خَلَق الله الإنسان كائنًا على صورته الإلهية، سيدًا
على كلّ الخليقة، له مطلق الحرية والسيادة على إرادته، وأغدق عليه الحبّ والرحمة
وملأه كرامة.
وأمام كلّ هذا أراد الله أنّ يشاركه الإنسان حبًا
بحبٍ وهذه الشركة هيَ أحد أسباب خلقته ولكي يُظهر الإنسان محبّته تجاه الله عمليًا
احتاج إلى وصية ليثبت بها محبّته لله. كان للوصية في نظر آدم قبل السقوط مفهوم
آخر. إنها شهوة يبتغيها، بدونها لا يقدر أنّ يستطعم مشاركته حبّ الله له.
تصوَّر معي إنسانًا يقدم لعروسهِ فوق ما تطلب وأكثر مما تحتاج، يغدق عليها
بالحب والعطف والحنان بلا كيل أو حدود، أما تشتهي العروس أنّ يترك لها عريسها مجالًا
–مهما كان صغيرًا– تعبِّر فيه عن حبها له؟! فالعريس الذي لا يترك لعروسه مجالًا
لرد محبّته بمحبتها له، ولو بطاعتها له في أقل الأمور، يكسر قلبها ويحزنها! بدون
الوصية ما كان لآدم أنّ يستطعم المشاركة في الحب. ففي حبّ قدم الله لآدم الوصية،
حتّى يُعبِّر هذا المحبوب عن حبه لله، الذي هو انعكاس لحب الله علىه.
هذا المفهوم كشفه لنا ربنا يسوع عندما قال: “إن كنتم تحبونني، فاحفظوا
وصاياي” (يو14: 15). “الذي عنده وصاياي ويحفظها،
فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي” (يو14: 21). فبقدر
ما يحفظ الإنسان الوصية يعلن حبه لله، أو قل يتجاوب مع حبّ الله له. عندئذ يدخل في
شركة أعمق فأعمق في حبّ الله غير المُتناهي. هذا هو عمل الوصية، وهذا هو هدفها![1]
بل أيضًا لكي يكون الإنسان حُرَّ الإرادة، يجب
أنّ يكون لديه الخَيار وإنْ لم يمتلك الاختيار بين أنّ يفعل أو لا فهو مُسير ومُجبر
وليس حُرًا له إرادة يستخدمها كيفما يشاء. وبحسب القديس غريغوريوس النيزنزيّ
فإنّ شجرة المعرفة كانت مصدرًا لصلاح الإنسان أنّ كان قد أكل منها في الوقت
المناسب!
ويضيف القديس إيرينيئوس:
“إنَّ الله منذ البدء خلق الإنسان حرًا. فللإنسان سلطانه على قراره، كما أنّ له حياته الخاصة، حتّى يتمم مقاصد الله بدون قسر من الله”.[2]
ويؤكد على ذلك اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ فلاديمير
لوسكي قائلًا:
قمة كلّ قدرة وقدوة إلهية تظهر من عمل الله الذي يُظهِر فيه نفسه في حالة الضعف (إخلاء الذات)، هذه هيَ المخاطرةالإلهيةDivine risk !! الشخص هو أعلى ما في خليقة الله، وذلك فقط لأن الله يعطي الشخص إمكانية الحب، وبالتالي الرفض أيضًا.
الإنسان غير معصوم من الخطأ، لأن بدون هذه
القدرة على الخطأ لا يكون عظيمًا! لذلك أكَّد الآباء أنه كانت هُناك ضرورة لاختبار
الإنسان لكي يدرك ويعي حريته، وبذلك يعي حبّ الله الحرَّ الذي في انتظاره. يقول القديس
باسيليوس الكبير: “لقد خلق الله الإنسان كائنًا حيًا، وقدم له الدعوة لكي يصير إلهًا”! وقد كرّر القديس غريغوريوس النيزنزيّ
هذا القول. ولكي يحقق الإنسان هذه الدعوة، لابد وأن تكون عنده إمكانية الرفض أيضًا.
لقد أظهر الله نفسه بمظهر العبد، وفي تواضع
مُذهل اقترب بهدوء ولطف من الإنسان لأنه صار في شبه الناس، ومع كونه هو الله ذو
السلطان المُطلق، ولكنه يُقدِّر الحرية التي وهبها للإنسان الذي خلقه على صورة
ذاته، لذلك لا يستطيع أنّ ينتهك هذه الحرية، لأنها (الحرية) تنبع من شخصه القدوس. حقًا
لقد خُلِقَ الإنسان بإرادة الله وحده، ولكنه لا يُمكنه أنّ يحقق التأله بإرادة
الله وحده دون توافق إرادته مع إرادة الله وقبول هذه الدعوة الكريمة، فالله بتواضع
يقترب بالحب واقفًا على باب النفس البشريّة “هائنذا واقف على الباب وأقرع أنّ سمع أحد صوتي
وفتح الباب أدخل اليه واتعشى معه وهو معي” (رؤ3: 20)، وهو لا يُريد
أنّ يقتحم النفس عنوة، بل يطلب منها أنّ تفتح بإرادتها وحدها: “أنا نائمة وقلبي مستيقظ، صوت حبيبي قارعًا:
افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتى يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل وقصصي من
ندى الليل” (نش5: 2).
فالوصية ترفع من شأن الإنسان، إذ تكشف عن
حرية إرادته. فقد أراد الله أنّ يتعامل معه على مستوى فائق، فأعطاه الوصية ليفتح
باب الحوار العملي معه، فتكون طاعة آدم لله ليست طاعة غريزية آلية تحكمها قوانين
الطبيعة كسائر المخلوقات، وإنما تقوم على إرادته المُقدّسة وحبه للحق الخارج من
أعماقه بكمال حريته. فالوصية إذًا ليست حرمانًا للإنسان، ولا كبتًا له، وإنما هيَ طريق
للتمتع بقدسية الإرادة الحرة.
فقد خلق الله في الفردوس “َشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ”، “ورأى الله ذاك أنه حسن” (تك1: 11، 12)،
وقال الله “ إني
قد أعطيتكم.. كلّ شجر فيه ثمر.. لكي يكون لكم طعامًا” (تك29:1)، ولكنه
ميَّز شجرة في الفردوس عن كلّ الأشجار، وتلك هيَ “شجرة الحياة”. “إذ يمد (الإنسان) يده
ويأخذ من شجرة الحياة.. ويأكل.. يحيا إلى الأبد” (انظر: تك3: 22).
لهذا وضع الرب هذه الشجرة في وسط الجنة (تك2: 9) لتكون أمام عينيَّ آدم حتّى تشغل
مركز عقله واهتمامه وتملأ قلبه “جعل الكل حسنًا في وقته، وأيضًا
جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من
البداية إلى النهاية” (جا11:3). وبالطبع
فإنّ هذه الشجرة لا تُحيى بمجرد الأكل، وإلاّ حُسبت على قدر المساواة بذاك الذي
غرسها، فينسى الإنسان بذلك مصدر حياته وخالقه. كان الواجب أنّ يكون الأكل من
الشجرة مُصاحبًا للتأمل في الله. وكانت هذه الشجرة تؤكد وتعبّر من جانب، عن
المسافة بين الله والإنسان، ومن جانب آخر، عن عطية الله للإنسان، وذلك ليكتشف
الإنسان حاجته لما يسد تلك الهوة بينه، كمخلوق وبين الله الحى بذاته، فيحيا
المخلوق القابل للموت، بالحى بذاته. كما أنّ الشجرة كانت تهدف أيضًا إلى أنّ لا
يحيا آدم في الخلود من ذاته الذي هو أصل السقوط وكلّ خطية.
إذًا، لكي يحيا آدم حياة مغايرة، غير مائتة كان عليه أنّ يقتني التمييز
بين حياة وحياة، أي أنّ لا يساوي نفسه بالمخلوقات الباقية من جانب، وأن يتجه نحو
الحياة التي تأتي له من الله من جانب آخر.
يقول القديس أثناسيوس:
“خَلَق مخلّصنا يسوع الجنس البشريّ، وجَعَل الإنسان قادرًا على رؤية وإدراك الحقائق بواسطة هذه المشابهة لشخصه.. عائشًا حياة الخلود كاملة ومباركة يقينًا.. إذ يتأمل في العناية الإلهية التي تمتد إلى الكون عن طريق ‘الكلمة’، مرتفعًا عن الأشياء الحسية والمظاهر الجسدية ومتصلًا بقوة عقله بالإلهيات والأشياء التي تدرك بالعقل في السموات.. وإذ يرى ‘الكلمة’، فإنّه يرى فيه أيضًا أبا ‘الكلمة’ متلذذًا بالتأمل فيه، ومكتسبًا التجديد من الانعطاف نحوه. وذلك تمامًا كأول إنسان خُلق - الذي سُميَّ بالعبرية آدم - إذ وُصِف في الكتب المُقدّسة بأن عقله كان متجهًا نحو الله بحرية لا يعيقها الخجل. وبأنه كان يشارك القديسين في التأمل في الأمور التي يدركها العقل، والتي كان يتمتع بها في المكان الذي كان فيه، الذي دعاه موسى رمزيًا بالجنة، لذلك فإنّ طهارة النفس كافية في حد ذاتها للتأمل في الله. كما يقول الرب أيضًا “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”.[3]
والقديس غريغوريوس العجائبي يعتبر أنّ غياب الاتجاه نحو الله، كان سبب
الخضوع لغواية الحية: “حواء التي
استراحت في الفردوس كان عقلها عقيمًا بلا فكر ولا تأمل، ولذلك خضعت لغواية وكلام
الحية أصل كلّ الشرور”. هذا يفسر ما
جاء في (حك9: 10) فإنّ الجسد الفاسد يثقل النفس وللخيمة الترابية عبء للعقل الكثير
الهموم.
خلاصة الأمر:
إنَّ الحياة في الفردوس كانت تعني لآدم أنه مدعو للبقاء إلى الأبد في
نعمة الصورة الإلهية، وبذلك يكون بقاؤه ونجاته من الموت، وخلوده في الفردوس، هو في
الشركة مع الله. فيدوم خلاصه وتحرره من الفساد والموت.
إنَّ آدم قبل سقوطه كان حيًا ـ طالما كان هناك تأمل، وانعطاف فكر نحو
الله، ومحبة، واتحاد بالله وتجديد حياة، فلم يملك عليه الموت وقتئذٍ.
الوصية الإلهية في حقيقتها هيَ علامة حبّ الله نحو الإنسان محبوبه، وتقديره له. فهي
أشبه بعهدٍ، سمح الله به لآدم، حتّى ببقاءه أمينًا في عهده، يبقى مرتبطًا بالله
مصدر حياته، فلا يستقل بذاتيته، ويرجع إلى أصله: التراب!
الوصية الإلهية هيَ عطية ثمينة، مُقدّمة من يديّ إله محب، يطلب ارتباط محبوبه به، فتناغم الإرادة البشريّة مع إرادته الإلهية غير المتناهية، دون أنّ
يفقد الإنسان شخصيته أو حريته، بل باحترام الإنسان للعهد وتمسكه به، ينال كرامة لا
يستطيع مخلوق آخر أنّ ينالها.
الوصية الإلهية في مكنونها لم تكن حِملًا أو ثِقلًا يسقط تحت عبئه الإنسان، كما يتصور
البعض الآن بعد السقوط. لا، بل هيَ بحق صادرة عن أحضان إلهية مُحبة، تُريد أنّ تحتفظ
بالإنسان فيها، ليتمتع بكلّ الانعكاسات التي للطابع الإلهيّ على صورته إلى الأبد، وليس
لإذلاله.[4]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق