السبت، 9 سبتمبر 2023

نتائج الخطية الأولى

 


لقد أصبحت الطبيعة البشريّة مريضة من خلال سقوطها بعيدًا عن الله. هذا المرض هو بصفة رئيسية عبودية وسقوط العقل. فالخطية الجدية تكمن في انعزال الإنسان عن الله وفقدانه للنعمة الإلهية، وأدى ذلك إلى العمى والظلمة وموت العقل. إننا نستطيع أنّ نقول بدقة أكثر أنّ سقوط الإنسان أو حالة ميراث الخطية هي:

أ‌)        فشل قوته العقلية في أنّ تعمل بطريقة سليمة أو حتّى فشلها في أنّ تعمل على الإطلاق.

ب‌)    ارتباك هذه القوة بوظائف العقل والجسد عمومًا.

ت‌)    الخضوع للضيق العقلي وللظروف المحيطة كنتيجة لذلك.

لقد اختبر كلّ واحد سقوط قوته العقلية بدرجات مختلفة طالما أنه مُعرَّضًا لوسط يحيط به لا تعمل فيه هذه القوة أو تعمل بدرجة ضعيفة. يؤدي خلل القوة العقلية إلى علاقات سيئة بين الإنسان والله وبين الناس بعضهم البعض. كما أنه يؤدي أيضًا إلى استغلال الإنسان لله وللإنسان الساقط لكي يدعم أمانه الشخصي وسعادته.[1]

فالإنسان فَقَد معرفة الله التي كانت مُتاحة له. حتّى أنّ الخليقة صارت بالنسبة للإنسان، وكأنها حجاب يحجب معرفة الله عن الإنسان. غير أنّ البشر.. لم يكترثوا بتلك النعمة المُعطاة لهم، وهكذا رفضوا الله كليّة، وأصبحت نفوسهم مظلمة.. لأنهم لم يكتفوا بأن يصنعوا لأنفسهم أوثانًا بدلًا من عبادة الله، فأكرموا الكائنات المخلوقة من العدم دون الله الحي، وعبدوا المخلوق دون الخالق.[2] وصار كلّ شيء مشبعًا (بروح) الكفر والعصيان، وأصبح الله وحده وكلمته غير معروفين للبشر، رغم أنّ الله لم ُيخفِ نفسه عن البشر، ولم يعلن نفسه بطريقة واحدة فقط، بل أعلن ذاته بأشكال متعددة وطرق كثيرة.[3]

لقد أعادت الخطية الإنسان إلى الموت (نتيجة عصيان الإنسان للوصية)، وإلى الفساد، أي إلى العدم وبحسد إبليس دخل الموت إلى العالم (سفر الحكمة 2: 23-24) وبعدما حدث هذا، بدأ البشر يموتون، وبدأ الفساد يسود عليهم، بل صار له سيادة على كلّ البشر أقوى من سيادته الطبيعية، وذلك لأنه حدث نتيجة عصيان الوصية التي حذَّرهم الله ألا يخالفوها. لأجل هذا إذًا ساد الموت أكثر، وعمَّ الفساد على البشر، وبالتالي كان الجنس البشريّ سائرًا نحو الهلاك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الإنسان العاقل والمخلوق على صورة الله آخذًا في التلاشي، وكانت خليقة الله آخذه في الانحلال.[4]

يصف القديس مقاريوس، الإنسان العتيق فيقول: إنَّ ملكوت الظلمة أي الرئيس الشرير، لمَّا أسر الإنسان في البدء، قد غمر النفس وكساها بقوة الظلمة ولوَّثها بكليّتها، وأخذها بكليّتها أسيرة إلى ملكوته، ولم يدع عضوًا واحدًا منها حرًا منه، لا الأفكار ولا القلب، ولا الجسد... أنّ الشرير قد لوّث الإنسان كله، وجعله في حالة عداوة مع الله، فلم يعد الإنسان ينظر كما يشاء، بل صار ينظر بعين شريرة، ويسمع بأذن شريرة، وصارت له أرجل تسرع إلى فعل الشر، وأيدي تصنع الإثم، وقلب يخترع شرورًا.[5] بكلام آخر، فإنّ رئيس الشرّ قد أمسك كلّ الناس بواسطة الأمور الأرضية، وعن طريقها يرُجهم ويقلبهم ويهيجهم، ويضربهم بأفكار التخيُّلات الباطلة والرغبات الدنيئة ورباطات العالم الأرضية، تمامًا كما سبق الرب وحذّر الرسل كيف أنّ الشرير سيقوم ضدهم هوذا الشيطان قد طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة (لو31:22)”.[6]


وبالاختصار، فإنّه يُمكن عرض نتائج السقوط في النقاط الآتية:


أولًا: قام حاجز العداوة بين الله والإنسان فيقول د. موريس تاوضروس: لقد أقامت الخطية حاجز عداوة بين الإنسان والله. فالخطية لم تبعدنا فقط عن الله، لكن بالإضافة إلى ذلك انتزعت السلام الذي كان قائمًا بيننا وبين الله وأحلَّت العداوة بدلًا منه.[7]

ثانيًا: فقدنا نعمة الروح القدس وسُكناه داخلنا، ومن أشهر الآباء الذين تحدثوا في هذا الأمر هو القديس كيرلس السكندري، والذي اشتهر أيضًا بتفسيره لنص سفر التكوين ونفخ في انفه نسمة حياة”، أنّ هذه النسمة المعطية للحياة ليست شيء سوي الروح القدس،[8] فيقول في هذا:

بسبب تعدي آدم ملكت الخطية على الكل (رومية 5: 14). وفارق الروح القدس الطبيعة البشريّة التي صارت مريضة في كلّ البشر..[9] لأنه عندما انحرف الإنسان نحو العصيان وتجرَّب نتيجة محبّته لشهوات جسده بالخطية التي كانت غريبة عنه - فإنّه أبعد عنه الروح الذي شكَّله على صورة الله، والذي كان ساكنًا فيه وبطريقة لا توصف، وكأنه ختم، وهكذا صار واضحًا أنه قد جلب لنفسه الفساد والقُبح وكلّ ما هو غير شرعي”.[10]

لقد أمات فقدان نعمة الله هذا عقل الإنسان، ومرضت طبيعته بكليّتها، ونُقِل هذا المرض لنسله أيضًا. هذا هو مفهوم ميراث الخطية في التعليم الأرثوذكسيّ.

ثالثًا: تشوَّهت جميع مفاهيم الإنسان، واصبحت معرفته بالله وبالأخرويات ضبابية مشوهة.

فيقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

إن أردتم أنّ تعرفوا أي نمط هذا الذي خلقه الله في البداية، فلنذهب إلى الفردوس، ونبحث في الإنسان الذي خُلِق في البداية. فإنّ هذا الجسد لم يكن فاسدًا ولا ميتًا، إنما كان أشبه بتمثالٍ من ذهبٍ خرج حالًا من الفرن، يشع بالبهاء، فكان هذا الجسد خاليًا من كلّ فسادٍ. لم يكن التعب يضايقه ولا العرق. لم تكن الاهتمامات تحطمه، وليس شيء من هذا القبيل يحزنه”.[11]

سقوط الإنسان في الخطية أفسد طبيعته وشوّه مفاهيمه، فصار من الصعب، بل وأحيانًا من المُستحيل أنّ يتصوّر، حتّى عظماء الفلاسفة المشهورون، أنّ يسترد الإنسان الحياة بعد الموت. هذا ما دفع بعض الفلاسفة أنّ ينادوا باللذة كمصدر للسعادة، فيتمتع الإنسان بكلّ لذة جسدية في هذا العالم حتّى يُسدل الستار على حياة الإنسان بلا عودة. بهذا صار الجسد بملذاته وشهواته مركز الحياة عند الكثيرين، الأمر الذي حجب عن الإنسان إمكانية تعرُّفه على حقيقة أعماقه. هؤلاء دعاهم الكتاب المُقدّس، وأيضًا آباء الكنيسة بـالجسدانيين. لهذا اشتهى الرسول بولس أنّ يخلّص من جسد هذا الموت أو الجسد المائت (رومية 7: 24)، لا بتدميره، بل بتقديسه بروح الله القدوس، فيخضع للنفس في المسيح يسوع ويسندها.[12]

رابعًا: فقدنا صورة الله التي خُلِقنَا علىها كما يقول القديس مقاريوس:

هكذا حينما تعدّى آدم وصية الله، وأطاع الحيّة الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان، فاكتست النفس - تلك الخليقة الحسيّة التي صورّها الله على صورته الخاصة - اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: إذ جرّد الرياسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب (كو2: 15)، وهذا هو الغرض الذي من أجله جاء الرب (إلى العالم)، لكي يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان..[13] أنّ ملكوت الظلمة، أي الرئيس الشرير، لمّا أسر الإنسان في البدء، قد غمر النفس وكساها بقوة الظلمة كما يكسو الإنسان إنسانًا غيره لكي يجعلوه ملكًا، ويلبسونه الملابس الملوكية من رأسه إلى قدمه..[14] وبنفس هذه الطريقة قد كسا الرئيس الشريرالنفس وكلّ جوهرها بالخطيئة. ولوّثها بكليتها، وأخذها بكليتها أسيرة إلى ملكوته، ولم يدع عضوًا واحدًا منها حُرًا منه، لا الأفكار، ولا القلب، ولا الجسد، بل كساها كلها بأرجوان الظلمة. لأنه كما أنّ الجسد لا يتألم منه جزء أو عضو بمفرده، بل الجسد كله يتألم معًا، هكذا النفس بكليتها تألمت بأوجاع الشقاء والخطيئة. فالشرير كسا النفس كلها التي هيَ الجزء أو العضو الأساسيّ في الإنسان، كساها بشقائه الخاص، الذي هو الخطيئة، ولذلك أصبح الجسد قابلًا للألم والفساد (الاضمحلال)...[15] لأنه بمعصية الإنسان الأوّل دخل فينا شيء غريب عن طبيعتنا، الذي هو كارثة الفساد والأهواء وقد اتخذ هذا الفساد مكانه كأنه جزء من طبيعتنا بطول العادة والميل...[16] وإذا حدث أنّ ملكًا له خيرات وخدم تحت سلطانه يخدمونه، قد أخذه أعداؤه أسيرًا، فإنّه حينما يُؤسر ويبتعد عن مملكته، فإنّ خدامه وعبيده يتبعونه في أسره. وهذا ما حدث لآدم، فإنّ الله خلقه نقيًا لخدمته وعبادته، وكلّ هذه المخلوقات أُعطيَّت له لخدمة احتياجاته، وجعله الله سيدًا وملكًا على جميع المخلوقات. ولكن، حينما جاءته الكلمة الشريرة (كلمة إبليس) وتحدث معها، قابلها أولًا بالسمع الخارجي، ثمّ نفذت إلى داخل قلبه وملكت على كلّ كيانه.. وحينما أُسِر وأُمسِك هكذا، فإنّ الخليقة التي كانت تخدمه وتلازمه أُمسِكت وأُسِرت معه.. وعن طريق آدم ملك الموت على كلّ نفس، وطُمست الصورة الإنسانية الكاملة نتيجة العصيان، حتّى أنّ جنس البشر تحولوا وصاروا يعبدون الشياطين.[17]

خامسًا: دخل الموت إلى العالم بكلّ ما تبعه من آثار حزينة قاتمة.


وهكذا، فقد اختار الإنسان بإرادته الحُرة التي خلقه الله بها طريق الخطية، هذا الطريق الكرب الذي ينتج عنه انجذاب نحو الشهوة وعدم الشبع منها فيزداد أكثر، من شهوة إلى شهوة، حتّى تسيطر الخطية على عقله وإرادته ومشاعره فتنتج فيه موتًا أدبيًا وهو حي، وموتًا جسديًا. بعد أنّ تشبَّع كيان الإنسان بالانجذاب نحو الشرّ والعدم، قدَّم الله له الناموس كبداية بحسب التدبير الالهي، فقد كان الإنسان وقتها كأعمى تائهًا يتلّمس طريق الحق والنور، فجاء اليه الصوت الإلهيّ المُرشد عن طريق الناموس، لكنه يأتي من بعيد، من بعيد جدًا. فالناموس من وضع إلهي، وكان القصد منه أنّ يُقنن مسيرة الإنسان في الحق والبرّ والعدل والقداسة. ولكن الناموس وقف عاجزًا مشلولًا تمامًا عن تأدية دوره بسبب طبيعة الإنسان المُنجذبة للشرِّ بصورة متواترة.

وبحسب القديس كيرلس الأورشليمي فإنّ كلّ هذه الجراحات والنتائج التي حملتها الطبيعة البشريّة صارت حديث الأنبياء وصراخهم بطول العهد القديم إلى الله ليخلّصهم من هذا الفساد الذي تغلغل في الكيان البشريّ، ويعلق على ذلك القديس كيرلس الأورشليمي قائلًا:

ما أعمق جرح الطبيعة البشريّة من القدم إلى الرأس. ليس فيه صحة، ليس من يقدر أنّ يستخدم دهنًا أو زيتًا أو عصائب (راجع إش 1: 6). لذلك ولوَلَ الأنبياء قائلين: هل من صهيون خلاص إسرائيل؟” كما يتضرع أحد الأنبياء فيقول: يا رب طأطئ سماواتك وانزل (مز 144: 5). أنّ جروح الطبيعة البشريّة لا تلتئم. نقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك (1مل 19: 10)، وصرنا عاجزين عن إصلاح الشرّ، محتاجين اليك لتصلحه.[18]



[1] Romanides. Jesus Christ the Life of the World, p. 23. In Gk.

[2] انظر: تجسد الكلمة 4: 11.

[3] انظر: تجسد الكلمة، 7: 11.

[4] تجسد الكلمة 1:6.

[5] انظر: عظات القديس مقاريوس الكبير، ترجمة د نصحي عبد الشهيد (القاهرة: مركز دراسات الآباء، 2000)، العظة الثانية ص36.

[6] المرجع السابق: العظة الخامسة، ص 67.

[7] موريس تاوضروس (الدكتور)، الفكر اللاهوتيّ عند القديس بولس الرسول. ج1. ص 97.

[8] انظر: السجود والعبادة بالروح والحق، المقالة الثالثة، إصدار المركز الأرثوذكسيّ للدراسات الآبائية؛ وأيضًا: جلافيرا تعليقات لامعة على سفر التكوين ترجمة د / جورج عوض إبراهيم.

[9] تجسد الابن الوحيد. إصدار المركز الأرثوذكسيّ للدراسات الآبائية. فقره 1.

[10] حوار حول الثالوث. ترجمة د / جوزيف موريس فلتس. ج 6 ح 7 ص 55.

[11] Concerning the Statues, homily 11.

[12]الحب الإلهي. الأب تادرس يعقوب ملطي. ص 127.

[13] عظات القديس مقاريوس 1: 7، ترجمة د / نصحي عبد الشهيد، إصدار المركز الأرثوذكسيّ للدراسات الآبائية.

[14] الاقتباس ـ لم يذكر مصدره ـ وهو ليس اقتباسًا من الكتاب المُقدّس، والقصد منه، على أية حال، هو إعطاء فكرة التغطية الكلّية بالملابس.

[15] عظات القديس مقاريوس 2: 1.

[16] عظات القديس مقاريوس 4: 8.

[17]عظات القديس مقاريوس 1: 5.

[18] كيرلس الأورشليمي (القديس). حياته، مقالاته لطالبي العماد، الأسرار. تعريب الأب تادرس يعقوب ملطي إصدار كنيسة مارجرجس إسبورتينج. ص 169

ليست هناك تعليقات: