خُلِق الإنسان قابلًا للموت والألم قبل السقوط، وذلك بسبب طبيعة الإنسان أنه مخلوق من العدم وليس لأن الله خلق فيه خاصية الموت والألم. والذي كان من الممكن أنّ ينجو منه أنّ أبقى الله في معرفته.
القديس أثناسيوس الرسوليّ[1]
خُلِق الإنسان من العدم،
وبحسب طبيعته هذه فإنّه قابل للفناء والعودة إلى العدم مرة أُخرى، وقد وهبه الله
نعمة الخلود حتّى أنّ بقيَّ مُحافظًاعلى هذه النعمة يظل خالدًا إلى الأبد في شركة حقيقيّة
في الله.
أمَّا وقد سقط الإنسان
من نعمة الله وفقد شركة الروح القدس فقد أصبح عائدًا مرة أخرى إلى الأرض التي أُخِذَ
منها وفي طريقه إلى العدم والاضمحلال. هذا ما يقوله القديس ساويرس الأنطاكي:
“الإنسان فانٍ بالطبيعة، لأنه أتى إلى الوجود من العدم.. ولكن، مع ذلك، لو أنه قد استمر موجهًا نظره نحو الله، لكان قد تجاوز قابليته الطبيعية للفساد وبقيَّ غير فاسد،[2] وقد قال الله لآدم أنت تراب وإلى تراب تعود، ولم يقل له لقد صرت الآن تُرابًا، مما يعني ضمنًا أنّ آدم قد خُلِقَ في الأصل قابلًا للموت والفناء.[3] ولكن آدم قد أُعطيَّ وعدًا بعدم الموت وعدم الألم كهبة إلهية تُمنح له بنعمة الله، وبالسقوط فقد الإنسان هذه النعمة الإلهية، على الرغم من أنه لم يُجرد من طبيعته”.[4]
نفس الأمر نجده عند القديس يوستينوس الشهيد،
والذي سبق القديس ساويرس –من جهة الزمن - بحوالي خمسمئة عام، يقول:
“الله خلق الانسان على مثاله، حيًا لا يموت، حُرًا من المعاناة, ولكن الإنسان فَعَل فِعل آدم وحواء فجلب الموت على نفسه.. وفسِرّ المزمور الحادي والثمانين كما تشاء، فيظل يشهد أنّ جميع الناس يستحقون أنّ يكونوا آلهة، وأن كلًا منهم سيُدان ويُحكم عليه كما حُكِم على آدم وحواء”.[5]
فقد خُلِق الإنسان وله
كلتا الإمكانيتين في طبيعته، عدم الخطأ، وبالتالي عدم الموت أو عدم الفساد، وكذلك
في نفس الوقت له قابلية الخطأ، وبالتالي قبول الموت والفساد، وقد أُعطيَ الإرادة
الحرة أن يختار.[6]
هذا ما يقوله المُطوّب أغسطينوس:
“أمّا الإنسان الذي له طبيعة تميل بين الملائكية والحيوانية، فإنّ الله خلقه هكذا، حتّى إذا بقيَ خاضعًا لخالقه كسيدٍ له بحقٍ، ويحفظ وصاياه بورعٍ، تصير له شركة مع الملائكة، وينال خلودًا مُباركًا أبديًا، دون أنّ يُصيبه الموت. أمَّا إذا عصيَّ الرب إلهه باستخدامه حرية إرادته بعجرفةٍ وفي عصيانٍ، فإنّه يخضع للموت، ويسلك عبدًا للشهوة، ويُحكم علىه بالموت الأبدي.
نعم يا إلهي.. في غياب نورك ظهور للموت، أو بالحري مجيء للعدم. فالموت ليس له وجود في ذاته. وهذا العدم يدفع بنا إلى العدم الذي للخطية، فينزع عنا الخوف من ارتكابها.. فنخطئ، وبالتالي ننحرف إلى الهاوية عدمًا.. يا لشقائي.. لقد سادت عليَّ الظُلمة، ومع أنك أنت النور، إلاَّ إنني حجبت وجهي عنك!”[7]
ويعلق القديس ثيؤفيلس قائلًا:
“يقول لنا البعض أنّ الإنسان خُلِق خالدًا بالطبيعة. طبعًا لا. فهل كان إذًا خالدًا؟ نحن لا نستطيع أنّ نؤكِّد هذا أيضًا. لذا قد يسأل السائل: ماذا إذًا كان حال الإنسان، أكان عدمًا؟ ولا حتّى هذا الافتراض يمكن قبوله! لو كان الله أراد الإنسان خالدًا من البداية لكان خلقه إلهًا مثله! ولو كان الله يُريد خلقة الإنسان كخالد ومائت بالطبيعة، لقلنا أنّ الله هو سبب موت الإنسان. لا، لا هذا ولا ذاك. الله لم يخلق الإنسان خالدًا ولا مائتًا، ولكنه خلقه قابلًا للحالتين. لذلك إذا انجذب إلى الأمور الخالدة، وحَفِظ وصية الله، سوف يكون إلهًا، ولكنه إذا أنجذب إلى الأمور المائتة ولم يطع الله، يُصبح الإنسان نفسه السبب في موته بإرادته”.[8]
وهذا يعني أيضًا أنّ جميع المخلوقات خُلِقت كآدم
قابلة للموت بحسب طبيعتها، ولأن الحيوانات وباقي الكائنات الحية لا تُكَون شركة مع
الله بل خُلقت لخدمة البشريّة، فإنها كانت تموت قبل سقوط آدم، بل وقبل أنّ يُخلق آدم.
وذلك بحسب طبيعتها.
لذا، فإنّ كلّ الحفريات التي اكتشفها العلماء،
والتي يرجع تاريخها لملايين السنين، لا تتعارض مُطلقًا مع القول بإن الموت دخل إلى
العالم بحسد إبليس، ذلك لأن الموت دخل إلى عالم الإنسانية، وليس العالم بأكمله، إذ
قد سبق وكان موجودًا فيه قبل خلقة الإنسان، لأن كلّ خلائق الله الأُخرى الموجودة
في العالم، لا تصنع شركة مع الله، ولا يكون هُناك رابط حقيقيّ بينها وبينه سوى
كونها مخلوقة وهو خالقها. بينما الإنسان فقد صُنِع خصيصًا لأجل أنّ يكون على صورة
الله، وبهذا فهو كائن يحيا في الشركة، ويسعى نحو الشركة مع الله ومع الخلائق
الأُخرى، بسبب فرادته فكان له موضع خاص من تلك النعمة المؤلهة التي تحفظه من الموت
وتُبقيه خالدًا.
[1] انظر:
تجسد الكلمة 4: 6.
[2] La Polimque Anti julianiste, II B, ed.
Robert Hespel, p. 30.
[3] Ibid, p. 34.
[4] ف. سي. صمويل (الأب)،
مجمع خلقيدونية إعادة فحص بحث تاريخي ولاهوتيّ. ترجمة د/ عماد موريس إسكندر،
مراجعة د/ جوزيف موريس فلتس. سلسلة دراسات عن المسيحيّة في العصور الأولى. إصدار
دار بناريون للنشر. ص 412.
[5] الحوار
مع تريفون، 24.
[6] قصة الإنسان – حول الخطية والخلاص، الأب متى المسكين ص 8.
[7]
المُطوّب أغسطينوس. الحبّ الالهي. للأب تادرس يعقوب ملطي ص 295.
[8]
القديس ثيؤفيلس في رسالته إلى أتوليكوس 1: 25 - 27.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق