كم اشتاق أن تكونوا مُتيقنين، وليس مُتيقنين
فقط، بل بفهم، لا تظنوا أني أقصد الإيمان العاري والعقيم، بل أقصد الإيمان بفهم
وحب.
القديس يوحنا ذهبي الفم.[1]
المسيحية لا
تطلب إيمانًا أعمى، بل أن التعقل ومعرفة الله بالحق متأصل في جذور الإيمان المسيحي،
فمنذ العهد القديم والرب يدعو الشعب لأن يتعقلوا طرقهم ويعرفوا إيمانهم، قائلاً:
"لو عقلوا لفطنوا" (تث32: 29)، "ويا جهلاء متى تعقلون" (مز94:
8)، "من كان حكيمًا يحفظ هذا، ويتعقل مراحم الرب" (مز107: 43)، ويوصينا
الحكيم كاتب الأمثال قائلاً: "فالعقل يحفظك، والفهم ينصرك" (أم2: 11)،
ويناشدنا ابن سيراخ "في ذخائر الحكمة العقل، والعبادة عن معرفة" (سي1:
26)، ولذلك نجد ربنا يسوع قد حضّنا على المعرفة، إذ يقول: "وتعرفون الحق
والحق يُحرركم" (يو8: 32)، وأيضًا الوصية الكتابية القديمة التي قالها يسوع كالوصية
الأولى والعُظمى لنوال الخلاص، وهي: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك
ومن كل فكرك" (مت22: 37)، ويشيد بالمؤمن المُتعلم: "كُلُّ كَاتِبٍ
مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ
مِنْ كَنْزِهِ جُدُدًا وَعُتَقَاءَ" (مت13: 52) ويتحدث الكتاب عن أهل بيرية
الذين لم يقبلوا الرسالة اعتباطًا، بل فحصوا الكتب كل يوم ليتأكدوا من صحة
إيمانهم، وقد وصف عملهم هذا بالعمل الشريف (أع17: 11)، ويكتب بولس: "لأنني
عالمٌ بمن أمنت" (2تي1: 12)، وفي موضع آخر يوصي بولس تلميذه تيموثاوس قائلاً:
"أعكف على القراءة" (1تي4: 13).
إنَّ الله
منحنا ما نسمّيه العقل، ونحن نستخدم هذا
العقل لحلّ مسائل الرياضة والعلوم واللغات
والتجارة والعمارة وحلّ مشكلات الحياة. نستخدمه في كلّ المجالات، ولكن، حين نصل إلى المستوى الإيمانيّ، نجد من
يقول: "قف، لا تستخدم عقلك، إنّ في استخدامه خطرًا". لماذا؟ هل هُناك تناقض بين الإيمان
الذي يأتي من الله، والعقل الذي هو أيضًا من الله؟ هل نعتبر الإنسان الذي يتساءل
حول إيمانه مُخطئًا؟ أقـول: لا، وليس مسموحًا فقط
أن يستخدم العقل في مجال الإيمان والدين، بلّ إنَّ ذلك واجب ضروريّ وحتمي.[2] كما قال العالم
الشهير جاليليو قُبيل مُحاكمته:
"أني لا أشعر بأني مضطر إلى الإيمان بأن الله
الذي أمدنا بالإحساس والعقل والفكر، قصد بنا أن نضيع فرصة استخدامهما والانتفاع
بها".[3]
يُعتبر الاتساع الفكري الذي يتميز به الإيمان المسيحي من أعظم نقاط
قوته، ويمكن استخدامه بكل قوة في الدفاعيات.[4] فالاهتداء
إلى الإيمان يشبه الخروج من عالم “أليس في بلاد العجائب”، حيث يبدو كل شيء
كاريكاتيريًا وعبثيًا، والدخول إلى العالم الحقيقي الذي صنعه الله، ثم تبدأ بعد
ذلك رحلةٌ بهيجة لا نهائية لاستكشاف هذا العالم.[5]
لذا نجد
القديس كيرلس السكندري يكتب:
"ما أعجب إيمان الرسل القديسين، وما أقوى
طريقة اعترافهم، وما أحب وأحكم فهمهم. لأنهم ليسوا مثل بعض الجهلاء، أو مثل الذين
اعتادوا ان يصفوا كلمة المخلص بأنها صعبة، فرجعوا الى الخلف وسقطوا، بل بكامل
يقينهم قبلاً، قد دعوا الى الايمان، وهم مقتنعون بالحق أن معلمهم كان مملوءًا
بالكلمات المحيية، وأنه هو مُعلم التعاليم السماوية. ومثل هذا الإيمان لهو
إيمان وطيد الثبات، أمَّا الإيمان الذي ليس كذلك، فمن السهل رفضه بازدراء، إذ لا
أصل ثابت له، وسرعان ما ينمحي من ذهن الإنسان... لهذا وفي يقين الإيمان الكامل
يقول التلاميذ الحكماء جدًا إنهم يعرفون ومتأكدون أنه هو "المسيح ابن الله
الحي". وبحكمة شديدة ستجدون حديثهم مُحكمًا في ذلك القصد أيضًا. لأنهم
يقولون إنهم: "يؤمنون ويعرفون"، فيربطون الأمرين معاً. لأن على الانسان
أن يؤمن وأيضًا أن يفهم. وليس معنى أن الأمور الإلهية لابد من قبولها
بالإيمان، أن نبتعد تمامًا عن أي فحص لها، بل نحاول بالحري أن نبلغ إلى معرفة
معتدلة، كما يقول بولس "كما في مرآة كما في لغز" (1كو 12 : 12). وحسنًا
أنهم لم يقولوا أيضًا إنهم عرفوا أولاً ثم آمنوا، بل إذ يضعون الايمان أولاً،
ويلحقونه بالمعرفة، ولكن ليس قبل الإيمان، كما هو مكتوب "إن لم تؤمنوا لن
تفهموا" (اش 7 : 9س). لأن الإيمان البسيط قد سبق ووضع فينا، كنوع من الأساس،
ثم بُنيَّت المعرفة عليه فيما بعد وعلى درجات، وهي تأتي بنا إلى قامة إنسان بالغ
(أف4: 13) أي الذي في المسيح (الى قامة إنسان كامل وروحي)".[6]
بحسب تعليم القديس كيرلس السكندري، فإن الإيمان بالله لا يجب أن يخضع
تمامًا للمنطق العقلاني، فالمعجزات مثلاً لا يُمكن تفسيرها بالمنطق سوى بإرجاعها
إلى الله الكلي القدرة. لكن، على الرغم من أن الحجة لا تخلق قناعة، غيابها يضرب الإيمان في مقتل. فما يُثبَت، قد لا يُعتنق،
ولكن ما لا يستطيع أحد أن يدافع عنه سرعان ما يتخلى الناس عنه. وإن كانت الحجة العقلانية لا تخلق الإيمان، فهي تُحافظ على مناخ ملائم يسمح له بالنمو.[7] نعم الإيمان لا يخضع تمامًا للمنطق، لكن يُمكن
تفسير التعاليم والمبادئ الإيمانية بحُجج منطقية يقبلها العقل ويستنير بضيائها. وهذا
أيضًا ما قال به القديس يوحنا ذهبي الفم في شرحه لرسالة بولس الرسول إلى أهل
كولوسي، إذ يقول: "لإن الإيمان هو في الحقيقة بناء، ويحتاج إلى أساس متين
وتشييد مُحكم، لأنه لو لم يُبنى أحد على أساس متين سوف يهتز بناؤه، وحتى إن أسسه،
فإن لم يكن ثابتًا، فإنه لن يدوم".[8] فالعقل والتعقل هو
أساس الإيمان، وهو الذي يضبطه ويُدعمه، ويجعله إيمانًا راسخًا أبديًا.
وإظهار منطقية الإيمان لا يعني إثبات كل عنصر فيه، بل يعني القدرة
على إظهار أن الاعتقاد في مصداقية هذه العناصر وصحتها يقف على أسس سليمة. ومثال
ذلك تبيان أن الإيمان المسيحي يعطي معنى لملاحظاتنا وخبراتنا. ومن ثم، يمكن تشبيهه
بعدسة تضع كل شئ في البؤرة، أو بضوء يسمح لنا بالرؤية على مسافات أبعد وبشكل أوضح
مما تتيحه لنا قدرتنا العادية. فكما يقول
القديس بولس نحن نعرف الآن بعض المعرفة، ننظر كما في مرآة (انظر: 1كو12: 12)،
فمعرفة الله ليست من البساطة أن نُدركها بسهولة وكما يُتفق، بل تحتاج إلى البحث
الدؤوب المُخلص من جهة، ومن جهة أُخرى يقيننا من أن معرفتنا عن الله –كما عن كل
المواضيع الإيمانية- في هذه الحياة، هي جزئية ومحدودة، وكأننا ننظر في مرآة.
وقد أكدت هذه الفكرة الفيلسوفة والناشطة الاجتماعية الفرنسية
"سيمون فيّ-Simone Weil "،
وهي مفكرة يهودية آمنت بالمسيحية في شبابها. فقد استخلصت بعد إمعان النظر فيها
يتضمنه إيمانها الجديد من معانٍ أن الإيمان بالله ينير الواقع على نحو أفضل من
البدائل العلمانية الأخرى بكثير. وإن كانت طريقة تفكير بعينها قادرة على وضع
الأشياء في البؤرة أو إنارة ما هو مظلم وملتبس، فهذا يعد دليلاً على مصداقيتها.
إن أنرتُ كشافًا كهربائيًا في شارع مظلم، لن أحكم على قوته بالنظر إلى المصباح الموجود بداخله، بل
بعدد الأشياء التي يسلطه على الأجسام المظلمة. وقيّمة أي منهج ديني، أو روحي، بوجه عام، تقَيَّم بكمية
النور الذي يُسلِّطه على ما في هذا العالم من أمور.[9] إن
قدرة النظرية على إنارة الواقع ووضعه في بؤرة التركيز تُعتبر في حد ذاتها مقياسًا
مهمًا لمصداقيتها. وهنا ترى موضوعًا جوهريًا في الدفاعيات المسيحية، ألا وهو أن
الإيمان بصحة المسيحية له أسباب وجيهة، ومنها مدى قدرته على خلق معنى منطقي لما
نراه حولنا وبداخلنا. وقد علًّق "برايان لفتو
"Brian Leftow الفيلسوف
بجامعة أكسفورد على اختباره المسيحي الذي مكَّنه من رؤية الأشياء على حقيقتها
قائلاً:
"إن
كنت ترى الأشياء على حقيقتها من الموقع الذي تقف فيه، فأنت في
المكان الصحيح".[10]
فما من أحد يحب أن يعتنق إيمانًا غير منطقي. إلا أن بعض المسيحيين
يرجحون أنه مادام بولس يتحدث عن الإنجيل باعتباره نوعًا من “الجهالة” التي تخزي معرفة
العالَم وحكمته (كما في 1كو18:1 مثلاً) فلا داعي لاستخدام الوسائل العقلانية
للدفاع عن الإنجيل. إلا أنه من الواضح أن هذه النظرة تعكس خطأً في قراءة ما يشغل
بولس في كنيسة كورنثوس من ناحية، وفهمهِ لدور “العقل” في الحياة المسيحية من ناحية
أخرى.
لقد كانت المسائل التي تشغل بولس في كنيسة كورنثوس معقدة.[11] فالكنيسة كانت عرضة للتأثر بأشكال سابقة من الغنوصية التي كانت تقول
بأن الأفراد يخلصون عن طريق معرفة سرية باطنية لا تتاح إلا للقلة. وكان البعض في
كورنثوس يمجدون التحزلق الفكري ولم يكونوا مستعدين لقبول أي شئ يخلو منه أو أي نوع
آخر من المعرفة الثقافية. وبولس يرفض هذه الأفكار تمامًا ويصر أن الإنجيل لابد أن
يؤخذ كما هو حتى لو كان يتعارض مع الفكر الثقافي السائد والمقبول في كورنثوس. فهو
هنا يتحدى النظرية العلمانية للحكمة ولكنه لا يدعو للتخلي عن المنطق البشري.
وبولس يؤكد أننا نحن المسيحيين "لَنَا فِكرُ المَسِيح" (1كو2: 16)
مميزًا بينه وبين غيره من منهجيات الحكمة التي سادت كورنثوس قبل دخول المسيحية.
ويُعتبر "العقل المسيحي" تركيبة عقلية متميزة من حيث إنه طريقة تفكير
تتشكل وتزدهر بالإيمان المسيحي. فهو ليس سعيًا نحو الوصول إلى معرفة غريبة أو
باطنية، ولا حالة من الغرور الإكاديمي، ولا انتكاسًا إلى عقلانية حركة التنوير
التي سادت القرن الثامن عشر وفقدت مصداقيتها. ولكنه السماح لنور المسيح أن يشرق
على عقولنا حتى تتمكن قوة الله المغَيرة أن تجدد أذهاننا كما تجدد أرواحنا. إنه
النتيجة التي يستحثها الله ويبغيها ونحن نسعى لخدمته في هذا العالم.[12]
إنّ الإيمان المسيحي منطقي في الأساس، إلا أنه لا يعتمد في إثباته على
المنطق وحده، وهو ما ينطبق على كل الأشياء الجوهرية. ولكن الأجيال السابقة التي
استسلمت دون داعٍ لنوع من العقلانية المتطرفة، زعمت أننا لا يجب أن نؤمن إلا بما
له برهان مطلق. ولا يتبنى هذه النظرة حاليًا إلا فئة قليلة جدًا. في حين ترى
الأغلبية أن هذه العقلانية الشديدة تحصرنا في مساحة ضيقة من المعتقدات قد تكون
واضحة منطقيًا ولكنها قاصرة وجوديًا، لأنها تعجز عن تقديم أساس لحياة ذات معنى.
فالعقل أجنحته قصيرة كما قال الشاعر الإيطالي العظيم دانتي في القرن الرابع عشر.
فالقول بإن للإيمان حقلاً، وللعقل حقلاً آخر، وأن على العقل
أن يذعن لحكم الوحي، مقولة تحمل إمكانية الوقوع في التباس وتناقض، وتتجاهل أن
غايتي العقل والإيمان واحدة، وهي الوصول إلى الحقيقة. كذلك فمجال عملهما واحد وهو
حياة الإنسان. فالتمايز بين العقل والإيمان هو في طريقة العمل وليس في الغاية
النهائية. أقول التمايز لا التناقض، إذ أن الحقيقة لا يُمكن أن يكون لها وجهان
مُتناقضان.
فمن يدّعي أن العقل والعلم قد وصلا لمرحلة لم يعودا بعدها
في حاجة إلى الإيمان، بل هُناك من يتطرف ويدّعي أن الدين أفيون الشعوب ويجب
مقاومته، فهذه مقولات مرفوضة وتدل على جهل حقيقة الإنسان والحياة، فالحياة بحد
ذاتها هي عمل إيماني مُستمر، فالظاهرة الإيمانية بشكل عام هي ظاهرة حياتية.[13]
فللعقل والإيمان غاية أساسية، وهي إرواء ظمأ الإنسان
للحقيقة، فيُنير الإيمان طريق العقل بالسمو والقيمة والغاية، ويُنير العقل طريق
الإيمان بالمعرفة والتكامل والانسجام، فالاثنان يعملان معًا في خدمة حياة الإنسان.
فالعقل قوة تُحرر الإنسان والإيمان قوة تُنير طريقه.
إلا إن هذا لا يعني أن المعتقدات التي لا يمكن إثباتها بشكل قاطع غير
منطقية. ولكنه يعني أن الأدلة المتاحة قاصرة عن إثبات صحة نظريات الحياة أو
"الفلسفات الحياتية"، بما فيها الإلحاد. وفي النهاية يعتبر اختيارنا
لإحدى هذه الفلسفات فعلاً إيمانيًا. وعلينا أن ندرك أن كل الفلسفات الحياتية تقع
خارج نطاق البرهان المطلق. فنحن نؤمن أن الفلسفة الحياتية التي نتبناها هي الأفضل
في خلق معنى للأشياء ولكننا ندرك أن هذه المسألة بوجه عام تستعصي على البرهان
القاطع في هذا العالم.[14]
إنّ جاذبية الإيمان المسيحي لا يمكن أن تقتصر على منطقية عقائده.
ولكن المسيحية تستند بقوة على الخيال أيضًا. كما توضح كتابات “سي. إس. لويس.”
وعندما كان “لويس” شابًا وجد نفسه يتوق إلى عالم له معنى، يشتعل حبًا، ويفيض
جمالاً، ولكنه اقتنع أن هذا العالم لم ولن يوجد: “كنت أؤمن أن كل ما أحبه تقريبًا
وَهم، وتقريبًا كل ما آمنت بأنه حقيقي رأيته منفرًا وبلا معنى”.[15] لقد أخبره خياله بوجود عالم أفضل، ولكن عقله
أخبره أنه كلام فارغ. فلم يجد أمامه خيارًا سوى مواجهة عالم مجدب مجرد من المشاعر،
ومواجهة وجوده الخالي من أي معنى.
وأخيرًا اكتشف “لويس” عقلانية الإيمان المسيحي، إلا أن انجذابه
للإيمان كان سببه أن الإنجيل يقدم معنى، وليس لأنه يُعبر عن افتراضات صحيحة. وقد
علق “لويس” على هذا قائلاً:
“إن
العقل هو الأداة الطبيعية للحق، ولكن الخيال هو أداة المعنى”.[16]
فجاذبية الإيمان المسيحي عند البعض تتمثل في جمال عبادته، أو في
قدرته على التلامس مع المشاعر الإنسانية، أو في نتائجه الأخلاقية.[17]
مفهوم الإيمان في المسيحية أعمق بكثير من مجرد الاعتقاد بصحة بعض
الأفكار. لأن الإيمان عند المسيحيين ليس معرفيًا “أنا أعتقد أنا هذا صواب” فحسب،
ولكنه في الوقت نفسه يحمل بُعدًا علائقيًا ووجوديًا “أنا اثق في هذا الشخص”.
فالأمر لا يتوقف عند الاعتقاد بوجود الله، بل يمتد إلى اكتشاف حكمة هذا الإله
ومحبته وصلاحه، مما ينتج عنه قرار إرادي بتسليم الحياة لهذا الإله. وهو ما عبَّر
عنه “سي. إس. لويس” عندما قال:
“إنك
لا تواجه حجة تطالبك بأن توافق عليها، بل شخصًا يطالبك بأن تثق فيه”.[18]
ولذا، فالإيمان يعني الثقة في شخص، وليس مجرد الاعتقاد في وجوده. وقد
أشار الكاتب الدنماركي والفيلسوف الوجودي “سورين كيركجارد” إلى هذه الفكرة عندما أكَّد أن الإيمان
الحقيقي بالله هو “قفزة نوعية” من وجود إلى وجود مختلف. فالإيمان المسيحي ليس مجرد
إضافة بند الايمان بالله لما نختزنه من أفكار عن العالم. ولكنه يعني إدراك واعتناق
“النظام الوجودي.[19]
أعتقد إن اللاهوت الأرثوذكسي يتفق تمامًا مع
ما جاء به الفيلسوف “سورين كيركيجارد”، نعم، فالإيمان بالله ليس على الإطلاق نوع
من اليقين المنطقي الذي تصل إليه الهندسة الإقليدية، فليس الله استنتاجًا نصل إليه
بعملية عقلية أو حلاً لمسألة رياضية، ولكن الدخول إلى سرّ الله يكون بالمحبة
الشخصية العلائقية معه.[20]
اللاهوتي الأرثوذكسي كاليستوس وير، الذي سنأتي على ذكره مرارًا في
هذا الكتاب، يتحدث عن الإيمان ويقول:
"إبراهيم
يرتحل من بيته المألوف إإلى بلد مجهول، وموسى يتقدم من النور إلى الظلمة. وهذا ما
يحدث لكل من يتّبع الطريق الروحي، إننا نخرج من المعلوم إلى المجهول، ونتقدم من
النور إلى الظلام، ونحن لا نتقدم هكذا ببساطة من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة، بل
نحن نخرج من نور المعرفة الجزئية إلى معرفة أعظم، تلك المعرفة الأعمق التي لا
يُمكن وصفها إلاّ بأنها "ظُلمة عدم المعرفة"! ومثلما فعل سُقراط، نبدأ
نحن في إدراك ضآلة ما نفهمه، ونعرف أن المسيحية ليست مُهمتها أن تُعطي إجابات سهلة
عن كل سؤال، بل تجعلنا على الدوام، نعي وجود سرّ. فليس الله موضوع معرفتنا، بقدر
ما هو سبب تعجبنا! وبحسب المرنم في المزمور، القائل: "أيها الرب ربنا، ما
أعجب اسمك في الأرض كلها" (مز8: 1)، وهذا ما يُعلنه القديس غريغوريوس النيصي
إذ يقول: "اسم الله ليس معروف، هو اسم يُتعجب منه".
واللاهوتي الروسي بول إفدوكيموف
يكتب:
"إنّ
معنى كلمة سرّ ترجمة للكلمة اليونانية μυστηριον والتي يُقصد
بها الأمر المخفي أو المحجوب، الأمر الذي لا يستطيع العقل إدراك كنه حقيقته
الكاملة، فالحقيقة ليست فقط فيما يظهر للعقل، فهُناك أمور ليست ضد العقل، بل تفوق
العقل والمادة، فغالبًا ما تكون الأمور الأعمق هي ما قد حُجِبت، واستُبدلت
بالعلامة والرمز، التساؤل والتأمل، الحيرة والدهشة، وكثيرًا ما تدعو إلى الصمت".[21]
فالإيمان هو قفزة في الظلام، نحو المُحتجب، وغير المرئي، وغير
المُدرك، وغير المحدود. تلك التعريفات السلبية التي نصف بها الله، لأن عقولنا لا
تستطيع أن تضع وصفًا لله على نحو إيجابي، ويكون وصفًا سليمًا تمامًا. فنُشدان
المعرفة التامة العقلية، والاعتماد عليها فقط، فيما يخص الله، يُعد دربًا من دروب
الخبل!
هذا لأنه لا يُمكن الاعتماد على العقل بشكل كُلي، فالأشياء التي رفض
العقل تصيدقها، ثم قبلها في نهاية الأمر، لهو عدد كبير جدًا. كما أنّنا، ونحن في
مرحلة الشباب، كُنّا نعتقد في الكثير من الأشياء أنها حقيقة تبعًا لقواعد التفكير
السليم، بينما وجدنا أن المعرفة، التي تنتج من خبرات الحياة، واللقاء مع الحقيقة،
لهو أمر مُختلف تمامًا، وبعيد كل البعد عن تلك الدائرة الضيقة من التفكير، التي
سبق ووضعت نظامًا أنيقًا في كل شئ.[22]
على إثر هذا، نشب جدال عنيف في إنجلترا، حين غشى كلٍ من ليبنتز وكانط
وهيجل، جميع طرق المعرفة الحسية بالشكوك، وأيدوا مزاعم العقل وحده، بحسبانه السيد
في كل عملية جسدية أُخرى، والحاكم في شهادة الحس. كما ازدرى لوك ومل، بكل عقل
اجترأ أن يطلب الحقائق دون أن تكون في متناول البصر واللمس والذوق والشم والسمع.
لكن، كانط قد قال:
"لا
ريب أن الرياضيات مُستقلة عن الاحساس، وأنها صادقة أوليًا، أي قبل التجربة".
ولكن، ما فائدة المعاني بغير صلتها في التجربة، أو نفعها في الحياة!
وفي الحقيقة، فإن الإحساس هو معيار الحقيقة، والعقل هو مُكتشفها. نقصد بالإحساس،
تلك الطاقة الداخلية التي توجد لدى الكائنات الحية، ولا سيّما البشر، والتي تتكون
من أجزاء مُتناثرة من الجمال والقُبح، من البيئة والفلسفة والحكمة والأخلاق، هي
مكونات تجتمع معًا فتنشئ الحس، وترقيه، وتجعله فاعلاً. هذا أشبه بالإحساس بجمال
الموسيقى، بالرغم من أننا لا نستطيع عقليًا أن نصف هذا الشعور، أو أن نصف الموسيقى
في تعبيرات نظامية مفهومة باللغة.
ثلاثة مشكلات تنتج عن الاعتماد على العقل فقط لتقديم الحجج
فمما يؤسف له أن تأثير حركة التنوير على الثقافة الغربية لم يختفِ،
ولا سيما في الإصرار على تقديم براهين تثبت صحة العقائد، مما نتج عنه تقديم
الدفاعيات المسيحية باعتبارها مجرد بناء حجج فعالة تهدف لإقناع الناس بصحة الإيمان
المسيحي. إلا أن الخطورة في ذلك أنه قد يؤدي إلى إظهار المسيحية على أنها مجموعة
من الحقائق الجامدة والأفكار المجردة. ولذلك، فإن هذا المنهج ينطوي على ثلاث
صعوبات.
أولها، أنه ليس مؤسسًا على الكتاب المقدس كما يجب. فالحق،
ولاسيما في العهد
القديم، يركز في المقام الأول على المصداقية والثقة. والقضية الأساسية في
الدفاعيات تتلخص في أن الله هو قاعدة أمان، وأنه أساس آمن تُبنى عليه حياة
الإيمان. أي أن “الإله الحقيقي” ليس مجرد إله موجود، بل إله يمكن الاعتماد عليه.
والنظرة العقلانية التي تعتبر الحق هو كل افتراض تَثبت صحته تستبعد النظرة
الكتابية التي تعتبر الحق مفهومًا علاقاتيًا.
والمشكلة الثانية أن جاذبية الإيمان المسيحي لا يمكن أن تقتصر على
منطقية عقائده. ولكن المسيحية تستند بقوة على الخيال أيضًا. كما توضح كتابات “سي.
إس. لويس.” وعندما كان “لويس” شابًا وجد نفسه يتوق إلى عالم له معنى، يشتعل حبًا،
ويفيض جمالاً، ولكنه اقتنع أن هذا العالم لم ولن يوجد:
"كنت
أؤمن أن كل ما أحبه تقريبًا وَهم، وتقريبًا كل ما آمنت بأنه حقيقي رأيته منفرًا
وبلا معنى".[23]
لقد أخبره خياله بوجود عالم أفضل، ولكن عقله أخبره أنه كلام فارغ.
فلم يجد أمامه خيارًا سوى مواجهة عالم مجدب مجرد من المشاعر، ومواجهة وجوده الخالي
من أي معنى.
أما ثالث هذه المشكلات فهي أن المنهج العقلاني يقوم على نظرة حداثية.
إلا أنه في معظم أنحاء العالم الغربي اليوم، حل اتجاه ما بعد الحداثة مكان
الحداثة، مما يقلب الكثير من المعتقدات المحورية للحداثة رأسًا على عقب. فالاستناد
إلى الصفة العقلانية الأصيلة في الإيمان ينجح في إطار حداثي، ولكن في أطر ثقافية
أخرى، قد يفشل هذا المنهج نفسه الذي يقوم على الحجة والمنطق فشلاً ذريعًا في
التلامس مع التطلعات والأفكار الثقافية المسبقة. وكما سنرى في قسم لاحق من هذا
الفصل، أن ميل ما بعد الحداثة للقَصص أكثر منه للحجة يتيح فرصًا عظيمة للدفاعيات
الكتابية نظرًا لأن الأشكال القصصية تملأ صفحات الوحي.
يقول كاتب سفر أيوب عن الله: "أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ، أَمْ
إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟٨هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ،
فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا
تَدْرِي؟٩أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ، وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْر" (أي11: 7- 9)، "هُوَذَا اللهُ عَظِيمٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ
وَعَدَدُ سِنِيهِ لاَ يُفْحَصُ" (أي36: 26)، ودور الإيمان هو يقين بهذا
الإله، الذي لا يُمكن فحصه وإدراكه إدراكًا كاملاً، لا يقين بقول الفم فقط، بل
بإحساس داخلي، ناتج عن علاقة حقيقية بالله، شعور بوجوده، وتدخلاته، وتعاملاته مع
قلب المؤمن. وهذه أمور لا يُمكن نقلها بالعقل لغير المؤمن، فغير المؤمن عادة لا
يحتاج إلى براهين عقلية في هذه الأمور، بل إلى النور الإلهي الذي يثغيره ويُجدده
ويُنير عيني ذهنه لمعرفة الله. فعرفة الله عمل إلهي، كما يقول المسيح (يو6: 44).
لذا نجد الكاردينال جوزيف راتسنجر "البابا بندكت
لاحقًا"، يكتب:
"ليست
العقيدة هي فعل تلاوة نصوص، ولا عملية قبول نظريات تتعلق بأمور نجهل كل شئ عنها،
ومع ذلك نجهر بها كما لو كنّا مُتأكدين من حقيقتها، إنما العقيدة تحوّل وجودي
يحرزه الإنسان، هي فعل اهتداء، فعل انقلاب، يُمكن التعبير عن معنى كلمة أؤمن
بـ"استسلم لـ"، فمن شأن العقيدة أن تنسج باستمرار بنية جديدة لحياة
الإنسان".[24]
ولكننا مع ذلك، ما زلنا نؤكد منطقية الإيمان ونشدد عليها، دون أن
نحصره فيما يمكن للمنطق أن يبرهن عليه بشكل قاطع. فأسئلة الحياة الجوهرية تتجاوز
حدود العقل بكثير، ومن هذه الأسئلة: من أنا؟ هل أنا مهم فعلاً؟ لماذا أنا هنا؟ هل
يمكنني أن أُحدث اختلافًا؟[25]
وهي أسئلة لا يمكن للعلم ولا للمنطق البشري الإجابة عنها. ومع ذلك،
إن لم يجد المرء إجابات لهذه الأسئلة، تصبح حياته بلا معنى. وعلينا نحن المُدافعين
أن نبين أن الإيمان المسيحي يقدم إجابات لأسئلة الحياة الجوهرية، وهي إجابات
منطقية من ناحية، وناجحة على المستوى العملي من ناحية أخرى. فكما هو مهم أن نُظهر
أن المسيحية صحيحة، مهم أحيانًا أن نُظهر أنها حقيقية.[26]
ومن النتائج الهامة لتأثير
العقلانية على الدفاعيات المسيحية التقليل من أهمية كل مايُنظر إليه باعتباره "غير عقلاني" أو "غير منطقي" في الفكر المسيحي، مثل تعليم
الثالوث. ولم يدافع عن هذه الفكرة في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر سوى القليل
من المدافعين المسيحيين، إيمانًا منهم أنه يضع العقلانية المتشددة التي سادت عصرهم
في موقف حرج.
ومن المشكلات التي تنشأ هنا أن المناهج العقلانية في الدفاعيات تميل
إلى الحد من العنصر السري الباطني في الايمان المسيحي لكي تُقَرِّب المسيحية إلى
العقل. ولكن الانجيل يحوي بعض الأفكار الإلهية التي تتجاوز قدرة العقل البشري. حتى
إن المدافعين، حتى يكسبوا المجادلة مع خصمهم، أحيانًا ما يستعيرون فرضيات الخصم.
وهكذا يمكن أن تتحول ميزة تكتيكية إلى ضرر استراتيجي. فخطورة النماذج الدفاعية
التي تتعامل مع المذهب العقلاني أنها غالبًا ما ينتهي بها الحال إلى استيراد
العقلانية إلى المسيحية، بدلاً من تصدير الإنجيل إلى الثقافة العقلانية.[27]
فيمكن توضيح منطقية الإيمان
المسيحي بطريقتين مختلفتين، ولكنهما تكملان بعضهما البعض:
بإظهار القاعدة القوية من الحجج
والأدلة المؤيِّدة للعقائد الجوهرية في المسيحية: يتضمن هذا المنهج بناء حجج
عقلانية تثبت وجود الله، أو حجج تاريخية تثبت قيامة يسوع الناصري. في هذا المنهج
يتم الدفاع بشكل مباشر عن مصداقية العناصر الأساسية للأمان المسيحي.
بإظهار أنه إذا كان الإيمان
المسيحي صحيحًا، فهو يخلق للواقع معنى أعمق وأكثر منطقية من البدائل الأخرى: تتفوق
المسيحية على البدائل الاخرى من حيث توافقها مع ملاحظاتنا وخبرتنا على نحو أكثر
منطقية. وهي بذلك تشبه اختبار النظريات العلمية للتأكد من اتساقها مع الملاحظات أو
قدرتها على تفسير هذه الملاحظات.
هذان المنهجان لا يلغي أحدهما
الآخر، بل يمكن استخدامها معًا في الدفاعيات.[28]
[1] القديس يوحنا
ذهبي الفم، شرح رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي (القاهرة: مكتبة المحبة،
2009)، العظة الخامسة، ص 99.
[2] الأب هنري بولاد اليسوعي، منطق الثالوث، ص 9، 10.
[3] Galileo, Discoveries and Opinions, 183.
[4] الدفاعيات المُجردة، 71.
[5] Letter of 1949 to Edward Sackville-West, cited
in Michael de-la-Noy, Eddy: The Life of Edward Sackville-West (London:
Bodley Head, 1988), 237.
[6] شرح إنجيل يوحنا، للقديس كيرلس
السكندري، ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد وآخرون (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات
الآبائية، 2009)، ص 444، 445.
[7] Austin Farrer, “The Christian
Apologist,” Light on C. S. Lewis, ed. Jocelyn Gibb (London:
Geoffrey Bles, 1965), 26.
[8] شرح رسالة كولوسي، مرجع سابق، ص 110.
[9] Simone Weil, First and Last Notebooks London:
Oxford University Press, 1970), 147.
[10] Brian Leftow, “From Jerusalem to Athens,” God and the
Philosophers, ed. Thomas V. Morris (Oxford: Oxford University Press,
1994), 191.
[11] See especially Walter Schmithals, The Theology of the
First Christians (Louisville: Westminster John Knox, 1997),
122-23, 146-51. See further Raymond Pickett, The Cross in Corinth: The Social Significance of
the Death of Jesus (Sheffield, England:
Sheffield Academic Press, 1997), 213-16; and Edward Adams and David G. Horrell,
esd., Christianity at Corinth: The Quest for the Pauline Church (Louisville:
Westminster John Knox, 2004).
[12] الدفاعيات المجردة، ص 91.
[13] ميشيل أسود (الدكتور)،
خواطر بين العقل والإيمان (بيروت: دار المشرق، 2001)، ص 6- 8.
[14] الدفاعيات المجردة، ص 94.
[15] C. S. Lewis, Surprised by Joy (London:
HarperCollins, 2002), 138.
[16] C. S. Lewis, Rehabilitations and Other Essays (London:
Oxford University Press, 1939), 158.
[17] الدفاعيات المُجردة، ص 137.
[18] C. S. Lewis, “On Obstinancy in Belief,” C.
S. Essay Collection.
[19] الدفاعيات المُجردة، ص 77.
[20] انظر: كاليستوس وير، الطريق
الأرثوذكسي، ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد (القاهرة: بيت التكريس لخدمة الكرازة،
2014)، ص 20، 21.
[21] P.
Evdokimov, L’Orthodoxie (Parise: Theophanie, 1979), P. 47- 56.
[22] انظر: ويل ديورانت،
مباهج الفلسفة، الجزء الأول، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني (القاهرة: المركز القومي
للترجمة، 2015)، ص 34.
[23] C. S. Lewis, Surprised by Joy (London:
HarperCollins, 2002), 138.
[24] جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي، ترجمة د. نبيل الخوري
(بيروت: منشورات المكتبة البولسية، 1994)، ص 52.
[25] See Roy Baumeister, Meanings of Life (New York:
Guilford Press, 1991). Baumeister’s analysis of the importance of questions of
identity, value, purpose, and agency is of major importance to Christian
apologetics.
[26] الدفاعيات المجردة، 137: 138.
[27] الدفاعيات المُجردة، ص
30، 31.
[28] الدفاعيات المُجردة، ص 72، 73.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق