ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ (مت4: 1، لو4: 1، مر1: 12).
لقد أرشد الروح القدس يسوع في حياته الأرضية ، وقدم
نموذجًا لأتباع يسوع لكي يتم تمكينهم وقيادتهم بواسطة الروح القدس، فالمسيح هو
الرأس الجديد للبشرية، وآدم الجديد، وكاهن البشرية والمتحدث باسمها، لذا فكل ما
فعله يسوع وتم في أيام جسده حدث لكي نتبعه نحن أيضًا.. فالروح القدس بإرشاده يسوع
ارتاح في الطبيعة البشرية حيث صالح السمائيين بالأرضيين "وَلكِنَّ الْكُلَّ
مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا
خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ" (2 كو 5: 18).
الكلمة اليونانية
بيرازو- πειράζω والتي
تُرجِمَت بمعنى: "التجربة"، لا تعني الإغواء أو الشر، بل تعني الامتحان،
فالله يستخدم الظروف لامتحان شخصية الإنسان.
وهذه كانت غاية اقتياد الروح القدس له وفقاً لإرادة الله
الآب. قد تجرَّب المسيح بدلاً منا، فإن آدم الأول تجرَّب وسقط، وبسقوطه سقط الجنس
البشري، فلزم أن آدم الثاني يُجرَّب ليُظهر استحقاق كونه فادياً للبشر، يرفعهم من
هاوية ذلك السقوط. وقد جعل تجسد الابن
التجربة ممكنة. وجعلت نيابتهُ عنَّا ذلك ضروريًا. فليست التجربةُ ضعف، إنما الضعف
هو التسليم لها.[1]
لكن ليس آدم فقط، بل
بالأكثر تجربة بني إسرائيل في البرية، والمذكورة في سفر التثنية، والذي استشهد به
المسيح هُنا أكثر من مرة.[2]
وتأتي قيادة روح الله للمسيح للبرية لإن الامتحان هو من الله، كما حدث مع بني
إسرائيل، "وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا
سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ، لِكَيْ
يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ
لاَ؟" (تث 8: 2).[3]
فبالرغم من أن العدد أربعين يومًا يُمكن أن يُشير إلى
صوم موسى "وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا
وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً. فَكَتَبَ
عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ، الْكَلِمَاتِ الْعَشَرَ." (خر 34:
28)، "حِينَ صَعِدْتُ إِلَى الْجَبَلِ لِكَيْ آخُذَ لَوْحَيِ الْحَجَرِ،
لَوْحَيِ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ، أَقَمْتُ فِي الْجَبَلِ
أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لاَ آكُلُ خُبْزًا وَلاَ أَشْرَبُ
مَاءً." (تث 9: 9). وصوم إيليا "فَقَامَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَسَارَ
بِقُوَّةِ تِلْكَ الأَكْلَةِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَى
جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ،" (1 مل 19: 8).[4]
إلا أنه يُشير بالأساس إلى تجربة إسرائيل في البرية أربعين سنة، وليس عجيبًا على
الفكر اليهودي أن تمثل السنة يومًا واحدًا، فقد جاء في سفر العدد: "كَعَدَدِ
الأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ
ابْتِعَادِي." (عد 14: 34)، وأيضًا في حزقيال: "فَتَحْمِلَ إِثْمَ
بَيْتِ يَهُوذَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ عِوَضًا
عَنْ سَنَةٍ." (حز 4: 6).[5]
ولم ينقاد المسيح إلى البرية[6] من
الروح القدس، كمن ينقاد وهو لا يعلم، أو كابن يقوده أبوه، بل إنه انقاد للبرية
بإرادته الحرة الكاملة لكي يهزم إبليس هناك،[7]
فلم يكن ممكنًا أن يقوم إبليس بالمباردة مع ابن الله، لذا ذهب الابن إليه ليخوض
التجربة معه ويهزمه.[8]
وقد غلب إبليس فيما سبق الطبيعة البشرية عندما أغوى آدم، والآن هزمته تلك الطبيعة
ذاتها من خلال المسيح، حين حضر الله وسكن في طبيعتنا البشرية، استطعنا به أن نهزم
إبليس.. فالرب هزمه لحسابنا نحن.[9]
[1] وليم
إيدي (الدكتور)، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، إنجيل متى (بيروت: 1973)، ص 26.
[2] خاصة
الأصحاحان السادس والثامن من التثنية، وهما اللذان يتحدثان عن تجربة بني إسرائيل
في البرية.
[3] Donald A. Hagner,
Word Biblical Commentary: Matthew 1-13, Word Biblical Commentary (Dallas: Word,
Incorporated, 2002). 63.
[4] نشير
معظم هذه النصوص إلى أهمية الصوم قبل بدء الخدمة، وهكذا أيضًا فعل يسوع كمثال لنا،
أنه صام قبل بدء خدمته الفعلية وبدء الكرازة بالانجيل. كما يذهب البعض إلى أن يسوع
هُنا هو موسى الجديد الذي أتى بالعهد الجديد والتشريع الجديد.
[5] Donald A. Hagner,
Word Biblical Commentary: Matthew 1-13, Word Biblical Commentary (Dallas: Word,
Incorporated, 2002). 64.
[6] بحسب الفكر اليهودي فإن البرية تشير إلى أماكن حضور
الشيطان، مثلها مثل المقابر والحمامات العامة، لذا فإنه يتبادر إلى ذهن القاريء أن
يسوع هُنا ذهب ليحارب الشيطان في عقر داره.
Craig S. Keener and InterVarsity
Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament (Downers Grove, Ill.:
InterVarsity Press, 1993). Mk 1:12.
[7] "أَمَّا
يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ
يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ" (لو 4: 1). فالمسيح كان ممتلئًا من
الروح القدس ولم يكن مُجرد مُنقاد له.
[8] أحد الآباء اليونان في تعليقه على إنجيل متى، عظة 5 (PG, 56: 661).
[9] هيلاري أسقف بواتييه، تعليقات على متى 3: 1- 2 (SC 254: 110-14).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق