واضح لكل مَنْ يدرس الإنجيل أن تسمية
المسيح بابن الله تغطِّي الإنجيل كله، ليس من واقع تجسُّده وتأنسه وظهوره كإنسان،
ولكن من جهة وجوده السابق على تجسُّده وبنوع أعمق.
وأول ما يثيره لقب “ابن
الله” بالنسبة للمسيح في إحساسنا هو تَفرُّده من جهة عدم التشابه بينه
وبين بقية كل البشر، بل ويثير فينا الإحساس بالانفصال والتميُّز الفائق عن كل كائن
آخر في السماء وفي الأرض ما خلا الله أبيه!
فهذا اللقب “ابن الله” يحدِّد في
الحال تفرُّده المطلق عن كل خليقة وكل كيان آخر غير الله، كما يشير بقوة إلى نوع
الطبيعة الإلهية التي له، في تفرُّدها، غير المنطوق بها ولا مقترب إليها، غير
المخلوقة وغير الزائلة.
وإمعاناً في تخصُّص لقب “الابن” لله،
أعطت الأسفار المقدَّسة([1]) صفة أخرى مزادة بالوحي الإلهي للأهمية الفائقة وللتأكيد والتخصيص والشرح
العميق لمدى تفرُّد صفة الابن لله واختلافها اختلافاً جذرياً عن استخداماتها الأخرى بالنسبة للمخلوقات
عامة، وهي صفة “وحيد الجنس ، التي تفيد “البنوَّة
الوحيدة” أو “الابن الوحيد التخصص” وهي تشير مباشرة إلى
طبيعته الإلهية، وهكذا تعطي صفة المونوجانيس للقب الابن التخصُّص والتفرُّد المطلق
(only-begotten)، لتبعد مفهوم البنوَّة
في الله عن كل مفهوم آخر لكلمة البنوَّة العامة في كافة الخليقة.
كذلك وبسبب ذكر صفة “الابن” للمسيح في مواقف كثيرة في الأسفار:
+ «هذا هو ابني الحبيب
الذي به سررت.» (مت 17:3)
+ «تعيَّن ابن الله بقوة
من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو 4:1)
+ «أنت ابني أنا
اليوم ولدتُكَ.» (عب 5:5، أع 33:13، مز 7:2)
لذلك جاءت صفة “وحيد الجنس” لترفع
مفهوم لقب “ابن الله” فوق هذه الحوادث كلها وهذه المواقف الزمانية كلها بكل عظمتها
وثقلها الروحي ومنفعتها.
فالمسيح ليس “ابناً لله” لأنه وُلد
من العذراء ومن الروح القدس، ولا لأنه قام من الأموات بقوة الله، ولا لأنه فدى كل
الجنس البشري، ولا لأي سبب أو علة أخرى؛ بل هو “ابن الله” لأنه “ابن الله” في
بنوَّة فريدة من نوعها إلهية فائقة وذات طبيعة إلهية فائقة. كما جاءت صفة
“المونوجانيس” لتفيد أن كل ما للآب هو للابن بسبب تخصُّص علاقة الابن بالآب
تخصُّصاً جوهريا يفيد التساوي الجوهري بين الآب والابن، وهكذا ينتهي هذا التساوي
بحتمية وحدة التكريم والعبادة أي لكي يُعبَد الابن والآب معاً بغير افتراق ولا
تفضيل.
والإنجيل يؤكِّد لنا هذا في معرض شرح مدلول لقب ابن الله عملياً،
ويستطرد من هذا ليكشف لنا الأعماق السرية القائمة بين الآب والابن ويخرج من هذا
ليؤكِّد ألوهة الابن ومساواته للآب في الكرامة وبالتالي العبادة هكذا:
+ «فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون
أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه، معادلاً نفسه
بالله. فأجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه
شيئاً إلاَّ ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك. لأن الآب
يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله، وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجَّبوا أنتم،
لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي مَنْ يشاء. لأن الآب
لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، لكي يُكرم الجميع الابن كما يكرمون
الآب. مَنْ لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله.
الحق الحق أقول لكم: إن مَنْ يسمع
كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من
الموت إلى الحياة. الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن، حين يسمع الأموات
صوت ابن الله، والسامعون يحيون. لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى
الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن
الإنسان.» (يو 5: 18-27)
هذه الآيات القوية الواضحة المتلاحقة
في إنجيل القديس يوحنا كانت هي حجر الأساس الذي بنت عليه الكنيسة الأُولى، وبالأخص
كنيسة الإسكندرية، كل مفهومها اللاهوتي من جهة علاقة الآب بالابن في وحدة
الكرامة والمجد والعبادة. وليعلم القارئ أن كنيسة الإسكندرية كان محور
لاهوتها وأساسه إنجيل يوحنا، فنشأت كنيسة البتولية والنسك والحب والأسرار والهيام
المطلق بعبادة الآب والابن والروح القدس على مستوى التسبيح والتمجيد وسهر الليالي،
فكنيسة الإسكندرية هي أول من مَارَس وأول مَنْ أذاع سهر الليل كله([2]) في تسبيح الثالوث وتحويل اللاهوت إلى
مديح مطرب على مستوى الشعب كله والعذارى!
وقد أدرك آباء الكنيسة الأوائل مدى إمكانية الشطط في فهم مدلول كلمة
الابن والآب في اللاهوت، لذلك لم يتركوا الشعب دون توجيه وتحذير. فالقديس
غريغوريوس الثاؤلوغس يحذر:
[لا تنشغل في تأملك في كيفية ميلاد
(تولد) (الابن من الآب)، لأنه هذا ليس أمراً في جانب الأمان، فتكريم هذه الحقائق التعليمية ينبغي أن يكون في صمت، لأنه أمر عظيم
وفائق أن تدرَك الحقيقة والكيفية، فنحن لا نعرف إن كانت الملائكة
نفسها تدرك هذا فكم بالأقل نحن؟]([3])
والقديس باسيليوس يقول:
[لا تجروا وراء فحص غير المفحوص،
فأنت لن تبلغ كشفه ... فإذا لم ترعوِ واخترت العناد فسوف يسخر الناس منك أو بالحري
يبكون على جسارتك ... آمن فقط بالمكتوب ولا تجرِ وراء ما لم يُكتب لك.]([4])
وكثيراً ما حذَّر القديس أثناسيوس طريقة الحوار والملاججة في شئون
اللاهوت:
[إن هؤلاء الذين يناظرون ويتباحثون
في أين يكون الله وكيف يكون الله وبأي طبيعة يقوم الآب؟ مثل هذه التساؤلات تُعتبر
لا دينية ولن تزيد الإنسان إلاَّ جهالة في ما يختص بالله، كذلك فإنه يخرج على
القانون كلُّ مَنْ يجازف في فحص كيفية ولادة ابن الله.]([5])
ولكن ليس هذا معناه أن نكف عن دراسة
الكتاب وأقوال الآباء وفهم هذه الحقائق التي كانت شغل الآباء الشاغل وموضوع تأملات
القديسين وهذيذهم وتسبيحهم وأشعارهم. ولكن المحظور هو الفحص العقلي للأمور
اللاهوتية التي لم يكشف الوحي عن تفاصيلها.
ولنا شهادات مبكِّرة جدًّا من آباء الكنيسة الأوائل عن إيمانهم
وإدراكهم لابن الله:
[إن الابن الكلي الكمال مولود
من الآب الكلي الكمال.]([6]) (كليمندس الإسكندري)
[إن كان الرب يقول: «كل ما
للآب فهو لي» فإن كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون للابن كل صفات
الآب، فعندما نقرأ أن الله كلي القدرة والعلو وأنه إله القوات وملك
إسرائيل ويهوه، فانظر أيضاً في هذه الصفات لماذا لا تكون أيضاً للابن. لأنه
يكون من حق الابن أن يُدعى الإله الكلي القدرة إذ هو كلمة الإله الكلي القدرة.]([7]) (ترتليان)
وقد قدم الآباء تفاسيرهم بكل خشوع
ووقار في ما يختص بالعلاقة الكلية التساوي في اللاهوت بين الابن والآب. وبعضهم
التزم بالاصطلاحات التي جاءت في الأسفار، وبعضهم أضاف اصطلاحات أخرى للتوضيح،
ولكنهم لم يركِّزوا على كيفية وجود الابن في الآب.
وفي هذا يقدِّم لنا القديس أثناسيوس صورة واضحة عن الفكر اللاهوتي
الناضج والمتكامل في الكنيسة في القرن الرابع هكذا:
[وإن كانت توجد في الثالوث
هذه المساواة وهذا الاتحاد فمن الذي يستطيع أن يفصل الابن عن الآب؟ أو
يفصل الروح القدس عن الابن؟ أو عن الآب نفسه؟ أو مَنْ ذا الذي تبلغ به الدرجة أن
يقول إن الثالوث غير متماثل أو أن جوهر الابن غريب عن جوهر الآب؟ أو
أن الروح القدس غريب عن الابن، أو يسأل كيف يمكن أن تكون هذه الأمور؟
... أو كيف يُقال إن الابن فينا
عندما يكون الروح القدس فينا؟ ... فليفصل أولاً شعاع النور عن النور أو
فليفصل الحكمة عن الحكيم ويدلُّنا أولاً كيف يكون هذا؟
فإن كان لا يمكن إتمام هذا لكان
بالأولى من عدم التقوى أن يوجِّه
هؤلاء مثل هذه الأسئلة عن الله. لأن التقليد لا يعلن لنا اللاهوت بإيضاحات كلامية
بل بالإيمان. واستخدام العقل يلزم أن يكون بروح التقوى والوقار، لأن
بولس الرسول قد أذاع إنجيل صليب المخلِّص كما قال: «لا بكلام الحكمة، بل ببرهان
الروح والقوة» (1كو 4:2).]([8])
ولقد قدَّم سفر العبرانيين أول
محاولة لتفسير وشرح علاقة الآب بالابن: «الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره.» (عب 3:1)
ومن هنا انطلق جميع الآباء منذ البدء في وصف
علاقة الابن بالآب على أساس علاقة البهاء (الشعاع) بالمجد الذي
يوحي بصلة مماثلة هي صلة الشعاع بالنور. وإليك كلام العلاَّمة
ترتليان (سنة 160-220م):
[وكما أن الشعاع ينطلق من الشمس ...
إلاَّ أن الشمس تكون قائمة في الشعاع بمقتضى أن الشعاع هو شعاع
الشمس، والشعاع لا يُعتبر مادة منفصلة عن الشمس بل خارجاً منها. وهكذا
دائماً تكون علاقة الروح من الروح، والإله من الإله، وكما أن النور حينما يشتعل من
النور فإن النور الأصلي يبقى كاملاً ولا ينقص، هكذا ما يخرج
من - طبيعة - الله فإنه يسمَّى في الحال “إله” و“ابن الله”
وأنهما كليهما واحد.]([9])
وهكذا سار التقليد على هذا الطريق،
فنحن نسمع من القديس أثناسيوس (سنة 296-373م) نفس هذه التعبيرات [وكما ذُكر عن
المسيح أنه “هو شعاع مجده ورسم جوهره” (عب 3:1) إذن فحيث أن الآب نور
والابن شعاعه وجب أن لا نُحجم عن ترديد هذه العبارات كثيراً.]([10])
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق