"سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ: أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي." (يو 14: 28).
صحيح أن يسوع، في دوره كعبد أثناء وجوده على الأرض، أخذ
منزلة أقل في المجد من المجد الذي لله في لاهوته، مع أن الكلمة لم يفقد أي شيء،
لإنه ماليء كل مكان في السماء وعلى الأرض، لكن الحديث هُنا عن جسده الخاص، غير أنّ
هذه المنزلة لا تنفي طبيعته الإلهية، ونرى ذلك من خلال:
1- في ذلك الأصحاح نفسه قال يسوع لفيلبس: "الذي
رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أرنا الآب؟" (يوحنا 14: 8، 9).
2- يشير المسيح هُنا إلى دوره المؤقّت في الجسد، لا إلى
كينونته ووجوده، أي أنه هُنا يتحدث عن حال وجوده في الجسد، لا عن طبيعته الإلهية
في مجدها الآزلي.
3- عندما قال
المخلص ذلك كان قد أخبر التلاميذ لتوه بأنه عليهم أن يفرحوا لأنه ذاهب إلى الآب،
ثم شرح سبب قوله مصرحًا: "لأن أبي أعظم مني".
4- لم تكن المقارنة التي أجراها بين الآب وبينه تتعلق
بالطبيعة، وإنما بالوضع الذي هو عليه في تجسُّده وإخلائِه، وبين المجد الذي له عند
الآب.
فعندما تجسد الابن وحل بين الناس، وضع نفسه بشكل العبد
(في2: 7)، وذلك باختياره النزول إلى العار والآلام في أشد أشكالها (عب12: 2). لقد
أصبح الآن ابن الإنسان الذي ليس له مكان يسند فيه رأسه (مت8: 20). فالذي كان غنيًا
افتقر لأجلنا، صار رجل الأوجاع والأحزان ومختبرًا الأسى (إش53: 3). على ضوء هذا،
أجرى المسيح مقارنة بين وضعه ووضع الآب في السماء. فقد كان الآب جالسا على عرش
الجلالة الفائق السمو، لم يخفي بريق مجده، كان محاطًا بالجند المقدسين الذين
يقدمون له العبادة والتسبيح باستمرار.
اما الأمر بالنسبة "للابن المتجسِّد"، فكان
الوضع مختلفًا جدًّا – إذ كان محتقرًا ومرفوضًا من الناس، محاطًا بأعداء حقودين
قساة القلوب، منتظرًا أن يُسمر قريبًا على صليب المجرمين. بهذا المعنى أيضًا. كان
وضع الآب أعظم من وضع "الابن المتجسد" في ذلك الوقت، وقت الإخِلاء،
وبذهابه إلى الآب سيعود إلى مجده. لقد كانت المقارنة إذًا بين وضعه الحالي المتسم
بالتواضع وحالة جسده الخاص الممجدة القادمة لدى الآب. ولهذا كان يجب على الذين
يحبونه أن يتهللوا للخبر السار عن ذهابه إلى الآب، لأن الآب أعظم منه، أعظم من حيث
وضعه الرسمي ومن حيث الظروف المحيطة. فقد كان المسيح يتحدث عن وجوده في وضعية
العبد مقارنة بالعظمة التي للآب.
ويكون ذلك كسبًا أو ربحًا لا يمكن التعبير عنه، وهذا
الربح هو لنا، لإن وجود الابن بجسده الخاص في المجد يفتح الطريق للطبيعة البشرية
كلها أن تكون فيه في النهاية، في المجد الذي فيه جسد الابن الخاص. "فَإِنَّكُمْ
تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ
افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ." (2 كو
8: 9).
فالمقصود باختصار أن الصورة السماوية هي أعظم من الصورة
الأرضية المتواضعة. فالآب أعظم من الابن المتجسد من جهة الحالة الوقتية، وليس من
جهة الجوهر والمساواة.
ودائمًا ما يُشدّد الآباء على أنّ المُقارنة لا تتم
إلَّا بين من هم من نفس الطبيعة، فلا نستطيع أن نقارن بين البحر والنخلة، ولا بين
الأرنب والجبال، بل يجب أن نقارن بين متساوين، لذا لم يستخدم يسوع كلمة ”أفضل“، بل
كلمة ”أعظم“، والتي تشير إلى مساواته مع الآب في الطبيعة، مثلما يقول القديس
أثناسيوس:
إنّ الابن لم يقل ”أبي
أفضل مني“، خشية أن نتصور أنه غريب عن طبيعة الآب، بل قال أعظم مني، ليس من جهة
القيمة، ولا من جهة الزمن، بل بسبب ميلاده من أبيه، وبذلك أظهر أنه من ذات طبيعة
الآب، لان الآب والابن باستمرار من طبيعة واحدة.
ويضيف المطوَّب أمبرسيوس:
يقولون مكتوب: ”أبي أعظم
مني“. أيضًا مكتوب: ”لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا للَّه“ (في 6:2). وأيضًا مكتوب
أن اليهود أرادوا قتله، لأنه قال إنه ابن اللَّه معادلًا نفسه باللَّه (يو 18:5).
مكتوب: ”أنا والآب واحد“ (يو 30:10). إنهم يقرأون نصًا واحدًا وليس نصوص كثيرة.
إذن هل يمكن أن يكون أقل ومساوٍ في نفس الوقت لذات الطبيعة؟ لا، فإن عبارة تشير
إلى لاهوته، وأخرى إلى ناسوته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق