مقدمة:
إن
هدف كل عقيدة هو الحياة في المسيح. ولهذا فعقيدة الثالوث القدوس أو بمعنى آخر هذه
الحقيقة قد أُعطيتْ
للإنسان لكي تقوده إلى علاقة مع الله مثلث الأقانيم وشركة حياة الثالوث القدوس،
كما يقول القديس يوحنا الإنجيلي "أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع
المسيح" (1يو1: 4) في الروح القدس.
ولقد أدرك آباء الكنيسة تلك الحقيقية
وعاشوها، لهذا نجد مثلاً أن القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات يصف عقيدة الثالوث
القدوس بأنها "رأس الإيمان" ويُشَدِّد القديس أثناسيوس[1]
أيضًا على أن الكنيسة قد تأسست على الإيمان بهذه العقيدة والتي بدونها لا يمكن أن
يكون المرء مسيحيًا ولا ينبغي أن يُدعَى كذلك فيما بعد.
إن التعليم بعقيدة
الثالوث القدوس يُمَثِّل تعليمًا أساسيًا وجوهريًا في إيماننا المسيحي ولهذا فإن
القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات يصف هذه العقيدة بأنها "رأس
الإيمان".
المحبة الأزلية المتبادلة في
الثالوث القدوس:
إن مفتاح المسيحية هو أن "الله
محبة" (1يو4: 8، 16).
فمن كان الآب يحب قبل أن يخلق العالم
والملائكة والبشر؟
إذا أحب الآب نفسه يكون أنانيًا (ego – centric)، وحاشا لله
أن يكون هكذا، إذن لابد من وجود محبوب كما قال السيد المسيح في مناجاته للآب قبل الصليب
"لأَنَّكَ
أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ."(يو17: 24)..وبوجود الابن قبل
إنشاء العالم وفوق الزمان أي قبل كل الدهور؛ يمكن أن نصف الله بالحب أزليًا وليس
كأن الحب شئ حادث أو مُستحدَثُ بالنسبة للآب. فالأبوة والحب متلازمان، طالما
وُجدتْ الأبوَّة فهناك المحبة بين الآب والابن.
ولكن الحب لايصير كاملاً إلا بوجود الأقنوم
الثالث، لأن الحب نحو الأنا هو أنانية وليس حبًا، والحب الذي يتجه نحو الآخر الذي
ليس آخر سواه (المنحصر في آخر وحيد) هو حب متخصص رافض الاحتواء (exclusive love) بمعنى أنه
حب ناقص. ولكن الحب المثالي هو الذي يتجه نحو الآخر وإلى كل من هو آخر (inclusive love) وهنا تبرز
أهمية وجود الأقنوم الثالث من أجل كمال المحبة.
إن الكلام عن المحبة الأزلية المتبادلة بين
أقانيم الثالوث القدوس يجب تناولها بحذر شديد لئلا نتخيل وجود ثلاثة جواهر مختلفة
تجمعها محبة متبادلة. إن تمايُز الأقانيم لا يلغي وحدتها في الجوهر وكذلك وحدة
الجوهر الإلهي لا تلغي التمايُز بين الأقانيم.
ولكن كيف أن الجوهر
الإلهي واحد ومع هذا فإن هناك ثلاث أقانيم متمايزة ومتساوية؟
سأكتفي للإجابة
على هذا السؤال بمثال توضيحي، أما شرح فكرة الجوهر الواحد لثلاث أقانيم متمايزة
ومتساوية في الجوهر بشئ من التفصيل فسوف يتناولها الكتاب في صفحاته التالية. ولكن
يجب ملاحظة أن استعمال الأمثلة في شرح الأمور الإلهية هو لمجرد تقريب الصورة للذهن
فقط، ولا يجب تطبيق المثال على الحقيقة التي يشرحها في كل الأمور، لأنه لو تتطابق
المثال مع الحقيقة لصار المثال هو الحقيقة عينها.
المثال هو مثلث من الذهب الخالص، له ثلاث زوايا متساوية "أ"، "ب"، "ج":
الرأس
"أ" هو ذهب من حيث الجوهر.
الرأس
"ب" هو ذهب من حيث الجوهر.
الرأس
"ج" هو ذهب من حيث الجوهر.
الرؤوس الثلاثة
لهم جوهر واحد، وكينونة واحدة، وذهب واحد، هو جوهر المثلث وتشترك كل رأس من رؤوس
المثلث في كل الذهب وليس في ثلث الذهب فقط.
ولكن
"أ" ليس نفسه هو "ب"، "ب" ليس نفسه هو
"ج" وأيضًا "ج" ليس نفسه هو "أ".
لأن
"أ" لو كان هو "ب" لانطبق الضلع "أب" على الضلع
"ب ج" وبذلك ينعدم الذهب ويتحول إلى مجرد خط مستقيم ليس له مساحة.
لو طبقنا نفس الفكرة بالنسبة للثالوث القدوس:
الآب هو الله من حيث الجوهر.
الابن هو الله
من حيث الجوهر.
الروح القدس هو
الله من حيث الجوهر.
والثلاثة
يتساوون في الجوهر، والجوهر نفسه الإلهي هو في الآب والابن والروح القدس.
ولكن الآب ليس
هو نفسه الابن وليس هو نفسه الروح القدس، وكذلك الابن ليس هو نفسه الروح القدس
وليس هو نفسه الآب، وكذلك الروح القدس ليس هو نفسه الآب وليس هو نفسه الابن.
لكن
قد يسأل سائل لماذا لا تكون الأقانيم أربعة أو خمسة؟ وللرد نقول أن أي شئ ناقص في
الله يُعتبَر ضد كماله الإلهي، كما أن أي شئ يزيد بلا داع يُعتبَر ضد كماله
الإلهي. إن مساحة الحب بين الأقانيم الثلاثة هي ما لا نهاية، ومثلث الحب هذا يتسع
حتى يشمل كل الخليقة، فأي كائن يقع داخل نطاق المثلث يشمله هذا الحب، فما الداعي
لرأس رابع أو خامس؟!
إذا
وُجدتْ الخليقة في أي وقت وفي أي مكان فهي تدخل في نطاق هذا الحب اللانهائي، لأن
مثلث الحب هنا هو بلا حدود ولا مقاييس. هذا الحب اللانهائي الكامل يتجه أيضًا نحو
الخليقة حيثما وحينما توجد، كما قال السيد المسيح للآب "لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ
الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ" (يو17: 26). إن الحب الكامل هو الحب بين الأقانيم وهذا هو أعظم حب
في الوجود كله.
إن الله في حركة أزلية، حتى في داخله، يمكن
أن توصف بأنها حركة حب متبادلة؛ حركة المحبة في الثالوث تبدأ من الآب وتُعلَن في
الابن وتُعطَى بالروح القدس. فالأبوة تعني أن حركة الله الداخلية هي حركة حب وليست
فقط حركة قدرة وسلطان.
ونحن
نؤمن بأن الله هو الحب، الحب اللانهائي؛ حركة محبته نابعة من داخله خلال علاقة
الثالوث القدوس الأزلية. وقد استُعلِنَ حب الله بخلقته العالم، ولا تزال هذه
المحبة فعَّالة، لن تبطل قط حتى مجيء المسيح الثاني. الله هو حركة حب أزلي، تحتضن
العالم كله، والإنسان بوجه خاص. فهو يعتني به في هذه الحياه الزمنية حتى آخر شعرة
في رأسه "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (مت 30:10)، غاية
ذلك أن تنعم البشرية بالمجد الأبدي. ويؤكد الآباء السكندريون بقوة أن الله وهو غير
مُدرَك يعتني بالإنسان من خلال محبته الفريدة، لأن ملكوت محبته السماوي تأسس في
أعماق نفس الإنسان "لأن ها ملكوت الله داخلكم."(لو 21:17). قدرة الله هي
تلك المحبة الدائمة الحركة.
إن علاقة الآب والابن حركة وحياة ويُلاحَظ أن pro/$ يتضمن معنى "الحركة نحو" وقد
استعمله القديس يوحنا الإنجيلي: "وكان الكلمة نحو الله kai\ o( Lo/go$ h!n proJ$ to\n Qeo/n" (يو1:
1) ليشير إلى العلاقة بين الابن والآب، فهي علاقة حركة وحياة وليس علاقة سكون. إن
الآب يحب الابن، ولم يكن هناك زمان لم يحب فيه الآب الابن. فالحُب كخاصية إلهية هو
حب أزلي بالقوة كما بالفعل، لأن "الحب" هو الله ذاته الذي يحب منذ الأزل
وإلى الأبد؛ لم يكن في حاجة إلى خليقته لكي تكشف عن خصائصه. تحدث ربنا يسوع المسيح
إلى أبيه الأزلي قائلاً: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم." (يو 24:17)، "لأن
الآب يحب الابن و يريه جميع ما هو يعمله" (يو20:5).
إن
الأقانيم الثلاثة يتبادلون الحب مع بعضهم البعض، فالحب هو صفة للجوهر وليس الخاصية
الأقنومية للروح القدس، الحب هو صفة للجوهر فهو في الآب والابن والروح القدس بنفس
القوة ونفس التأثير. فكل أقنوم يحب الآخر ويبادله الحب ولا نستثني الروح القدس من
هذه القاعدة. فإذا جعلنا الآب هو المحب والابن هو المحبوب، هذا يعني أن لهما
وحدهما ديناميكية الفعل وبهذا يتحول الروح القدس إلى مجرد طاقة بينهما يتبادلها
الآب والابن فتُلغَى بذلك أقنومية الروح القدس.
أٌعلِنَتْ لنا العلاقة التي بين الثالوث
القدوس والمطلقة خلال معاملات الله معنا، خاصة خلال عمله الخلاصي. قبل تسليمه صلَّى
ربنا يسوع المسيح للآب لحسابنا، قائلاً: "كما أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك
فيكونوا هم أيضًا واحداً فينا..وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا
واحدًا كما أننا نحن واحد..وعرَّفتهم اسمك، وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي
أحببتني به، وأكون أنا فيهم." (يو 17: 21-26).
خارج الإيمان الثالوثي، إن قلنا إن الله
يحب منذ الأزل ننسب له الأنانية، أي يحب نفسه، حاشا لله! هكذا بالنسبة للسلام،
فإننا نتساءل: مع من كان الله في سلام منذ الأزل؟ إلخ..وهكذا توجد أسئلة كثيرة لا
إجابة لها إلا في الإيمان بالثالوث القدوس في جوهر إلهي واحد.
يوضح الأستاذ نيقوس أ. نيسيوتوس[2]
التثليث المسيحي كحركة حب سرمدية تضاد الفلسفة الجامدة لوحدة الله قائلاً بأن
التثليث المسيحي يُقَدِّم الله في حركة ديناميكية داخلية تضاد كل نوع من الأنانية solipsism(نظرية تقول بأنه لا وجود لشيء غير الأنا).
الثالوث القدوس: غير المولود(الآب)، والمولود (الابن) والمنبثق (الروح القدس)، هو
إله إبراهيم وإسحق ويعقوب الذي يقيم علاقة سببية بين الأقانيم الثلاثة، علاقة حب
داخلي، أي علاقة بين الآب ولوغوسه (الكلمة) وروحه، خلال هذه العلاقة قدَّم الله
وعدًا وحَقَّقَه؛ لذا نرى الله حيًا فعالاً في التاريخ، يحقق غاية نهائية للخَلْق.
لذا يرتبط الحديث عن اللاهوت المسياني (لاهوت اللوغوس) باللاهوت الخاص بالخَلْق،
لأن اللوغوس يُجَدِّدُ الخليقة ويُحَقِّقُ هدفها. بحلول الروح القدس في يوم
الخمسين أمكننا فهم العلاقة القائمة بين اللاهوت المسياني ولاهوت الخَلْق كلاهوت
عملي نمارسه ونحياه. أمكننا أن ندرك الله ككائن ديناميكي يتفاعل فيه الأقانيم في
حركة حُب حيث يوجد المُحِب والمحبوب. يقول نيسيوتوس أن جوهر الله بكونه الحب هو
حركة متدفقة نحو آخر تؤكد ذاتها، حركة علاقة متبادلة عميقة داخل الجوهر الإلهي.
خلص الأستاذ نيسيوتوس إلى أن التعليم
الثالوثي يقوم على فهم كتابي لجوهر الله بكونه "الحب"، فلا يكون الله
واحدًا منفردًا (mo/no$) ولا منعزلاً (mona/$) ، إنما يوجد الآب مع الأقنوميْن
الآخريْن ولأجلهما في جوهر واحد.
يجب التمييز بين الواحد المنفرد (mo/no$) والواحد (ei!$) . ففي نظره الأول: هو وحدانية الأنانية
الفلسفية غير المسيحية، أما الثاني فهو الفهم المسيحي لله الواحد الثالوث الحي،
إنه توحيد في إتجاه وحدانية الشركة في ذات الجوهر. التعليم الثالوثي لا يتحدث عن
الله في وحدانية معتزلة مطلقة جامدة. ولاعن كائنات ثلاثة منفصلة. هو واحد في
جوهره.
يهبنا الإيمان الثالوثي فهمًا متسعًا
للكمال . إذ يتساءل البعض: كيف يمكن أن يكون الآب كاملاً في سماته وهو لا ينفصل عن
الابن والروح القدس(أى يشاركه سماته)؟ ونفس الأمر بالنسبة للابن وللروح القدس.
نجيب على هذا السؤال بأن الكمال الحقيقي لايُستعلَنُ خلال الاكتفاء الذاتي
والإنعزالي، وإنما خلال حركة الحب الأزلية في الله والعلاقات المتبادلة
اللانهائية.
يبلغ
الإنسان (والحياة البشرية) الكمال لا بتمجيد الإنسان ذاته ولا بإكتفاءه بذاته..وإنما
خلال الوحدة مع الغير القائمة على الحب. الإنسان الكامل ليس هو من يغذي الذات ego وينميها من أجل إقتناء كل مجد باطل ونفع
لحسابه، بل هو ذاك الذي يحب الغير ويقبل حبهم له.
الوجود الحقيقي هو في الشركة: [3]
إن الوجود الحقيقي هو في الشركة ولا وجود بلا شركة؛
بمعنى أن الشركة هى أساس الوجود وأن أى كيان حقيقى لا يمكن معرفته بدون الشركة
وهذا ما أنجزه الآباء. وإذا كان الوجود شركة فإننا لا نفهم الوجود بل لا نستطيع أن
نفهمه إلا من خلال علاقة وبالتالى لا يمكننا أن نفهم الوجود كوجود فى حد ذاته لأن
كل كائن لا يوجد فى حالة عزلة ولايحيا كفرد. ولايوجد كائن قائم بذاته يمكن فهمه
كما هو فى ذاته وهذا ما أنكره الآباء على أرسطو فهو يطلب فهم الوجود وكيان كل
الموجودات كما هى وليس كما هى فى علاقة وشركة مع غيرها. وشكرًا لله الكائن فى شركة
مع ذاته ومع الخليقة.
وهنا يمكننا أن نقول أن العالم القديم كله سمع لأول مرة
فى تاريخه أن الشركة هى التى تجعل أى كائن كائن فعلاً وأن الكينونة والوجود لا
تقوم إلا بالشركة حتى فى الله نفسه.
فوجود الله هو وجود قائم على علاقة والعلاقة تعني شركة
وبدون الشركة لايمكن أن نتكلم عن وجود الله. ومن يُفَسِّر الماء بالماء إنما يقع
فى دائرة التكرار والغموض وكذلك من يقول أن "الله هو الله" لأنه لا يقول
شيئًا عن وجود الله. وحتى الاعتراف الصحيح بأن "الله واحد" يصبح بلا
معنى في اللاهوت المسيحي ما لم يكن هذا التوحيد هو توحيد شركة أي قائم على الثالوث
القدوس. فالثالوث هو أول الوجود وهو لذلك لا يُضاف إلى التوحيد وإنما يشرح
التوحيد. وحتى عندما نقول أن جوهر الله هو واحد فإننا نفهم أن المقصود هو وحدة
الجوهر.
إن المحبة عطاء والعطاء في الله لا يقف عند حدود وهذا
العطاء الكياني يجعل الوجود الإلهي شركة فميلاد الابن يخلق هذه الشركة وبالتالي
يصبح الله قادرًا على أن يمارس حريته الذاتية بميلاد الابن وبمشاركة الابن له دون
أن يفقد ذاته بل بالتسامي والانطلاق إلى ما هو أعظم من مجرد البقاء والوجود أي
بعطاء المحبة. وهنا يصبح الوجود شركة والشركة ليست في الجوهر بالمعنى الفلسفي
القديم وإنما شركة في الشخص شركة في أقنوم الآب. وهنا نرى أن الطبيعة الإلهية
المتأقنمة في الآب هي طبيعة تعلو على ذاتها وتُعطِي ليس لأنه طبيعة إلهية بالمعنى
الفلسفي السائد، بل لأن الآب كشخص يُعطِي و كآب هو علة الشركة و سبب وجودها.
إذا قلنا أن الآب يعطى كيانه للابن ومن الآب يولد وينبثق
الروح بات من الواضح أن ممارسة الحرية فى الله بشكل كيانى حقيقى هى في علاقة
المحبة لأن المحبة ليست صفة وإنما هى كيان الله نفسه حسب قول الرسول يوحنا
"الله محبة" (1يو16:4) وهذا التعبير "الله محبة" يعني أنه
"ثالوث"، ويعنى بشكل ضرورى إن الله كثالوث هو في شركة، هو محبة لأن
الوجود = الشخص وأن الكينونة = الأقنوم وأن الأقنوم = الشخص (هناك حقيقة أساسية
وهي أن الكائن = الشخص = الأقنوم)، هكذا يصير من الواضح أن المحبة تُمَارَس
أقنوميًا وليس كصفة من صفات الجوهر الإلهى. والمحبة ليست شيئًا يصدر عن الله ولا
هى صفة للجوهر، وإنما المحبة تُكَوِّن الجوهر والجوهر ليس الوجود المُجَرَّد بل
الجوهر هو فى الله الوجود المتأقنم. فالمحبة هى التى تجعل الله هو الله وهى التى
تجعله حقًا و بشكل صحيح الإله الواحد. وهنا فى إطار الفهم الصحيح لعقيدة الثالوث
لا تصبح المحبة هى أسمى ما فى الكيان الإلهى وأعظم ما يميز الكينونة الإلهية.[4]
والمحبة تؤقنم الله وتؤقنم وجوده ولذلك لا يخضع الله للوجود من أجل الوجود بل يعلو
على كل ضرورات الوجود من خلال المحبة وتصبح محبته وحريته هى ما يُكَوِّن وجوده.
وحسب تعليم الآباء لا فَصْل بين الوجود والشخص أو
الأقنوم والجوهر فالله لا ينتمى إلى طبيعة بل الله شخص له طبيعة متأقنمة لا وجود
لها خارج حياة الأقانيم.
ويقول الأب صفرونيوس[5]: {التوحيد بلا ثالوث
هو تعليم ينفي حياة الشركة لأننا لا نملك أن نشترك في الحياة الإلهية إلا إذا كان
في هذه الحياة ما هو متمايز، ومُعلَن في الله وله أصل (جذر) في الإنسان أي صورة
الله.}
الثالوث القدوس وخلاصنا:
إن
مدخل القديس أثناسيوس إلى فهم وشرح عقيدة الثالوث القدوس كان يقوم على أساس أعمال
الله الخلاصية والإعلانية التي تحققت في ظهور ابنه الوحيد بالجسد. ومن خلال مفهوم
"هوموأوسيوسo(moou/sio$" كان القديس أثناسيوس يصل إلى العلاقات
الأزلية والتمايُز داخل جوهر اللاهوت الواحد.[6]
القديس غريغوريوس النيسي[7] يدعو عقيدة الثالوث القدوس بـ "العقيدة
الخلاصية" لأنها عطية الله لنا لأجل خلاصنا.
لهذا فإن التقليل من شأن أي أقنوم من الأقانيم يحط من
شأن خلاصنا،
ولعل
ما وصل إلينا كأول عظة مكتوبة بعد الرسل يكشف لنا عن مفهوم الكنيسة الأولى للإيمان
الثالوثي: {يلزمنا أيها الإخوة أن نفكر في يسوع المسيح بكونه الله ديَّان الأحياء
والأموات. فإنه يليق بنا ألا نحط من شأن خلاصنا، لأننا إذ نقلل من شأن المسيح
نتوقع أيضًا أن ننال أقل.}[8]
ويشرح
الأب صفرونيوس[9] عن
كيفية نوالنا الخلاص من الثالوث القدوس وأنه بدون الثالوث القدوس لا خلاص لنا
قائلاً:
{أولاً:
نحن ننال التبني في الابن الوحيد ربنا يسوع المسيح. لو تصوَّرنا أن هذه عطية
منفردة لا تخص الثالوث الواحد، وإننا عندما ننال التبني في المسيح لا شركة لنا مع
الآب، فإننا نسقط ليس فقط في الهرطقة الأريوسية، بل في توحيد ناقص لا قيمة له
بالمرة عند الله، لأنه ليس من الله، ولا يُغيِّر شيئًا في حياة الإنسان، إذ
لا يؤدي التوحيد بدون الثالوث إلى التبني. أما حسب التعليم القويم، فإننا
عندما ننال البنوة في المسيح، فإننا ندخل شركة الابن في الآب، فلا بنوة بلا أبوة، ولا
أبوة بلا بنوة. وهكذا عندما تُعلَنُ طبيعة الثالوث القدوس، فإننا ننال التبني في
الابن لكي يكون لنا شركة مع الآب. وعندما نشترك في الآب الذي هو مصدر البنوة، فإننا
نعود إلى الله الذي اغتربنا عنه بواسطة الخطية.
ثانياً:
وعندما نشترك في بنوة الابن فإننا به ننال شركة في الروح القدس. وعندما سأل الأب
زكريا الأسيوطي عن دور الروح القدس في التبني، أجابه معلمنا الكبير الأب ديونيسيوس
بأن الروح قائم في الثالوث في ذات الجوهر، وإن شركتنا في الابن تفتح لنا أحضان
الآب، وإننا عندما نتكئ في أحضان الآب السماوي فإنه يجود علينا بالروح القدس الذي
ينبثق منه "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند
الآب ينبثق فهو يشهد لي." (يو26:15)..التقديس هو روح الوحدة وهو يُعطَى من
الروح لكل الخليقة، حتى الرتب السماوية لكي تثبت في التسبيح. وكلما يتكلم الوحي عن
الثبات في الله، فالثبات هو كلمة أخرى تُعبِّر عن التقديس. وهكذا عندما نقول أن
الروح هو روح الحياة، فإننا نقصد من هذا أنه يُعطي الحياة للتقديس، أي الحياة
المختومة بختم التفرد فتثبت في طبعها الذي خُلِقَت به، وتبقى مقدسة حسب مشيئة
الثالوث. ونحن ننال البنوة في المسيح، وكل منا يتقدَّس أي يحفظه الروح القدس
ثابتًا في الابن حسب عبارة رسول المسيح "ولكن الذي يُثَبِّتنا معكم في المسيح،
وقد مَسَحَنا،هو الله." (1كو21:1). نحن نُمسَح بذات المسحة التي أُعطيت للرب
يسوع في معموديته في الأردن، لكي نكون حقًا وفعلاً مسيحيين، ونُمسَح لكي نثبت،أي
نتقدس في المسيح، أي لكي نصير مثله، وننال منه بنوة ثابتة مقدسة.
ولما
سأل الأب زكريا وقال لماذا لا ننال الثبات والتقديس من المسيح؟
أجاب
الأب ديونيسيوس بأن هذا السؤال بالذات يكشف عن فكر يحاول أن يُفَرِّق الأقانيم، فالثبات
يُعطَى بالروح القدس في المسيح. ولذا حذر الأب ديونيسيوس من الأسئلة التي تولَد من
المُخيِّلة التي تتصور الانفصال والاغتراب، ثم تسأل عن حالة أقانيم منفصلة وليس عن
حالة أقانيم متحدة. وهكذا عندما ننال الثبات في المسيح من الروح القدس فإننا نناله
من الآب الذي إليه نعود لكي نصبح واحداً معه.}
انسكاب
حياة الثالوث فينا كعطية إلهية هي أصلاً عائدة إلى تمايز الأقانيم. فقد وُهِبْنَا
التبني، أي عطية خاصة أصلها في تمايز الآب والابن لأننا نشترك حسب النعمة الإلهية
في بنوة الابن للآب ولذلك نحن نصرخ معه "يا أبّا الاب." (غلا6:4). ووُهِبْنَا
سُكنَى الروح القدس، وسُكنَى الروح القدس هي عطية خاصة أصلها في إنبثاق الروح
القدس من الآب وحده، ثم انسكاب هذه العطية بواسطة الابن. هنا بالذات يُحَدِّدُ
لاهوت الآباء ضرورة الإيمان بأن المسيح وحده هو الذي يُعطِي الروح القدس من عند
الآب، لأن عطية الروح القدس لا يمكن أن توهب إلا إذا تقدست الطبيعة الإنسانية وتم
تحريرها من الفساد والخطية، وهو العمل الذي لأجله تجسد الابن ومات وقام.
فالابن يولد أزليًا من الآب والروح
ينبثق أزليًا من الآب والولادة من أصل عطية التبني والإنبثاق هو أصل عطية سُكنَى
الروح القدس فينا.
فالخلاص
لا يمكن شرحه أو اختباره إذا كان الله هو أقنوم واحد. وهكذا نجد أن تدبير الخلاص
كائن في الآب مُعلَنُ في الابن ومُعطَى بالروح القدس وأنه بدون الثالوث القدوس لا
خلاص لنا. بل أن كل ما يُعطَى إنما يُعطَى في الثالوث القدوس؛ فاللَّه الثالوث القدوس
هو مصدر كل نعمة وحب وشركة.
[1] Athanas., Ad. Serap.
I, 28.
[2] الكنيسة
القبطية الأرثوذكسية والعقائد-الله-القمص تادرس يعقوب.
[3] انظر: Being as communion-Metropolitan
John Ziziolas تعريب مؤسسة
القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية. الطبعة الثانية 2006.
[4] أسمى وأعظم ليس بالمقارنة بما في الله، وإنما بالمقارنة
بالمخلوقات فليس في الله إمكانية للمقارنة بين صفة وأخرى.. ولذلك يقول القديس
يوحنا ذهبي الفم: نستطيع أن نقارن بين المحبة والعدل في الإنسان لأنه مخلوق أما في
الله فلا تجوز المقارنة.
[5] الثالوث
فرح الخليقة الجديدة-فقرة 82.
[7] رسالة 24 PG. 46. 1089A
[8] Jaroslav Pelikan, The
Christian Tradition: 1. The Emergence of the Catholic Tradition (100-600),
[2 Clem. 1:1-2 (Bihlmeyer 71)], 1971, p. 173.
[9] الثالوث فرح الخليقة الجديدة-فقرة 61.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق