الفهم الصحيح للنص الكتابي هو أهم صفة يجب أن تتوافر
فِي المسيحيّ عامة وخادم الكلمة خاصة، وهو الأساس الذي يُبنَّي عليه الفكر العقيدي
وكلّ موهبة أُخرى لبنيان الكنيسة، ولذلك يقول الأب متّى المسكين:
”تبقى موهبة معرفة الكلمة على أسّس صحيحة من الإنجيل وبفهم صحيح وإدراك صحيح بحسب الفكر الإنجيلي واللاهوتي, هيَ الأساس الأول الذي لا غنى عنه والذي عليه يتوقف عمل كلّ موهبة أُخرى, ويكفي أن نتصور إنسانًا يسعى لينال موهبة الخدمة أو التعليم أو النبؤة أو التكلم بلسان أو الشفاء أو الوعظ, وهو غير مُتأسّس على معرفة الإنجيل بعهديه معرفة مُتقنة, فالعثرة والتخبط والبلبلة التي قد يقع فيها كفيلة لا أن تلغي كلّ موهبة أُخرى, بل وتُشكك فِي مصدرها وتهدم الكنيسة“[1].
والمسيحيّ لا يقدس حرف الكتاب المقدس بل يقدس المعنى
الذي يحمله إليه هذا الحرف، فنحن لسنا نعبد أوثانًا ولا نعبد كتابًا من أوراقٍ
وحبرٍ، بل بالحري نحن أبناء الله ونقدس المعنى الذي غرسه الله فِي كلمات الكاتب
المُلهم بالروح. وكان القديس كيرلس عمود الدين دائمًا ما يستخدم تعبيرات تدل على
أن الهدف من الكتاب المقدس ليس الحرف وتفصيلاته وأصوله، بل جوهر الرسالة المختبئة
داخل هذا الحرف، حيث نجده يكتب: "الكلمة المُعبرة عن المعنى[2]"، "البديهيات التابعة للأقوال[3]".
ويشرح ذلك باستفاضة، قائلًا:
”الأشياء الظاهرة هيَ رموز للأمور الروحية، والأشياء التي حولنا تأخذ بأيدينا لتقودنا لفهم الأمور التي فوقنا، والأشياء الجسدية يلزم أن تؤخذ كصور تتقدم بنا إلى الأفكار السامية، بالرغم من أنها فِي زمنها الخاص كانت تُفهم كما نُطِق بها“[4].
وبحسب القديس إكليمندس السكندري فالكتاب المُقدس
كالعذراء يحمل أسرار الحق والتي تحتاج لأن نصل إليها عبر الحرف المُجرد، فيقول:
”هكذا بالنسبة لنا كتاب الرب المقدس يلد لنا الحق ولا يزال عذراء إذ يحمل ختم أسرار الحق[5]“.
فالقاعدة الفُضلى للتفسير هيَ أن نكتشف ونُحدد ما هو
القصد الذي يبتغي كاتب السفر التعبير عنه، فالتحدي الحقيقي ليس فِي الاقتراب الصحيح إلى فكر
كاتب النص, ولكن ايضًا فِي امكانية القارئ المُعاصر فهم الكاتب, أن يجعل (المُفسر)
فكر الكاتب هو فكره, وهذا ما فعله الآباء, لقد فهموا النص ونقلوا هذا النص مفهومًا
إلى مؤمني عصرهم. وذلك لأن كلّ غرض التفسير هو ترجمة كلمات الله إلى حياة، فيقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
”كما أن البناء الذي بلا أساس يكون مُختلًا ولا يؤمَنَ له، كذلك الكتاب المُقدس يصير بلا منفعة إطلاقًا، إذا فشل الفرد فِي استقصاء القصد منهُ“[6].
والقديس كيرلس السكندري يدعونا لنتعمق فِي المعنى
المخفي، حتّى نرتقي بحكمة، من الجسدانيات الكائنة فِي الإمور المحسوسة، إلى
الروحانيات[7].
ولذلك دائمًا ما استخدم آباء الكنيسة التفسير الرمزي للوصول لعمق النص واستخراج
القصد والهدف المرجو منه. ولذلك يقول أوريجينوس:
"حقًا إن الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هُنا هو الكتاب المقدس الذي فيه زُرِعَ ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقية الأفكار؛ فإنها عظيمة ومتنوعة هيَ نباتات الكلمات التي فِي كلّ الكتاب! أما الكنز المخفي فِي الحقل فهي الأفكار المختومة والمخفية وراء الأمور المنظورة "الحكمة المخفية فِي سر"، المسيح المذخر فيه كنوز الحكمة والعلم"[8].
وهذا ما قاله سفر الأمثال حيث جاء فيه متحدثًا عن المعني الخفي أو
الجوهري لظاهر النص الذي دوّنه الأنبياء إذ يقول:
لِمَعْرِفَةِ حِكْمَةٍ وَأَدَبٍ لإِدْرَاكِ أَقْوَالِ الْفَهْمِ. 3لِقُبُولِ تَأْدِيبِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالاستقَامَةِ. 4لِتُعْطِيَ الْجُهَّالَ ذَكَاءً وَالشَّابَّ مَعْرِفَةً وَتَدَبُّرًا.5يَسْمَعُهَا الْحَكِيمُ فَيَزْدَادُ عِلْمًا وَالْفَهِيمُ يَكْتَسِبُ تَدْبِيرًا. 6لِفَهْمِ الْمَثَلِ وَاللُّغْزِ أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَغَوَامِضِهِمْ. (أم 1: 2- 6).
ويكتب استاذ الكتاب المُقدس
ق.جيروم:
”إن ماركيون وباسيليدس وهراطقة آخرين لا يملكون إنجيل الله، لأنهم لا يملكون الروح القدس، الذي من دونه يصبح الإنجيل المُبشر به إنسانيًا محضًا. فنحن لا نعتبر أن الإنجيل يتآلف من مُجرد كلام لإن الكتاب المُقدس غايته فِي معناه، لا فِي سطحه، فِي هذا الحال يُصبح الكتاب نافعًا حقًا للسامعين عندما يُبشر به مع المسيح وعندما يُقدم ويُعرض مع الآباء وعندما يُقدمه المُبشرون به مع الروح.. كبير هو خطر الوعظ فِي الكنيسة، لأن التفسير المُنحرف يحول إنجيل المسيح إلى إنجيل إنساني[9]“.
ولهذا يكتب هيلاري أسقف بواتييه والمُلقب بأثناسيوس
الغرب:
”اننا حينما نلجأ إلى اقوال الكتاب المقدس فعلينا ان نخضع عقولنا مباشرة للحق الذي تشهد له الكتب المقدسة, لأن نصوص الكتاب المقدس يجب ان تُفسر فِي ضوء الأمور أو الحقائق التي تشير إليها والتي بسببها كُتِبَت هذه الأقوال وليس العكس, إذ أن هذه الأقوال تحقق الغرض المقصود منها عندما تنقل شهادة الله عن ذاته, وبالتالي تمكننا من الايمان بالله والتفكير فيه بالطريقة الوحيدة المتاحة, والتي تتماشى مع الطريقة التي يقدم هو بها نفسه لنا[10]“.
ويكتب ذهبي الفم:
”أى كنز يُمكننا أن نحصل عليه من أعماق الكتاب المقدس، ونحن لم نتلامس بعد مع كلّ أعماق الحكمة، إذ أننا نزلنا فقط إلى العمق الذى تسمح به إمكانياتنا[11]“.
وهكذا فقد لجأ الاباء إلى
التفسير الرمزي[12]
وهو لا يعني أن النص وهمي أو مجرد صورة، لكن هو حالة التأمل العقلي بالروح للدخول
إلى المعنى الجوهري للنص، فالمهم فِي النص الديني ليس أن يُقدم لي تاريخ، بل أن
يقدم حياة، حياتي الآن وتدابير الله بشأنها. فالمنهج الرمزي فِي التفسير هو رفع
حجاب الحرف الذي يستر الحقيقة حتّى تنكشف بجلاء، والمفسرين المسيحيّين لا يعملون
بعشوائية أو يفسرون النص بلا ضابط بل توجد حدود يتحركون داخلها، ونقصد بها الملمح
التاريخى للإعلان الإلهى فى العهد القديم والجديد، أى مسيرة شعب الله وخلفها تاريخ
التدبير الإلهى لخلاص العالم. فبحسب الأب جورج فلوروفسكي فإنه على المرء ألاّ يهمل
المعنى النموذجي للأحداث. مؤسّسات العهد القديم وشخصياته كانوا أيضًا نماذج ورموز
للأشياء القادمة. التاريخ نفسه كان نبويًا. فالأحداث نفسها تتنبأ، وهيَ تنبأت
مشيرة إلى شيء ما يتخطاها. يصعب وصف الآباء الأوّلين بالأصوليين. لقد كانوا دائمًا
يسعون وراء الحقيقة الإلهية ووراء الرسالة الإلهية نفسها التي غالبًا ما كانت
محتجبة خلف ستار الحرف. بالكاد استطاع الإيمان بالوحي أن يعيق الميل الأصولي. لا
يمكن تحويل الحقيقة الإلهية إلى حرف حتّى ولو كانت الكتابات المقدسة.
أحد أفضل نماذج التفسير الآبائي هو الأيام الستة (Hexameron) للقديس
باسيليوس الذي نجح فِي تقديم الحقيقة الدينية للرواية الكتابية عن الخلق بتوازن
حقيقي واعتدال لا عيب فيه[13].
والفيلسوف القديس يوستينوس الشهيد كتب لليهود:
"ولكنكم تفسرون هذه النصوص بطريقة منفردة, إذ تنسبون لله كلّ نوع من أنواع الضعف عندما تفسرونها تفسيرًا سيئًا دون تحليل لروح الكلمات[14]".
فالكنيسة كانت تقف بجانب الكتاب المُقدس مؤيدَّة إياه
من دون أن تتقيد بحرفه. فالهدف الأول للتفسير كان فِي إظهار معنى الكتاب المُقدس
وغايته أو بالأحري معنى الإعلان وتاريخ الخلاص. وكان واجب الكنيسة أن تُبشر
بالمسيح لا بالكتاب فقط[15]
وإلا إنحرفت عن قصد الكتاب وجوهر رسالته.
والتفسير الرمزي ليس فقط ما عمل عليه المفسر المسيحيّ
بل أيضًا هو عمل التلاميذ والرسل كتبة الوحي والمُلهمين بالروح، فمثلًا نجد بولس
يقول في(غلا 4: 22- 25)
"فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان، واحد
من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولِد حسب الجسد وأما الذي من
الحرة فبالموعد، وكلّ ذلك رمز لأن هاتين هما العهدان أحدهما من جبل سيناء الوالد
للعبودية الذي هو هاجر لأن هاجر جبل سيناء فِي العربية ولكنه يقابل أورشليم
الحاضرة فإنها مُستعبدة مع بنيها".
وليس هذا النص فقط ففي (1بط 2: 1- 10) يفسر بطرس
العهد القديم رمزيًا أو بالمقابلة مطبقًا أياه على الكنيسة، فهي إسرائيل الحقيقي
والشعب المُختار والكهنوت الملوكي والأمة المُقدسة والشعب الذي اقتناه الله، ويعود
بولس فيتحدث عن الأسرار المسيحيّة المُختبئة بحرف العهد القديم قائلًا: وهذه
الأمور حدثت مثالًا (1كو 10: 6).
فالوجود المسيحيّ قد فُهِمَ من خلال المنظور المُقدس
للإعداد المسياني فِي العهد القديم الذي تحقق فِي الجديد (عب 1: 1- 2). وهكذا كلّ كتبة
العهد الجديد أيضًا كانوا بإلهام الروح القدس ينظرون إلى العهد القديم نظرة تتخطى
تاريخه. "لكن هذا التخطى لا يعنى سوء استخدام للعهد القديم. ينبغى أن يصير
واضحًا أن كلّ العهد القديم يتم تخطيه أو تجاوزه داخل العهد الجديد على أساس هذا
المنهج التفسيرى. وهذا التخطى لا يفهم على أنه سوء استخدام للعهد القديم، طالما أن
العهد القديم يتغير ويتجلى داخل الجديد. وهكذا فالعهد القديم يُحفظ وهو فى حالة
تجلى ويصير كتابًا مسيحيًّا[16]".
وهكذا أيضًا فسرت الكنيسة النص الكتابي فوجدت فيه
أساس الأسرار الكنسية. فوجدت المعمودية مختبئة فِي "ماء الخلق الأول الذي كان
يرف عليه الروح الالهي" و"الطوفان الذي جدد الخليقة" و"عبور
البحر الاحمر" و"فأس إليشع التي طفت على الماء" و"تطهير برص
نعمان السرياني عندما غطس فِي النهر". وأيضًا وجدت الكنيسة سر الإفخارستيا
المُقدس متمثلًا في: "تقدمة ملكي صادق" و"المن"، وغير ذلك.
فالكنيسة بوعيها وحسها الروحي استطاعت عبر كلّ تاريخها وفي ليتورجيتها التي دائمًا
ما تنطبع فيها عقائدها، أن تفهم القصد الحقيقي وراء ستر الحرف البشري.
فالتفسير المستقيم للكتاب يهدف دائمًا إلى الفهم
العميق الذي يبتعد تدريجيًا عن الفهم الحرفى، وهذا الفهم العميق يُكشف بروح
المسيح. لذا نجد إكليمندس السكندري يؤكد على ذلك فِي مقالة ”مَن هو الغنى الذي سيخلص؟“ قائلًا:
”ونحن نعلم أن المُخَلِص لا يُعلمنا كلمات بشرية، ولكنه يُعلمنا كلمات الحكمة الإلهية الخفية. لذا لا يجب أن نستمع إلى أقواله من خلال حواسنا البشرية بل يجب أن نوليها حقها فِي الفحص والتمحيص“.
وكيفية الفحص بالنسبة له هو ذكائنا فيقول:
”مستخدمين ذكائنا، لكى نبحث ونستخرج تلك المعانى المختبئة فِي هذه الكلمات لأنه حتّى تلك الأشياء التي بسَّطها الرب للتلاميذ بنفسه، نجدها تحتاج منّا الانتباه، وربما أكثر من تلك الأشياء التي عبّر عنها بإسلوب رمزي لما فيها من فيض الحكمة المتدفقة، بينما تلك الأشياء التي نظن أن الرب قام بشرحها بنفسه لأولئك الذين دعاهم الرب بأبناء الملكوت، تحتاج لمزيد من العناية أكثر من تلك الأشياء التي تمَّ التعبير عنها فِي بساطة والتي من أجل هذا لم تثر لدى مَن سمعوها أى تساؤل بل يجب علينا أن لا نتلقاها فِي سطحية إذ أنها تتعلق بهدف الخلاص نفسه بل يجب التأمل فيها بالإعجاب والتعمق فِي التفكير إلى أعلى مستوى، ننقي أذهاننا وعقولنا حتّى تلتقي مع روح مخلّصنا، وبهذا نصل إلى المعنى الذي لم يُنطق به لذلك الاستعلان الإلهي[17]“.
ويكتب أوريجينوس:
”فإن كلمة الله الذي تسربل بالجسد من مريم, قد جاء إلى هذا العالم وما رؤي فيه كان شيء ما, وما فُهم كان شيئًا اخرًا. لان منظر جسده كان متاحًا للكل ان يروه, لكن معرفة لاهوته قد اُعطيت لقليليين.. هكذا ايضًا حين جائت كلمة الله بالانبياء ومُعطي الناموس (موسي) , فإنها لم تأت من دون ان تتسربل بشكل مناسب. لأنه مثلما كانت هُناك مُغطاة ببرقع الجسد أو حجابه (2 كو 3: 14) هكذا هُنا ايضًا جائت بحجاب المعنى الروحي المخبأ داخل الحرف.. طوبى لتلك العيون التي ترى الروح الالهي المخفي فِي حجاب الحرف[18]“.
ويرى الأب جورج فلورفسكي أن التفسير التاريخي كان
غالبًا فِي خطر فقدان المعنى الكوني للوحي الإلهي عن طريق التشديد المفرط على
الأوجه المحلية والقومية فِي العهد القديم. وأكثر من ذلك، فِي خطر فقدان المنظار
الإلهي والتعاطي مع تاريخ العهد القديم وكأنه تاريخ شعب واحد بين أمم الأرض وليس
تاريخ ميثاق الله الحقيقي الوحيد[19].
وبالنسبة للقديس كيرلس فحتى إكتشافنا الدقيق للمعنى التاريخي
الحرفي يجب أن يقودنا لجوهر النص أي معناه الروحي، فيقول: "إن الأنبياء كانوا
ميالين أن يصيغوا كلماتهم بحيث تناسب مشيئات الروح القدس، حتّى أنهم بين الحين
والآخر كانوا قادرين على أن يرتقوا إلى الأمور العميقة والروحية من خلال المعنى
الحرفي، أي من خلال الأحداث التي وقعت، أو من خلال الأشياء المُدركة بالحواس
والمكشوفة للرؤية البشرية[20]".
فالمعنى الحرفي فِي رؤية القديس كيرلس عاجز عن أن يُشبع الأشخاص الأكثر فهمًا
وتعقلًا[21].
ويستعمل القديس كيرلس بعض العبارات التي توضح لنا
غاية الوضوح أن نظرته للأحداث التاريخية للعهد القديم، أنها أحداث نادرًا ما تستحق
أن تؤخذ فِي الإعتبار، ليس لأنها غير صالحة فِي ذاتها، بل لإنها تغلف المعنى الذي
يجب الوصول إليه، وهو هدف النص. فنجده يستخدم بخصوص الأحداث التاريخية تعبيرات
مثل: "أمور التاريخ العشوائية المذكورة عرضًا[22]"، "أحداث التاريخ العرضية المُقتضبة[23]" "لأنه فِي أحداث التاريخ الإضافية غير
المعتادة غالبًا ما تختفي وتكمن الأمور الروحية[24]".
فإن التفسير الروحى عند القديس كيرلس يُفهم من خلال
تدبير التجسد الإلهى. فكما أن ناسوت السيد المسيح يقودنا إلى ألوهيته ويعطي
مصداقية تاريخية لحقيقة التجسد، هكذا أيضًا فإن الحرف أو الأحداث التاريخية التي
وردت فِي النصوص، تشير إلى ذلك "الشئ" الروحى الذى يُعلن بواسطتها[25]. وهكذا فالكلام عن الله يتماشى مع حاجة الكلام
البشرى ومقاييسه. إذًا لكى نعرف سمو المجد الإلهى يجب علينا أن نفهم ـ وبطريقة
خاصة ـ الشواهد التاريخية والإنسانية أى ما تليق بالطبيعة البشرية، المدونة فِي الكتاب
المقدس، عن الله. وخاصةً لأن الإنسان له جسم كثيف وبالتالى فهو محكوم بقوانين
بيولوجية، فلهذا لا يجب عليه أن يتعامل مع التعبيرات والمعانى اللاهوتية بطرق
تاريخية أو لغوية نحوية أو أن يفهمها حسب رغبته البشرية[26]، لكن حسب ما يليق بالطبيعة الإلهية الفائقة سيظل
الكلام البشرى قاصر وغير كافٍ لوصف الإلهيات، لأن ما يعبر عنه ـ نسبيًا ـ ينحصر
فِي نطاق اللغة والنموذج والعلاقة والمثال، وبواسطة الكلام البشرى نستطيع أن نفهم
جانبًا ما مما هو خاص بالطبيعة الإلهية الفائقة. فالكلمة الكتابية لا تدل على ما
هو لله بالضبط، بل هى ببساطة تشير إليه "[27].
والذي يحدد معنى كلّ كلمة فِي الكتاب ليس هو التحليل
اللغوى لها أو المعنى التاريخى الذي تحمله –وإن كانت هذه معلومات هامة لفهم النص- لكن الأهم فِي تحديد
المعنى هو ذلك الشئ "المخفي فِي النص" فِي العمق وسرائريًا وحسب التدبير[28].
الكتاب المقدس يستخدم لغة ايقونية، فالنص الكتابي كالإيقونة يقدم عمق للتلامس مع الروح الإلهي متسترة
بغلاف فكر وتعبيرات بشرية. فمثلًا عندما يتحدث عن الله كمجسد أو كغاضب أو منفعل أو
ندمان، كلّ ذلك إنما هو تعبير بشري عن الله بلغة يفهمها البشر لإن الله ليس عنده
ماضي وحاضر ومُستقبل ولذلك فهو لا ينفعل كما نفعل نحن ولا يتأثر بالإنفعالات كما
نتأثر نحن بها. وهكذا فنجد القديس إسحق السرياني يقول فِي جرأة: لا يوجد عاقل
وعنده فهم بالمرة ويُمكنه أن يتصور، بهذا الجنون، شيئًا مثل هذا عن الله. ولا
نستطيع أيضًا أن نقول أنه من قبيل العقوبة يتصرف، حتّى ولو كان الكتاب المُقدس من
الظاهر يُعلن ذلك!! مجرد التفكير هكذا عن الله، وتوقع أن عقوبة الشر موجودة عنده
شيء كريه.. لأنه تجديف... ليس لأن عبارات الغضب والكراهية وما شابه تُستعمل لوصف
الخالق، فنتخيل انه هو حقيقة يعمل اي شيء بالغضب والكراهية أو الغيرة. هُناك مجازات
كثيرة فِي الكتاب المُقدس عن الله، الفاظ بعيدة تمامًا عن طبيعته الحقيقية. فلا
يجب ان نفهم كلّ شيء بصورة حرفية كما كُتبت، ولكن يجبب أن نري ما هو مخفي فِي الجسم
الخارجي لما هو مكتوب[29].
ولذلك يكتب ايضًا كيرلس عمود الدين: نحن نتكلم عن الله بإسلوب بشري، لأنه لا توجد
لدينا اية وسيلة أخري للتأمل فِي الأمور التي تعلو علينا[30].
وقد استخدم الكتاب المُقدس شكلًا أدبيًا صاغ من خلاله
النص، وهذا الشكل الادبي إما كان شعرًا كما فِي المزامير وسفر ايوب وبعض مقاطع من
التكوين واجزاء أخري، وإما كان نثرًا، أو فِي قصة أدبية تتجلي صورتها فِي أن النص
أحيانًا يضع حديثًا لشخصيات وهمية أو ميتة أو يمنح القدرة على الكلام للحيوانات
العجماوات بهدف توصيل رسالة معينة فِي سياق أدبي. وقد ألتفت القديس كيرلس لهذا
المعني[31]
ففي تفسيره على (أش 21: 3-5) يخبرنا أن كاتب النص المقدس استعان بهذا الإسلوب
الأدبي الإصطناعي من أجل فائدة السامعين[32].
واستخدم الأنبياء هذه الطرق لكي يستطيعوا أن يوصلوا
جوهر الرسالة الإلهية بأبسط الطرق المُتاحة للشعوب التي كتبوا لأجلها فِي ذلك
الوقت، فالحقائق الإلهية لا يُعبر عنها ولا تُدرك بالحواس الجسدية لأنها فائقة عن
كلّ معرفة بشرية. ولذلك فإن الله يتنازل لأجل معرفته بمحدودية الفهم البشري ويترك
للكاتب ان يصف جوهر الرسالة أو المضمون الذي أراد الكاتب إيصاله فِي ذلك الوقت
وبالإسلوب الذي يُريده، دون أن يتشوه الجوهر الذي تبتغيه الرسالة، وحتى يصير
مفهومًا من الجميع فِي أي عصر وأي مستوي ثقافي وأي طبقة عمرية. فِي ذلك يقول القديس
إكليمندس السكندري: إذا فكرنا فِي الله القدير أن الأشياء تتم عنده بنفس الطريقة
التي نستطيع نحن أن نُدركها بحواسنا، فإننا نُخطئ ونكون مُدانين بعدم التقوي، لأن
اللاهوت لا يُمكن التعبير عنه، ولكن على قدر ما يتعلق بنا، وعلى قدر ما يُسمح لنا
بفهمه يتكلم الأنبياء بهذه الطريقة، لأن الله يُكيف نفسه بحسب ضعفنا البشري لكي
يُخلصنا[33].
وهكذا فالكلمة المُقدسة هيَ تنازل
من الله نحو الإنسان، ولا تعبر مباشرة عن الحقيقة، بل تستخدم أمثلة ورموز وإشارات
حسية لترفع عقولنا من الحالة المادية إلى ما فوق المادة حيث يستريح الروح القدوس.
ويعلق ذهبي الفم: "ما العجيب فِي هذا؟ هو (الله) أشيع عنه انه أبتهج
بالذبائح، الامر الذي كان بعيدًا عن طبيعته[34]. وهو ينطق بكلمات مضادة عند تصريحاته عن نفسه واشياء
كثيرة شبيهة. لانه لا يضع إعتبارًا لنفسه ابدًا، بل دائمًا يقول بما سيكون مُفيدًا
لنا. فإن كان الاب لا يضع إعتبارًا لكرامته بل يتكلم بتلعثم مع اولاده الصغارويدعو
أكلهم وشربهم ليس بأسمائها المعروفة بل بكلمات طفولية، فكم بالأولي يعمل الله. وفي
كلّ موضع فِي الكتاب توجد أمثلة لتباسطه فِي الكلمات وفي الأفعال[35].
الكتاب المُقدس كتاب وجِدَّ
فِي قلب التاريخ، ولذلك من أهم العناصر التي تُعيننا على فهمه هو معرفة الوقت الذي
كُتِبَ فيه النص والأشخاص الذين كُتِبَّ لأجلهم، فبحسب القديس كيرلس السكندري: إن
التمييز بين النصوص امر هام جدًّا إذ يقودنا إلى تمييز الازمنة والأوقات[36]. ويكتب فِي موضع آخر: لأن معرفة الأزمنة وتمييز فِي الأشخاص
هيَ أمور توضّح لنا بسهولة معنى الكلمات المُستَقيمة وغير المنحرفة التي تأتي
إلينا مباشره من الكتب المقدّسة[37]. ويكتب فِي موضع آخر: كذلك ينبغي على الدارس للأقوال
الالهية ان يفحص ايضًا الاشخاص ويتفكر فِي الزمن, ولأي سبب قيل كلّ قول. وذلك حتّى
يمكن لكل احد ان يطبق التفسير اللائق بنعمة الروح لكل قول من هذه الاقوال[38].
ولقد استفاض القديس أثناسيوس كثيرًا وشدد على هذا الأمر، ففي رسالته ضد الاريوسيين يكتب:
فيجب أن نفهم بأمانة: الوقت الذى كتب عنه الرسول، والشخص والموضوع اللذين كتب عنهما، لكى لا يجد القارئ نفسه ـ وهو يجهل هذه الأقوال أو غيرها، بعيدًا عن المعنى الحقيقى. ولذلك فإن ذلك الخصى المحب للمعرفة ـ حينما عرف هذا توسل إلى فيلبس قائلًا: " إنى أسألك، عمن يقول النبى هذا، عن نفسه أم عن شخص آخر؟ " (أع34:8) لأنه كان يخشى أن يحيد عن المعنى المستقيم، ويفهم الكلام عن شخص آخر من خلال قراءته. وأيضًا التلاميذ بسبب رغبتهم أن يعرفوا وقت حدوث ما قاله الرب توسلوا إليه قائلين " قل لنا متى ستكون هذه الأمور؟ وما هى علامة مجيئك " (مت3:24). وأيضًا عندما سمعوا من المخلص ما قاله عن النهاية، أرادوا أيضًا أن يعرفوا زمنها (انظر مت36:24). وذلك لكى لا يضلوا هم، وأيضًا لكى يتمكنوا من تعليم الآخرين. فإنهم بعد أن عرفوا فقد صححوا (أفكار) الذين كانوا على وشك الضلال من أهل تسالونيكى. لذا فعندما يكون لدى واحد من مثل هؤلاء معرفة كثيرة، عندئذ سيكون له فكر إيمان صحى ومستقيم. أما إذا أساء أحد فهم شيء من هذه، فإنه سينزلق فى الحال إلى الهرطقة. وهكذا ضل الذين يتبعون هيمنايس والأسكندر (1تيمو20:1). لأنه برغم أن الوقت لم يكن قد صار بعد. كانوا يقولون إن القيامة قد صارت بالفعل. (انظر2تيمو18:2). فى حين أن الغلاطيين ـ بعد أن أكتمل الزمان ـ قد مالوا الآن إلى الختان. أما من جهة الشخص، فقد كابد اليهود ولا يزالون يقاسون حتّى الآن، لأنهم يظنون أن هذه الآية " هوذا العذراء تحمل وستلد ابنًا، وتدعون اسمه عمانوئيل، الذى تفسيره الله معنا " (إش14:7، مت23:1) تقال بخصوص واحد منهم (لا يزالون ينتظرونه) وأنه عندما قيل " سيقيم لكم الرب نبيًا من وسطكم " (تث15:18، اع22:3) فإنهم يظنون أنه يتكلم عن واحد من أنبيائهم. أما القول: " كشاه قد سيقت إلى الذبح " (إش7:53)، فإنهم لم يتعلموا من فيلبس إلى من يشير، بل ظنوا أنه يتكلم عن إشعياء أو عن نبى آخر من بين أنبياءهم. لذا فإن أعداء المسيح أنزلقوا إلى الهرطقة البغيضة بسبب معاناتهم من مثل هذه الأمور. فإنهم لو كانوا قد عرفوا تمامًا الشخص والموضوع والوقت المتعلق بالكلمة الرسولية، لما جدف أولئك الحمقى إلى هذا الحد[39].
[1] الأب متّى المسكين. الروح القدس الرب المحيي، إصدار
دير القديس انبا مقار،ط4 ج2 ص 773.
[2] Com,
on, mal, 11, 591, 9
[3] Com,
on, amos, 1, 517, 151
[4] Comment
on st. john 1, 159, 25ff
[5] المتفرقات 16:7.
[6] P.
G. 55, 35
[7] تفسير ميخا
1: 733: 9
[8] تفسيره لمتى
10: 5.
[9] On
Galatians, 1, 1, 2. P.L. 26, 386
[10] De Trin
, 4. 14 ; 5. 4 , 7 ; 8. 52. &, De Trin 1. 6, 16; 2. 2 ff.
[11] الصلاة،
ترجمة د/ سعيد حكيم، ص 12.
[12] التفسير الرمزي ليس مستوى واحد، بل عدة مستويات فهناك
الرمزية allegorical وهو يبحث فِي هدف وقصد الإيمان فِي النص من خلال النصوص والمقاطع
والجمل لكي يصل إلى المعنى الخفي بداخلها، وهُناك أيضًا التفسير المجازي أو التماثلي
tiopological وهو الذي يبحث عن تطابق بين حدثين أو شخصين، والأخلاقي moral وهو البحث
فِي ما يجب أن أفعله كمؤمن وسط الجماعة وفي العالم، والتفسير الاخروي أو التجاوزي anagogical وهو يشير إلى
البعد الآخروي (أي الذي يتحدث عن الحياة الأخرى) الذي يتضمنه النص. فعندما نتحدث
هُنا عن التفسير الرمزي فنقصد به التفسير الذي يبتعد عن حرفية النص ناظرًا إلى
عمقه وأبعاده وهو يشمل كلّ من المعاني السابقة. فالقاعدة الفُضلى للتفسير هيَ
البحث عن مقاصد الكاتب كما سنرى. وهذا التقسيم يتطابق مع تقسيم التفسير بالمنهج
المدراشي للرابيين اليهود حيث "ريميز" وهو المعنى الدفين فِي الناموس،
و"داروش" وهو المعنى الرمزي، و"سود" وهو المعنى السري أو الصوفي.
وهذا التعريف الذي قدّمناه يختلف عن المعنى المعتاد للتفسير الرمزي والذي يعني أن
يشرح المُفسر الأحداث دون شرح النص فلا يُمكن تفسير الكتاب المُقدس بهذه الطريقة
فقط.
[13] "The Old Testament and the
Fathers of the Church" originally appeared in The Student World, XXXII No.
4 (1939), 281-288. Vol, 4. of his Collected Works, Aspects of Church History)
[14] الحوار مع تريفون فصل 112.
[15] الاب جورج فلوروفسكي، الكتاب
المُقدس والكنيسة والتقليد، ص 106.
[16] د/جورج عوض
إبراهيم، دورية دراسات ابائية ولاهوتية، عدد 18، ص 76
[17] سلسلة آباء الكنيسة، دار
فيلوباترون، الكتاب الثانى، الجزء الأول، ص107ـ108.
[18] THE FATHERS OF THE CHURCH, ORIGEN, HOM ON GENSIS AND
EXODUS, VOL 71, P. 29.
[19] مقالة عن
اباء الكنيسة والعهد القديم، تعريب الاب انطون ملكي
[20] القديس كيرلس
الكبير كشارح للعهد القديم، ألكسندر كريجان، مقالات نُشرت فِي مجلة مرقس عام 79.
[21] P.
G. 69, 640 A
[22] P.
G. 68, 585, D
[23] P.
G. 188 C
[24] P.
G. 69, 140 A
[25] د/ جوزيف
موريس فلتس. مقال: أمثلة من تفسير الاباء لايات الكتاب المقدس، دورية دراسات
ابائية ولاهوتية الصادرة عن المركز الارثوذكسي للدراسات الابائية، عدد 16 ص 31.
[26] PG 74.28B.شرح
إنجيل يوحنا
[27] PG 76.33C.ضد
نسطور 3:1
[28] PG 70,
[29] Mystic
treatises of Isaac of nineve, p. 59, 128 , 136, 241
[30] The
faith of the early fathers, vol. III, p. 217, 218
[31] انظر تفسيره على:
أش 21: 3، أش 14: 9، ميخا 7: 8-11، أش 23: 4، يوئيل 1: 17-20.... وغيرها
[32] P.
G. 70, 488 A
[33] Strormata
2, 16, 72, 3-4
[34] راجع: مز 50:
13
[35] Hom,
on titus, 1: 12
[36] حوار حول
الثالوث، ج1 ص 41، إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائية.
[37] حوار حول الثالوث،
ص 21.
[38] والدة الإله،
إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائية، ص 27.
[39] ضد
الاريوسيين 1: 13: 54-55.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق