الثلاثاء، 29 أغسطس 2023

مختصر تاريخ الكنيسة، القرن الثالث (1- العلامة أوريجانوس)

 


العلَّامة أوريجانوس

وُلِد أوريجانوس بالإسكندريّة عام 185م وصار عميدًا لمدرسة الإسكندريّة منذ العام 203 حتّى 231م. ثُمَّ ذهب إلى قيصريّة فلسطين، وأسّس مدرستها اللاهوتيّة، وعلَّم بها حتّى سنة 249م. وكان أوريجانوس واسع العلم والمعرفة، ومع ذلك فالمعرفة والعلم الغزير لم يدفع بأوريجانوس إلى الكبرياء والتشامخ، بل على العكس، كان يدرك أن الكارز يلزمه أولًا وقبل كلّ شيء أن يكون رجل صلاة. وفي مرّات كثيرة حينما كان يقف أمام عبارة صعبة يتوقّف عن الكلام ويطلب من سامعيه الصلاة من أجله لينال فهمًا أفضل للنص.[1]

ويُعتبر أوريجانوس أحد مؤسّسيّ التعاليم النسكيّة، وبجانب حياته النسكيّة اهتمّ بممارسة الصلاة بكونها جزءًا لا يتجزأ من الحياة النسكيّة، تسنده في تحرير النفس ودخوله إلى الإتحاد مع الله بطريقة أعمق. يرى في الصلوات أمرًا ضروريًا لنوال نعمة خاصة من قِبَل الله لفهم النص الإلهيّ.[2] وقد رأى إنّ الإنسان يطلب الإتحاد مع الله خلال حفظ البتوليّة،[3] فينسحب عن العالم وهو بعد يعيش فيه،[4] مُقدّمًا تضحية في أمور الترف قدر ما يستطيع،[5] مُحتقرًا المجد البشريّ.[6]

لأوريجانوس مكانة عظيمة في وقته في ردّ الكثير من المرتدين أو مُنحرفيّ الفكر إلى الإيمان الأرثوذكسيّ. في الكثير من المناسبات، كانت تتمّ دعوته إلى العربية ليتناقش مع الأساقفة في أمور الإيمان والعقيدة،[7] وقد أشار المؤرّخ يوسابيوس إلى اثنين من هذه المناقشات، نذكر منها ذلك المجمع العربيّ الذي عُقد في عام 244م لمناقشة وجّهة نظر الأسقف بريلوس Barylius في شخص السيد المسيح. انعقد هذا المجمع على مستوى واسع، وقد أدان الأسقف بسبب قوله إنّ الله أقنوم واحد، وقد حاولوا باطلًا إقناعه أن يعود إلى الإيمان المستقيم.[8] أسرع أوريجانوس إلى العربيّة ونجح في إقناع الأسقف الذي يبدو أنه بعث إليه برسالة شكر،[9] وصار من أكبر المُدافعين عنه.[10]

تعرّف أوريجانوس على صديق ثري، يُدعى أمبروسيوس،[11] كان يتّبع هرطقة فالنتينوس، وهو من عائلة طيبة ويشغل مركزًا ممتازًا، إذ إلتقى أوريجانوس بأمبروسيوس، جذبه إلى الإيمان المستقيم وأظهر له فساد هرطقة فالنتينوس التي سقط فيها. وإذ أعجب أمبروسيوس بصديقه، ضغط عليه أن يكتب، وأمدّه بأكثر من سبعة من الكتبة في دورات بجانب الكثير من النُسّاخ وبعض الفتيات اللواتي يجدن الكتابة.[12] وفيما بعد صار أمبروسيوس هذا أحد المعترفين[13] في أثناء اضطهاد مكسيميان.

عن الدور الذي قام به أوريجانوس في ردّ الكثير من مُشتتي الفكر إلى الإيمان، يكتب المؤرخ يوسابيوس: إذ جذبت سمعة أوريجانوس العلميّة أنظار الكثيرين... ورنّ صداها في كلّ موضع، جاءوا إليه يختبرون قدرة ذكائه في العلوم الدينيّة، فتتلمذ على يديه كثير من الهراطقة (الذين ردّهم للإيمان المُستقيم)، وعدّد ليس بقليل من أبرز الفلاسفة، وتلقّوا التّعليم على يديه لا في الأمور الدينيّة فحسب بل والفلسفة الدنيويّة... لقد اشتهر كفيلسوف عظيم حتّى بين اليونانيّين أنفسهم... ويشهد لنبوغه في هذه العلوم فلاسفة عصره اليونانيّين، فكثيرًا ما أشاروا إليه في كتاباتهم، بل وأحيانًا كانوا يكتبون إهداءً إليه في مُقدّمة كتاباتهم، كما كان بعضهم يقدّمون له مؤلفاتهم ليبديّ رأيه فيها.[14]

كما كان له دور بارز في أوقات الاضطهاد التي كانت تحلّ بالكنيسة، يصفه لنا شيخ مؤرخي الكنيسة، يوسابيوس القيصريّ على النحو التالي: برّز اسمه بين قادة الإيمان، وذلك بسبب اللطف والرعاية والرقّة التي أظهرها نحو الشهداء والقديسين، سواء كانوا معروفين لديه أو غرباء عنه. كان يرافقهم في السجن ويمكث معهم أثناء المُحاكمة، بل يبقى معهم حتّى لحظات الموت... غالبًا عندما كان يذهب إلى الشهداء يهتمّ بهم ويُحيّيهم بقبلة دون أي اعتبار لما ينتج عن ذلك، فكان الوثنيّون المحيطون بهم يثورون عليه ويكادوا أن يهجموا عليه ليضعوا حدًّا لحياته.[15] ويقول الأب والعالم الآبائيّ فرار Farrar: إنّ قديسين وشهداء اشتهوا الجلوس عند قدميه.[16] ويروي لنا أبيفانيوس[17] قصة عن رعاع الوثنيّين الذين أمسكوه ذات يوم وهو سائر في الطريق وحملوه بضجيج شديد إلى هيكل سيرابيوم الشاهق، وحلقوا رأسه، ووضعوا عليها قلنسوة، وألبسوه حُلّة بيضاء على طريقة كهنتهم رغمًا عنه، ثُمَّ أخرجوه خارج الهيكل وأصعدوه على القمة الكبرى التي أعلى السلم، وأعطوه سعف النخل، وأمروه أن يقوم بتوزيعه على عبدة الأوثان المجتمعين حوله، وكانوا يسخرون به مصفقين. فأسرع أوريجانوس يلوح بالأغصان وينثرها على المتجمهرين وهو يقول بصوت عظيم: هلمّوا خذوا هذه الأغصان لا برسم الأوثان بل باسم يسوع المسيح خالق الإنسان، فصَرّوا بأسنانهم عليه وأرادوا قتله، لكنّ الرّبّ أنقذه من أيديهم.

الصراع مع البابا ديمتريوس

حواليّ عام 216م إذ نهب الإمبراطور كاركلا Caracalla مدينة الإسكندريّة وأغلق مدارسها واضطهد مُعلّميها وذبحهم، قرّر أوريجانوس أن يذهب إلى فلسطين. هناك رحبّ به صديقه القديم الإسكندر أسقف أورشليم كما رحبّ به ثيؤكتستوس Theoctistus أسقف فلسطين، الذين دعاه أن يشرح الكتاب المُقدّس في اجتماعات المسيحيّين، وفي حضرتهما.

غضب البابا ديمتريوس السكندريّ جدًّا، لأنّه حسب عادة الكنيسة السكندريّة آن إذ أنّ العلمانيّ لا يستطيع أن يعظ في حضرة الأسقف، فأمر بعودته إلى الإسكندريّة سريعًا. وبالفعل أطاع أوريجانوس بطريركه في خضوع، وبدت الأمور تسير كما كانت عليه قبلًا، لكنّ هذا الحديث صار مُقدّمة لصراع أوشك أن يحدث بعد عدة سنوات (واستمر حواليّ 15 عامًا).

قد أورد المؤرّخ يوسابيوس دفاع الأسقفين الإسكندر وثيؤكتستوس عن نفسيّهما، والذي جاء فيه: جاء في رسالته، أنّه لم يسمع عن أمر كهذا من قبل، ولا حدث إلى الآن أن وعظ علمانيّون في حضرة أساقفة! ولست أدري كيف يقرّر أمرًا غير صحيح، لأنّه متى وُجِد أناس قادرون على تّعليم الإخوة يحثّهم الأساقفة القديسون على وعظ الشعب. هذا ما حدث في لاراندا عندما طلب ذلك نيون من يولبس، وفي أيقونيّة عندما أمر كلسّس بولينوس... والأرجح أنّ هذا حدث في أماكن أُخرى لا نعلمها.[18]

أُرسِل العلَّامة أوريجانوس إلى اليونان لضرورة مُلحة تتعلق ببعض الشئون الكنسيّة، وبقيَّ عامين غائبًا عن الإسكندريّة. ذهب إلى آخائية ليعمل صُلحًا، وكان يحمل تفويضًا كتابيًّا من بطريركه. وفي طريقه عبّر بفلسطين، وفي قيصريّة سُيّم قسًا بواسطة أسقفها.[19] فقد بدى للأساقفة أنّه لا يليق بمرشد روحيّ مثل أوريجانوس بلغ أعلى المستويات الروحيّة والدراسيّة أن يبقى علمانيًّا. هذا وقد أرادوا أن يتجنّبوا المخاطر التي يثيرها البابا ديمتريوس بسماحهم له أن يعظ وهو علمانيّ في حضرتهم.

وقد اعتبر البابا هذه السيامة أكثر خطئًا من التصرف السابق، حاسبًا إيّاها سيامة باطلة لسببين:

1- إنّ أوريجانوس قد قَبِل السيامة من أسقف آخر غير أسقفه، دون أخذ تصريح من الأسقف التابع له.

2- إذ كان أوريجانوس قد خصى نفسه، فهذا يحرمه من نوال درجة كهنوتيّة، فإنّه حتّى اليوم لا يجوز سيامة من يخصي نفسه. وإخصائه لنفسه هذا، يرجع إلى حضور النسوة كي يستمعن لمحاضراته، ولكي لا تحدث عثرة رأى أن ينفذ حرفيًّا ما ورد في الإنجيل أن أناسًا خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله (مت 19:12)، لكنّ يبدو أنّه قدّم توبة على هذا الفعل، حيث نجده في تفسيره لهذا النص من إنجيل متى، فسرّه تفسيرًا رمزيًّا لا حرفيًّا.[20]

إدانته

لم يحتمل البابا ديمتريوس هذا الموقف فدعى لانعقاد مجمع من الأساقفة والكهنة بالإسكندريّة. رفض المجمع القرار السابق مكتفيًّا باستبعاده عن الإسكندريّة.[21]

لم يكن هذا القرار كافيًا لإرضاء البابا، فدعى مجمعًا من الأساقفة وحدهم عام 232م، قام بإعلان بطلان كهنوت أوريجانوس واعتباره لا يصلح بعد للتّعليم، كما أعلن عن وجود بعض الأخطاء اللاهوتيّة في كتاباته.

بالرغم من أنّ أوريجانوس رُبّما قد أخطأ في قبول الدرجة الكهنوتية من غير أسقفه، إلَّا إنّه الرجل النبيل الذي أطاع القرار مُتحاشيًا كلّ انقسام، أطاع بروح مسيحيّة لا تحمل شيئًا من الأنانيّة، معتبرًا استبعاده عن الأرض -الغالية عليه جدًّا أكثر من أيّة بقعة أُخرى على الأرض- ليست بالتضحية الكُبرى من أجل حفظ وحدة الكنيسة. فبالرغم من وجود أصدقاء لهم سلطانهم في الإسكندريّة وفي الخارج، وكان يمكنه أن يقود حركة مضادة للبابا، لكنّه أبى أن يفعل شيئًا من هذا.

في هدوء، ترك الإسكندريّة شاعرًا أنّه لن يوجد من يقدر أن يفصله عن كنيسته المحبوبة، إذ يقول: يحدث أحيانًا أنّ إنسانًا يُطرد خارجًا، ويكون بالحقّ لا يزال في الداخل، والبعض يبدو كما لو كانوا في الداخل مع أنّهم في الحقّيقة هم في الخارج.[22]

كانت هذه العاصفة التي ثارت ضدّ أوريجانوس بلا شك صفعة مرعبة، ومع ذلك فإنّنا نراه وهو يتحدّث عنها يتكلّم بإتزان، إذ يقول في مُقدّمة الكتاب السادس لإنجيل يوحنا:[23]

بالرغم من العاصفة التي هبّت ضدّنا في الإسكندريّة أكملت المجلّد الخامس (من تفسير إنجيل القديس يوحنا) لأنّ يسوع أمر الرياح والأمواج أن تهدأ. لقد بدأت فعلًا في المجلّد السادس حين طُردت من أرض مصر. منذ ذلك الحين والعدوّ يضاعف عنفه، فينشر رسائله الجديدة، التي هيَ بالحقّ غريبة عن الإنجيل، هكذا يطلق علينا الرياح الشرّيرة قادمة علينا من مصر. وكان للعقل أن يشير علينا أن نستعد للمعركة. لكنّ، لا يمس هذا الأمر سلامنا إلى حد كبير فيعود الهدوء إلى ذهننا حتّى نقدر أن نكمل أعمالنا السابقة الخاصة بدراسة الكتاب المُقدّس.

نياحته

في أيام داكيوس Decius (249-251)، ثار الاضطهاد مرّة أُخرى، وألقيَّ القبض على أوريجانوس. تعذّب جسده، ووُضِع في طوق حديدي ثقيل وألقيَّ في السجن الداخليّ، وربطت قدماه في المقطرة أيامًا كثيرة، وهُدّد بالإعدام حرقًا.[24]

احتمل أوريجانوس هذه العذابات بشجاعة، وإن كان لم يمت أثناءها، لكنّه مات بعد فترة قصيرة، رُبّما كان متأثّرًا بالآلام التي لحقت به.

قبل أن يموت أرسل إليه البابا الإسكندريّ ديونسيوس، الذي كان تلميذًا لأوريجانوس في مدرسة الإسكندريّة، وقد خلف هيراقليس في الباباويّة وزعامة المدرسة أيضًا، رسالة عن الاستشهاد، لعلّه بذلك أراد أن يُجدّد العلاقة بين العلَّامة السكندريّ أوريجانوس وكنيسة الإسكندريّة.

في عام 254م رقد أوريجانوس في مدينة صور بفلسطين وكان عمره في ذلك الحين 69عامًا،[25] وقد اهتّمّ مسيحيّو صور بجسده اهتمّامًا عظيمًا، فدفنوه إزاء المذبح، وغطّوا قبره ببوابة من الرخام، نقشوا عليها:هُنا يرقد العظيم أوريجانوس.

 وقد شاهد الكاتب غيليوم الصوري هذا القبر والباب الرخاميّ في أواخر القرن الثاني عشر.[26]

آراء العلماء وآباء الكنيسة عنه

ألكسندروس أسقف أورشليم الذي كان يتطلّع إلى أوريجانوس كمعلّمه وصديقه، خليفة الاستاذين المُبجّلين بنتينوس وإكليمندس، بل وأعظم منهما. ففي اليوم التالي لنياحة القديس إكليمندس، كتب ألكسندر لأوريجانوس هكذا:

إنّنا نعرف جيدًا الأبوين الطوباويّين اللذين سلكا الطريق قبلنا وسنلحق بهما سريعًا: بنتينوس الطوباويّ والمعلّم القدير، وإكليمندس المبجّل معلّمي ومعيني، وأيضًا آخرين مثلهما، وقد تعرّفت خلالهما عليك، إذ أنت هو ممتاز معهما، يا معلّمي وأخي.[27]

فهو المُعلّم والباحث الممتاز في الكنيسة الأولى، شخصيّته لا يشوبها عيب، يحمل في تّعليمه دائرة معارف موسوعيّة، ويعتبر أحد المفكرين الأصليين الذين شاهدهم العالم.[28] يرى البعض في العلَّامة أوريجانوس أعظم فكر يحمل عمقًا ظهر في تاريخ الكنيسة.[29]

وصفه القديس ديديموس الضرير هكذا: أعظم معلّم للكنيسة بعد الرسل، نقلها لنا القديس جيروم، وقد وضعها في مُقدّمة ترجمة عظات حزقيال لمعلّمه العظيم.[30]

لُقِب العلَّامة أوريجانوس بـأدمانتيوس أي الرجل الفولاذي، إشارة إلى قوّة حجّته التي لا تقاوم وإلى مثابرته.[31]

كتب بروفيسور كواستن استاذ علم الباترولوجي الشهير في بداية دراسته عن أوريجانوس ما يلي:

بلغت مدرسة الإسكندريّة (اللاهوتيّة) أهميتها العُظمى بقيادة أوريجانوس، المعلم والعالم البارز للكنيسة الأولى، إنسان بلا لوم في أخلاقه، وذو معرفة موسوعيّة، وأحد أكثر مفكري العالم أصالة في العصور كلها.[32] ويكمل في حديثه عنه، قائلًا: رغم أنّ أوريجانوس أعطى اهتمامًا عظيمًا بدراسة الكتاب المُقدّس، واعتبر الفلسفة مُجرّد خادمة للمسيحيّة، إذ نجده يؤكد على أهمّيّة الكتاب المُقدّس أكثر من معلّمه كليمندس الإسكندريّ.[33]

ويذكر كواستن، أنّ أوريجانوس بالغ في استعمال الطريقة الرمزيّة في تفسير الكتاب المُقدّس مما نتج عنه بعض الأخطاء. ولهذا السبب حدث خلاف في الرأي بين الآباء منذ القرن الرابع حول ما ورد في كتابات أوريجانوس من بعض الأفكار إلى أن انتهى الأمر في القرن السادس بإدانة الأفكار الخاطئة الشائعة عنه، في مجمع عقده الإمبراطور جوستنيانوس الأوّل بالقسطنطينيّة سنة 543، وهو المجمع المسكونيّ الخامس عند الروم، والذي لم تشترك فيه الكنيسة القبطية الأرثوذكسيّة طبعًا لأنّه بعد انشقاق مجمع خلقيدونية تاريخيًّا.

ويضيف كواستن:

كان مصير أوريجانوس أن يكون علامة اختلاف وتعارض، أثناء حياته، كما بعد وفاته أيضًا. ويندر أن نجد شخصًا مثله له أصدقاء كثيرون جدًّا وأعداء كثيرون جدًّا. صحيح أنّه ارتكب بعض الأخطاء، لكنّ لا يُمكن أن يشكّ أحد أنّه كان تواقًا وراغبًا بشدة أن يكون مسيحيًّا على الدوام، مستقيم الإيمان، عميقًا في إيمانه وثقته بالله. فهو يسجل في بداية كتابه اللاهوتيّ الرئيسيّ المبادئ: إنّ ما يجب أن يكون مقبولًا على أنّه هو وحده الحقّيقة والحقّ، هو ما لا يختلف من أي جهة من الجهات مع التقليد الكنسيّ والرسوليّ.[34] ولقد جاهد أوريجانوس بكل قواه لكي يتّبع هذه القاعدة وختم جهاده هذا بدمه في نهاية حياته.

قال عنه العالم واللاهوتيّ جان دانيلو:

يمكن القول بإنّ كتابات أوريجانوس تشير إلى فترة حاسمة في كلّ ميادين الفكر المسيحيّ. فقد بحث في تاريخ نسخ الكتاب المُقدّس المتنوّعة، كما أنّ تعليقاته على المعاني الحرفيّة والروحيّة للعهد القديم والجديد، جعلته مؤسّسًا للدراسة العلميّة للكتاب. هو أوّل من وضع النظرة اللاهوتيّة العظيمة، وأوّل من حاول تقديم تفاسير منهجيّة للأسرار المسيحيّة. إنّه أوّل من وصف الطريق الذي تسلكه النفس في رجوعها لله، وبهذا يكون أوّل مؤسّس للاهوت الحياة الروحيّة. كذلك نتساءل: إن كان يعتبر هو السلف -إلى حد ما- لظهور الحركة الرهبانيّة الكبرى في القرن الرابع.[35]

مدحه أيضًا الأب فنسنت الليرنزيّ Vincent of Lerins، قائلًا:

إن كان من جهة الحياة فعظيمة هيَ صناعته! عظيمة هيَ نقاوته وصبره واحتماله! من جهة النبل فأيّ شرف أعظم من أن يولد في بيت يتجمد بالاستشهاد؟! إن كان من جهة الفصاحة والحكمة والفلسفة فقد فاق الجميع. تخرّج من أحضانه معلّمون بلا حصر وكهنة ومعترفون. أي مسيحيّ لا يكرمه كنبي أو فيلسوف ومُعلّم؟! فإنّه حتّى الأمراء كرّموه. لا يكفيني اليوم كله أن أخبرك عن عظمته أو حتّى تحسّست نصيبًا منها!.[36]

تلاميذ أوريجانوس والمعجبون به

في الإسكندريّة تتلمذ (البابا) ديونسيوس على يديه، وحينما بدأ العالم ينقلب عليه بقيَّ البابا يشعر أنه مدين بالجميل له، فأرسل إليه رسالة عن الاستشهاد عام 259م.

وقد مدحه القديس ديديموس الضرير مدير مدرسة الإسكندريّة وأكمل عمله في حقل التفسير واللاهوت الرمزيّ.

ودافع عنه البابا أثناسيوس الرسوليّ ولقّبه بألقاب جميلة مثل: العجيب والعامل بالحب.

أمّا الآباء الكبادوك فقد أحبّوه وورثوا تعاليمه،[37] تلك التي نُقِلت إليهم بواسطة تلميذه القديس غريغوريوس صانع العجائب الذي تتلمذ هو وأخوه ثيودورس على يديه بسبب اهتمامهما بالعلوم اليونانيّة وحبّهما للفلسفة، لكنّه استبدل غيرتهما القديمة في الفلسفة والعلوم اليونانيّة، بدراسة اللاهوت، وإذ لبثا في الدراسة خمس سنوات، أظهرا تقدّما عظيمًا في الروحيًّات حتّى سُيَّم كلاهما أسقفًا في كنائس بنطس رغم حداثة سنهما.[38]

فالقديسين غريغوريوس النزينزيّ وباسيليوس الكبير، وإن كانا لم يقبلا نظامه اللاهوتيّ بكليّته، لكنّهما رأيَّ فيه الشكل الوحيد الكافي للفكر العلميّ المسيحيّ المعروف في ذلك الحين، فتتلمذا على منهجه، كما ضمَّا بعض أقواله في كتاب الفيلوكاليا شهادة لاعتقادهما أنّ فكر أوريجانوس يحوي الأسّس التي بواسطتها يُمكن تقديم الإيمان في لاهوت عقليّ. في محاولتهما أرادوا تحقيق هذا الحُلم: تحالف الإيمان مع العلم، والذي وجدوا بذرته الأولى عند أوريجانوس.[39] كما تأثر به القديس باسيليوس تأثرًا كبيرًا في مُعالجته لموضوع العالمين المنظور وغير المنظور، من خلال كتابه عن الروح القدس.[40]

لَقَب القديس غريغوريوس النيصي العلَّامة أوريجانوس بـ زعيم الفلاسفة المسيحيّين،[41] وقد شارك القديسان السابقان اعتقادهما تجاه العلَّامة أوريجانوس ومنهجه، وإن كان قد تشرّب بروحه أكثر منهما، يظهر ذلك بوضوح في مقاله Oratio Catechelica الذي يقترب جدًّا من روح كتاب المبادئ لأوريجانوس أكثر من أي عمل آخر في القرن الرابع.[42] لقد حفظ القديس الكثير من مقالاته، وأدرك بفهم منهجه، وإن كان قد رفض مبالغاته. لقد أخذ عنه بعض أفكاره وتفسيره الرمزيّ وتّعليمه في حريّة الإنسانيّة، واعتقاده في الصلاح المُطلق لكل الأشياء.. لكنّه لم يكن مُجرّد ناقل.

ويعتبر القديس أوغريس من بنطس هو المسئول عن نشر تعاليمه بين رهبان مصر، فقد اعتمد على كتاباته وكان ينشرها أثناء وجوده في مصر. ومن خلاله أيضًا تسلّم القديس يوحنا كاسيان تعاليمه وبهذا انتقلت إلى الرهبنة الغربية.[43]

ونسخ بمفيليوس البيروتي تلميذ بيروس مدير مدرسة الإسكندريّة معظم مؤلفات أوريجانوس بيده وشغف بقراءتها.

تأثّر الأب مكسيموس المعترف بأوريجانوس تأثيرًا مُطلقًا.[44]

عُرِفت أعماله في الغرب بواسطة روفينوس الإكويلي، الذي أعُجِب به جدًّا، ودافع عنه بشدّة.

ويعتبر القديسان هيلاري وأمبروسيوس مدينان لتفاسيره بالكثير.

أمَّا القديس جيروم فقد كان منذ صباه المُبكّر مُعجبًا به جدًّا، دعاه أعظم مُعلمي الكنيسة بعد الرسل،[45] دفع الكثير ليقتني كلّ كتبه، وترجم الكثير من مقالاته إلى اللاتينيّة، وجعل اسمه مشهورًا في الغرب. معرفته للتفسير جائت عن رجال أوريجانوسيّين مثل ديديموس الضرير وغريغوريوس النزينزيّ. لكنّه، فيما بعد، انقلب إلى عدوّ لدود ضد أوريجانوس.

كما مدحه القديس أغسطينوس.

بين المؤرخين الأوّلين مدحه يوسابيوس وسقراط جدًّا.

أخيرًا أتذكّر مُجرّد أسماء لتلاميذه والمُعجبين به: القديس يوحنا أسقف أورشليم، ويوسابيوس أسقف Vercellae، والإخوة الطوال القامة،[46] الذين بسببهم تعرّض ذهبي الفم لكثير من المتاعب. والقديس بلاديوس، وتوتيم أسقف سيتي الذي اعترض على أبيفانيوس عدوّ أوريجانوس.

شهادة القديس أثناسيوس لتعاليم أوريجانوس

كتب القديس أثناسيوس الرسوليّ كتابًا للدفاع عن صيغة إيمان مجمع نيقية المسكونيّ الأوّل المنعقد سنة 325 De Decretis

وفي الفصل (6) من هذا الدفاع يستشهد القديس أثناسيوس بأربعة آباء ومعلّمين استلم منهم آباء مجمع نيقية الإيمان المُستقيم بأن ابن الله من نفس جوهر الآب. وقد كان أوريجانوس هو أحد هؤلاء الآباء الذين استشهد بهم.

وننقل هنا ما كتبه القديس أثناسيوس عن إيمان أوريجانوس:

 وفيما يخص الوجود الأزليّ للكلمة مع الآب، وأن الكلمة ليس من جوهر آخر بل هو من الآب ذاته، كما قال الأساقفة في المجمع، يمكنكم أن تسمعوا أيضًا من أوريجانوس؛ محب الأتعاب،[47] لأنّ ما كتبه من باب البحث والتدريب، لا ينبغي لأى أحد أن يعتبره مُجرّد مشاعره الشخصيّة، بل هى أفكار الفرق المتصارعة في البحث، أمّا ما يعلنه بصورة مؤكدة ومحدّدة، فهذا هو فكر هذا الإنسان المحب للأتعاب... فهو يقدّم اعتقاده الشخصيّ هكذا: [صورة الإله غير المنظور هى صورة غير منظورة، بل أتجاسرّ وأقول بما أنه صورة الآب فهو كان موجودًا دائمًا. لأنّه متى كان الله -الذي بحسب يوحنا يدعى النور (لأن الله نور)- متى كان بدون بهاء لمجده الذاتي، حتّى يتجرأ أي إنسان أن يؤكد أن أصل وجود الابن كأنه لم يكن موجودًا قبلًا؟ لكنّ متى كان صورة الآب التي لا يعبر عنها، والجوهر الذي لا يسمى ولا ينطق به، ذلك التعبير والكلمة، والذي يعرف الآب، متى كان غير موجود. بل دع ذلك الذي يتجاسرّ أن يقول: كان الابن غير موجود في وقت ما، دعه يفهم جيدًا أنه بهذا هو يقول إنّ الحكمة لم تكن موجودة في وقت ما، والكلمة لم يكن موجودًا، والحياة لم تكن موجودة.



[1] In Gen Hom.2: 3.

[2] Hom. Jer. 6: 3

[3] In Num. hom. 11: 3

[4] In Levit. hom.11: 1.

[5] Ibid 15: 2.

[6] In Joan.28: 23.

[7] C. Knetschmar: Origens Und dei Arber, Zeilsch. Theolo. Kirsh 50 (1953) P 258 – 280.

[8] Fairweather, P. 60.

[9] Jerome: Cata c. 60; Socrate 6:39.

[10] آباء مدرسة الإسكندريّة الأولون، ص 85.

[11] ليس هو القديس أمبرسيوس أسقف ميلان، فقد كان أمبرسيوس صديقًا لأوريجانوس، وكان علمانيًّا، وثريًا، ينفق من ماله الخاص لخدمة التعاليم التي يقوم بها أوريجانوس.

[12] Eus. H. E. 3: 23: 2, 3.

[13] المُعترف: هو من تعذَّب على اسم المسيح، ولأجل إيمانه به، وظلّ ثابتًا في إيمانه، لكنّه لم ينل إكليل الشهادة.

[14] Euseb. H. E 6: 18: 2-4; 6: 19: 1.

[15] Eus. H. E. 6:3:3-7.

[16] Farrar, vol 1, P 426.

[17] تاريخ الكنّيسه، للقس منسّى يوحنا، ص 34.

[18] Eus. H. E. 6:19:17, 18.

[19] Eus. H. E. 6:23:4.

[20] On. Matt. 19: 12.

[21] H. M. Gwatkin: Early Church History, London 1909, vol 2, P. 192.

[22] Hom Levit 14:3.

[23] In Joan 6:1, 8-11.

[24] Eus. H. E. 6:39:5.

[25] Eus. H.E. 7:1

[26] رئيس أساقفة صور، ولد حواليّ عام 1130م وتنيح عام 1183م.

[27] Eus. H.E. 6:14:8-9.

[28] Quasten: Patrology, vol 2, P 37

[29] Carl S. Meyer: The Church, P 32.

[30] Jerome: Praef. in Hom. Orig. in Exech

[31] آباء مدرسة الإسكندريّة الأولون، ص 81.

[32] Quasten Vol.II, p.37.

[33] Quasten, Patrology, Vol.II.p.42.

ويُعد هذا أحد الأخطاء الحقيقيّة التي وقع فيها العلاّمة أوريجانوس، بعكس بقية الأخطاء العقيدية المُنسوبة بالخطأ إليه.

[34] حول المبادئ، Deprinc. Praef. 2

[35] J. Danièlou: Origen, N.Y 1955, P, VII.

[36] Adv Haer 23.

[37] Stanley M. Burgess, The Spirit and the Church, 1984. P. 132.

[38] Euseb. H. E 6: 30.

[39] J. H Strawley: The Catechtical Oration of Gregory of Nyssa, Cambridge 1905. PX.

[40] تادرس يعقوب ملطي (القمص)، القديس باسليوس الكبير، الجزء الثالث (الإسكندريّة: كنيسة مارجرجس إسبورتينج، 2014)، ص 218.

[41] راجع منسى يوحنا ص 48؛ مختصر تاريخ الأمة القبطيّة، ص384-390.

[42] Harnak: History of Dogma, vol 4, P 334.

[43] Dom Marsili Giovanni: Cassiano ed Evagris Pontics, Rome 1936.

[44] FR. Von Balthassi: Kosmische Liturgie, Freiburg in Breisgau 1941.

[45] Praef in Quaest in Gen.

[46] راجع: القديس يوحنا ذهبي الفم، للأب تادرس يعقوب، الإسكندريّة 1975م.

[47] φιλοπόνου = Labour – Loving.

أورد القديس أثناسيوس هذا الوصف بمدح أوريجانوس مرة أُخرى في الرسالة الرابعة إلى الأسقف سرابيون عن الروح القدس (انظر الرسائل عن الروح القدس إلى سرابيون 9:4) الترجمة العربية.

ليست هناك تعليقات: