الطريق إلى
خلقيدونيّة
بعد انفضاض المجمع المسكوني الثالث ظهر أرشمندريت اسمه
أوطيخا رئيس أحد أديار القسطنطينيّة، وكان من ألد اعداء نسطوريوس المبتدع.
فلم يكتف بمـا حدّده المجمع في أفسّس ضد بدعته فتطرّف إلى القول بإنّ ربنا يسوع
المسيح مؤلَّف من طبيعة واحدة وأنّ جسده غير مساوٍ لجسدنا في جوهره بما أنّه جسد
إله وإنّ الطبيعة البشريّة ابتُلِعَت وتلاشت باتحادها مع الطبيعة الإلهيّة.
ولإنّه كان رئيس دير أيوب في الربع (الحي) السابع من
المدينة، لذا فقد كان يقود 300 راهب لمدة تزيد عن الثلاثين عامًا، ومن خلال ابنه
بالمعموديّة (الذي هو ابن أخيه) كريسافيوس Chrysaphius كبير موظفي
البلاط الملكي استطاع أوطيخا الوصول إلى البلاط. وبينما كان المناخ الكنسيّ مُلبدًا
بغيوم الخلاف بين الجانب السكندريّ ونظيره الأنطاكيّ، واجه أوطيخا مقاومة ومعارضة
من الأنطاكيّين لأنّه كان متعصبًا جدًّا للسكندريّين، وهكذا زاد من حدة التوتر.[1]
وفي سنة 448 قدّم يوسابيوس أسقف دوريلاوس (دوريلوم) في
فريجيّة إلى القسطنطينيّة ورفع شكواه على أوطيخا إلى فلافيانوس البطريرك
القسطنطينيّ. فجمع هذا مجمعًا من 31 أسقفًا و32 أرشمندريتًا وبعد محاولات
عديدة حضر أوطيخا إلى المجمع وسُئِل عن إيمانه فصدر الحكم بضلاله وتجديفه وجُرّد
من الكهنوت وقُطِع من الشركة وعُزِل من رئاسة الدير.
وقد زار يوسابيوس أسقف دوريليم أوطيخا[2] في ديره
بالقسطنطينيّة مرات عدّة واكتشف أنّ عقيدته غير أرثوذكسيّة، إذ يعتقد بالامتزاج.
وسعى أوطيخا وأنصاره لدى الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير فكتب
هذا إلى البابا ليو الأوّل يطعن بالبطريرك فلافيانوس ومجمعه. فكتب البابا مستفسرًا
ورد عليه الجواب فوافق على الحكم الذي أصدره مجمع فلافيانوس.
وأمر ثيودوسيوس بعقد مجمع ثان في القسطنطينيّة فعقد في
نيسان سنة 449 وأيّد حكم المجمع السابق
وكتب ليو رسالة مجمعيّة مسهبة تعرف باسم "طومس
لاون" ثبت فيها تعليم فلافيانوس وضلال أوطيخا.
موقف كنيسة الإسكندريّة
شعر البابا ديسقوروس بخطورة انتشار أفكار ثيودوريت أسقف
قورش، وإيباس أسقف الرُها في الشرق، تلك التي تهاجم عقيدة البابا كيرلس السكندريّ.
وكذلك انتشار تعاليم ثيودور الموبسويستيّ ونسطور في كثير من المناطق في المشرق.
وأمام اعتراف أوطيخا الخطيّ المخادع بأنّه:
”يرفض هؤلاء الذين يقولون إنّ جسد ربنا يسوع
المسيح قد نزل من السماء... لأنّ ذاك الذي
هو كلمة الله نزل من السماء بدون جسد وتجسّد من جسد العذراء نفسه بدون تغيير ولا
تحويل وبطريقة عرفها هو نفسه وأرادها، وذاك الذي هو دومًا إله كامل قبل الدهور،
صار أيضًا إنسانًا كاملًا في آخر الأيام من أجلنا ومن أجل خلاصنا“.[3]
شعر البابا ديسقوروس أنّ فلافيان بطريرك القسطنطينيّة،
ويوسابيوس أسقف دوريليم قد انضما إلى التيار النسطوريّ الموجود في الشرق حينما طُلِب
من أوطيخا في مجمع القسطنطينيّة المكانيّ 448م حرم كلّ من لا ينادي بطبيعتين من
بعد الاتحاد.
مجمع أفسّس
الثاني 449م
لم يرق لثيودوسيوس
حكم المجمع، فأصدر أمره بعقد مجمع مسكونيّ في أفسّس في السنة نفسها 449، واستدعى
ديوسقورس بطريرك الإسكندريّة نصير أوطيخا ليتولى رئاسة المجمع. وكتب
ثيودوسيوس كذلك للبابا ليو بشأن هذا المجمع فأجاب البابا بإرسال نوَّابه الأسقف
يوليانوس والقس رينادوس والشماس إيلاريوس.
وبعد استعراض وقائع مجمع أفسّس الأوّل 431م، ومجمع
القسطنطينيّة المكاني 448م، وقراءة اعتراف أوطيخا المكتوب بالإيمان الأرثوذكسيّ قدّمه إلى المجمع مخادعًا. وبعد
الاستماع إلى آراء الحاضرين؛ حكم المجمع بإدانة وعزل فلافيان بطريرك
القسطنطينيّة ويوسابيوس أسقف دوروليم وبتبرئة أوطيخا وإعادته إلى رتبته الكهنوتيّة. كما حكم المجمع بحرم وعزل كلّ من هيباس أسقف الرها
وثيودوريت أسقف قورش وآخرين.[4] وحدّد المجمع أنّ ديودور الطرسوسيّ نسطوريّ.[5] ولم تُقرأ
رسالة البابا ليو الأوّل إلى المجمع وهيَ المعروفة بطومس لاون.
وفي سنة 450 توفي ثيودوسيوس الصغير فخلفته شقيقته الملكة
بلخريا وتزوجت بقائد جيشها مركيانوس الحسن العبادة ليشاركها في إدارة المملكة.
وأوّل عمل قامت به نقل جسد الشهيد فلافيانوس إلى كنيسة الرسل القديسين في
القسطنطينيّة. واهتمّت بعقد مجمع مسكونيّ وكتبت في ذلك إلى البابا ليو فأجاب
البابا مستحسنًا عملها وعيّن موفديه الأسقف يوليانوس والقس باسيليوس.
وجرت مكاتبات بين الملك مركيانوس والبابا ليو بهذا الشأن
أسفرت عن صدور أمر الملك بعقد المجمع في مدينة نيقية التي عُقِد فيها المجمع
الأوّل وبعث برسائل الدعوة إلى كلّ الأساقفة. ولكن الملك مركيانوس لم يتمكن من
الذهاب إلى نيقية وأصيب بعض الأساقفة بأمراض، فصدر الأمر بنقل المجمع إلى
خلقيدونيّة في جوار القسطنطينيّة. وبدأ اجتماعه هُناك يوم الأثنين في 8 تشرين
الأوّل 451 في كنيسة القديسة أوفيمية المعظمة في الشهيدات. وحضر المجمع مركيانوس
والملكة بلخريا زوجته وكثيرون من أمراء الدولة.
مجمع خلقيدونية
451م
لم يقبل البابا ليو الأوّل نتائج مجمع أفسّس الثاني 449م ومنح
الحلّ الكنسيّ لثيودوريت أسقف قورش وأعاده إلى الشركة.[6]
وليقرّروا
أنّه مورس عليهم ضغوط أو وقعوا على أوراق بيضاء أو أنّه قد تمّ التزوير في أوراق
المجمع (ύπέγρψαν είς άγραφον χάρτην).
الأمر الهام
أنّه خلال المناقشة اعترف الباب ديسقورس بإصرار بطبيعتين في المسيح قبل الاتحاد
وطبيعة واحدة بعد الاتحاد ولكنها (متجسِّدة):
”لا يمكن أن نعقل طبيعتين ولكن واحدة للكلمة
المتجسِّد...أنا أقبل من طبيعتين بعد الاتحاد لا يوجد طبيعتان“.
“ού δεί
νοείν δύο φύσεις،άλλά μίαν φύσιν
τού Λόγου σεσρκωμένην.....τό έκ δύο δέχομαι،τό δύο ού δέχομαι،τό δύο ού δέχομαι....Μετά
τήν ένωσιν δύο φύσεις ούκ είσί”.
حينها شرح يوسابيوس أسقف دوريليم وباسيليوس
سيليفكياس وميلوفثونجوس اليوبوليتون وآخرين بأنّ في المسيح الواحد يوجد طبيعتين
(طبيعتين في شخص واحد، رّبّ واحد معروف في طبيعتين δύο φύσεις έν ένί προσώπω...ένας Κύριος.....έν δύο φύσεσι γνωριζόμενος).
فقال البابا ديسقورس إنّ هذه الأقوال (تمزيق
وتشريح) καινοτομίας وذيوفيزيتية δυοφημίας، وأضاف
أنّه بسبب هذه الأقوال تمّ حرمان -وعن حق- فلافيانوس في 449، بينما قرّر المجمع
أنّ فلافيانوس يتفق مع كيرلس الإسكندريّ.
وبالرغم من
ذلك فإنّ البابا ديسقورس أظهر استعدادًا كبيرًا في أن يحكم على أوطيخا إذا ما ثبت
أنّه يمتلك مفاهيم دوتوكية (δοκτικές
(άντιλήψεις وأراد أن يبتعد عن مونوفيزيتيّة أوطيخا وأعلن أنّه
يقبل مثل كيرلس طبيعتين الرّبّ بغير اختلاط ولا تغيير ولا تمزيق
όπως ό
Κύριλλος ότι δέχεται άσύγχυτες καί άτρεπτες τίς φύσεις τού Κύρίου ούτε σύγχυσιν،λέγομεν ούτε
τροπήν،ούτε τομήν...
وقد نُوقش البابا ديسقوروس بشأن عقيدة أوطيخا الذي برأه
مجمع أفسّس الثاني 449م ؛ فقال:
”إذا كان أوطيخا يتمسّك بمفاهيم ترفضها عقائد
الكنيسة، فهو يستحق ليس العقاب فقط بل حتّى النار (أي جهنم) أيضًا. ولكن اهتمامي إنّما
هو بالإيمان الجامع الرسوليّ وليس بأي إنسان أيًا كان“.[7]
وقال أيضًا في نفس الجلسة من المجمع الخلقيدونيّ:
”أنا أقبل عبارة من طبيعتين بعد الاتحاد“.[8]
وهو في تأكيده على الطبيعة الواحدة المتجسّدة لله الكلمة
أراد أن يثبت عدم التقسيم بين الطبيعتين من بعد الاتحاد، وفي قبوله لعبارة:
"من طبيعتين بعد الاتحاد"، أراد أن يؤكِّد ما أكّده القديس كيرلس الكبير
عن استمرار وجود الطبيعتين في الاتحاد وعدم امتزاجهما أو اختلاطهما.
وكان أناطوليوس أسقف القسطنطينيّة
قد أعلن في الجلسة الخامسة للمجمع أنّ:
”ديسقوروس لم يتم عزله
بسبب عقيدته، إنما بسبب أنّه قد حرم لاون“.[9]
وقد وافق الثلاثة عشر أسقفًا
المصريين الذين حضروا مجمع خلقيدونية على حرم أوطيخا لكنهم رفضوا التوقيع على
قرارات مجمع خلقيدونية أو طومس ليو أو عزل البابا ديسقوروس. "وقد أشاروا إلى
أنهم لا يستطيعون التوقيع بدون التوافق مع رئيس أساقفتهم.. وأنهم لا يستطيعون
التوقيع دون أن يكون رئيس أساقفتهم معهم...".[10] وحدثت اضطرابات كبيرة في الشرق بسبب قرارات مجمع خلقيدونية
ومع تغيير الأباطرة كانت الظروف تتغير.
نص حكم عزل البابا
ديسقوروس
” من المجمع المسكوني العظيم والمقدس، الذي بنعمة الله وبأمر من.......
أباطرتنا، والمجتمِع في خلقيدونية... إلى ديسقوروس: بسبب ازدراء القوانين
المُقدّسة، واحتقارك لهذا المجمع المسكوني المقدس، حيث ـ وبالإضافة للتعديات
الأخرى التي أُدنت بسببها ـ قد رفضت أن تستجيب لثلاثة استدعاءات من هذا المجمع
العظيم والمقدس، والتي قُدمت لك وفقًا للقوانين الإلهية لكي ترد على التهم الموجهة
إليك: فلتعلم إذن، إنك في الاونم الثالث عشر من الشهر الحالي أكتوبر قد عُزلت
بواسطة المجمع المسكوني والمقدس من أسقفيتك، وجُردت من كلّ رتبة كنسية“.
ومن كلمات أناطوليوس يوم 22 أكتوبر
عندما قال إنّ السبب وراء إدانة البابا ديسقوروس لم يكن أمرًا متعلقًا بالإيمان
وإنّما حقيقة "إنّه قد حرم السيد رئيس الأساقفة لاون"، ولم يذعن لاستدعاءات
المجمع الثلاثة له.[11]
وهكذا نجد أنّ البابا ديسقورس لم
يُحكم عليه لأجل إيمانه، أو أنّ إيمانه كان مختلفًا عن إيمان الآباء، أو لكونه
هرطوقيّ، بل فقط لأسباب إداريّة وسياسيّة بحتة.
[1] Cf. Samuel, V.C. pp. 14-15.
[2]
Ibid p. 15.
[3]
Ibid p. 30-31, see Mansi VI, p. 744, quoted in Bettenson, Documents, pp. 48-49..
[4]
Cf. Samuel, V.C., pp. 29-35.
[5]
Kelly, J.N.D., Early Christian
Doctrines, Chapter XI Fourth Century Christology, A & C Black- London 1977,
5th Revised Edition, p. 302.
[6] Cf. Samuel, V.C., p. 69.
[7]
Ibid., p. 51.
[8]
Ibid., p. 55.
[9]
Cf. Sellers, R.V. p. 119.
[10]
Cf. Samuel, V.C., p. 75, see also Sellers, R.V., p. 114, and Hefele, C.J. p.
333, 334.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق