بعد أن عاشت الكنيسة الإيمان الثالوثيّ المُستلم من الرسل، سواء مما كتبوه وتركوه لنا في العهد الجديد، أو مما سلَّموه شفاهة، وعاش في خبرة الكنيسة كجماعة ليتورجيّة مُتعبدة، وبعد رحيل آخر الرسل (القديس يوحنا اللاهوتيّ)، ثُمَّ مرحلة الاصطدام باليهود والرومانيّون، مع الإيمان المسيحيّ، الذي كان يخالفهم الرأي، ويتصدى لمعتقداتهم، ويفضحها، ويجرّدها من معانيها.
كان صوت
المسيحيّين هذا، إنطلاقًا من الأمانة التي أودعها المسيح في الكنيسة، إذ اعلن لها
عن إله يسكن فيها، وهيَ بدورها تحيا كارزة له، بالعمل وبالكلمة، وما لا يُمكن أن
تقبله على نفسها، هو أن تطمر هذه الوزنة مثل العبد الجبان، الذي انتظر الساعة
الأخيرة ليُعيدها إلى سيده (مت25: 14- 31)، بل أن تستثمرها، وتحميها، وتصونها،
وتُدافع عنها عند الحاجة، وتسبر الغنى الموجود فيها، لتستمد منه غذاء مُشبعًا لكل
ما يُثار من أفكار حول الإيمان.
انطلاقًا من
هذه الرسالة، التي سلّمها يسوع المسيح للكنيسة، وائتمنها عليها، راحت الكنيسة
تُبشّر بتعاليمه، وتَدرِس في الوقت عينه، صفات المُعلم، لترد على تساؤلات شخصيّة،
وعلى استفهامات المُرتدين الجُدّد.[1]
كانت الأجوبة
في البدء تعتمد كُلّيًّا على الكتب المُقدّسة، إذ كانت الحرب مع اليهود، ويكفي
إثبات مسيّانيّة يسوع حتّى يؤمنون. ثم، تطوّر الوضع، حتّى لا تتشتّت الجماعة من
تفسيرات مُختلفة للنص الكتابيّ، فأصبح التقليد هو المقياس الذي يُبنى عليه تفسير
العهدين، والتّعليم اللاهوتيّ على السواء. بعد قليل، واجه المسيحيّون الوثنيّين،
فكان لابد من التعامل معهم من نفس الأرضيّة التي يتحركون منها للنقد، وهيَ الفلسفة
والبحث النظريّ، وعلوم اللغة. إذا أضفنا إلى كلّ ما سبق الهرطقات التي نشأت في
بوادر المسيحيّة، فإنّنا نجد من كلّ ذلك العوامل التي دفعت مُعلميّ الكنيسة
الأولين نحو تأسيس علم اللاهوت المسيحيّ، الذي نما وتطوّر عبر القرون واللغات، ولم
يتغيّر أساسه الأصليّ الذي وضعه الرسل، ونحتته الكنيسة على مدى العصور.
عند قراءتنا
للنصوص اللاهوتيّة عند آباء ما قبل القديس إيرينيئوس –ولا سيَّما حقبة الآباء الرسوليّون والمُدافعون- يجب أن نضع
في أذهاننا أن هؤلاء الآباء لم يفكروا بوضع لاهوت نظاميّ، بل كان جلَّ اهتمامهم
مُنصبًا على الشأن الرعويّ، أي التمسك بما تسَلمّوه من تعاليم الرسل، وكيفية تطبيق
هذه التعاليم بشكل عمليّ أمام التحديّات التي تواجهها الكنيسة في ذلك العصر.
كما أنّ آباء
حقبة ما قبل نيقية، عاشوا ورحلوا قبل بدء المجامع المسكونيّة ومشكلة تحديد الصيغ
الإيمانيّة، تلك المجامع التي نحتّت الصيغ اللاهوتيّة، تلك المُستخدمة في الشرح
اللاهوتيّ حتّى عصرنا الحاليّ، مثل: ثلاثة أقانيم وجوهر واحد، مفهوم الأقنوم،
مفهوم الطبيعة، مفهوم الجوهر... وغيرها.
لذا، فإنّ
هؤلاء الآباء قد نحتوا ألفاظهم اللاهوتيّة الخاصة، تلك الألفاظ المُختلفة -في
الغالب- عن المفاهيم اللفظية المُستخدمة في الشروحات اللاهوتيّة منذ فترة ما بعد
نيقية. هذا الأمر الذي جعلهم في كثير من الأحيان موضع شك وريبة من الباحثين في ما
إذا كانوا يعتقدون الاِعتقاد السليم في الإيمان، أم كان لديهم خلط بين الأقانيم،
أو أنّهم اعتقدوا في التبعية.[2]
أيضًا الهرطقات
والمُشكلات اللاهوتيّة التي كانوا يواجهونها، كان لها تأثيرًا كبيرًا في أسلوب
التفسير وفي استخدام المُصطلحات. فمثلًا النص المذكور في إنجيل ق. يوحنا ”أبي أعظم مني“ (يو14: 28)،
فمع نهاية القرن الثاني وبدايات القرن الثالث نجد تفسيرات ترتليان وأوريجانوس لهذا
الشاهد هيَ محاولة للتمييز بوضوح بين الآب والابن، ذلك لأنّهم كانوا في مواجهة
الهرطقة المونارخيّة أو السابليّة التي تُشدّد بشكل مُفرط على وحدانيّة الله
لجعلها أقرب للشكل الصنميّ الجامد الواحد عدّديًّا. وعلى الرغم من أن ترتليان
وأوريجانوس كانا يؤكدان دائمًا على أن المسيح هو الله مثل الآب تمامًا - كما سنرى
في الفصول القادمة - إلَّا إنّهم رغبوا من خلال هذا الشاهد في التمييز بين الآب
والابن وايضاح أنهما أقنومان وليسا أقنومًا واحدًا. بينما نفس هذا النص في القرن
الرابع أتجه التفسير الآبائيّ من خلاله للتدقيق على الوحدة بين الآب والابن، وذلك
لأنّ المُشكلة التي تواجهّها الكنيسة في عصرهم ليست المونارخيّة، بل الآريوسيّة
التي تُنادي بأنّ الابن إله أقل من الآب، أو بمعنى آخر فهي تُنادي بإلهين.[3] ولهذا فالخلفيات الثقافيّة واللاهوتيّة مُهمة للغاية
لمعرفة ما كان مقصد كلّ أب من الآباء بتدقيق.
يُعتبر القرنين
الثاني والثالث، مرحلة حاسمة في تاريخ الكنيسة، فلم تعد المسيحيّة محصورة في
مجموعات صغيرة، تنتمي اجتماعيًّا إلى الأقليات. بل، أصبحت مُتأصلة تأصلًا متينًا
في طبقات المجتمع كلها، ومُنتشرة جُغرافيًا انتشارًا واسعًا من المُحيط الأطلسي
إلى بلاد فارس.
على العكس مما
نتصوّره غالبًا، لم تتعرض المسيحيّة للاضطهاد المُستمر، بل مرّت بأحداث هدوء وسلام
طويلة، وقد كان هذا خير سبيل نحو انتشار الرسالة، ونمو الكنيسة الداخليّ، على
السواء.
وكما رأينا في
الفصول السابقة، فإنّ مُحاربة البدع قد أدّت إلى وضع علم لاهوت حقّيقيّ، وأن هذا
التطوّر الذي شهده الفكر المسيحيّ، قد بلغ شأوًا أوقع الفلاسفة اليونانيّين في
القلق. وهذا ما دفع ”كلسّس“ (177- 180م)
إلى مُهاجمة المسيحيّة واليهوديّة كمنشأ لها، وتصدى له العظيم أوريجانوس.
على صعيد آخر،
اجتهدت الكنيسة في وضع أسّس متينة، وبدأ ظهور إكليروس تراتيبي حول الأسقف، وتطوّر
ليتورجيّ، وقانونيّ وتنظيمي إن صح قولنا.
وقد انعقدّت
الكثير من المجامع المحلية، التي تجمع بين كنائس تنتمي إلى بُقعة جُغرافية محدودة.
فزادت من أواصل الوحدة بين المسيحيّين. حتّى إن القديس كبريانوس، قد جمع حوله واحد
وسبعين أسقفًا في مدينة قرطاجنة عام 256م، وهو أولى المجامع المحلية الهامة.
لكنّ لم تمتد
هذه الفترة طويلًا، إذ بعد وقت ليس ببعيد، سيثير الشيطان دقلديانوس ليُذيق
المسيحيّين أشد أنواع الاضطهادات وأعنفها على مدى التاريخ، ذاك الذي سوف يستمر نحو
ثماني سنوات (303: 311م).[4]
[1] انظر: أنطوان عرب، ميشال
أبرص (الأبوان)، المجمع المسكونيّ الأول (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، 1997)،
ص 36، 37.
[2]
Subordination:
هرطقة، غالبًا ما تُنسب إلى بعض آباء ما قبل نيقية كيوستينوس وترتليان وأثيناغوراس
وأوريجانوس، وهيَ في المجمل تعني أنّ الابن والروح القدس أقل من الآب وتابعين له.
[3] للمزيد انظر: جورج عوض، الآباء والكتاب المُقدّس (القاهرة: مؤسّسة
القديس أنطونيوس، 2015)، 50 وما بعدها.
[4] انظر: أنطوان الغزال، صبحي
حموي (الأبوان)، تاريخ الكنيسة المُفصل
(بيروت: دار المشرق، 2002)، ص 75، 76.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق