الجمعة، 1 سبتمبر 2023

مفهوم التجديف على الروح القدس كما يراه القديس أثناسيوس


 

الرسالة الخامسة لسيرابيون:

+ «هذا (المسيح) لا يُخرج الشياطين إلاَّ ببعلزبول رئيس الشياطين» (مت 24:12).

+ «إن كنت بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله.» (مت 28:12)

+ «كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأمَّا التجديف على الروح القدس ... فلن يُغفر له ... لا في هذا العالم ولا في الآتي.» (مت 31:12و32)

يقول القديس أثناسيوس مفسِّراً هذا الكلام هكذا:

[لماذا يُغفر التجديف على الابن ولماذا لا يُغفر التجديف على الروح القدس لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضاً؟

لقد قرأت ما كتبه الآباء وبالذات الحكيم المجاهد أوريجانوس والعجيب المجاهد ثيئوغنسطس([2]) (تُوفِّي سنة 282م) واطَّلعت على كتبهم لأرى ماذا قالوا بخصوص هذا الموضوع.

وكلاهما قال إن التجديف على الروح القدس يحدث عندما يعود الذين حصلوا على نعمة الروح القدس في المعمودية إلى الخطية. ولذلك يتفق كلاهما مع الآخر على عدم وجود مغفرة، مستندين إلى ما ذكره بولس في رسالته إلى العبرانيين (4:6-6). عند هذه النقطة كل منهما يتحدَّث مثل الآخر تماماً. ولكن بعد ذلك كل منهما له رأيه الخاص.

يشرح أوريجانوس سبب دينونة هؤلاء بهذه الكلمات: “الله الآب يحل في كل شيء ويضبط كل الكائنات الحية وغير الحية، أي التي لها نعمة العقل والتي ليس لها نعمة العقل. أمَّا الابن فهو يشمل بقوته الذين لهم نعمة العقل فقط، مثل الموعوظين والوثنيين الذين لم يأتوا بعد إلى الإيمان. أمَّا الروح القدس فهو يسكن فقط في الذين قبلوه في المعمودية. ولذلك عندما يخطئ الموعوظون أو الوثنيون فإن خطيتهم هي ضد الابن فقط، لأنه هو فيهم كما ذكر - أوريجانوس - ولذلك يمكنهم الحصول على المغفرة عندما يكرمون بنعمة الميلاد الثاني. ولكن عندما يخطئ المعمد فإن الخطية بعد المعمودية موجَّهة ضد الروح القدس الذي يسكن في الذين عُمِّدوا، ولذلك لا مناص من العقاب”.

 أمَّا ثيئوغنسطس فهو كما ذكرت يتبع شرح أوريجانوس ويقول: إن الذي يتخطَّى الحاجزين الأول والثاني يستحق عقوبة أقل. ولكن الذي يتخطَّى الحاجز الثالث لا يمكن أن يحصل على مغفرة. وهو يدعو التعليم الخاص بالآب والابن بالحاجزين الأول والثاني. أمَّا الحاجز الثالث فهو التعليم الذي يُقال في المعمودية الخاص بالروح القدس، ولكي يؤكِّد ثيئوغنسطس هذا الشرح اقتبس كلمات الرب للتلاميذ «إن لي أُموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمَّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يُرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بل كلُّ ما يسمع يتكلَّم به ويُخبركم بأمور آتية» (يو 12:16-13). وقد قال ثيئوغنسطس عن هذه الكلمات إن المخلِّص تحدث مع أُناس لا يمكنهم أن يقبلوا التعاليم الكاملة، ولذلك نزل إلى مستواهم غير الكامل. أمَّا الذين تكمَّلوا فهم الذين قبلوا الروح القدس في المعمودية، والتعليم الكامل هو من نصيب الذين حلَّ فيهم الروح القدس.

لكننا نحذِّر كل مَنْ يقرأ هذه الكلمات من عدم فهمها بصورة سليمة، إذ لا يجب أن يظن أحد أن التعليم عن الروح القدس هو “ختم الكمال”. كما علينا أيضاً أن نحذِّر من الظن بأن الروح القدس أسمى من الابن طالما أن التجديف على الروح بلا مغفرة. ولكن المغفرة لغير الكاملين (غير المعمَّدين)، أمَّا الذين ذاقوا الموهبة السماوية وصاروا كاملين فلا مغفرة لهم ولا صلاة يمكنها أن تسهِّل لهم المغفرة. هذا ما ذكره هذان الكاتبان المجاهدان.

أمَّا عن نفسي فحسب ما تعلَّمت، أعتقد أن رأى كلٍّ منهما يتطلَّب فحصاً ومراجعة دقيقة لأن كلمات الإنجيل الخاصة بالتجديف عميقة.

في الحقيقة واضح أن الابن في الآب، وبالتالي فهو في الذين فيهم الآب أيضاً. والروح القدس ليس غائباً عن الآب والابن، لأن الثالوث القدوس المبارك غير منقسم. وزيادة على ذلك إذا كان كل شيء قد خُلق بالابن (يو 3:1) وفيه كل الأشياء توجد (كو 17:1)، فهو ليس كائناً خارج الأشياء التي جاءت إلى الوجود بواسطته. فكل المخلوقات ليست غريبة عنه. هو بالطبيعة في كل شيء، وبالتالي كل مَنْ يخطئ ويجدِّف على الابن يخطئ ويجدِّف على الآب والروح القدس. ولو كان حميم الميلاد الثاني قد أُعطي باسم الروح القدس فقط، لكان من المعقول أن نقول إن الذي عُمِّد إذا أخطأ بعد المعمودية يخطئ ضد الروح القدس وحده. ولكن لأن المعمودية تُعطى باسم الآب والابن والروح القدس، فكل معمَّد يقبل المعمودية باسم الثالوث، وبذلك يصبح واضحاً أن كل مَنْ يجدِّف بعد المعمودية يكون قد جدَّف على الثالوث الأقدس، وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يجب أن نقبله.

ولو كان هؤلاء الذين تحدَّث معهم الرب، أعني الفريسيين، قد قبلوا حميم الميلاد الثاني وحصلوا على نعمة الروح القدس، لكان التفسير السابق لكل من أوريجانوس وثيئوغنسطس مقبولاً، لأن الرب لم يكن يتكلَّم مع أُناس ارتدوا وجدَّفوا على الروح القدس، لأننا إذا تذكَّرنا، لم يكن هؤلاء الناس - أي الفريسيُّون - معمَّدين، بل حتى معمودية يوحنا احتقروها ورفضوها (مت 25:21-27). فكيف يمكن اتهامهم بالتجديف على الروح القدس وهم لم يحصلوا عليه بعد؟! ولذلك لم ينطق الرب بهذه الكلمات لكي يعلِّم عن الخطية بعد المعمودية، كما أنه لم يكن كذلك يهدِّد بعقوبة أُولئك الذين سيخطئون في المستقبل بعد المعمودية، بل قال هذه الكلمات بطريقة مباشرة وصريحة ضد الفريسيِّين لأنهم أذنبوا فعلاً وسقطوا في هذا التجديف الفظيع. لقد اتهمهم الرب بطريقة واضحة بالتجديف وهم لم يقبلوا المعمودية. فإن هذه الكلمات ليست موجَّهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية، خصوصاً وأن الرب لم يكن يشتكيهم بخطايا عامة ولكن بالتجديف بالذات، وهناك فرق بين الذي يخطئ ويتعدَّى الناموس والذي بسبب عدم تقواه يجدِّف على الله نفسه.

وقبل ذلك اتهم الرب الفريسيِّين بخطايا أُخرى مثل محبة المال التي من أجلها أبطلوا الوصية الخاصة بالوالدين، ورفضوا كلمات الأنبياء وجعلوا بيت الله بيت تجارة، وفي كل هذا انتهرهم المخلِّص لكي يتوبوا. أمَّا عندما قالوا إنه ببعلزبول يُخرج الشياطين لم يقل لهم ببساطة إنهم يخطئون بل إنهم يجدِّفون بصورة شنيعة تستوجب العقاب وتجعل المغفرة مستحيلة، لأنهم تمادوا إلى حيث لا حدود لخطئهم.

وزيادة على ذلك، لو كانت هذه الكلمات موجَّهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية وهؤلاء لا مغفرة لهم، فكيف أظهر الرسول محبة نحو التائب في كنيسة كورنثوس؟ (2كو 8:2). وماذا عن الغلاطيين الذين ارتدُّوا (غل 9:4)، والذين تألَّم الرسول لكي يولدوا ويتكوَّن فيهم المسيح مرَّة ثانية (غل 19:4)؟ وكيف نلوم نوفاتس (249-250م Novatian) الذي يمنع التوبة ونعترض على قوله بأن الذين يخطئون بعد المعمودية لا مغفرة لهم طالما أن هذه الكلمات الإنجيلية تؤيِّد تعليم نوفاتس وهي موجَّهة إلى الذين يخطئون بعد المعمودية.

وحتى كلمات الرسالة إلى العبرانيين (4:6-6) لا تمنع توبة الخطاة بل تشير إلى أن معمودية الكنيسة الجامعة تُعطَى مرَّة واحدة، ولا يمكن أن تتكرَّر. ويجب أن نلاحظ أنه للعبرانيين بالذات كتب الرسول هذه الكلمات لأنه خاف عليهم من التظاهر بالتوبة وأنهم بسبب تمسكهم الشديد بالناموس الموسوي وشريعة التطهير سيظنون أنه توجد فرصة لمعموديات يومية متكرِّرة كما في مرقس 3:7-4، ولذلك يشجِّعهم على التوبة ويعلن أن التجديد في المعمودية هو تجديد فريد لا يعاد. وفي رسالة أخرى يقول: «إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ» (أف 5:4). وهو لا يقول إنه من المستحيل أن يتوب الساقط بل من المستحيل أن نصنع نحن تجديداً لأنفسنا بالتوبة، والفرق كبير، لأن مَنْ يتوب يكف عن الخطية ولكن آثار جروحه تظل ظاهرة بعكس مَنْ يعتمد يخلع العتيق ويتجدَّد (كو 9:3-10)، بل ويولد مرَّة ثانية بنعمة الروح القدس (يو 3:3).

وعندما أفكِّر في هذه الأشياء أجد في الكلمات السابقة عمقاً عظيماً. ولذلك بعد أن صلَّيت بلجاجة للرب الذي جلس عند البئر (يو 6:4) ومشي على المياه (مت 25:14)، أعود إلى تدبير الخلاص الذي تمَّ راجياً أن أكون قادراً على أن أملأ دلوي من معاني الكلمات الإنجيلية التي نبحثها.

كل الكتب الإنجيلية، وبالذات إنجيل يوحنا، تخبرنا عن التدبير الإلهي: “الكلمة صار جسداً وسكن فينا” (يو 14:1). وبولس عندما يكتب: «الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب (مساواته) خُلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبدٍ، صائراً في شبه الناس» (في 6:2-8). ولأنه الإله الذي أخلى ذاته وصار إنساناً، أقام الموتى وشفى المرضى، وبكلمته حوَّل الماء خمراً ... وهذه كلها أعمال ليست من قدرة البشر، ولكنه جاع وعطش وتألَّم لأنه أخذ جسداً وكل أعمال الجسد ليست من صفات اللاهوت. كإله قال: «أنا في الآب والآب فيَّ» (يو 10:14)، ولأنه أخذ جسداً حقـًّا وبكل يقين، انتهر اليهود قائلاً: «الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلَّمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يو 40:8). ورغم كونه إلهاً إلاَّ أنه لم يقم بهذه المعجزات مرَّة واحدة لأنه تجسَّد وكان عليه أن يواجه الاحتياجات والظروف المرتبطة بحياته كإنسان.

لكن لم تكن أعمال الجسد تتم بدون اللاهوت ولا أعمال اللاهوت كانت تتم بدون الجسد، بل على العكس، فإن كل أعماله صنعها الرب الواحد، الذي أكمل كل شيء في سر نعمته. وعلى سبيل المثال، بصق على الأرض كما يبصق كل الناس، لكن لعابه وحده كان فيه قوة إلهية لأنه وهب به البصر لعيني المولود أعمى (يو 6:9). ورغم أنه الإله إلاَّ أنه تكلَّم بلغة بشرية وقال: «أنا والآب واحد» (يو 30:10)، وبإرادته منح الشفاء (مت 3:8). ولكن عندما مدَّ يده الإنسانية، أقام حماة سمعان بطرس من الحُمَّى (مر 31:1) وبنفس اليد أقام من الموت ابنة رئيس المجمع (مر42:5).

وقد أخطأ الهراطقة كلٌّ حسب مقدار جهله، البعض منهم نسب كل ما حدث من الرب لجسده (أي كإنسان) وتعاموا عن القول الإلهي: «في البدء كان الكلمة» (يو 1:1)، والبعض نسب ما حدث إلى لاهوته فقط، ولم يفهموا القول: «والكلمة صار جسداً» (يو 14:1). لكن المؤمن الذي يتبع تعليم الرسل يعرف غنى الرب ومحبته للبشر. وعندما يرى أعماله العجيبة الإلهية يمجِّد الرب الذي ظهر في الجسد. وعندما يرى أعمال الجسد يتعجَّب ويرى فيها القوة الإلهية التي تعمل. هذا هو إيمان الكنيسة، ولذلك إذا ثبَّت البعض عيونهم على الجانب الإنساني في حياة الرب، وشاهدوه يختبر الجوع والتعب والألم، يتحدَّثون عنه بدون تقوى كمن يتحدَّث عن إنسان فقط، فيخطئون بذلك خطية عظيمة. وبلا شك إن لم يتأخَّروا في التوبة يمكنهم الحصول على المغفرة، لأن ضعفهم الإنساني هو عذر لهم. وحتى الرسول يمنحهم المغفرة، وبطريقة ما يمد يده إليهم، لأنه بالحق يقول: «وبالإجماع، عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد» (1تي 16:3).

عندما يرى البعض أعمال اللاهوت يتردَّدون في الاعتراف بإنسانيته - وهذا خطأ بالغ - ويتوهَّمون عندما يقرأون أن الرب يأكل ويتألَّم أنه خيال، هؤلاء إذا لم يتأخَّروا في التوبة سيغفر لهم يسوع لأنهم لا يفهمون أعماله الفائقة التي أتمها في الجسد. وإذا فحصنا جهل هؤلاء وأولئك، أي الذين يخطئون ولهم معرفة بالناموس مثل الفريسيِّين أو الذين يستسلمون للجنون وينكرون وجود الكلمة في الجسد، أو يذهبون إلى أبعد من هذا عندما ينسبون أعمال اللاهوت إلى الشيطان وجنوده؛ فإنه من العدل أن تكون عقوبة عدم تقواهم هي عدم المغفرة، لأنهم اعتبروا الشيطان مثل الله، وحسبوا أن مَنْ هو بالحقيقة الله لا شيء في أعماله يدل على ألوهيته، بل إنه الشيطان يستخدم أعوانه. وإلى هذه الدرجة السفلى من عدم التقوى انحدر اليهود في ذلك الزمان، وبالذات الفريسيُّون منهم. ورغم أن الرب كان يقوم بأعمال الآب علانية، فهو أقام الموتى ومنح النظر للعميان وجعل العرج يمشون وفتح آذان الصم وجعل الخرس يتكلَّمون، معلناً أن الخليقة العاقلة وغير العاقلة خاضعة له، لأنه هو الذي أمر الريح ومشي على البحر، والجموع عاينت هذا وامتلأت بالدهشة ومجَّدت الله، إلاَّ أن الفريسيِّين قالوا إن هذه أعمال بعلزبول - ومن فرط جنونهم لم يخجلوا من أن يعطوا الشيطان قوة الله. وأمام هذا أعلن الرب بالحق أن تجديفهم بلا مغفرة، لأنهم عثروا في كل ما يختص بإنسانيته وكان لهم، في المسيح كإنسان، رأى شرير، إذ قالوا: «أليس هذا ابن النجَّار» (مت 55:13)، وكيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم (يو 15:7)، وما هي المعجزات التي «تصنع لرنى ونؤمن بك» (يو 30:6)، «فلينزل الآن عن صليبه فنؤمن به» (مت 42:27). وقد احتمل الرب كل هذا، وسمَّى الإنجيل مثل هذه الأقوال بالتجديف على ابن الإنسان، وتألَّم الرب من قساوة قلوبهم (مر 5:3)، وقال: «لو علمتِ ... ما هو لسلامكم؟» (لو 42:19).

وغفر الرب لبطرس عندما تكلَّمت معه الجارية عن يسوع كإنسان فأجاب بطريقة لا تختلف عن رأي الجارية وكلامها، ولكن الرب غفر له عندما بكى بدموع.

أمَّا عندما سقط الفريسيُّون إلى أدنى من كل هذا وتفوَّهوا بما هو أشر من كل ما سبق، حتى أنهم قالوا إن أعمال الله هي أعمال بعلزبول، لم يتحملهم لأنهم جدَّفوا علىروحه بقولهم إن مَنْ يعمل هذه الأعمال ليس الله ولكنه بعلزبول. ولهذا السبب استحقوا عقوبة أبدية. وفي الحقيقة إن جرأتهم زادت عن الحد، وعندما رأوا ترتيب العالم والعناية به نسبوا الخلق إلى بعلزبول، حتى أن الشمس صارت بحسب قولهم تحت سلطان الشيطان وأصبح الشيطان هو الذي يحرِّك النجوم في السماء، لأن كل أعمال الآب كخالق، عملها يسوع؛ فإذا قالوا إن أعمال يسوع هي أعمال بعلزبول، فكيف إذاً يفهمون القول الإلهي: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تك 1:1). ولكن مثل هذا الجنون ليس غريباً عنهم لأن آباءهم أظهروا نفس الطباع، فبعد خروجهم من مصر صنعوا العجل الذهبي في البرية ونسبوا إليه المعجزات والبركات التي أخذوها من الله وقالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (خر 4:32). وبسبب هذا التجديف الذي ارتكبه أُولئك المجانين تمَّ فناء الكل في البرية، وأعلن الله أنه في يوم افتقاده «سوف يفتقد فيهم خطيتهم» (خر 34:32). وعندما اشتكوا من انعدام الخبز والماء اهتم بهم تماماً مثل المرضعة برضيعها، ولكنهم زادوا الشكوى إلى الحد الذي وصفه الروح القدس في المزامير «أبدلوا مجدهم بمثال ثور آكل عشب» (مز 20:106). وعندما اجترأوا على ارتكاب مثل هذا العمل الذي لا مغفرة له ضربهم الرب، كما يقول الكتاب، بسبب العجل الذي سبكه هارون (خر 35:32). وتصرَّف الفريسيُّون بنفس الوقاحة، ولذلك أخذوا من الرب عقوبة مماثلة بل هي عقوبة مثل عقوبة بعلزبول نفسه الذي تحدَّثوا عنه، كي يحترقوا معه بنار أبدية.

ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الإنجيل أن يقارن بين التجديف الموجَّه ضدَّه، والتجديف الموجَّه للروح القدس؛ ولا أشار ولو من بعيد أو بطريقة غير مباشرة إلى أن الروح القدس أسمى منه ولا لأن التجديف على الروح أخطر، حاشا؛ نطق الرب بهذه الكلمات لأنه علم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وأن الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجِّد الابن (يو 14:16و15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه، وبهم لمن يؤمنون به بواسطتهم. ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما أنها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلِّص. والتجديف بنوعيه موجَّه بالضرورة للروح القدس. والنوع الأول محتمل أمَّا النوع الثاني فهو خطير. وقد ارتكب الفريسيُّون نوعي التجديف لأنهم رأوه إنساناً فأهانوه بقولهم: «من أين لهذا الحكمة؟» (مت 54:13)؛ وقولهم: «ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟» (يو 57:8). ورغم أنهم رأوا أعمال الآب فيه إلاَّ أنهم لم يرتضوا بألوهيته. وبدلاً من هذا قالوا إن بعلزبول فيه، وأن هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، وبذلك أصبح تجديفهم بنوعيه موجَّه ضدَّه. والنوع الأول أقل خطورة بسبب العذر الواضح وهو إنسانيته، أمَّا النوع الثاني فهو أكثر خطورة لأنه إهانة موجَّهة إلى ألوهيته. ومثل هذا التجديف الخطير هو الذي استدعى عقوبة عدم المغفرة. ومن الواضح أن الرب كان يشجِّع التلاميذ عندما قال لهم: «إن كانوا قد لقَّبوا رب البيت بعلزبول» (مت 25:10) وأكَّد هنا أنه رب البيت الذي جدَّف عليه اليهود.

أمَّا اليهود فعندما قالوا عنه: “بعلزبول” لم يهينوا أحداً سوى الرب يسوع، وهذا واضح من التعبير نفسه لأن كلمة “الروح” في نص الإنجيل تشير إلى الرب يسوع وإلى الروح القدس، لأن “رب البيت” يُراد به المسيح أي رب الكون كله. وأنا أرجوك أن لا تتضايق من هذا التكرار فهو لازم إذا كنا نحرص على الوصول إلى المعنى الدقيق للنص، ولذلك سأعود إلى ما ذكرته سابقاً أن الجوع والتعب والنوم والإهانات كلها خاصة بناسوته، أمَّا الأعمال الباهرة التي كان يقوم بها الرب، فلم تكن أعمال إنسان بل أعمال الله.

لذلك إذا ما شاهد بعض الناس الأشياء الخاصة بالإنسان مثل الجوع ... إلخ وأهانوا الرب لأنه حسب ظنهم مجرَّد إنسان، فقد حُسبوا مستحقين لعقوبة أقل من عقوبة أُولئك الذين ينسبون أعمال الله للشيطان. لأن هؤلاء لا يكتفون بإلقاء الأشياء المقدَّسة للكلاب (مت 6:7)، بل يجعلون الله مساوياً للشيطان ويدعون النور ظلمة (إش 20:5). لذلك سجَّل مرقس أن تجديف اليهود بلا مغفرة، «ولكن مَنْ جدَّف على الروح القدس، فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستحق دينونة أبدية، لأنهم قالوا: إن معه روحاً نجساً (وذلك على أعمال لاهوته).» (مر 29:3و30)

والرجل الأعمى منذ ولادته عندما أبصر، شهد بأنه لم يُسمع من قبل أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، ولذلك قال: «لو لم يكن هذا (الإنسان) من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً» (يو 33:9). حتى الجموع نفسها عندما امتلأت من الإعجاب بما فعله الرب قالت: «ليس هذا كلام مَنْ به شيطان، ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان» (يو 21:10). أمَّا هؤلاء الذين امتلأوا من معرفة الناموس، أي الفريسيُّون وهم الذين يلبسون العصائب العريضة (مت 5:23)، ومزهوُّون بمعرفتهم بالناموس أكثر من باقي الناس (يو 24:9-29)، كان من المفروض عليهم بسبب هذه المعرفة أن يخجلوا، ولكن كما هو مكتوب عنهم أنهم «تعساء لأنهم ذبحوا لأوثانٍ ليست الله» (تث 17:32). وعندما قالوا إن بالرب شيطاناً، وأن أعمال الله هي أعمال الشيطان؛ لم يكن لديهم أي أسباب مقنعة تدفعهم إلى هذا الاعتقاد، والدافع الحقيقي لمثل هذا التجديف هو رغبتهم في أن ينكروا أن الذي يعمل هذه الأعمال هو الإله ابن الله. وبالحقيقة لقد أكل أمامهم وشاهدوا جسده وتأكَّدوا أنه إنسان فكان لديهم فرصة لأن يقتنعوا من أعماله أن الآب فيه وأنه في الآب. أمَّا لماذا لم يقتنعوا؟ فلأنهم لم يشاءوا.

وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيِّين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلَّم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح: إنه مجرَّد إنسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به إلهاً بسبب أعماله التي هي أعمال الله. ولكن بهذه السقطة ألَّهوا بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.

ودراستنا للنص توضِّح لنا أنه يعني نوعي التجديف الذي أشرنا إليه سابقاً. ذلك أن المخلِّص أشار إلى نفسه عندما قال: «ابن الإنسان»، ولكنه كان يعني أيضاً نفسه عندما تحدَّث عن “الروح”. والاسم الأول: «ابن الإنسان» يوضِّح تجسُّده، والاسم الثاني: “الروح” يوضِّح طبيعته الروحية غير المادية ولاهوته. وفي الواقع، إن الخطية التي يمكن غفرانها هي العثرة الناتجة عن رؤية ناسوته، أي ما يتعلَّق به كابن الإنسان، ولكنه أوضح أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على “الروح”، أي على الطبيعة الإلهية.

وقد لاحظت أن التعبير “الروح” جاء بالمعنى الذي نتحدَّث عنه في إنجيل القديس يوحنا عندما كان الرب يتحدَّث عن تقديم جسده. ولمَّا رأى أن كثيرين عثروا بسبب ما ذكره عن جسده، قال لهم: «أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً! الروح هو الذي يحيي أمَّا الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 6: 62و63). وقد تحدَّث الرب هنا عن “الجسد والروح”، وكما هو واضح كان يتحدَّث عن نفسه. وميَّز بين الجسد والروح لكي يتمكَّن الذين سمعوه من الإيمان بما يرون أي بجسده، وكذلك الإيمان بغير المنظور، أي الروح أو لاهوته، لكي يؤمنوا أن ما يتكلَّم عنه ليس الجسديات بل الروحيات.

ولنسأل كم عدد البشر الذين يمكن أن يقدِّم لهم جسده المادي؟ وماذا عنه كغذاء للعالم كله؟ لهذا السبب تحدَّث عن صعود ابن الإنسان إلى السماء لكي يبعد عن أفكارهم كل التصورات المادية عن جسده، ولكي يفهموا جيداً بدون أي تصورات مادية أن جسده الذي يتكلَّم عنه هو طعام سمائي يأتي من فوق كغذاء روحي يعطيه هو بنفسه. وحقًّا قال: «الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 63:6)، أي أن ما أعلنه، وما سيعطيه لخلاص العالم هو جسده، ولكن هذا الجسد عينه بما فيه من دم سوف يُعطى لكم بواسطتي روحياً، وكطعام، وبطريقة روحية سوف يوزَّع على كل واحد منكم لكي يصبح عربون القيامة والحياة الأبدية.

واستعمال كلمة “روح” جاء بنفس المعنى في حديث الرب مع السامرية عندما وجَّه فكرها إلى المعنى الروحي ورفع نظرها إلى الأمور غير المادية بقوله لها: «الله روح» (يو 24:4)، لكي يستقر في قلبها الفهم الصحيح عن الله، أنه ليس من طبيعة مادية محصورة في مكان بل إنه روح. وهذا ما يعنيه كلام التعليم الذي يقول عندما يتأمَّل الكلمة وقد تجسَّد: “روح الإيمان هو المسيح الرب”، وحتى لا يعثر أحد ما بالشكل الخارجي الملموس ويظن أن الرب هو مجرَّد إنسان، جاءت كلمة: “الروح” لتؤكِّد أن الذي في الجسد هو الله.

وهكذا يبدو لنا شيئان ظاهران تماماً: الأول هو حالة مَنْ يرى الرب في الجسد ويعتبره مجرَّد إنسان ويقول بعدم إيمان: “من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟” (مت 54:13)، وكل مَنْ يتكلَّم بهذا يخطئ بدون شك ويجدِّف على ابن الإنسان؛ والثاني يرى أعماله التي تتم بالروح القدس ويقول إن صانع هذه الأعمال ليس الله ولا ابن الله وينسب هذه الأعمال لبعلزبول، مثل هذا ينكر لاهوته، وهذا ما يظهر واضحاً عدة مرَّات في الإنجيل لا سيما في النص الذي نشرحه.

ومرَّة أخرى، نكرِّر، عندما يوصف الرب بأنه «ابن الإنسان» فهو نفسه يستخدم هذا اللقب لتأكيد بشريته، ولكن عندما يتحدَّث عن الروح أي الروح القدس الذي به يصنع كل هذه الأعمال والذي هو (الروح) أيضاً فيه، يقول بعد إتمامه أعماله الباهرة: «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت أعمال، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنه فيه» (يو 38:10) ...]([3]) (انتهى)


وملخَّص عقيدة القديس أثناسيوس في هذا الموضوع كالآتي:

1 - إن الموضوع لا يختص إطلاقاً بامتياز أقنوم عن آخر في الثالوث، فالتجديف على الروح القدس هو تجديف على الآب والابن أيضاً.

2 - والتجديف لا يختص بالمعمودية ونوال الروح القدس فيها، لأنها تتم باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد. فكل مَنْ يُخطئ ويجدِّف بعد المعمودية فهو يخطئ ويجدِّف على الله الثالوث الآب والابن والروح القدس. لذلك فالرب لم يكن يقصد بالتجديف الخطية بعد المعمودية.

3 - إن الخطية بل كل الخطايا بعد المعمودية تُغفر جميعها بالتوبة، ولا توجد خطية قط يمكن أن يُقال إنه من المستحيل غفرانها.

4 - المعمودية هي التي لا يمكن بل ويستحيل أيضاً أن تتكرَّر، وهي التي تسمَّى بالتجديد أو الميلاد الثاني فهي معمودية واحدة.

5 - كذلك هناك فرق بين الخطايا كتعدِّي على الوصايا وبين التجديف على الله نفسه.

6 - إن الالتباس الظاهر في فهم عب 4:6-6 راجع إلى أن بولس الرسول يخاطب اليهود (العبرانيين) الذين اعتادوا أن يتخلَّصوا من خطاياهم بالتطهير بالماء كل يوم، وكلما أرادوا (حتى الزنا كان في عرفهم يمكن التخلُّص منه بالاستحمام بالماء)، فنبَّههم أن المعمودية في المسيحية ليست تطهيراً بالماء، ولكنها موت عن الإنسان العتيق وخطاياه وولادة روحية من فوق بإنسان جديد، ولا تتم إلاَّ مرَّة واحدة فقط بنعمة الروح القدس.

7 - العنصر الجوهري في عدم غفران خطية التجديف على الروح القدس هو المتعلِّق بالذين ينسبون أعمال اللاهوت التي كان يعملها المسيح إلى أنها أعمال الشيطان.

8 - وعلى نفس المستوى، فالذين يعتبرون المسيح أنه مجرَّد إنسان كان يعمل المعجزات بقوة الشيطان فهذا هو التجديف على روح الله أي الروح القدس، لأن المسيح كان يعمل كل الأعمال بروح الله.

9 - وعلى نفس المستوى كل مَنْ يجدِّف على لاهوت المسيح معتبراً أن المسيح مجرَّد إنسان، وأن أعماله كانت مجرَّد أعمال شيطانية (سحرية كما يقول اليهود الآن) وليست أعمالاً إلهية، فهذه تعتبر خطية تجديف غير قابلة للمغفرة.

10 - وهنا يقرِّر أثناسيوس أنه لا فرق بين التجديف على الروح القدس والتجديف الموجَّه ضد لاهوت المسيح.



([2]) ثيئوغنسطس كاتب كنسي ولاهوتي مشهور، كان مديراً لمدرسة الإسكندرية خلفاً لديونيسيوس وقبل بيريوس (وليس بعده). وكتب منهجاً لاهوتياً متكاملاً قائماً على أساس أفكار أوريجانوس وذلك في سبعة كتب، وأسماه هيبوتيبوزيس = طpotupèseij. وقد تبقَّى وصف وتحقيق عنه بقلم فوتيوس (Cod. 106)، كما لا يزال يوجد مقتطفات كثيرة منه في كتاب القديس أثناسيوس إلى سيرابيون، وعلى الدفاع عن قانون نيقية (25). كما استعان به القديس غريغوريوس النيسي في مؤلَّفه Contra Euno. III; وبالرغم من سقوطه في مفهوم تدنِّي الابن عن الآب بحسب فكر أوريجانوس فقد استخدم القديس أثناسيوس كثيراً من أفكاره ضد الأريوسيين.

([3]) من كتاب: “الروح القدس في بعض كتابات الآباء” تعريب: الدكتور جورج حبيب بباوي صفحة 28-42.

ليست هناك تعليقات: