قد
تهيّأ آباء الكنيسة الشرقيّة لمُطالعة أفلاطون عن طريق التعاليم التي شاعت في
وقتهم، بل وقبل وقتهم، في المدارس الهيلينية سواء بالإسكندرية أو بمدن آسيا
الصُغرى (تركيا حاليًا). فقد اطلَّع آباء الكنيسة الشرقيّة على كتب أفلاطون،
فاللغة التي كتب هو بها هيَ لغتهم، والكتب بين أيديهم، كما كانوا يتدارسونها في
مدرسة الإسكندرية، هذا ما يبدو واضحًا من كتابات أثيناغوراس المُتأثرة بالفلسفة
الأفلاطونية، وإكليمندس السكندري، وتلميذه الأشهر أوريجانوس، هؤلاء الذين طالما
ذكروا الفلاسفة في كتاباتهم، وكثيرًا ما استشهدوا مُباشرة بأقوالهم. فقد كانت
فلسفة الإسكندرية قبل كلّ شيء فلسفة دينية إلهية ترجع إلى أفلاطون، وبنوع خاص إلى
فلسفته الإلهية الدينية التي أظهرها بجلاء في محاوراتيه فيدون وطيماوس.[1]
وهذا
بسبب وحدة اللغة، التي هيَ أساس وحدة الحضارة، أو استمرارها على الأقل، فآباء
الكنيسة الشرقيّة، والفلاسفة الإغريق، جميعهم كانوا يتحدثون ويكتبون باليونانية.
لكن،
بكلّ تأكيد، لم تكن الفلسفة هيَ المُحرك للفكر الآبائي، بل فقط استخدم الآباء
منهجياتها وبعض مُصطلحاتها لشرح الأمور اللاهوتيّة. القديس ساويرس الأنطاكي، من
القرن السادس، قد أرسل عتابًا وسط رسائله مع سرجيوس النحوي (وهو شخص لديه خلط في
مفاهيمه عن الخريستولوجي)، وقال له ألاّ يُفرط في الاحتكام للفلسفة، أنّ الفلسفة
لم تكن قائدة للآباء، بل كانت خادمة لهم.[2]
أمّا
آباء الكنيسة الغربية أو المُتحدثين باللاتينيّة، فقد كانوا على العكس من ذلك، فهم
لم يهتدوا إلى المسيحيّة بعقول وقلوب فلسفية، كما كان اليونان، بل حاربوها عن عدم
معرفة بها إذ كانوا يظنون بالخطأ أنها خطرًا على الإيمان، لذا نجد ذلك القول
الشهير للعلامة ترتليان: “أنا أومن لأن الإيمان غير معقول”. ومهما قيل عن الثقافة
الهيلينية التي كانت عند كبارهم، أمثال أمبرسيوس وأغسطينوس وجيروم، فهي لم تكن
بعيدة ولا عميقة.[3] فها
هو ترتليان يكتب: “ما حكمة سُقراط ومن تبِعه من الفلاسفة إلاَّ وحي من الشيطان”،[4] وأيضًا:
“ما الفلاسفة إلاَّ بطاركة الهراطقة”،[5] ويكتب
جيروم: “أي مودة بين النور والظلمة، وأي اتفاق بين المسيح وبعل، وما الذي يُمكن
أنّ يفعله هوراس مع صاحب المزامير، أو فرجيل مع الإنجيل، أو شيشرون مع بولس، علينا
ألاّ نشرب من كأس المسيح وكأس الشيطان معًا”.[6]
والذي
يدعو للاهتمام أنّ هذه الكراهية ظهرت بشكل واضح جدًّا في النصف الغربي من الإمبراطورية
فقط، أي عند هؤلاء المُتحدثين باللاتينيّة – كما قلنا - هذا العداء الذي نتج عن
خلو الجانب الغربي من العالم القديم من المدارس الفلسفية اليونانية، تلك التي كانت
سائدة في كلّ من آسيا الصُغرى والإسكندرية وسوريا بجانب بلاد اليونان ذاتها.
هذا
إلى جانب عامل اللغة نفسه، الذي أشرنا إليه سابقًا، فاللغة اللاتينيّة بطبيعتها لا
تُشجع على المُناقشات الجدلية، بينما اللغة اليونانية بثراء مُترادفاتها وحيويتها
نجدها على النقيض تمامًا.
لذا
اختلف الفكر الشرقيّ عن الفكر اللاتينيّ الغربي، فهذا اختلاف طبيعي بين ثقافتين
مُتناقضتين، بين من تمرّن على حل المُشكلات الجدلية، ومن قبّع خلفها مُتحدثًا عن
ضعف العقل البشريّ؛ بين من انطلق حرًا يسعى نحو الجمال اللانهائي، والنور غير
المخلوق الذي يتعدّى حدود المادة، وبين من توقف عقله عند المادة ولم يرغب في بذل
الجُهد الفكري في سبيل الحوار والانفتاح المعرفي.
لذا
نجد هذا الفارق الواضح بين المفاهيم المُختلفة بين آباء الكنيستين، فمثلًا
المُطوّب أغسطينوس، وعلى خلاف بقية الآباء الشرقيّين السابق ذكرهم، نجده يكتب
مؤكدًا وراثة الذنب والخطية، قائلًا:
“إنَّ ذرية آدم المولودة منه قد نالت الثأر المناسب لعصيانه”.[7]
“إنّهم لا يُعاقبون بناء على الخطايا التي يضيفونها بتساهل مشيئتهم فقط، بل بناء على الخطيئة الأصلية، كما في حالة الرضع. هذه هيَ وجهة نظري المحددة في هذه المسألة”.[8]
“البشريّة مُذنبة ومحرومة من النعمة بسبب قرار إلهيّ عقابي. المسيح أتى ليبطل غضب الله المبرر”.[9]
كما تولَّدت عند آباء الكنيسة اللاتينيّة، منذ القِدم،
بعض التعاليم المُختلفة عن الآباء الشرقيّين، والتي أدت فيما بعد إلى الفرقة
الكبيرة بين الشرق والغرب؛
1- فمثلًا الغرب اللاتينيّ كان يُعَلِّم بأن الروح القدس هو رباط الوحدة بين الآب والابن، فنجد المُطوّب أغسطينوس يكتب: “إنَّ الروح القدس لا ينبثق من الآب إلى الابن، ثمّ من الابن لأجل تقديسنا. لكنه، ينبثق من كليهما في الوقت نفسه”.[10] هذا التعليم الذي كان وابلًا على الكنيسة، وكان أساس الفرقة بين الشرق والغرب في القرن الحادي عشر.
2- كما علّم بأن مريم قد حُبِل بها بلا دنس، تلك العقيدة التي لها أصول عند مُعلِمه أمبرسيوس ومن سبقوه، والتي ترسّخت في التعليم الكنسيّ الكاثوليكي إلى يومنا هذا، ولكنه لا يُرجع خلو مريم من الخطية منذ ميلادها، بل منذ اصطفاها الله كسابقة لخلاص جنس بني البشر، فيكتب: “نرفض أنّ تدخل مريم في حساب الشيطان، لا بسبب حالة ميلادها، بل لهذا الأمر فحسب، وهو أنّ هذه الحالة قد إنحّلت عن مريم بسبب ميلادها الجديد”.[11]
3- ومثل هذا الفكر مع ارتباطه بوراثة الخطية الأصليّة، ولَّد عنده بغضة للزواج واحتقار له كعمل قائم على الشهوة، ودعا اللقاء الزيجي بالعار والشهوة التي يجب كبحها، بمجرد إنجاب الأولاد فلا داعي منها، حيث يكتب:
”من ثم فلتفهموا معنى الكتاب المقدس فيما يخص آبائنا الأولين، الذين كان هدفهم الوحيد في زواجهم هو إنجاب الأطفال بواسطة زوجاتهم. فإنه حتّى هؤلاء الذين كان لهم زوجات كثيرات كعادة زمنهم وشعبهم، فإنهم عاشوا معهن في عفة، فلا يجتمعوا بهن إلا للسبب الذي ذكرته معاملين إياهن بكرامة... إن الذي يتعدى حدود ما توصي به هذه القاعدة الخاصة بتحقيق هذا الهدف من الزواج، يخالف العقد ذاته الذي أخذ به زوجته. إن العقد يُقرأ. إن فيه نصًا واضحًا بأنهم يتزوجون لأجل إنجاب الأطفال. هذا هو ما يدعى عقد الزواج. مَن مِن الآباء لا يخجل من إعطاء ابنته لشهوة أي رجل لو لم يكن هذا هو الهدف؟ الآن فإنه لا يخجل الآباء بل يعطوا بناتهم لا للعار بل في زواج مكرّم. إن العقد يقرأ. وماذا يقرأ فيه؟ تقرأ العبارة "من أجل إنجاب الأطفال"... أليس من الإثم أن يأخذ أحد الزوجين من الآخر أكثر مما تستدعيه ضرورة الأمر المرسوم لإنجاب الأطفال“؟[12]
4- وبعكس الآباء الشرقيّون الذين أكدوا على حرية الإرادة البشريّة، يكتب أغسطينوس: “إنَّ الله نفسه يُحَوِّل مشيئة الإنسان من الشر إلى الخير، ومتى تحوَّلت فإنّه يوجهه نحو الأعمال الصالحة”.[13] وأيضًا: “إني أتكلم هكذا على الذين قُضيَّ لهم بملكوت الله، والذين عددهم مؤكد جدًّا بحيث لا يُمكن لأحد أنّ يُضاف أو ينقص منهم”.[14]
”لقد صُنعِوا انية للغضب، وولدوا لمنفعة المُخلَّصين، إنّ الله لا يقود أي واحد منهم إلى التوبة الروحية المفيدة“.[15]
5- وهذا بنى عنده الرأي الذي تبناه البروتستانت فيما بعد (كما تبنوا غالبيّة تعاليمه، فلوثر نفسه كان راهبًا أغسطينيًّا)، وهو أنّ المؤمن لا يهلك، فيكتب:
”لا يفشل قديس في الاحتفاظ بالقداسة حتّى النهاية“.[16]
”إنّ الله هو الذي يجعل الإنسان صالحًا، ومن يسقطون ويهلكون فلم يكونوا أبدًا في عداد المقضيين“.[17]
هذه بعض التعاليم فقط التي تُخالف تعاليم الآباء
الشرقيّين، وهناك غيرها وشرح أكثر فظاظة من تلك النصوص.
وقد أقمنا الحجة على التعليم اللاتينيّ من كتابات
المُطوّب أغسطينوس، لا لأنه قد أخطأ، أو أننا لا نعتقد في كونه أحد الكُتَّاب
الكنسيّين الهامين في تاريخ الكنيسة، بل وتاريخ الفلسفة أيضًا، إنما لكونه أهمّ
آباء الكنيسة اللاتينيّة الأربعة (أمبرسيوس – أغسطينوس- جيروم- غريغوريوس الكبير)،
ويُعد أخرهم وناقل تراثهم، وهو أوّل من استفاض في شرح تعاليم اللاهوت الغربي
مُعتمدًا على تقليد من سبقوه.
يجب أنّ نعي هذه النقطة جيدًا – الفارق بين الآباء الشرقيّين والآباء اللاتين - عند أي دارسة تختص بآباء الكنيسة أو تعاليمهم العقيدية.
[1]
انظر: رأفت عبد
الحميد (الدكتور)، الفكر المصري في العصر المسيحيّ (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2012)،
ص 53.
[2] Ian torance, Christology After Chalcedon,Wipf & Stock Pub (1998),
P. 137.
[3] P. Courcelle, Les Letters
Greeques en Occident (Paris, 1943), P. 37 - 78, 137 - 182.
[4] Copleston,
History of Philosophy, VOL, II, P. 38.
[5] Laistner, Thought
and Letters in Western Europe, P. 45.
[6] Epistola, XXII,
29.
[7] The Enchiridion, 26-27, PL 40:245.
[8] On the Soul and its Origin, Book IV, Chapter 16.
[9] The Enrichidion, chapter 30.
[10]الثالوث، 15: 27.
[11] Bulle: Ineffabilis Deus, de PIE. IX. 8. F. C. 397.
[12] للمزيد
اقرأ: عظات منتخبة على العهد الجديد، 1: 21- 27
[13] On Grace and Free Will, 41.
[14] On Rebuke and Grace, XIII, 39, 940.
[15] Contr Jul V, IV,
14. P. L. 44: 792, 793.
[16] on The Gift of
Preseverance, 19.
[17] On Rebuke and
Grace, XII, 36.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق