الوحدة مع الآب:
يقول
الابن كما جاء في بشارة القديس يوحنا الإنجيلي" أنا في الآب والآب فيّ
" (يو30:14). وهذا لا يتشابه مع ما نقوله عن القديسين وما يحدث معهم عندما
يحل الله فيهم ويقويهم، فالابن هو قوة
الآب وحكمته.
الابن
في الآب والآب في الابن، فالابن هو من الآب وخاص به، مثلما أن الشعاع هو من الشمس،
والكلمة من العقل، والنهر من الينبوع. ولذلك فإن مَن يرى الابن، ويرى ما هو خاص
بجوهر الآب، يدرك أن الآب في الابن. وحيث إن الابن هو من جوهر الآب، لذلك فهو في
الآب والآب فيه. لهذا السبب كان من الصواب أن يقول أولاً: " أنا والآب
واحد " (يو30:10)، وبعد ذلك يضيف " أنا في الآب والآب فيّ
" (يو30:14)، لكي يوضح وحدانية الألوهية من ناحية ووحدة الجوهر من الناحية
الأخرى[1].
هما
واحد، ولكن ليس مثل الشئ الواحد الذي يمكن أن ينقسم إلى جزئين، كما أنهما ليسا مثل
الواحد الذي يسمى باسمين، فمرة يُسمى الآب ومرة أخرى يُسمى هو نفسه ابنه الذاتي،
هذا ما قاله سابيليوس، وبسبب هذا الأمر حُكم عليه كهرطوقي[2].
الطبيعة
واحدة، فالابن فقط هو صورة الآب. الابن مولود من الآب لذلك فهو متمايز عنه، إلاّ
أنه بكونه إلهًا فهو واحد مع الآب. فالابن والآب كلاهما واحد من جهة الذات الواحدة
والطبيعة الواحدة والألوهية الواحدة. فرغم أن الشمس والشعاع هما اثنان إلاّ أن نور
الشمس، الذي ينير بشعاعه كل الأشياء، هو واحد ولا يستطيع أحد أن يقول إنه يوجد
نوران.
لاحظ
أنه يُقال عن الابن (كما يقال عن الآب) إنه هو الله (يو1:1). وإنه ضابط الكل:
" الذي كان والكائن والذي يأتي الضابط الكل " (رؤ8:1). وهو الرب:
" رب واحد، يسوع المسيح " (1كو6:8). وهو النور " أنا هو
النور" (يو12:8). كما أنه يمحو الخطايا كما خاطب اليهود قائلاً: " لكي
تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا " (لو24:5).
كذلك هو الحقيقة " أنا هو الحق " (يو6:14). وهكذا في أقوال
كتابية عديدة يمكننا أن نجمع مثل هذه الألقاب الإلهية المنسوبة للابن وتخصه.
الابن
نفسه يقول " كل ما للآب هو لي " (يو15:16). وأيضًا يخاطب الآب
قائلاً: " وكل ما لي فهو لك " (يو10:17). " لأن مهما عمل
ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك. لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك
الابن أيضًا يحي مَن يشاء " (يو19:5، 21). فلا يمكن أن يقال عن الآب ما
يقال عن الابن إلاّ إذا كان الابن هو مولود من جوهر الآب وصورته.
والقديس
بولس الرسول يقول عنه: " الذي إذ كان في صورة الله " (في6:2).
فحيث إن ألوهية الابن وصورته ليست شيئًا آخر غير ألوهية الآب، لذا يقول " أنا
في الآب ". ويقول أيضًا: "كان الله في المسيح مصالحًا العالم لنفسه"
(2كو19:5). لأن الابن هو من ذات جوهر الآب ομοούσιος ، وبواسطة الابن تصالحت الخليقة مع الله. وهكذا فالأعمال التي عملها
الابن هى أعمال الآب لأن الابن هو صورة ألوهية الآب الذي به عُملت الأعمال[3].
إذًا فالابن هو كالآب لأن له كل ما هو للآب. لذلك فعندما
يُذكر الآب يشار ضمنًا أيضًا إلى الابن معه. لأنه إن لم يكن هناك ابن فلا يستطيع
أحد أن يقول إن هناك آب. لذلك فمن يؤمن بالابن يؤمن بالآب أيضًا. لأنه يؤمن بمَن
هو من جوهر الآب ذاته. وهكذا يكون إيمان واحد بإله واحد. ومن يسجد للابن ويكرّمه،
فهو ـ في الابن ـ يسجد للآب ويكرّمه. إذ أن الألوهية هى واحدة، ولذلك فالإكرام
والسجود اللذان يقدمان إلى الآب وفي الابن وبه، هما واحد. ولهذا فالذي يسجد إنما
يسجد لإله واحد[4].
يستخدم ق. أثناسيوس تعبير نفس أو ذات Αὐτο عن الابن، فيقول في مقالته ضد الوثنيين فصل
46: حكمة (الآب) ذاتها Αυτοσοφία، قوة (الآب) ذاتها Αυτοδύναμις، النور ذاته Αυτοφώς، الحق ذاته Αυτο αλήθεια، البر ذاته Αυτοδικαιοσύνη وهكذا ...
وحدة الذات أو الجوهر تؤدي إلى المعرفة الكاملة بين الآب
والابن. وهنا ندرك كلام الكتاب: " وكما أن الآب يعرفني هكذا أنا أعرف الآب
" (يو15:10). كذلك " ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن "
(مت27:11). وأيضًا " ليس أن أحدًا رأى الآب إلاّ الذي من الله "
(يو46:6). " المسيح المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم "
(كو3:2). فيكون ذلك ناتجًا عن الوحدة في الإرادة والجوهر والطبيعة، ومتفقًا مع
وجود الآب في الابن، والابن في الآب والكلام الذي قيل عن الابن كونه "
الحكمة" و"الكلمة"، و"الفهم" و"المشورة الحية"
و"المسرة"، و"الحق" و"النور، و"القدرة" التي
للآب[5].
الوحدة بين الآب والابن هى النموذج الأمثل لنا. ليكون الإنسان
مدعوًا لكي يصير واحدًا متحدًا يستمد وحدته من الله الواحد، ويستمد اتحاده من
الثالوث الواحد: " ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا
فيك ، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا .. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني
ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد " (يو21:17، 22).
[ نحن لسنا أبناء كالابن، ولسنا آلهة مثله هو نفسه، ونحن لسنا
مثل الآب، فنحن لن نصير واحدًا مثلما أن الآب هو في الابن بالطبيعة وكذلك الابن في
الآب، بل بحسب ما يتفق مع طبيعتنا الخاصة ومن هذا يمكننا أن نتشكّل وأن نتعلّم كيف
يجب أن نصير واحدًا ... الكلمة مختلف عنا، ولكنه مثل الآب، ولذلك فهو واحد
مع أبيه بالطبيعة والحق. وأما نحن فلأننا من جنس واحد، فإننا نصير واحدًا بعضنا مع
بعض بالنية الصالحة، واضعين أمامنا مثال الوحدة الطبيعية للابن مع الآب. "
لكي يكونوا واحدًا، كما نحن ". أى بتعلمهم منا تلك الطبيعة غير المنقسمة،
فإنهم بنفس الطريقة يحفظون الوفاق فيما بينهم ][6].
" أنا فيهم وأنت فيّ، ليكونوا مكمّلين إلى واحد
" (يو23:17). ولذا فالرب هنا يطلب لأجلنا شيئًا أعظم وأكمل. لأنه واضح أن الكلمة
قد جاء لكي يكون فينا لأنه قد لبس جسدنا. وبقوله: " وأنت أيها الآب فيّ
" فهو يعني: لأني أنا كلمتك، وحيث إنك أنت فيّ، سبب كوني كلمتك، وأنا فيهم
بسبب الجسد، ومنك يتحقق خلاص البشر فيّ، لذلك أسألك أن يصيروا هم واحدًا، بسبب
الجسد الذي فيّ، وبحسب كماله لكي يصيروا هم أيضًا كاملين إذ يكون لهم وحدة مع
الجسد، ولأنهم قد صاروا واحدًا في هذا الجسد، فإنهم كما لو كانوا محمولين فيّ،
يصيرون جميعًا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا. لأننا جميعًا باشتراكنا فيه نصير جسدًا
واحدًا، لأننا نحصل على الرب الواحد في أنفسنا[7]،
وبالطبع يتم ذلك عن طريق الروح القدس.
المساواة في الأزلية:
الابن
أزلي كالآب، فلم يكن هناك وقت ما لم يكن الابن فيه كائنًا. إن الوقت بالمعنى الذي
نعرفه نحن من زمن محدد بساعات وأيام وسنين لا ينطبق على الله الأزلي، فمن غير
اللائق أن يشار إليه بكلمة "وقت"، لأنه كائن دائمًا. فلم يكن هناك زمن
سابق على وجود الكلمة[8].
فالكتاب
واضح في قوله " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة
الله " (يو1:1) ويقول عنه في سفر الرؤيا: " الكائن والذي كان
والآتي " (رؤ4:1). لقد كتب الرسول بولس وهو يتكلم عن اليهود، في الرسالة
إلى أهل رومية قائلاً: " ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن فوق الكل إلهًا
مباركًا إلى الأبد ". وحين كان يتكلم عن الأممين قال: " لأن
أموره غير المنظورة تُرى بوضوح منذ خلق العالم مدركة بواسطة المصنوعات قدرته
السرمدية ولاهوته " (رو20:1). وهو يشير بذلك للابن، لأنه يقول: " المسيح
هو قوة الله وحكمة الله " (1كو24:1). وحينما سأله فيلبس " أرنا
الآب " لم يقل له، انظر الخليقة، بل قال له: " من رآني فقد رأى
الآب "[9].
عن
الخليقة يقول على فم سليمان: " قبل خلق الأرض. قبل صنع الأعماق، وقبل تدفق
ينابيع المياه، وقبل أن ترسخ الجبال، وقبل جميع التلال، ولدني "
(أم23:8ـ25س).
فالابن
الصانع كل الدهور لا يمكن أن يكون هناك وقت لم يكن موجودًا فيه، لأنه كيف يكون
هناك دهر أو زمن إطلاقًا، بينما لم يكن الكلمة قد ظهر بعد، وهو الذي "
به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان " (يو3:1)؟
فأزلية
الابن من أزلية الآب وهكذا فهو أبدي كالآب أيضًا. الابن غير متغير أو متبدل مثل
الآب نفسه. لأنه ليس من العدل أن يقول أحد إن من جوهر غير المتغير يولد كلمة
متغير، وحكمة قابلة للتحول. إذًا كيف يمكن أن يكون هو الكلمة إن كان قابلاً
للتغير؟ أو كيف يمكن أن تكون حكمة تلك التي تكون قابلة للتحول؟[10].
إن لم
يكن الكلمة دائمًا أزليًا مع الآب، فلا يكون الثالوث أزليًا، بل واحد مفرد
هكذا كان من قبل، وفيما بعد صار ثالوثًا بالإضافة. وأيضًا إن لم يكن الابن مولودًا
ذاتيًا لجوهر الآب، بل قد خُلق من العدم، إذًا يكون الثالوث قد تكوّن من العدم،
وكان هناك وقت ما لم يكن هناك ثالوثًا، بل واحد مفرد. وهكذا يكون الثالوث في وقت
ما ناقصًا، ثم في مرة أخرى يكون كاملاً، فيكون ناقصًا قبل صيرورة الابن، ويكون
كاملاً حينما صار الابن، وهكذا تحسب الخليقة مع الخالق، والذي لم يكن موجودًا في
وقت ما يحسب مساويًا مع الله الذي هو كائن على الدوام، ويمجد معه. وما هو أسوأ من
هذا حقًا، أن الثالوث يوجد غير متماثل مع ذاته، إذ يكون مكونًا من طبائع وجواهر
غريبة ومختلفة عن بعضها[11].
وهكذا
يكون طبيعيًا أنه يمكن أن ينال إضافة جديدة، ويستمر في ذلك، بلا نهاية، كما حدث
مرة في البدء وأتخذ أصله بطريقة الإضافة. فلا يكون هناك إذًا شك أنه يمكن أن يحدث
فيه تناقص. لأن الأشياء التي تضاف وتزاد، من الواضح أنها يمكن أيضًا أن تطرح
وتنقص.
حاشا
لله، أن يكون الأمر هكذا. فالثالوث ليس مخلوقًا، بل هو أزلي، بل يوجد لاهوت واحد
في ثالوث، وهناك مجد واحد للثالوث القدوس. الثالوث غير قابل للتغير، وهو كامل أزلي
وعلى الدوام هو هكذا. والإيمان المسيحي يعرف الثالوث بصورة نقية، ولا يخلطه مع
المخلوقات، مقدمًا السجود للثالوث غير المنقسم، وحافظًا له وحدته اللاهوتية.
ويعرف
الإيمان المسيحي أن الابن موجود على الدوام لأنه أزلي كالآب وهو كلمته
الأزلي أيضًا. الحقيقة تشهد بأن الله هو الينبوع الأزلي لحكمته الذاتية، ولما كان
الينبوع أزليًا، فبالضرورة يجب أن تكون الحكمة أزلية أيضًا، لأن من خلال هذه
الحكمة خُلقت كل الأشياء، كما يرتل داود في المزامير "كلها (أى الأعمال)
بحكمة صُنعت " (مز24:103س) ويقول سليمان " أسس الله الأرض
بالحكمة، وبالفهم هيأ السموات " (أم10:3),
ونفس
هذه الحكمة هى الكلمة، و "به" كما يقول يوحنا " كل شئ به
كان وبغيره لم يكن شئ مما كان " (يو3:1). والكلمة هو المسيح، لأنه
" يوجد إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن به " (1كو6:8)
فإن كانت كل الأشياء قد خُلقت به، فهو لا يمكن أن يكون بين جميع هذه الأشياء[12]. متى
إذا كان الله موجودًا بدون ما هو خاص به ذاتيًا؟ أو كيف يظن أحد أن ما هو خاص به
ذاتيًا هو غريب ومن جوهر مختلف؟ لأن الأشياء الأخرى كمخلوقات ليس لها مشابهة فقط
مع الخالق حسب الجوهر، بل هى من خارجه، قد خلقت بنعمته ومشيئته بالكلمة
ولأجل الكلمة، ولذلك فإنها يمكن أيضًا أن تتوقف (عن الوجود) يومًا ما، إن
أراد الخالق ذلك، لأن هذه هى الطبيعة الخاصة بالمخلوقات. أما هو من ذات جوهر الآب،
فكيف لا يكون من الجسارة والكفر أن يقول أحد عنه إنه جاء من عدم، وأنه " لم
يكن موجودًا قبل أن يولد " بل أضيف عرضًا، ويمكن ألا يكون موجودًا في وقت ما في
المستقبل؟[13].
لقد
كُتب عنه: " لذلك رّفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم" (في9:2)
فماذا تعني هذه العبارة؟ يقول القديس أثناسيوس [ إنه حينما تُقال عنه هذه العبارة
إنما تُشير إلى إنسانيته. فالإذلال والرفعة تقال عنه بسبب الجسد. فالإنسان كان في
مسيس الحاجة إلى هذا (التمجيد) وبسبب وضاعة الجسد، وسبب الموت. فإن كان المسيح قد
دخل الآن إلى السماء عينها لأجلنا رغم أنه من قبل هذا الحدث، كان هو دائمًا الرب
وخالق السموات، فتبعًا لذلك تكون هذه الرفعة الحالية قد كتبت أيضًا من أجلنا نحن[14].
هناك
عبارات إنجيلية هامة تبين لنا كيف أن الأمور على هذا النحو، أن هذه الأقوال تقال
عن بشريته وليس عن ذاته الإلهية التي لا تحتاج إلى رفعة أو مجد أو أى إضافة. يقول:
"أنا قد أرسلتهم إلى العالم ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا
مقدسين في الحق " (يو18:17ـ19). وقد أوضح بقوله هذا أنه ليس هو المقدَس
بل المقدِس، لأنه لم يُقدَس من آخر بل هو يقدس ذاته، حتى نتقدس نحن في الحق. وهذا
الذي يُقدس إنما هو رب التقديس.
الآب هو
أزلي، غير مائت، قدير، نور، ملك، ضابط الكل، إله، رب، خالق، صانع. هذه الخصائص هى
التي يجب أن تكون في الصورة، حتى يكون حقيقيًا أن من يرى الابن يرى الآب أيضًا.
فإن لم تكن هذه الخصائص موجودة (في الصورة) ـ كما يظن الآريوسيين ـ ففي هذه الحالة
لن تكون هذه هى صورة الآب الحقيقية، ولن يكون أمامهم سوى أنهم يرفعون برقع الحياء،
ويقولون، إن كلمة الصورة التي تطلق على الابن ليست علامة مميزة لجوهر مماثل، إنما
هى فقط مجرد اسم[15].
الابن الوحيد:
البنوة
الإلهية لا يمكن تصورها بالولادة البشرية، كما يولد إنسان من إنسان. ولكن البنوة
الإلهية هى ولادة غير بشرية وغير جسدية من الآب منذ الأزل. فهو الابن، لأنه
المولود من الآب، والمولود من الآب هو كلمته وحكمته وبهاؤه. والذين يعتقدون أنه
كان هناك وقت ما لم يكن الابن موجودًا فهم يسلبون الله كلمته، ويعلّمون بمذاهب
معادية لله معتبرين أن الله كان في وقت ما بدون الكلمة الذاتي وبدون
الحكمة، وكان النور في وقت ما بدون البهاء وكان النبع جافًا مجدبًا[16].
من
الممكن أن يدعوه أحد ابنًا ولكنه يعني بذلك الاسم فقط حتى لا يدان، ولكنه بذلك
ينكر الله. فهو يقول " هذا هو ابني الحبيب " (مت5:17). والابن
يقول إن الله أبوه (يو18:5). فهنا ليست شركة خارجية، وإنما علاقة جوهرية بين الآب
والابن.
فإن كان
المولود من جوهر الآب، هو الابن، فليس هناك أدنى شك، بل قد ظهر جلي للكل أن هذا
المولود هو نفسه، حكمة الآب وكلمته والذي به ومن خلاله خلق (الآب) كل الأشياء
وصنعها. وهذا المولود بهاء الآب الذي ينير به كل الأشياء، والذي به يعلن نفسه
لأولئك الذين يريد أن يعلن لهم. وهو صورته، التي فيها يُرى ويُعرف، لذا فإنه
" هو والآب واحد "، ولأن من يرى الابن فإنه يرى الآب أيضًا[17].
والمخلوقات
يقال عنها تلتصق بالرب " وأما أنتم الملتصقون بالرب إلهكم، فجميعكم أحياء
اليوم " (تث4:4) فهنا نجد أن هناك فارقًا، فالمخلوقات حين تنمو (في
الفضيلة) فإنها تكون ملتصقة بالرب، أما الكلمة فهو في الآب باعتباره من
ذاته، لكن المخلوقات كائنات خارجة (عن الآب)، إذ هى بالطبيعة غريبة عنه. لأن أى
ابن طبيعي هو واحد مع من ولده، أما الذي هو من خارج وقد جعل ابنًا (بالتبني) فإنه
يصير متصلاً بالعائلة[18].
لقد أتى
الابن لخلاص العالم، ومن لم يؤمن بأنه الابن الإلهي فإنه يدان ولا يستحق الحياة
الأبدية. " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك
كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأن الله لم يرسل ابنه إلى العالم، ليدين
العالم، الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن به قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن
الله الوحيد. وهذه هى الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة
أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة " (يو16:13ـ19).
فكيف
لكائن أن يجعل الآخرين أبناء مع كونه هو نفسه ليس ابنًا؟! يقول القديس أثناسيوس في
تجسد الكلمة 1:20 [ لم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشر عن الآب ويقضي على عبادة
الأوثان إلاّ الكلمة الذي يضبط كل الأشياء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي].
الولادة هنا بلا ألم أو شهوة، أزلية
ولائقة بالله. فأى تغيير أو شهوة هناك، أو أى جزء في الآب أيضًا يكون الكلمة
والحكمة والبهاء؟ فإن كانت كلمة البشر بمثل هذه الكيفية، رغم أنهم يخضعون للتغيير
والشهوة، ورغم كونهم متجزئين، فلماذا يفكرون في التغيير والإنقسام بالنسبة لله غير
الجسدي وغير المنقسم، لكن عن طريق التظاهر بتوقير الله، ينكرون ولادة الابن
الحقيقية والطبيعية؟ الله ليس مثل الإنسان، ولا يتخيلوا عنه شيئًا بشريًا. لأن
البشر خُلقوا لتقبل الحكمة، أما الله، فهو لا يشترك في شئ، بل هو نفسه آب لحكمته
الخاصة، التي يلقب المشتركون فيها عادةً بلقب حكماء. والحكمة أيضًا نفسها ليست
شهوة أو تغييرًا وهى ليست جزءًا، ولكنها المولود الذاتي للآب. لذلك فهو دائمًا آب.
وخاصة الآب ليست خاصية أضيفت لله فيما بعد، وذلك لكي لا يُعتبر خاضع للتحول[19].
الخليقة هى من خارج الخالق، في حين أن
الابن هو المولود الذاتي من الجوهر، لذلك فليس هناك حاجة لوجود الخليقة دائمًا،
لأن الخالق يصيغها حينما يشاء، أما المولود (الأزلي) فلا يخضع في وجوده للمشيئة،
بل هو خاص بذات الجوهر. فالصانع يلقب صانعًا ويكون كذلك، حتى لو لم تكن له مصنوعات
بعد، أما الأب فلا يلقب أب ولا يكون كذلك ما لم يكن له ابن موجود.
الخلائق، وإن لم تكن قد وُجدت بعد، فإن هذا لا ينقص من شأن الخالق. لأن له
القدرة أن يخلق عندما يشاء. أما المولود فإن لم يكن موجودًا على الدوام مع الآب،
فإن هذا ينقص من كمال جوهره. ولأجل هذا فإن المخلوقات قد خُلقت عندما شاء هو من
خلال كلمته، أما الابن فهو ـ على الدوام ـ المولود الذاتي لجوهر الآب[20].
وفي
إجابته على التساؤل لماذا يُسمى باسم الابن مع الآب عند إتمام المعمودية؟ يقول إن
اسم الابن يسمى مع الآب ليس ببساطة ولا مصادفة. وذلك ليس لأن الآب غير كاف بذاته،
بل حيث إن الابن هو كلمة الآب وحكمته فإنه موجود دائمًا مع الآب، لأنه هو
بهاؤه. لهذا فمن المستحيل عندما يعطي الآب نعمة ألا يعطيها بالابن، لأن الابن
موجود في الآب مثلما يوجد الشعاع في الضوء. وذلك ليس لأن الله معوز أو ضعيف، بل
كأب: " قد أسس الأرض بحكمته " (أم19:3)، وضع كل الأشياء بالكلمة
المولود منه، ويختم على المعمودية المقدسة بالابن. وحيث يكون الآب، هناك يكون
الابن أيضًا، كما أنه حيث يكون النور هناك يكون الشعاع. وأى عمل يعمله الآب فإنه
يعمله بالابن. وهكذا أيضًا عندما تعطى المعمودية فإن من يعمده الآب، يعمده الابن
أيضًا، ومن يعمده الابن فهذا يتم بالروح القدس[21].
" لكي يكرم الجميع الابن كما
يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله " (يو23:5).
" لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له
حياة في ذاته وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا، لأنه ابن الإنسان "
(يو26:5ـ27).
المقال للباحث الدكتور: جورج ميشيل أندراوس، المؤتمر السنوي السادس عشر لمؤسسة القديس أنطونيوس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق