفظتا ”طقوس“ و”مُقدّسات“. وإنّنا نجد لدى ثيوذوروس الاستودي في القرن التاسع لائحة بستة أسرّار: الاستنارة المُقدّسة (أي المعمودية)، والاجتماع الإفخارستيّ، والميرون، والرسامة الكهنوتيّة، والتكريس الرهبانيّ، ورتبة الجنّاز. أمّا عقيدة ”الأسرّار السبعة“ فقد ظهرت للمرة الأولى، في شكل مميّز، في الاعتراف بالإيمان الذي طلبه البابا إكليمندس الرابع من الإمبراطور ميخائيل باليولوغوس سنة 1267 بمناسبة انعقاد مجمع ليون. وبالطبع فقد كان هذا الاعتراف بالإيمان من إعداد لاهوتيّين لاتينيّين“.[5]
ثمّ يضيف مايندورف أنّ تحديد هذا العدّد من
الأسرّار قد وجد شبه إجماع لدى اللاهوتيّين الأرثوذكسيّين، حتّى لدى الذين كانوا
يعارضون بشدّة الاتحاد مع روما. وقد وجدوا فيه عدّدًا رمزيًّا يشير إلى مواهب
الروح القدس السبع التي يأتي على ذكرها إشعياء النبي (11: 2- 4).
إنّ الكنائس الأرثوذكسيّة، لم تحدّد بشكل رسميّ
لائحة الأسرار. لذلك نرى اختلافًا في تحديد هذه اللائحة. ففي حين يقبل معظم
اللاهوتيّين اللائحة الغربيّة، يعطي البعض لائحة مختلفة، ويركّز البعض الآخر
على سرَّيّ المعموديّة والإفخارستيّا. فيؤكّد غريغوريوس بالاماس أنّ خلاصنا
كلّه يستند إلى هذين السرّيّن، لأنّ فيهما كمال التدبير الخلاصيّ الذي أتمّه
الكلمة المتجسّد. ويركّز نيقولا كاباسيلاس، في كتابه الشهير الحياة في المسيح،
الحياة المسيحيّة كلّها على أسرار التنشئة الثلاثة: المعمودية
والميرون والإفخارستيا.
فالكتاب المُقدّس يخبرنا عن الكثير مما يخص الحياة المسيحيّة بلفظ السرّ، مثل:
”لتعرفوا أسرّار ملكوت السموات“ (مت 13: 11، لو8: 10)
”السرّ الذي كان مكتومًا“ (رو16: 25)
”لأُعلِّم جهارًا بسرّ الإنجيل“ (اف 6: 19)
”ولهم سرّ الإيمان“ (1 تى3: 9)
”عظيم هو سرّ التقوى“ (1 تى3: 16)
أمَّا أولئك الذين يفكرون بمنطق (الأسرّار السبعة) فعليهم أن يكونوا حذرين ويتجنبوا سوء الفهم الذي قد ينشأ عنه. أولًا، على الرغم من أن جميع الأسرّار حقيقيّة، فإنّها لا تتمتع جميعها بنفس الأهمّيّة، وثمّة تسلسل مراتبي لها. فسرّ الشكر مثلًا هو في قلب الحياة المسيحيّة على نحو مختلف عمّا هو عليه سرّ مسحة المرضى بالزيت. ومن بين الأسرّار السبعة، تحتل المعموديّة وسرّ الشكر مكانة خاصة.
حينما نتحدث عن الأسرّار
السبعة، فلا ينبغي لنا أن نفصلها عن أعمال أخرى تتخذ بدورها طابع الأسرار،
أعني بذلك كلّ الخدم التقديسيّة، كارتداء الإسكيم الرهبانيّ، وتبريك المياه في
عيد الظهور الإلهيّ، وخدمة الجناز، ومسح الزيت عند تتويج الملوك، الخ... ففي
جميع الخدم هذه، هنالك إشارة منظورة ونعمة روحيّة غير منظورة. والكنيسة
الأرثوذكسيّة تستخدم أيضًا عدّدًا كبيرًا آخر من الخدم التبريكيّة الصغيرة
التي من طبيعة الأسرّار المُقدّسة، كالصلَّاة على القمح والخمر والزيت والفاكهة،
ومباركة الحقول والمساكن والأشياء المختلفة. لهذه الخدم الصغيرة ومعظم الأحيان هدف
عمليّ واقعيّ، إذ توجد صّلوات لتكريس السيارات والقاطرات وحتّى من أجل القضاء على
الديدان المؤذية. وليس ثمة فرق جذريّ بين الأسرّار الأساسيّة وأفعال التكريس
هذه، إذ يجب أن يُنظر للحياة المسيحيّة كوحدة، وكسرٍّ واحدٍ كبير يجري
التعبير عن مختلف جوانبه من خلال مجموعة من الصيغ والأساليب، بعضها يُمارس مرة
واحدة فقط في حياة الإنسان، والبعض الآخر قد يُمارس كلّ يوم تقريبًا.
والأسرّار المُقدّسة تخصّ كلّ شخص بمفرده، إذ فيها يكتسب كلّ إنسان فرديًّا نعمة الله، ولهذا
السبب يُسمّي الكاهن كلّ مؤمن باسمه الخاص عند ممارسة معظم الأسرار. فعند
المناولة يقول الكاهن: (يُناول عبد الله (فلان) جسد ودم ربنا يسوع المسيح). وعند
القيام بسرّ مسحة الزيت للمرضى يقول: (يا أبتاه القدوس... اشف عبدك هذا (فلان) من
الأمراض النفسانيّة والجسديّة المستحوذة عليه..).
هي أسرار المعموديّة والميرون والإفخارستيّا
وتسمّى هكذا لأنّها تُدخل الشخص في سرّ المسيح وفي جماعة المؤمنين في الكنيسة
فيصير عضوًا فيها كامل الحقوق.
ولهذا السبب
تُمنح هذه الأسرّار معًا وفي يوم واحد في الكنيسة الشرقيّة. هذا
تقليد الكنيسة القديم لعماد الكبار والصغار والقادمين من الوثنيّة. فالمعموديّة
هيَ المدخل إلى الإيمان المسيحيّ. والميرون المُقدّس هو موهبة الروح القدس وختمه
وختم المعموديّة المُقدّسة. والمناولة المُقدّسة هيَ الغذاء الأساسيّ الروحيّ لكلّ
أعضاء الكنيسة المؤمنين. ولذا فالطفل الصغير أيضًا أصبح أهلًا لها بالمعموديّة
والميرون المُقدّسين، وأصبح من حقه ومن واجبه الاشتراك في هذه الوليمة الروحيّة
المُقدّسة.
هذا ومن المعلوم تاريخيًّا أن عادة إعطاء
أسرار المدخل الثلاثة معًا بقيت جارية شرقًا وغربًا حتّى القرن الثالث عشر.
يقول المطوَّب أغسطينوس
إنّها أمور منظورة نحصل من خلالها على نعمة غير منظورة.
وهذا هو التعريف الغربيّ
للأسرار، وهو ليس مخطئًا،إذ نجد القديس يوحنا ذهبي الفم يقول متكلمًا عن سرّ
الشكر:
”نسّميه سرًا، لأنّ الذي نؤمن به ليس هو ما نراه تمامًا، بل إنّنا نرى شيئًا ونؤمن بشيء آخر... فحينما أسمع أحدًا يذكر جسد المسيح، أفهم معنى ما يقال على غير ما يفهمه من لا يؤمن“.[6]
هذه الثنائية لما يُرى وما لا يُرى في كلّ سرّ مُقدّس هيَ خاصته المميّزة. فالأسرّار، كما الكنيسة، منظورة وغير منظورة،
ويوجد في كلّ إشارة خارجيّة نعمة داخليّة. والمسيحيّ أثناء معموديته، يُغطّس
بالماء الذي يغسله من أقذاره كما يغسله في الوقت نفسه من خطاياه. في سرّ الشكر،
يتناول المرء ما يبدو أنّه خبز وخمر، لكنه في الواقع يأكل جسد المسيح ودمه
الكريمين.
الكنيسة في معظم
الأسرّار المُقدّسة، تستعين بالعناصر المادية – من ماء وخبز وخمر وزيت – وتجعَل منها أداة
لنقل الروح القدس. بهذا المعنى تنطلق الأسرّار من التجسد، حيث بالتجسد اتخذ
المسيح لنفسه جسدًا ماديًّا وحوّله إلى أداة تحمل الروح القدس. كذلك الأسرّار
تتطلع أو بالأحرى تدشن فداء المادة الأخير (واستعادتها) الذي سيحصل في يوم
الدينونة.
الأسرار السبعة في الكتاب المُقدّس
أقامت الكنيسة مفاهميها عن الأسرّار السبعة على
بعض نصوص الكتاب المُقدّس، فإنَّ الكتب المُقدّسة تقول عن المعموديّة:
”إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله“ (يو3: 3و5)،
”المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح“ (يو3: 6)،
وقول الرسول: ”كما أحبّ المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لاجلنا، لكي يقدّسها مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة. لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن، أو شيء من مثل ذلك بل تكون مُقدّسة وبلا عيب“ (أف5: 25-28)
وقوله: ”لكن اغتسلتم بل تقدّستم بل تبرّرتم باسم الرّبّ يسوع وبروح إلهنا“ (1كو6: 11).
وفى سرّ الشكر يقول:
”الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لإنَّ جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فية“ (يو6: 53- 56).
وفي سرّ الكهنوت يقول الرسول:
”لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالبنوة مع وضع أيدي القسوسية“ (1تى4: 14)
وقوله: ”أذكرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ“ (2تى 1: 6).
وعن سرّ الميرون جاء في سفر الاعمال:
”ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا الذين لما نزلا صليا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس، لأنّه لم يكن قد حلّ بعد على أحد منهم غير أنّهم كانوا معتمدين باسم الرّبّ يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس“ (أع8: 14- 17).
وعن سرّ مسحة المرضى قال يعقوب الرسول:
”أمريض أحد بينكم فليدع قسوس الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرّبّ. وصّلاة الإيمان تشفي المريض والرّبّ يقيمه. وإن كان قد فعل خطية تغفر له“ (يع5: 14و15).
وعن سرّ التوبة قال الرّبّ بصريح اللفظ:
”من غفرتم خطاياه تُغفَر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت“ (يو2: 23).
وعن سرّ الزواج قال الرسول:
”هذا السرّ عظيم“، وشبَّهه باتحاد المسيح بالكنيسة (اف5: 32).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق