الأحد، 3 سبتمبر 2023

الوحدة المسيحية في منظور القديس أثناسيوس الرسولي، وعلاقته بالمختلفين معه في الألفاظ

 

 


يقول العالِم Bouyer:

لقد كان لأثناسيوس روح كنسية عالية جدًّا ... وهذا أفضل ما يُفسِّر لنا تصرفاته ... فإن كان لم يرتضِ بأن يكف ولا لحظة واحدة عن الجهاد من أجل العقيدة، ولم يرضَ أن يحتفظ بإيمانه لذاته - تاركاً الآخرين يتوحَّلون كما يشاءون في اللاهوت الأنطاكي الشائك، فالسبب في ذلك أن الحياة المسيحية كانت بالأساس في نظره "حياة كنسية"، فكان من العبث في نظره أن يدَّعي أحد بأنه يُنمِّي حياته الروحية الفردية ويترك بقية الكنيسة تتعثَّر، كما يكون من العبث الاحتفاظ بالحياة الطبيعية داخل إحدى خلايا جسم يؤول إلى الانحلال! فإن كنَّا نجد عنده الحياة الروحية الداخلية تتوافق بالتمام مع "الاهتمام بجميع الكنائس"، فالسبب في ذلك هو اقتناعه العميق بأن حياة الكنيسة ليست شيئاً خارجياً بالنسبة لحياة الإنسان المسيحي الخاصة.”([1])

“فأول ما تقلَّد المهام الأسقفية صار يبذل نفسه بلا حساب في كنيسته المصرية المتسعة، وفي فترة وجيزة وضع الله عليه "الاهتمام بجميع الكنائس"، بحسب قول بولس الرسول. فالحق الذي كان يعيشه كان يدفعه بقوة جارفة إلى أن يسلِّمه لغيره ويجعل الآخرين يتمتَّعون به معه. كان لا يحتمل أن تكون النفوس الموكولة إليه محرومة من هذا الحق. وكلما كان يتقدَّم في الحياة، كلما كانت تزداد فيه هذه الغيرة المُلحة لأن يسلِّم إيمانه بالكامل لكل مَنْ دُعي باسم المسيح ... بل إننا نعلم بأي قدر من الاهتمام استقبل فرومنتيوس أول رسول للحبشة، وكيف رسمه أسقفاً وعضَّده بكل وسيلة حتى تصير خدمته ناجحة.”

“غير أن هذا العمل الخارجي الدائب لم يكن عند أثناسيوس متعارضاً مع حياته النسكية الداخلية. فلا نجد لديه أي أثر للتعارض بين هذين الاتجاهين.”([2])

والسبب في هذا التوافق الداخلي بين هذين الاتجاهين أنه لم يكن يفرِّق قط بين المسيح وبين كنيسته. فعلاقته بالمسيح كانت هي نفسها علاقته بالكنيسة التي هي جسده، وفي ذلك يقول العالِم Moehler:

“لقد ضرب أثناسيوس جذوره عميقاً عميقاً جدًّا في تربة الكنيسة، وقد كان أثناسيوس لا يعرف نفسه إلاَّ فيها، فكان ماضيها حاضراً دائماً أمامه، وقد أخذ على عاتقه أن لا يُقدِّم المسيح يسوع إلاَّ متحداً بكنيسته من الداخل، وفي كلمة واحدة كان المسيح هو نفسه الكنيسة!([3])

وهذا الإحساس الواضح بحقيقة الكنيسة كجسد للمسيح يظهر عند أثناسيوس منذ شبابه حينما كتب كتابه الأول “ضد الوثنيين”، وفي “تجسُّد الكلمة”:

[لهذا لم يمت (المسيح) ميتة يوحنا بقطع رأسه وفصلها عن جسده، ولا مات ميتة إشعياء بنشر جسده وفصله إلى نصفين، وذلك لكي يحفظ جسده سليماً غير منقسم حتى أثناء موته، حتى لا تكون فرصة للذين يريدون تقسيم الكنيسة وتجزئتها.]([4])

فالكنيسة في نظر أثناسيوس هي جسد المسيح. ولو مات المسيح بتقسيم جسده إلى أجزاء لأمكن الآن أيضاً أن ينجح الأريوسيون والميليتيون في تقسيم الكنيسة. ولكنهم لن ينجحوا في ذلك طالما أن المسيح واحد وغير قابل للانقسام ...

ونستطيع أن نتبيَّن في بعض أقوال القديس أثناسيوس البذرة الأُولى للتعليم الذي بلوره في ما بعد وأفاض في شرحه القديس كيرلس الكبير، والذي مؤدَّاه أن الوحدة الكنسية تقوم أساساً على سر الإفخارستيا وعلى شركة الروح القدس.

فعن سر الإفخارستيا كأساس للوحدة الكنسية يقول أثناسيوس مفسِّراً صلاة الرب (يو 17):

[ليصيروا هم أيضاً كاملين إذ تكون لهم الوحدة لهذا السبب وليصيروا كياناً واحداً بعينه. حتى كما أن الجميع محمولون فيَّ، يكونوا جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً ويجتمعوا إلى إنسان كامل. فإننا نحن جميعاً إذ نتناول من (الرب) الواحد بعينه ™k toà  نصير جسداً واحداً إذ يكون لنا في أنفسنا الرب الواحد.]([5])

وفي نص مشابه للسابق يقول عن شركة الروح القدس كأساس للوحدة الكنسية:

[المخلص يقول: «كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، وهو لا يقصد بذلك أننا يمكن أن نصير مساوين له، ولكنه يطلب من الآب أن يُعطَى الروح بواسطته للمؤمنين كما كتب يوحنا (يو 16:14) فإننا بالروح نصير في الله وبالتالي نصير متحدين بعضنا مع بعض في الله.]([6])

وأمَّا بؤرة الوحدة ومحورها فكان أثناسيوس يراها في صليب الرب:

[لقد نقض بموته حائط السياج المتوسِّط (أف 14:2) وصارت الدعوة لجميع الأُمم، فكيف كان ممكناً أن يدعونا إليه لو لم يصلب؟ لأنه لا يمكن أن يموت إنسان وهو باسط ذراعيه إلاَّ على الصليب، لذلك لاقَ بالرب أن يحتمل هذا الموت ويبسط يديه حتى باليد الواحدة يجتذب الشعب القديم وبالأخرى يجتذب الذين من الأُمم ويتحد الاثنان في شخصه، فإن هذا هو ما قاله أيضاً بنفسه مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يفدي بها الجميع «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع».]([7])

ومن الوجهة العملية قد صار أثناسيوس بلاهوته الرصين وروحانيته العميقة “رباطاً” أساسياً وقوياً في جسد الرب «الرأس الذي منه كل الجسد بمفاصل ورُبُط متوازراً ومقترنا ينمو نمواً من الله.» (كو 19:2)

فنحن نعلم كيف استخدم الله شخصيته الروحية العميقة ليجعل منه - أثناء نفيه الأول والثاني - خير ممثِّل للكنيسة القبطية بين كنائس الغرب، حتى انعقدت بذلك أول وأقوى صلة روحية عميقة وأصيلة بين كنائس الشرق والغرب.

لقد كانت أخلاق أثناسيوس النبيلة وتقواه وأمانته الشديدة للحق تسبي قلوب جميع الذين عرفوه عن كثب. من أمثال هؤلاء مكسيميانوس أسقف تريف الذي أُرسل إليه أثناسيوس أصلاً ليوضع تحت مراقبته. ولكن ذلك الأسقف الوقور وكل شعبه انغلبوا منذ أول لحظة لشخصية أثناسيوس الروحية، وصاروا يتشرَّبون منه مفاهيمه الروحية واللاهوتية، وظلَّت تريف حتى بعد موت مكسيميانوس من أوفى المدن لأثناسيوس وللإيمان النيقاوي بصفة عامة.

أمَّا يوليوس أسقف روما فقد دعاه لمشاركة الأسرار الإلهية منذ أول يوم، وتشرَّب على قدر ما استطاع كل مفاهيمه وفكره. وتدلنا رسالة يوليوس إلى أساقفة الشرق على “مدى التأثير الذي استطاع أثناسيوس أن يسكبه في الشعور واللاشعور الروماني والغربي بوجه عام”.

وذلك إنما يدلنا على أصالة الروح الكنسية التي كانت تنبض في قلب أثناسيوس، حتى أنه لمَّا صار في المنفى لم ينعزل في صومعته بل استمر يعمل دائباً لبناء جسد الرب، وظل يتفاعل كعضو حي يؤثِّر في بقية أعضاء الجسد الواحد.

والعجيب أنه حتى حينما خانه أعز أصدقائه في الغرب وهما ليباريوس أسقف روما وهوسيوس الشيخ الوقور، صديق العمر، حتى حينما خانه هذان، بقي أثناسيوس يلتمس لهما الأعذار ويدافع عنهما! عجيب هو هذا الإنسان الذي يظل وفياً في صداقته حتى حينما يخونه أعز الأحباء!

هذا من جهة أصدقائه، أمَّا من جهة خصومه، أو بالحري على حد تعبيره “أعداء المسيح”، فقد كان صارماً، كاشفاً للأخطاء، ثابتاً كالصخر لا يتزعزع! غير أنه في ذلك أيضاً لم يكن يعرف أن يحقد. كان احترامه الشديد للنفس البشرية مهما تمادت في شرها يمنعه أن يهينها. وفي ذلك يقول العالِم Bouyer في وصفه لشخصية أثناسيوس:

“إن أثناسيوس في كل كتاباته الجدلية والدفاعية يُظهر سخطه بشدة على خصومه، ولكنه في ثورته عليهم يخلو تماماً من مشاعر البغضة أو الحقد. إنه يندفع بشهامة ليظهر استياءه الشديد، غير أنه في ذلك أيضاً لا يتخلَّى تماماً عن وداعته الطبيعية، بل سرعان ما تعود وتكون هي السائدة. إنه يفضح أريوس ويوسابيوس وقسطنطيوس ويصفهم بما لا يشرِّفهم، غير أننا لا نراه قط يطأهم بقدميه، فنحن لا نجد في كتاباته أثراً لعداوة شخصية تسُود صفحاتها كمثل شبح روفينوس في كتابات جيروم.”([8])

والسبب في ذلك أن أثناسيوس لم يكن يقاوم عدواً شخصياً له بل كان يقاوم أعداء الإيمان، وكان مستعداً في أي وقت يرجعون فيه إلى الحق أن يقبلهم بسعة صدر.

أمَّا العالِم Quasten فيقول بخصوص حزم أثناسيوس وسماحته:

“على الرغم من مناهضته الشديدة للأخطاء بدون أية مساومة معها، ومن تصديه لها بكل حزم، إلاَّ أنه كان يتميَّز بفضيلة يندر أن تنجمع مع مثل هذا الطبع الحازم، وهي أنه كان قادراً حتى في حمية الجهاد أن يصير سموحاً ومتسعاً إزاء الذين ضلوا الطريق بنية صادقة.”([9])

وهذا هو في الحقيقة رأي المؤلِّف الواضح، إذ أن أثناسيوس في كتاباته استطاع أن يفرِّق دائماً وبدقة بالغة بين وقت المهاجمة ووقت الدفاع، وبين خصومة لا تهادن قط وخصومة تقبل المهادنة، وفرَّق بين أعداء الإيمان وبين الأغبياء في الإيمان وبين الضعفاء في الإيمان، فعلى الأولين أعلن حرباً لا رحمة فيها، وللمتوسطين أفاض وأسهب وشرح وأطنب، وللآخرين شجَّع وتنازل وسار حتى إلى منتصف الطريق!!

وقد ظهرت هذه القدرة العجيبة في التمييز والإفراز بين الخارجين عن الإيمان وبين الذين لا يختلفون إلاَّ في التعبير عن هذا الإيمان الواحد، ظهر هذا الإفراز مع حكمة أثناسيوس ورزانته على الخصوص في موقفين: الأول في علاقته مع أنصاف الأريوسيين الذين تجمَّعوا حول باسيليوس أسقف أنقرة، والثاني في علاقته مع الفريقين المتنازعين في أنطاكية.

ففي الموقف الأول كتب أثناسيوس في كتابه: “عن المجامع” بخصوص باسيليوس (أسقف أنقرة) والذين معه:

[أمَّا الذين يقبلون كل مقررات مجمع نيقية ويتشكَّكون فقط في عبارة “الهوموؤوسيون” فلا ينبغي أن يعامَلوا معاملة الأعداء، ولا نقصد هنا أن نهاجمهم بوصفهم مصابين بالأريوسية، ولا نحن نعتبرهم مقاومين لتقليد الآباء، ولكن نناقش الأمر معهم كإخوة مع إخوة لأنهم يقصدون ما نقصده نحن، وليس النزاع بيننا إلاَّ حول اللفظ فقط ... ومن أمثال هؤلاء باسيليوس الذي كتب من أنقرة بخصوص الإيمان.]([10])

وبعد ذلك يعود أثناسيوس ويعبِّر أيضاً عن محبته نحو هؤلاء الأساقفة ويقينه أنهم لم ينحرفوا عن الإيمان الصحيح:

[إن المعنى الذي يقصده هؤلاء الأحباء ليس غريباً ولا هو بعيداً عن معنى التساوي في الجوهر.]([11])

وكان نتيجة ذلك الإفراز أن زال سوء التفاهم وأعلن 59 أسقفاً من أنصاف الأريوسيين سنة 365 أنهم يقبلون قانون الإيمان النيقاوي بدون قيد ولا شرط. “إن أثناسيوس كان على حق في أمله وتطلعاته فقد كان يؤدِّي دوراً نبيلاً!! ففي رسالة "المجامع" ارتفع أثناسيوس فوق نفسه!! وكانت النتيجة أن استجاب الله في لحظة وأوقف هذا الشغب، فالمحبة التي ترجو كل شيء لابد أن تتبرَّر في كل ما تعلمه وتتزكَّى.”

أمَّا بخصوص الفريقين المتنازعين في أنطاكية فقد كان كل منهما يتهم الآخر بالهرطقة، ولكن أثناسيوس بعد أن استجوب مندوبين من كلا الفريقين جاءوا إلى الإسكندرية واستفهم منهم بتدقيق عمَّا يعنيه كل منهما من وراء المصطلحات اللاهوتية المختلفة، تيقَّن أن إيمانهما واحد وصحيح وأن الخلاف بينهما خلاف لفظي فقط. فأخذ ينصحهم في الرسالة التي أرسلها إلى أنطاكية قائلاً:

[لا تتعاركوا بخصوص كلمات لا فائدة لها ولا تتخاصموا بخصوص العبارات المشار إليها، بل اتفقوا في مشاعر التقوى ... واعتبروا فوق كل شيء قيمة ذلك السلام الذي في حدود صحة الإيمان، لعل الله يتراءف علينا ويوحِّد ما قد انقسم فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراعٍ واحد الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه.]([12])

وأول ما تهيَّأت له الفرصة للذهاب إلى أنطاكية (سنة 363 لمقابلة الإمبراطور جوفيان)، اجتمع هناك بالفريقين المتنازعين ليكمِّل الصلح بينهما. وقصد أن يتأخَّر في أنطاكية عدة شهور حتى يبذل أقصى ما في وسعه لإقامة الصلح والسلام في هذه الكنيسة الشقيقة.

فكل ذلك - سواء كان تأثيره العميق على أساقفة الغرب أثناء نفيه هناك، أو نجاحه في ربح باسيليوس أسقف أنقرة مع الأساقفة الذين معه، أو توسطه الحكيم بين الأحزاب المتنازعة في أنطاكية - كل ذلك إنما يدلنا على امتياز روح أثناسيوس من الوجهة الكنسية، وعلى شدة إحساسه العميق بحقيقة الكنيسة كجسد للرب. فكل جهاده الكنسي على مدى هذه السنين الطويلة كان يؤول إلى غاية واحدة: أن يجمع في وحدانية الإيمان كل الذين صاروا أعضاء في جسد المسيح: [ليت الله يتراءف علينا ويوحِّد ما قد انقسم، فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراعٍ واحد الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه.]

وقد ظلَّت شخصية أثناسيوس حتى بعد موته - وهو بالحق لم يمت بحسب مدلول اسمه([13]) - ظلَّت شخصيته الروحية تستقطب قلوب الكثيرين من الشرق والغرب على مدى الأجيال، حتى اعتُبر أثناسيوس عند الكثيرين شعاراً متجسِّداً حيًّا لإيمان كنيسة المسيح الواحدة. وفي ذلك يقول أحد المعاصرين:

“لقد صارت الأرثوذكسية الجامعة متجسِّدة في شخص أثناسيوس.”([14])

 



([1]) Bouyer, L`Incarnation et I`Eglise - Corps du Christ ..., p. 29.

([2]) Ibid., p. 27.

([3]) Moehler, Athanasius der Grosse und die Kirche seiner Zeit, 1827, p. 122, cited by Mersch, op. cit., p. 285.

([4]) تجسُّد الكلمة 4:24.

([5]) ضد الأريوسيين 22:3 P.G. 26, 369, N.P.N.F. 405, 406 والفعل metalamb£nw كما سبق أن قلنا هو الاصطلاح الكنسي والآبائي للتعبير عن “التناول” الإفخارستي.

([6]) ضد الأريوسيين 25:3 P.G. 26, 376, N.P.N.F. 407

([7]) تجسُّد الكلمة 3:25و4.

([8]) Bouyer, op. cit., pp. 31-32.

([9]) Quasten, op. cit., p. 20.

([10]) في المجامع 41 N.P.N.F. 472

([11]) في المجامع 43 N.P.N.F. 473

([12]) الطومس إلى أنطاكية 8 N.P.N.F. 485

([13]) كلمة “أثناسيوس” باليونانية تعني: “عديم الموت”.

 ([14])Mersch, op. cit. p. 285.

ليست هناك تعليقات: