عظمة
الإيمان المسيحي تكمن في كونه غير متأسس على نص، بل تقع أساساته على شخص المسيح
ذاته. فالمسيحية أقرب لمفهوم العلاقة عن كونها ديانة عقيدية. وهذا التأكيد نجد
تأصيله بين دفتي العهدين القديم والجديد، فبينما يتكون الكتاب المُقدس من عهدين
قديم وجديد، فإن المسيح قد دُعيَّ العهد ذاته، هو أساس العهدين، هو حجر الزاوية
الذي أشار وتأسس عليه الكتاب بعهديه، نجد ذلك عند إشعياء النبي الذي كتب في سياق
تنبؤاته عن المسيا: “أنه عهدًا للشعب.. إش 42: 60″، ويقول بولس أن الله كلمنا في
ابنه (عب1). فالمسيح هو العهد، وهو الشخص الذي تأسس عليه إيماننا.
هذا
الفكر نجده مُتأصلاً في كتابات المسيحيين الأوائل، فها إغناطيوس الأنطاكي يقول:
“أما أنا فوثائقي هي يسوع المسيح، وثائقي المخطوطة هي صليبه وموته وقيامته،
والإيمان الذي منه… فلادلفيا 8: 2”. ويوستينوس الفيلسوف والشهيد يقول: “إذا كان
الله قد تنبأ بأنه سيقطع عهدًا جديدًا ليكون نورًا للأمم، ونحن نرى ونثق أنه باسم
يسوع المسيح المصلوب أتى أناس إلى الله تاركين ورائهم الوثنية والممارسات الخاطئة،
وحفظوا الإيمان وساروا في التقوى حتى الموت، فيستطيع كل أحد أن يرى بوضوح من هذه
الأعمال، ومن المعجزات القوية، أن المسيح هو بالحقيقة الناموس الجديد والعهد
الجديد، ورجاء هؤلاء الذين من كل أمة ينتظرون بركات الله… الحوار مع تريفون 11”
بناء
على ما سبق، نستنتج أن الكتاب المُقدس إيقونة نتطلع من خلالها على الحقيقة، وليست
هي الحقيقة بذاتها..
نظريات
في الوحي
سنستعرض
سريعًا نظريتان عن الوحي الإلهي ومفهومه
في الإيمان المسيحي من خلال المدارس المُختلفة، ثم نستعرض بشكل سريع ما
نعتبره هو المفهوم الخاص باللاهوت الأرثوذكسي عن الوحي.
النظرية
الطبيعية:
تنظر
هذه النظرية للوحي على أنه إلهام طبيعي ينبعث من وجدان الكاتب، مثله مثل الشاعر
الذي يؤلف قصائد فصيحة اللغة، أو مثل الموسيقار الذي ينظم نوت موسيقية غاية في
الإبداع. الوحي بحسب مفهوم هذه النظرية هو مُجرد إلهام طبيعي بحت، أو مُجرد
اختبارات بشرية عادية. فمثلاً الرسل، عندما قاموا بتدوين سيرة السيد المسيح، فهذه
السيرة التي كتبوها هي مُجرد اختبارات بشرية بحته تجاه هذة القصة التي قاموا
بتدوينها.
ولكننا
نرفض هذه النظرية بناء على الأسباب التي ذكرها:
1- تسلب
هذه النظرية الكتاب المُقدس من البُعد الإلهي الذي يتفرد به بالنسبة لنا نحن
المؤمنين عن أي كتاب آخر.
2- تضع
الكتاب المُقدس على مستوى واحد بجانب بقية الأعمال البشرية، وبهذا يفقد مكانته
الدينية ككتاب كنسي، له سلطة في التعليم الديني.
النظرية
الإملائية:
تتلخص
هذه النظرية في أن الله يقوم بإملاء الكاتب بكل كلمة لفظيًا كما هي، ويكون دور
الإنسان بحسب هذه النظرية مثل الآلة الكاتبة، لا دور له غير أنه يمضي باسمه على
الكتاب (كتبت أنا بولس…). فإسلوب الكتابة والكلمات والسياق جميعها مُنزلة من الله
في قوالب جامدة.
ولنا
بعض الاعتراضات على هذه النظرية:
1- صريح
نصوص الكتاب المُقدس ذاته ترفض هذه النظرية، فكتبة الأسفار قد استخدموا المعارف
والثقافات المُنتشرة في عصرهم، تلك التي كانت مُتاحة تحت أيديهم. فعندما كتبوا
الأسفار المُسماة بالتاريخية مثل: (عدد- يشوع- ملوك الأول والثاني- أخبار الأيام
الأول والثاني….)، كانوا يستشهدون بأحداث وكتب تاريخية ذكروها بالاسم، مثل: سفر
الحروب (عدد21: 14)، سفر ياشر (يش10: 13)، تاريخ صموئيل وتاريخ ناثان وتاريخ جاد
الرائي (1أخ29: 29، 30)، وتواريخ الأيام (نح12: 23)، ورؤى يعدو الرائي (2أخ9: 29)،
ورؤى إشعياء عن حزقيا (2أخ32: 32). وهذه جميعها كتب كُتِبت بهدف تسجيل الأحداث
التاريخية لبني إسرائيل وبعضها مازال باقيًا إلى يومنا هذا مثل سفر ياشر.
2- غير
ذلك، فإختلاف اللغة والإسلوب والتعليم الرعوي من كاتب لآخر، بحسب الموقف الذي يقوم
بمعالجته. كما حدث بين بولس في تعليمه عن الخلاص بالإيمان، ويعقوب عندما تحدث عن
الخلاص بالأعمال.
رؤيتنا فيما يخص موضوع الوحي
الإيمان
الأرثوذكسي عامة في أي من معتقداته، يقوم أولاً على مفهوم الشركة، فمل نعمة وبركة
تصل للإنسان هي عبارة عن شركة بين الله والإنسان، فالفداء قائم على الشركة، إذ كتب
ق. يوحنا الدمشقي ذات مرة: “الله استخدم الإنسان ليفدي الإنسان—المائة مقالة في
الإيمان الأروذكسي”، فالإنسان الغارق في الشر والخطية والموت لم يفده الله بعمل
إلهي محض، بل تجسد وصار في الهيئة كإنسان لكي يخلصنا بنا وليس خارجًا عنا.
فالوحي
في الإيمان الأرثوذكسي هو إعلان من شخص مُستنير بالروح، من خلال هذا الإعلان يتحدث
عن الله وعلاقته بالبشرية.
ويجب
أن نعرف أن تلك الإستنارة الروحية التي يصل إليها الكاتب حين يتحدث عن الإلهيات لا
تملي عليه اسلوب مُعين أو لغة مُعينة أو أفكار مُعينة إن كانت خارج سياق جوهر
الرسالة الإلهية. بل بالحري الروح يستخدم الإنسان الذي تسكنه إرادة وهدف ونية في
أن يُعلن عن الله ويخدم شعبه، فيستخدمه الروح القدس لا كمثل من يستخدم الدابة
الأعجمية التي لا تملك عقل وإرادة البشر، بل بأن يُعطيه حالة من الإستنارة تقوده
وترشده في إيصال الرسالة الإلهية.
أمنت
الكنيسة الأولي بالكتاب المُقدس، ومنذ وضَعت قانوناً يُحدد الأسفار التي لها صفة
رسولية ونبوية، أعتبرت تلك الاسفار مُلزمة وقانونية لأن أهم صفة تُميزها أنها موحي
بها من الله (1تس 1: 5، 1كو 2: 4، 2بط 1: 21، 2تيم 3: 16- 17). ولكن معرفتنا بأن
الكتاب فقط موحي به من الله لا يساعدنا علي فهم النص الكتابي بشكل سليم، فنحتاج ان
نعرف ما هو الوحي وكيفية عمله في النبي ومدي تأثيره علي كتابة النص الكتابي. ولن
نتمكن من معرفة ذلك إلا بالرجوع لما قاله كاتب النص وما فهمته الكنيسة الأولي عن
ماهية الوحي، متمثلة في الأباء المُعلمين الذين استلمنا منهم الأيمان والعقيدة.
بداية،
يلزمنا أن نعرف إن الوحي في المسيحية ليس هو الدخول في اللا معقول وما فوق
الطبيعة، فنحن لم نتبع اساطير ولا خرافات مُصنعة (2بط 1: 16). فهو لا يعني الدخول
في حالة من شرود الذهن ولا يكون الكاتب في غير حالته الطبيعية الإنسانية التي
يتعامل بها مع البشر عادةً، “فالله بمسرته الخاصة وبإختياره، هو الذي أقترب من
الإنسان بالكلمة كوسيلة يفهمها الإنسان ويستجيب لها بإمكانياته الطبيعية دون أن
يقتحم شخصية الإنسان أو يضطرها للكتابة عن إنغلاب أو خوف[1]” ولذلك يري القديس
إيرينيئوس أن الوحي ليس روحاً يأتي ويسكن في نبي ما فيُلهمه لإعلان حقيقة جديدة،
إنما هو من الروح الواحد الذي يسكن في
جميع الذين يتمسكون بالحق الثابت عندهم بالتقليد، فإنه يسمو بهم إلي الكمال
ويحفظهم من الخطأ[2]. فغالبية نصوص العهدين لم تبدأ كنص مكتوب، بل هي عظات ألقيت
بشكلٍ طبيعي علي الشعب وسُجِلت فيما بعد مثل عظات موسي علي مدي الاسفار الخمسة وعظة
يشوع في نهاية السفر المُسمي بأسمه وعظات الانبياء وتعاليم المسيح وعظة بطرس ثم
إسطفانوس من سفر الاعمال … وغيرها.
فالوحي
ليس كتاب بل هو إعلان من شخص الرسول أو النبي المُستنير بالروح القدس يعلن فيه عن
رسالة تختص بالله والإنسان، سواء من جهة تدبير الخلاص، أو تعبير عن علاقة الله مع
الإنسان وتعاملاته في حياة البشرية. وهكذا بدأ العهد الجديد ككرازة للرسل عن شخص
المسيح والخلاص الذي قدمه لنا. ولكن “يأتي يوم لا يبقى فيه الوحي إعلانًا وكرازة
فحسب، بل يصبح كلامًا مكتوبًا في كتاب.
هذا
الوحي انتقل من شخص أو بضعة أشخاص إلى جماعة عن طريق الخبرة والكلام قبل أن يدوّن
في كتاب. وروح الرب رافقه يوم عبّر عنه الأنبياء، ويوم ردّدته الجماعة، ويوم دوّنه
الكتّاب الملهمون. وهكذا وصل كلام الله إلى الكنيسة التي تتمتعّ هي أيضاً بأنوار
الروح القدس[3]”.
ففي
أيام المسيحيين الاوائل لم تكن الاناجيل المصدر الأوحد للمعرفة، لأنها كانت غير
مدونة بعد. لكن الكنيسة –آن ذاك- عاشت وفق روح الإنجيل، بل إن الإنجيل نفسه برز
إلي الوجود في الكنيسة عن طريق سر الشكر. فمن مسيح سر الشكر تعرَّف المسيحيون إلي
مسيح الاناجيل. وهكذا صارت صورته حية عندهم[4]، فكنيسة المسيح أقدم من العهد
الجديد. وعن ذلك يكتب الاب شنودة
ماهر[5]:” كان هدف الرسل أن يُبشروا بالمسيح وأن يقدموه حياً فى حياتهم, ولم يكن
هدفهم أن يكتبوا, بدليل أن الكثيرين منهم وهم أعمدة الكنيسة لم يكتبوا شيئاً على
الإطلاق. ولم يكن بعدهم عن الكتابة عجزاً منهم, ولكنهم لم يكتبوا لأنهم كانوا
يعرفون طريق الكرازة الأساسى, إنه التقليد, تسليم الإيمان الحى مُباشرة الى
النفوس. فليس التبشير هو تسجيل الإيمان بورق وحبر بقدر ما هو إدخال الإيمان حياً
الى القلوب. فالإثنا عشر رسولاً لم يكتب أحد منهم إنجيلاً إلا إثنان فقط هما
معلمنا متى ومعلمنا يوحنا. أما معلمنا يعقوب الرسول فلم يكتب سوى رسالة واحدة
قصيرة من الممكن قرائتها أو كتابتها فيما لا يزيد عن ساعة من الزمان, ففى أى شىء
قضى كل سنى الكرازة؟! كذلك معلمنا يهوذا الرسول لم يكتب سوى رسالة واحدة قصيرة لا
تستغرق فى كتابتها أو قراءتها أكثر من نصف ساعة, ففى أى شىء قضى كل أيام حياته
وكرازته؟! كذلك أيضاً معلمنا بطرس الرسول لم يترك سوى رسالتين قصيرتين, يُمكن
كتابتهما وقراءتهما فيما لا يزيد عن الساعتين, ففى أى شىء قضى كل سنى خدمته
وكرازته؟! أين ما كتبه اندراوس وتوما وفيلبس ويعقوب الكبير وسمعان القانوى وباقى
الإثنا عشر والسبعين رسولاً؟! واضح جداً أنه لم تكن الكتابة هدفاً اساسياً للرسل,
وإنما الذين كتبوا منهم, كتبوا بعد فترات طويلة عندما طرأت اسباب دعتهم الى ذلك”.
يشهد
لهذا, المؤرخ الكنسى يوسابيوس القيصرى, قائلاً[6]:” فإن أولئك الرجال العظماء
اللاهوتيين حقاً, أقصد رسل المسيح , تطهرت حياتهم وتزينوا بكل فضيلة فى نفوسهم
ولكنهم لم يكونوا فصيحى اللسان, ولقد كانوا واثقين كل الثقة من السلطان الإلهى
الصانع العجائب الذى منحه المخلص, ولكنهم لم يعرفوا -ولم يحاولوا ان يعرفوا- كيف
يذيعون تعاليم معلمهم بلغة فصحى بل إستخدموا فقط إعلانات روح الله العامل معهم,
وسلطان المسيح الصانع العجائب الذى كان يظهر فيهم, وبذلك أذاعوا معرفة ملكوت
السماوات فى كل العالم غير مفكرين كثيراً فى تأليف الكتب”.
ولذلك
فالعقيدة المسيحية ليست مؤسسة علي كتاب بل علي شخص المسيح، فإن كان هناك عهدٌ قديم
وعهدٌ جديد فالمسيح هو العهد ذاته، فأشعياء يتنبأ علي المسيا قائلاً: أجعلك عهداً
للشعب (أش 42: 6)، ويقول القديس بولس أن الله تواصل مع الإنسان بأساليب وطرق كثيرة
ولكن في ملء الزمان كلمنا في الإبن الذي هو إستعلان الله للعالم (عب1). ويعلق
القديس يوستينوس: “إذا كان الله قد تنبأ بأنه سيقطع عهداً جديداً ليكون نوراً
للأمم ونحن نري ونثق أنه باسم يسوع المسيح المصلوب أتي أناس إلي الله تاركين
ورائهم الوثنية والممارسات الخاطئة وحفظوا الإيمان وساروا في التقوي حتي الموت،
فيستطيع كل أحد أن يري بوضوح من هذه الأعمال ومن المعجزات القوية أن المسيح هو
بالحقيقة الناموس الجديد والعهد الجديد ورجاء هؤلاء الذين من كل أمة ينتظرون بركات
الله[7]”. ويؤكد ذلك في موضع آخر فيكتب: “فكيف تتحدثون عن عدم الوضوح في حين أن
الحقائق تتحدث عن نفسها؟ وقد ذكر المسيح أيضاً .. أن الناس سيعترفون بأن العهد
الجديد الذي وعد به الله منذ القديم صار أمراً واقعاً، أي أن المسيح ذاته هو ذلك
العهد الجديد[8]”.
ونفس
الامر نجده عند القديس إغناطيوس الانطاكي القائل: “أما انا فوثائقي هي يسوع
المسيح، وثائقي المخطوطة صليبه وموته وقيامته، والإيمان الذي منه[9]”.
فالمسيحية
حذرة أشد الحذر من الوقوع في عبادة الحرف وتشدد على دور الإنسان في تدوين الوحي
الذي وصل إلينا بعبارات بشرية وكلمات الناس اليومية. نقول إنّ الله هو واضع الكتاب
المقدس. ونقول أيضاً إنّ الإنسان هو واضع الكتاب المقدّس. لا شكّ في أنّ مبادرة
الوحي ترجع إلى الله، ولكنّ الإنسان هو الذي يكتب فنكتشف شخصيته وطباعه من خلال ما
يكتب. إنّ الله يؤثّر في الكاتب الملهم، يؤثّر في إرادته فيدفعه إلى الكتابة،
فالروح القدس يعمل فينا دافع إيانا علي أن نخرج ما أعطاه إيانا من كنوز، ويؤثّر
الله ايضاً في عقل الكاتب فيعطيه فهم الأمور الإلهية والقدرة على إيصالها إلى
البشر بطريقة تساعدهم على فهمها بقدر ما يستطيع الإنسان أن يفهم أمور السماء، وهذا
ما تدعوه المسيحية بالإستنارة، أي إستعلان الإمور الإلهية الفائقة بأن يظهرها لنا
الروح الذي يعمل فينا. غير أنّ الكاتب هو الذي يكتب، ويتّخذ الأسلوب الأدبي
والكلمات والتعابير التي يراها مناسبة لعصره وزمانه وثقافته وشعبه. فالوحي في
المسيحية أشبه بمفهوم الإستنارة وهو ما
يحدث عندما يعمل الروح القدس في النفس، حيث يُضئ الذهن وينيره طارداً ظلمة الجهل
ومُفسِحَاً الطريق للمعرفة الإلهية، فيتحرك الإنسان –إن جاز لنا القول- بذهن إلهي أو بحسب تعبير القديس بولس “بفكر
المسيح” (1كو2: 16)، فيُدرك إرادة الله من نحوه، ويُفكر ويتحرك ويعمل بحسب الله.
لذلك أسماه أشعياء النبي بروح الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة (أش 11: 1)،
وهو نفس الروح الذي وعد الرب به كل المؤمنين في يوئيل النبي (2: 28، 29)، ولهذا
يكتب ق. أنبا انطونيوس: “أطلب إليكم أن تتركوا مشيئتكم الحسية وتلزموا الهدوء بكل
نوع, لكيما تسكن فيكم القوات العلوية بمؤازرة الروح القدس, وتعينكم على العمل
بإرادة الثالوث الأقدس[10]”.
وعن
دور هذه الإستنارة في كُتَّاب الكِتَاب المُقدس يقول ق. كيرلس عمود الدين: إن
اتفاق الحق، والتعلم من الله هو ما يميز عقل الإنجيليين القديسين، لأنهم بالقوة
الفائقة التي نالوها ينظروها- مثل الذين يقفون على رأس الجبل أو مكان مراقبة عالٍ
يشاهدون منه كل الاتجاهات، فيقدمون ما ينفع السامعين – ويقنعونهم بغيرة بكل ما
يمكن أن يكون لفائدة المتعطشين للحق الكامن في التعاليم الإلهية ولأنهم قد حددوا
لأنفسهم هدفاً صالحاً فأنهم يفتشون عن الخطة المختفية[11] في الأسفار الإلهية[12].
ويكتب
القديس إيرنيئوس عن الوجهين البشري والإلهي للكتاب المُقدس هكذا: اللغه لغة إنسان
مُلهم ولكن الذي يصيغها ويصورها هو الله الكلمه[13]. ويقول د/ نورمان جيسلر: لكي
يكون الكتاب المقدس مفهوماً، كان عليه أن يتعامل مع لغة الأنبياء والرسل، ويستخدم
الخلفية الثقافية للأرقام، الصور، والرموز، وكل العناصر الأخرى التي ترتبط بشكل
عام بالاتصال اللغوي، ولكن أي نظرية جامدة للعصمة تفرض المصطلحات العلمية أو
التقنية الحديثة على النص الكتابي لا يمكن تقبلها[14]. ويشدد د/موريس تاوضروس علي
هذا المفهوم قائلاً: لا يتم الوحي بطريقه الية التي بحسبها فإن من يكون واقعاً تحت
تأثير الوحي الالهي يتحول إلي اداة سلبية لا فاعلية لها, إلي الدرجة التي ننظر
فيها الي الكُتَّاب المُقَدسين كأن عملهم لا يتجاوز مجرد التوقيع, وهم يكتبون ما
يُملي عليهم او يُلَّقن لهم من الروح القدس – حسب هذه النظرية – إلي الاسلوب
والكلمات بل بالنسبة للبعض يمتد حتي إلي علامات الترقيم.
ان
الوحي قد ترك للكتبه ان يستعملوا المعارف الثقافية التي اكتسبوها. ثم ان الوحي لا
يعفي الكتبة من بذل الجهد للتعرف علي بعض المعلومات والمعارف التي يتضمنها الكتاب
المقدس في اجزاء اخري منه. فمثلاً في ( 2 مل 12 : 19 ), اشير الي مصادر لابد ان
يكون الكاتب علي معرفه بها[15]. فبلاشك أن عقيدة الوحي لا تستبعد استخدام السجلات
الإنسانية كمصدر لإظهار الحقيقة الإلهية. ومثل هذا الاستخدام الذي يقول به الكتاب:
يقول كاتب إنجيل لوقا إنه بحث في سجلات مكتوبة على أيامه (لو 1:1-4)، وكاتب سفر
يشوع استخدم سفر ياشر في حادثة ثبات الشمس في مكانها (يش 10:13). وبولس الرسول
استعار من شعر وثني (أع 17:28) وهو يخاطب جموع الأثينيين في أريوس باغوس. ويهوذا
استعار أقوالاً غير قانونية عندما تكلم عن أخنوخ حيث أقتبس من سفر ليس من ضمن
الأسفار النبوية (يهوذا 1:14).
“استخدام
المصادر غير الكتابية لا يجب أن ينظر إليه كشيء غير متلائم مع الوحي – ويجب أن
نتذكر أن «كل الحق هو حق الله»، فالله الذي أمر بأن «يشرق نور من ظلمة» (2كو 4:6)
قادر أن يجعل النبي الوثني أن ينطق بكلام الحق (عدد 24:17). ورئيس كهنة متشدد (يو
11:50) وحتى قصة حمار عنيد (عدد 22:28) جميعهم يمكن أن يستخدمهم الله[16]”.
وحتي
الرؤي والنبوات لم تكن حرفية ولم ينقل المكتوب ما كان في الصورة التي أُستعلنت
للنبي تفصيلياً بل نقل فقط الهدف من النبوة أو الرؤية كما فهمها، وهذا ما يعلن عنه
أرميا إذ يقول: “اَلنَّبِيُّ الَّذِي مَعَهُ حُلْمٌ فَلْيَقُصَّ حُلْمًا،
وَالَّذِي مَعَهُ كَلِمَتِي فَلْيَتَكَلَّمْ بِكَلِمَتِي بِالْحَقِّ. مَا
لِلتِّبْنِ مَعَ الْحِنْطَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ؟” (أر 23: 28)، وَمَدَّ الرَّبُّ
يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ الرَّبُّ لِي: «هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي
فَمِكَ. 10اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى
الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ
(أر 1: 9- 10). فالنبي يقول لتكلم بكلمتي وليس يقص كلمتي أو يروي أو يكرر كلمتي،
بل يتكلم بها، وكأنه يتكلم بما يوافق كلمة الله االتي سمعها منه. ولذلك يقول الاب
رافائيل البراموسي: هذه الرؤي –في الواقع- خاطبت عقل وروح النبي أكثر من أذنيه،
لإن الصور وشرحها رآها بالروح ومن خلالها وصل اليه هدف وقصد الله[17].
نعم
نحن نشدّد، في الكتاب المقدّس، على دور الله ودور الإنسان معًا، ولا نخاف على
الإنسان من الله ولا على الله من الإنسان، لأنّ يسوع المسيح الوسيط بيننا وبين
الله هو إله وإنسان. إنّ المسيح هو الإله الذي لم يخَفْ أن يخلي ذاته ويتّخذ صورة
عبد ويصير شبيهًا بالبشر (فل 2: 6) في كل شيء ما عدا الخطيئة (عب 4: 15؛ روم 3:8)،
وهو الإنسان الذي بقي متحدًا بالله. هو في الآب والآب فيه (يو 17: 21).
وهكذا،
فكلام الله الذي نقرأه هو على شبه الكلمة المتجسّد، فيه وجه إلهي ووجه بشري. الله
يوحي إلى البشر، والبشر يتلقّون هذا الوحي بأجسامهم الضعيفة وحياتهم الواهية
وحريتهم المجروحة بالخطيئة وعقلهم المعرّض للخطأ. غير أنّ هذا الوحي يبقى كلام
الله مهما انتابه من ضعف لدى البشر، كما أنّ جسد المسيح الذي يتناوله المؤمنون في
القدّاس يبقى هو عينه، أتناوله البار أو الخاطئ، التقي أو الشقي[18].
فالانبياء
والرسل والقديسون الذين اختبروا مجد الله، شهدوا له في الكتاب المقدس ليعلنوا
حقيقة الله وسُبل الشركة معه. حول هؤلآء انفسهم كتب يوحنا: اَلَّذِي كَانَ مِنَ
الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي
شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ.
2فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ
بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا.
3الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ
أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ
ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 4وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ
فَرَحُكُمْ كَامِلاً(1يو 1: 1- 4). فالوحي إذاً هو شهادة هؤلاء الانبياء والرسل
والجماعة المُستنيرة والمُلهمة بالروح القدس، شهادة عن خبرتهم مع الله، أو إعلان
عن إختبارهم للإيمان.
يتفق
اللاهوتيون الارثوذكسيون واللوثريون انه ليس هناك اي تشابه او قياس كياني بين الله
والخليقة، علما بان المخلوق يعتمد على الله. من اجل هذا كتب القديس غريغوريوس اللاهوتي:
من المستحيل ان نعبّر عن الله ومن المستحيل بمقدار أكثر ان نتصوره[19]. لذا فأولئك
الذين اختبروا مجد الله – هذه الخبرة نفسها لا يمكن التعبير عنها بكلمات وادراكها
بمفاهيم، وإن كانوا قد أُلهِموا ان يستعملوا تعابير ومفاهيم من اللغة البشرية
العادية لكي يقودوا آخرين إلى الخبرة عينها.
فالروح
القدس يعمل بدون أن يشعر أحد بذلك، ولذلك قال عنه يسوع: اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ
تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ
إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ (يو 3: 8)، ويقول ق.أكليمندس السكندري: “العقل النبوي
والروح الرسولي المُعلم نطق في السر[20]”. وهكذا فهو يعمل في الكاتب المُلهم
مُخفياً ذاته وتاركاً للكاتب مُطلق الحرية في إستخدام لغته وثقافته وتعبيراته
وإسلوبه، وفقط يُثبت القصد المرجو من الرسالة بحيث لا يحيد عنه الكاتب ويوصله
بأقصي درجة ممكنة ليكون واضحاً. وهكذا يكتب ق.أغسطينوس: “الروح القُدس ترك كل مؤرخ
في حرية ليبني روايته بطريقته الخاصة، هذا بطريقة وذاك بطريقة مُختلفة[21]، فيوحنا
الرسول تقبَّل الوحي لذلك تكلم ولكن ليس (وحياً إلهياً) كلياً بل بما يستطيع
الإنسان أن ينطقه[22]”. ويشرح ذلك ق. أثناسيوس الرسولي قائلاً: “أن إشارات كثيرة
إلى المخلِّص قد أعطت لكل سفر في الكتاب المقدس ميزةً خاصةً به، وأنها كلها تُعتبر
كسيمفونية واحدة متناسقة للروح القدس. أن موسى النبي يكتب نشيدًا، وإشعياء النبي
يرتل، وحبقوق النبي يصلِّي بنشيد، وبنفس الكيفية نجد في كل سفر نبوات وشرائع وأمور
تاريخية. إن الروح القدس هو نفسه الذي يُهيمن على الكل، وكل سفر يخدم ويُتمّم
النعمة المعطاة له بحسب ما هو مقسَّم كنصيب من الروح لكل سفر سواء كان ذلك نبوة أو
تشريع (وصايا) أو تسجيل تاريخي أو النعمة المميِّزة لسفر المزامير، حيث إن الروح الواحد
عينه تخصه جميع هذه العطايا المختلفة، والذي هو – مع ذلك – غير منقسم بطبيعته، حتى
إنه في حين أن الاستعلانات تتوافق مع اختلاف مواهب الروح بالنسبة للخدمة التي
تُسرّ كل واحد، إلاّ أن الروح كله موجود في كل سفر.
إذًا،
فكثيرًا ما نجد أن كل سفر، في اعتماده على الروح، يخدم الكلمة بحسب الاحتياج.
وهكذا، كما قلتُ سابقًا، فإن موسى النبي كان بين وقت وآخر يضع شرائع أو نبوات أو
أناشيد، وفي حين كان الأنبياء ينشغلون بالنطق بالنبوات، فهم في أوقات أخرى يعطون
وصايا مثل: «اغتسلوا تنقّوا» (إش1: 61)، «إغسلي من الشر قلبك يا أورشليم» (إر4:
14)، وفي أحيان أخرى تورد الأسفار أحداثًا تاريخية كما في سفر دانيال مثلاً، حيث
نقرأ قصة سوسنة العفيفة، وفي سفر إشعياء نقرأ عن “ربشاقي” (36: 22)، و”سنحاريب”
(37: 21).
إذن، فنعمة الروح مشتركة في جميع الأسفار، وهي
موجودة في كل سفر على حدة، ولكنها هي نفس النعمة فيها كلها كما يتطلبه الاحتياج
ومشيئة الروح تمامًا. وتوزيع عطايا الروح لا يُظهر أكثر من هذا الاحتياج أو أقل
منه، ولكن المهم هو أن كل سفر يحقِّق ويكمِّل رسالته الخاصة به على أكمل وجه[23]”.
“مهما
كانت الطريقة التي نفهم بها الوحي الإلهي فعلينا ألاَّ نغفل عاملاً أساسياً وهو أن
الكتاب ينقل إلينا كلمة الله في لغة بشرية. فالله كلم الإنسان بالفعل، وهذا يفترض
من يسمع هذه الكلمة ويعيها وينقلها للجماعة، واللسان البشري لا يفقد خصائصه
الطبيعية عندما يصير عربة للإعلان الإلهي، فهو يحتاج إلي اللجوء للتشبيهات
والإستعارة والإسلوب القصصي وكل الطرق المتاحة لكي يوصل جوهر الرسالة الإلهية.
فإذا ما أردنا ان تكون كلمة الله مدوية، فلساننا يجب ان يبقي لساناً بشرياً.
واللغة الإنسانية لا تخون الإعلان الإلهي ولا تُقلل من شأنه أو تُقيد قوة كلمة
الله. ومادام الإنسان مخلوقاً علي صورة الله ومثاله فهو قادر أن يُعبر عن كلمة
الله بكلماته البشرية بشكلٍ واضح وصحيح. فعندما ينفخ الروح في نظام اللغة البشرية
يقدر الإنسان أن ينطق بكلام الله وأن يتحدث عن العُليَّ، أي يكون اللاهوت ممكناً.
فاللاهوت هو كلام عن الله وهو ممكن من خلال الإعلان الإلهي فقط.
فالكتاب
هو بمعني من المعاني كلمة الله والإستجابة الإنسانية بآنٍ واحد، أي كلمة الله
المُعبر عنها ممن خلال إستجابة الإنسان الإيمانية. ولذلك فالعرض الكتابي متأثر
دائماً بالظروف التي يتكون فيها[24]”.
فالوحي
إذاً يقوم علي شراكة بين الله والإنسان وهو ما يُعمق مفهوم الحرية المسيحية. ويكتب
ثيؤفيلوس الانطاكي: “لكن رجال الله الذين حملوا بداخلهم الروح القدس وأصبحوا
انبياء، أصبحوا حكماء ومُلهمين من الله، أصبحوا بحسب فكر الله وروحانيين
ومستقيمين. ولذلك صاروا مُستحقين لتلك المكافأة، أن يصبحوا وسيلة الله[25]
[للتواصل مع البشر]… فالله خالق العالم لم يهمل الجنس البشري، لكنه أعطي القانون،
وبعث بالانبياء ليعلنوا ويعلموا البشرية، حتي يستطيع كل شخص أن يُدرك ويفهم أنه
يوجد إله واحد. وقد وبخونا حتي نحجم عن الوثنية والامور المُحرمة والزني، والقتل
والفسق و السرقة والجشع والحنث بالقسم والغضب، والإنقياد بالشهوة والقذارة، وكل ما
لا يريد الإنسان أن يحدث له، لا يجب أن يفعله بالآخرين. والذين يريدون أن يصنعوا
البر يجب أن يهربوا من العقاب الابدي، ويسلكون بحسب الحياة الأبدية التي من
الله”[26]. هذا هو أساس رسالة جميع الرسل والأنبياء للبشرية أن يصلوا بهم إلي
معرفة الله ويشيرون إلي طريق الشركة معه ومع البشرية في وحدانية علي صورة الله لكي
تتحقق مشيئته الأسمي لأجلنا أن نصير جميعاً واحد كما أن الثالوث القدوس هو واحد
(يو 17: 22- 23)، هذا الطريق الذي أول خطوة فيه هو أن أحب للآخر كما أُحب لنفسي
وأن أعامله بحسب ما أُريد أن يعاملني. هذه هي فحوي كل رسالة الإنجيل وكل تعاليم
الرسل والأنبياء الموحي إليهم بالروح الإلهي، ولذلك جاء في ايوب: “لكِنَّ اللهَ
يَتَكَلَّمُ مَرَّةً، وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَانُ. 15فِي حُلْمٍ
فِي رُؤْيَا اللَّيْلِ، عِنْدَ سُقُوطِ سَبَاتٍ عَلَى النَّاسِ، فِي النُّعَاسِ
عَلَى الْمَضْجَعِ. 16حِينَئِذٍ يَكْشِفُ آذَانَ النَّاسِ وَيَخْتِمُ عَلَى
تَأْدِيبِهِمْ، 17لِيُحَوِّلَ الإِنْسَانَ عَنْ عَمَلِهِ، وَيَكْتُمَ
الْكِبْرِيَاءَ عَنِ الرَّجُلِ، 18لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنِ الْحُفْرَةِ
وَحَيَاتَهُ مِنَ الزَّوَالِ بِحَرْبَةِ الْمَوْتِ” (اي 33: 14- 17)، وسفر الحكمة
يعلن نفس الامر ايضاً: ان في كل شيء روحك الذي لا فساد فيه.فبه توبخ الخطاة شيئاً
فشيئاً وفيما يخطأون به تذكرهم وتنذرهم لكي يقلعوا عن الشر ويؤمنوا بك أيها الرب (حكمة
12: 1- 2).
ومما
يدل علي ان الوحي لا يلغي شخصية الكاتب، ولا يُفقدها حريتها وعملها الخاص، وإن
الكاتب يكتب بحسب رؤيته لصياغة الفكر الالهي وبحسب شخصيته وبيئته، عدم إلتزام
الكاتب بالحرفية فيما يكتب. فمثلاً في قصة عماد المسيح يذكر القديس متي أن صوتاً
من السماء قال: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (مت 3: 17)، بينما بحسب رواية
لوقا فإن هذا الصوت قد قال: انت ابني الحبيب الذي به سررت (لو 3: 22). كذلك يختلف
الامر بين البشائر الاربعة حين يذكرون النص الذي كتب وعلق علي صليب السيد المسيح،
فبينما يقول متي: [هذا هو يسوع ملك اليهود]، يقول مرقس: [ملك اليهود]، ويكتب لوقا:
[هذا هو ملك اليهود]، ويختم يوحنا: [يسوع الناصري ملك اليهود]. وحدث نفس الامر
ايضاً في الصلاة الربانية وفي نصوص أُخري كثيرة في الكتاب المُقدس بعهديه. وهكذا
تعامل الاباء مع النص الكتاب المُقدس فقد كانوا عادة ما يتلونه من الذاكرة، فيشير
القديس جيروم عدة مرات إلي أن مسيحي القرون الاولي، بما فيهم الرسل والبشيرين، في
إقتباسهم للعهد القديم لم يحتسبوا حرف الكتابات المُقدسة بنفس العقيدة الخرافية
التي كانت منذ البداية تُميز الموقف اليهودي تجاه تقديسه لحرف النص، لقد فهم
الاباء أن الحرف له قيمة فقط من خلال معناه، وأن الكتاب إنما كُتِبَ للإنسان، وليس
الإنسان للكتاب. هذه الطريقة في رؤية الكُتب المُقدسة ظاهرة بوضوح في إقتباسات
العهد الجديد في كتابات الكُتاب الكنسيين الأوائل، فهم ليسوا فقط يقتبسون من
الذاكرة بشكل تقريبي، بل أنهم يستخدمون غالباً الإشارات الضمنية بدلاً من
الإقتباسات الدقيقة. ويبدو واضحاً أن ما نظروه في النص كان معني أعمق لا يُمكن أن
يتأثر بأي شكل من التغيرات النصية[27]. لأن المسيحية ليست مبنية علي نص لكنها
متأسسة علي شخص المسيح وهي التي كرز بها الرسل وعبروا عنها بإسلوبهم، وكان روح
الله يعمل فيهم حتي لا يخطئوا في إيصال القصد من الرسالة.
وعلي
ما سبق يُمكننا ان نقول أن الوحي المسيحي هو رسالة يكتبها كاتب مُستنير ومُلهم
بالروح بقصد منها عدة أشياء، فعلي سبيل المثال:
–
تكون هذه الرسالة بقصد إيصال تدبير الخلاص وهو ما يخص مجئ المسيا وعمله الخلاصي
وإحتياج الإنسان له للتخلص من عبودية الموت وتسيد الخطية وضعف طرق البشر الذاتية
للخلاص من هذه العبودية.
–
وفي أحيان أخري كانت تعبر الرسالة عن علاقة الله بالإنسان وتساؤلات الإنسان نحو
الله مثل لماذا الله مُحتجب؟ لماذا الشر والألم؟ لماذا الاوبئة والكوارث الطبيعية؟
كما تتحدث عن عناية الله بالبشرية وعن أبوة الله وغفرانه ورحمته، الحق والخطأ
الأخلاقيين، الملكوت والجحيم، وكل هذا يحدث من خلال منظار لاهوتي وديني فقط.
–
وفي مواضع أخري تتحدث الرسالة عن تدخلات
الله في التاريخ، أو بمعني آخر روحنة التاريخ أو تدوين التاريخ الديني، ففي هذه
الحالة تُقدم الرسالة النبوية في قالب تاريخي حيث يسرد الكاتب تاريخ شعبه المُقدم
له الرسالة وعن تدخلات الله في هذا التاريخ وتعاملاته معه، وهنا لا يهتم الكاتب بسرد
الحدث التاريخي بقدر ما يهتم بروحنته والتركيز علي دور الله فيه. ففي الفكر
اليهودي الله يعلن عن ذاته لا كما هو في ذاته بل في الظلال والرموز، يكشف عن
مقاصده خلال التاريخ. فالكتاب المُقدس ليس كتاب كتبه فرد بل كُتِبَ وسط جماعة
ولأجلها “فشعب الكتاب المقدس أعتبر أن الله حاضر دومأ في تاريخه وفاعل، وهو يكشف
عن نفسه للبشر من خلال أفعاله. لقد اكتشف العبرانيون في أحداث حياتهم علامات عن
حضور الله وعمله من أجل تحرير شعبه وخلاصه. وهكذا فهموا أن مخطط الله بالنسبة إلى
البشر هو مخطّط فداء وعهد صداقة. وهكذا تكوّن إيمان شعب الله. إيمان تقبّلوه كعطية
وسط خبرة حياة جماعية وفردية مع إله يسيطر على الكون والتاريخ[28]”. وأيضاً الكاتب الذي قد وضع الروح في قلبه أن
يوصل رسالة لشعب الله سيبحث عن الوثائق ويسأل الشهود، ويقوم بالمجهود الضروري لأجل
إيصل رسالته[29]. ولذلك فسيأخذ من الوثائق التاريخية المتاحة له ويوؤلُها علي أساس الرسالة التي يُريدها، ولذلك يقول
ق.أغسطينوس[30]: “ترك الروح القدس كل مؤرخ في حرية ليبني روايته بطريقته الخاصة،
هذا بطريقة وذاك بطريقة مختلفة”.
“إذاً، خلف الكتاب المُقدس المكتوب، تقبع
الحقيقة الديناميكية الدينية الشفوية لتقاليد الشعبين اليهودي والمسيحي. فقد حُفظت
هذه التقاليد الشفوية وطُوَّرَت في العبادة والتعليم والعادات. حفظها شعب الله حية
وهي عززت هويته موجهةً معتقداته وعاداته. في آخر الامر، كان الكُتَّاب مُلتزمين
بالكتابة عبر عمليات مُعقدة. أستمرت الكتابة العبرية لقرون والعهد الجديد لعشرات
السنوات[31]”. ونؤكد إنّ كلمة النبي التي تصل إلى البشر بتعابير مختلفة مُقدسة
بسبب الموهبة التي أعطاها الله للنبيّ او الرسول. فإن كتبَ النبي بيده كلامَ الرب
(ار 29) أو أملاه على كاتبه (ار 36: 4) أو أودعه ذاكرة تلاميذه (اش 8: 16)، فهذا
العمل الكتابي هو امتداد لعمل الروح القدس الذي يرافق كلمة الله منذ ظهورها على
النبي حتى كتابتها وتدوينها[32].
فالهدف
الاسمي في النص الكتابي ليس حرفه بل القصد المُختبئ بستر الحرف. فيقول القديس
يوحنا ذهبي الفم في بداية تفسيره لسفر المزامير: كما أن البناء الذي بلا أساس يكون
مُختلاً ولا يؤمَنَ له، كذلك الكتاب المُقدس يصير بلا منفعة إطلاقاً، إذا فشل
الفرد في إستقصاء القصد منهُ[33]. ويقول أثناسيوس الرسولي عن أولئك الذين يخترعون
لانفسهم مقاصد بعيدة عن قصد الكاتب: هم يضلون كثيراً إذ هم لا يدركون هدف الكتاب الإلهي[34].
“ولذلك
فالجهل بالقصد يشوه ملامح المسيح الكلمة الذاتي في عقول البعض، بل يشوه المضمون
الخلاصي لكلمة الله ككل[35]”. ذلك لأن الكتاب المُقدس كالإيقونة، فالإيقونة في
المفهوم الارثوذكسي هي نافذة تراها العين لتنتقل منها إلي حقيقة أسمي وهي اللقاء
الشخصي مع صاحب الايقونة، هكذا الكتاب ايضاً هو نافذة كلامية علي حقيقة متعالية
تسمو عن الحرف الذي كتبت به كسمو الأصل عن الصورة. وهذا يظهر في معني الوحي وهو
الإعلان، وفي اليونانية ἀποκάλυψις [ابوكلايبسيس] وهي تعني كشف شئ ما
مُخبأ[36]، فالله أراد أن يكشف عن نفسه ويتواصل مع البشرية. “وأباء الكنيسة قد
عَّلموا، والبحث الحديث أكد، أن علي القراء أن ينتبهوا لهدف الكتاب الشامل أو
نهايته، حتي تظهر أجزاؤه عبر الكل ويظهر الكل عبر الأجزاء[37]”.
“أن
الكتاب المُقدس في النظرة الأرثوذكسية هو سجل الإعلان أكثر مما هو الإعلان المُباشر
ذاته (فالإعلان هو المسيح كما سبق). القراءة عن الخلق في سفر التكوين ليست مثل
الحضور عند الخلق. النبي إشعياء رأي بنفسه الرب علي العرش في المجد، لكن ما يرد في
(إشعياء 6) هو قصة هذا الإعلان وليس الإعلان المُرهب عينه… بالتأكيد، سجل الإعلان
مُلهّم ومُقدس وقانوني، ولكن مع هذا، هو يبقي سجلاً كتبه كُتَّاب هم بشر محددون
وبلغات بشرية مُحددة[38]”، هذا بحسب ما كتبه الاب تيودور. وعلي ذلك فلا يوجد في
المفهوم الارثوذكسي للوحي ما يُسمي بالعصمة الذي يدعي أنه هناك كتاباً بلا خطأ
وبذلك يصبح للكتاب صفة هي خاصة بالله وحده! فالخطأ هو سمة الطبيعة البشرية والتي
انطبعت في الوثاق التاريخية والبيئة الثقافية التي تأثر بها الكُتاب المُلهمون.
وتبني نظرية العصمة هذه هو ما يجعل أصحابها ينزلقون في نوع من عبادة الكتاب.
أما
التقليد الارثوذكسي فهو يستخدم تعبيراً آخر للتعبير عن مكانة الكتاب المُقدس داخل
الكنيسة وهو (كفاية الكتاب) وهو تعبير كثيراً ما أستخدمه ق.أثناسيوس الرسولي[39].
فالكتاب المُقدس كافي في ذاته لتعليم الحق لإنه كُتب بواسطة أشخاص ممتلئين من روح
الله وجماعة أختبرت الإيمان في داخلها[40]. لكنه ليس الحق نفسه فالحق هو المسيح
فقط والكتاب دوره أن يشير ويوجه إلي هذا الحق، ففي الأرثوذكسية لا نتحدّث عن كفاية
الكتاب الذاتية وكأنه بذاته يحتوي كل ما أعطى الله للكنيسة، أو كأنه ممكن أخذه
لوحده بدون قوة التفسير والتعليم التي يعطيها الروح القدس للكنيسة وفيها. الإعلان
هو خبرة روحية داخلية لأعضاء الكنيسة. وهذا ليس إختزالاً لقدر الكتاب في الكنيسة،
بل لازال الكتاب المُقدس هو المرشد الآمين لكل المؤمنين، بل والمرشد الآصدق
والآهم، فهو الكتاب الوحيد الذي كتب بيد رسل المسيح وأجمعت عليه كل الكنيسة في كل
العالم منذ أن كُتِبَّ مروراً بكل الاباء الاولين والمجامع المسكونية وإلي يومنا
هذا. فالقديس أغسطينوس يقول عن الكتاب المُقدس أنه “سلطة الديانة[41]” ويشترك مع
القديس إيرينيئوس في أن الكلمة المكتوبة هي “قاعدة الحق وقانونه[42]” ومن يستوعبها
جيداً “يستوعب الإيمان نفسه[43]”، ويقول المُعلم أوريجينوس: “إذا تبصَّر إنسان في
أقوال النبوات بكل الشوق والتوقير اللائق بها، فمن المؤكد أن تتلامس روحه وأحاسيسه
مع روح الله من خلال إطلاعه وتدقيقه فيها. وسوف يُدرك أن الكلمات التي قرأها ليست
من مُجرد نُطق بشري ولكنها لغة الله. وهكذا سوف يؤمن بكل يقين أن هذه الكُتب لم
تصنعها مهارة إنسان أو أي ذكاء بشري أو فطنة أرضية، إنما هي ذات طابع إلهي[44]”.
ولكن
بالحري يجب للتعريفات السابقة عن معني الوحي والكتاب المُقدس أن تقودنا إلي نظرة
أشمل وأعمق للنص الكتابي والذي هو رسالة إلهية ذات قصد ومعني، وأن تحولنا من
الإلتصاق بالحرف وعبادته إلي الإنطلاق بالروح نحو الله الغير مُدرك والغير محوي من
شئ والمُستعلن في وجه يسوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
الاب متي المسكين، كلمة الله شهادة وخدمة وحياة، ص 40.
[2]
Biblical Theolog of st.iren. p. 49.
[3]
الخوري بولس الفغالي، المدخلي إلي الكتاب المُقدس، ج1 ص 41
[4]
الاب جورج فلوروفسكي، الكتاب المُقدس والكنيسة والتقليد، ص 59
[5]
بحث فى التقليد المقدس , القس شنودة ماهر , الطبعة الخامسة – القاهرة – 2000 , ص
19 – 21
[6]
تاريخ الكنيسة 3 : 24 :3
[7]
الحوار مع تريفون، فصل 11
[8]
الحوار مع تريفون، فصل 51
[9]
الرسالة إلي فلادلفيا 8: 2
[10]
الرسالة 8: 3.
[11]
يقصد النبؤات والأمثلة التي تُشير إلي شخص المسيح الرب في العهد القديم، والتي
إستشهدوا بها.
[12]
شرح إنجيل يوحنا ج1 ص 39.
[13]
الروح القدس الرب المحيي . الاب متي المسكين . ج2 ص 468 . st
. iren , APOL. 1, 36 & II, 10
[14]
General Introduction To The Bible, p. 57
[15]
علم اللاهوت العقيدي ج1 ص 81
[16]
جوش ماكدويل، برهان جديد يتطلب قرار ص 313، 314
[17]
المسيح في رؤي ونبوات زكريا، ص 15.
[18]
الخوري بولس الفغالي، المدخل إلي الكتاب المُقدس، ج1 ص 38، 39
[19]
Ovatio Theologica 2,4
[20]
Storm, 1: 9
[21]
De Cons. Evang II, 51.
[22]
Tract, in joan. Ev. 1, 1.
[23]
الرساله إلي مارسلينوس، الفقرات 9، 10
[24]
مأخوذ بتصرف عن: الاب جورج فلوروفسكي، الكتاب المُقدس والكنيسة والتقليد، ص 31، 32
[25]
Theophilus to Autolycus. chap. ix In The Ante-Nicene
Fathers Vol. II : A.D. 325 (97)
[26]
ibid. chap. xxxiv.
[27]
L. Vaganay & C-B amphoux, an introduction to the new
testament textual criticism, p. 92.
[28]
الخوري بولس الفغالي، تعرف إلي العهد القديم مع الاباء والانبياء.
[29]
راجع (يش 10: 13) و( 2صم 1: 18) و (لو 1)
[30]
De Cons. Evang. 2:51
[31]
العهد الجديد نظرة أرثذوكسية، الاب تيودور ستيليانوبولوس، ص 23
[32]
الخوري بولس الفغالي، المدخل إلي الكتاب المُقدس، ج1 ص 34
[33]
P. G. 55, 35
[34]
الرسائل عن الروح القدس، 2: 7
[35]
الاب سيرافيم البراموسي، مدخل لفهم كلمة الله، ص 241
[36]
القاموس الموسوعي للعهد الجديد، فيرلين د.فيربروج. ص 73 #636
[37]
العهد الجديد نظرة أرثذوكسية، مرجع سابق، ص 38
[38]
المرجع السابق، ص 42
[39]
أنظر حياة انطونيوس، 16. حيث جاء علي لسان انبا انطونيوس: ” الاسفار المُقدسة
كافية للتعلم” . رسالة الي الوثنيين، 1: 3. وفيها يقول اثناسيوس: “أن الكتب
المُقدسة الموحي بها كافية لتعليم الحق، ويوجد أيضاً مؤلفات أخري لمُعلمينا
المغبوطين وضعت لهذه الغاية” .
[40]
ولذلك فكفاية الكتاب لتعلم الحق تحدث فقط عندما يُقرأ داخل جماعة الإيمان التي نشأ
بواسطتها ولإجلها.
[41]
De civit. Die x viii, 38.
[42]
Sermo 30, 2.
[43]
De doctrina Christ. I, 41.
[44] ANF. Vol IV, p. 345.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق