"وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" (لو2: 52).
يذكرنا هذا النص بما جاء
في سفر صموئيل النبي:
"وَأَمَّا
الصَّبِيُّ صَمُوئِيلُ فَتَزَايَدَ نُمُوًّا وَصَلاَحًا لَدَى الرَّبِّ وَالنَّاسِ
أَيْضًا." (1 صم 2: 26). "وَكَبِرَ صَمُوئِيلُ وَكَانَ الرَّبُّ مَعَهُ،
وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ كَلاَمِهِ يَسْقُطُ إِلَى الأَرْضِ." (1
صم 3: 19).
إننا نقول إن الله تجسد، أو كما يقول الكتاب: "وَالْكَلِمَةُ
صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ
مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا." (يو 1: 14). "لكِنَّهُ
أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ."
(في 2: 7). "فَإِنَّهُ فِيهِ
يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا." (كو 2: 9).
فهو ظهر في جسد وعاش كإنسان، وكإنسان كان بينمو ويكبر في
القامة وهذا أمر طبيعي.
أما في الحكمة والنعمة فهي في ظهورها واستعلانها قدام
الناس، بمعنى أنه لم يكن ينمو ليقترب أكثر من الحكمة والنعمة، وكيف هذا والحكمة
متجسد فيه! "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ
وَالْعِلْمِ." (كو 2: 3). إنما من جهة الانكشاف والظهور أكثر قدام الناس،
فكلما نما كلما ظهرت حكمته وتجلت أمام البشر، حتى تجلت في تمامها في السن الذي بدأ
منه خدمته (سن الثلاثين تقريبًا).
فالمسيح، شيئًا فشيئًا أظهر حكمة الكلمة الساكن فيه
للناس، وشيئًا فشيئًا انخرط في المجتمع الذي جاء منه، دون أن يكون منفر أو غريب
لهم.
أما عند الله، فتعني انكشاف الله فيه، أو تمام تجلي الله
من خلاله أمام البشر، وهو أحد أهداف التجسد، أن يتجلى الله بذاته للبشرية، ليكلمهم
بشخصه لا عن طريق وسيط آخر: "كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ
فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا
عَمِلَ الْعَالَمِينَ،" (عب 1: 2).
وإن فهمناها بمعنى أنه كان ينمو عند الله فسيكون الله
غير عالم بكل شيء، وهو يُفاجأ بأن المسيح نما في الحكمة والنعمة على غير المتوقع
مثلًا! وحاشا لله، فهو العالم بكل شيء: "لأَنَّهُ إِنْ لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا
فَاللهُ أَعْظَمُ مِنْ قُلُوبِنَا، وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ." (1يو3: 20).[1]
فالمقصود هنا ان المسيح نما على مستويين، المستوى
الاجتماعي، من جهة القامة والحكمة والنعمة، والمستوى اللاهوتي أو الروحاني من جهة
إنكشاف وتجلي الله فيه ومن خلاله.
ويقول القديس اثناسيوس الرسولي:
"لأنَّه هكذا
بازدياد الجسد في القامة كان يزداد فيه ظهور اللاهوت أيضًا ويظهر للكل أنَّ الجسد
هو هيكل اللَّه، وأنَّ اللَّه كان في الجسد ... وكما قلنا، أنَّه تألَّم بالجسد،
وجاع بالجسد، وتعب بالجسد، هكذا يكون معقولاً أيضًا أنْ يُقال أنَّه تقدَّم بالجسد
لأنَّ أيّ تقدُّم مثل الذي شرحناه لا يمكن أنْ يحدث للكلمة بدون الجسد".[2]
ويقول القديس كيرلس السكندري:
"لو أنَّه أبان وهو
طفل من الحكمة ما يليق به كإنسان، لظهر للجميع كأنه كائن غريب شاذ عن الجميع.
ولكنه كان يتدرَّج في إظهار حكمته بالنسبة إلي تقدُّمه في العمر بحسب الجسد، فيظهر
كأنَّه امتلأ حكمة بنسبة ظهور الحكمة الكامنة فيه كأنها تبرز بدرجة ملائمة لنمو
الجسد... فهو يعرف من جهة اللاهوت لأنَّه حكمة الآب ولكنه إذ أخضع نفسه إلي القياس
الناسوتي إتّخذ لنفسه بحسب التدبير ذلك القياس. ولم يكنْ كما قلت سابقًا يجهل
شيئًا لكن يعلم كلّ شيء كما يعلم الآب.[3]
ويكتب يوحنا الدمشقي أن المسيح كلما ترعرع كشف الحكمة
المكنونة فيه، لانه اختص لنفسه في كل شيء ما هو لنا، فهو إله وإنسان معًا وكان
جسده يظهر حكمة الكلمة ويفيض بها للعالم.[4]
ونفس الأمر يذكره القديس جيروم الذي يقول: "أن
ناسوته كان يتلقى العلم من لاهوته".[5]
واستشهد بأية إشعياء النبي: "وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ
الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ
وَمَخَافَةِ الرَّبِّ." (إش 11: 2).
[1] انظر
أيضًا: "يَا رَبُّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ
جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي
ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي،
إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ
تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا
النُّورُ، رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ
تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا" (مز139).
[2] ضد
الآريوسيين 3: 51-53.
[3] الرد على
نسطوريوس، عن كتاب: مجموع الشرع الكنسي، الارشمندريت حنانيا إلياس ص 314
[4] المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، 3: 22.
[5] مواعظ على المزمور 61، مذكور في: التفسير المسيحي القديم
للكتاب المقدس، الإنجيل كما دونه لوقا (البلمند، 2007)، ص 110.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق