السبت، 26 أغسطس 2023

نظرة أثناسيوس - من جهة بشرية المسيح - نحو معرفة اليوم والساعة الأخيرة،



(بخصوص ما جاء في إنجيل مرقس 32:13، لوقا 52:2):

وهي النصوص التي اعتمد عليها الأريوسيون في تدعيم ادعائهم أن المسيح كابن الله وكلمته، وحتى من جهة لاهوته، كان يجهل تحديد ميعاد اليوم الأخير وبالتالي التاريخ المستقبلي.

وكان رد أثناسيوس في حديثه الثالث ضد الأريوسيين الذي استغرق اثني عشر فصلاً متصلاً([1])، والذي كان محور الدفاع فيه أن ما جاء في الإنجيل بهذا الخصوص لم يكن عائداً على “اللوغس” كلمة الله في ذاته كابن الله، فهذا افتراء! ولكن كان منصباً على الابن المتجسِّد في حالة تجسُّده كابن الإنسان.

ويمكن تلخيص ما جاء في هذا الدفاع في النقاط الآتية([2]):

1 - قول الرب: «وأمَّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلاَّ الآب»، لم يذكر الروح القدس؛ فإذا كان الروح القدس يعلم باليوم والساعة، فالابن يعلم بهما باعتباره “الكلمة”، لأن الروح القدس يأخذ مما للمسيح.

2 - إذا كان الابن يعرف الآب، فحتماً يعرف كل ما يعرفه الآب.

3 - إذا كان الابن له كل ما للآب، فحتماً يعرف اليوم والساعة.

4 - الذي خلق كل الأشياء، يعلم متى تنتهي، والذي كان يعلم علامات ما قبل اليوم والساعة بدقة، لم تكن تُخفى عليه الساعة نفسها (إلاَّ بإرادته وحده).

5 - المسيح كان يعلم ولكن ليس بصفته ابن البشر (متى 42:24)، فكان هنا يتكلَّم بشرياً.

6 - المسيح قال إنه لا يعلم، لأن في ذلك منفعتنا، حتى نكف عن حب استطلاع المواعيد، كما جاء في سفر الأعمال 7:1.

7 - كما كان يتقدَّم في القامة والحكمة عند الله والناس، كذلك كان اللاهوت يُستعلن فيه أكثر فأكثر بتقدم الزمن.

ولقد احتدم الجدل اللاهوتي حول هذا الموضوع عند الآباء بعد أثناسيوس، ولكن ظل معظم الآباء اللاهوتيين على رأي أثناسيوس.

لكن يلزمنا هنا أن نوضِّح رأينا في الخلفية اللاهوتية الدقيقة، التي كان يتحرَّك فكر أثناسيوس في إطارها، فالجهل باليوم أو المعرفة به لم تكن متصلة بمفهوم طبيعته، لأن اللاهوت والناسوت في المسيح لم يعتريهما افتراق لا لحظة ولا طرفة عين، في كل ما يختص بشخصه وفكره وقوله وعمله ومعرفته؛ ولكن الذي كان يتغيَّر وينمو هو ما يختص برسالته.

فرسالة التجسُّد التي تختص بالفداء وتنتهي عنده، ليس لها أن تتداخل في رسالة الدينونة، وهذا أوضحه الرب بقوله: «إن ابن الإنسان لم يأتِ ليدين العالم بل ليخلِّص العالم»، مع أنه في موضع آخر قال إن الدينونة أُعطيت للابن: «لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو 22:5)، وهنا يتضح أن للخلاص زمناً وعملاً وحدوداً، وأن للدينونة زمناً وعملاً وحدوداً، وأن الابن - كما أُرسل للفداء - سيُرسَل للدينونة، وكلا الإرساليتين من الآب. فالابن، وهو في حال عمل الفداء، له أن يقول - عن حق - بمقتضى التدبير إن يوم الدينونة والساعة الأخيرة ليست حالئذ في دائرة عمله، أي لم يُعطَ بعد عملها - من الآب - وبالتالي ميعادها.

لأن المسيح أوضح جدًّا في مواضع سابقة، أنه لا يعمل إلاَّ كما يريه الآب، وكما يعلِّمه الآب، وكما يقول له الآب، ومن نفسه هو لا يعمل شيئاً! «الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاَّ ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك» (يو 19:5). وهذا من صميم مفهوم الإخلاء، حتى يكمل كل حدود الطاعة حتى الموت على الصليب.

وهكذا يتضح تماماً أن المسيح بقوله إن “الابن” لا يعلم ذلك اليوم ولا تلك الساعة إلاَّ الآب، إنما يتمشَّى تماماً مع رسالة الابن وهو لم يكمل بعد رسالة الفداء على الصليب.

أمَّا من جهة القدرة على المعرفة المطلقة بالكليات بحسب طبيعة الابن، فمعلوم يقيناً أن كل ما يعمله الآب يعمله الابن، فجوهر الطبيعة واحد في الآب والابن؛ إنما الذي حجز المعرفة عن الابن هي مشيئة الابن نفسه في التخلي، أو الإخلاء، الذي استخدمه ليظهر في الهيئة كإنسان لتكميل الطاعة حتى الموت أولاً؛ وبالتالي ليستطيع أن يقول عن حق إنه لا يعلم تلك الساعة!! أي بخصوص أعمال ما بعد الفداء، أي في ما يخص الدينونة، في حين أنه كان عالماً تماماً بساعة موته على الصليب «قد أتت الساعة ليتمجَّد ابن الإنسان» (يو 23:12). وهكذا يظهر تماماً أن معرفة الابن كانت تُستمد من الآب في حدود الرسالة الموضوعة أمامه، وإلاَّ يستحيل فهم طاعة الابن للآب.

ويمكن تلخيص نظرية أثناسيوس من نحو هذه القضية في جملة عقائدية مختصرة وبديعة نضعها هكذا:

إن المسيح، إذا شاء، يعلم كما يعلم الله

وإذا شاء، يجهل كما يجهل الإنسان!!

أو أنه كان يعلم كالله ويجهل كإنسان إنما حسب ضرورة الفداء

لأنه لمَّا تجسَّد لم يفقد شيئاً مما هو له كإله، ولا أخلَّ بما هو للإنسان. فلمَّا قال: «إن الابن لا يعلم هذا اليوم ولا تلك الساعة»، أثبت كمال ما هو لتجسُّده في حدود رسالة الفداء التي تنتهي عند ساعة الصليب، وليس عند ساعة الدينونة، ولكن جهله بساعة الدينونة باعتباره الذبيحة التي تتهيَّأ للموت على الصليب، يزيد من عظمة إخلائه لذاته، وهو كإله أُعطي كل الدينونة.

ولا يغيب عن بالنا قط، ونحن في هذا المضمار، أنَّ من دوافع التجسُّد الأصيلة قبول الجهالة التي للإنسان: «مولوداً من امرأة تحت الناموس»، حتى يستطيع أن يكمِّل الناموس، أي أن اتجاه التجسُّد هو إلى التواضع والتنازل إلى كل ما هو للإنسان، وليس التطلُّع إلى التفوُّق والامتياز الذي “للكلمة”، بالرغم من أنه استخدم هذا التفوُّق والامتياز الإلهي الذي للكلمة، الذي هو لاهوته، عند الضرورة في لحظات المصادرة أو لإثبات شخصيته والإعلان عن رسالته.

ويكرِّر أثناسيوس أنه في كل تصرُّف من هذا القبيل أو ذاك، إنما كان الدافع الوحيد هو: [من أجل منفعتنا]([3]) أو كما يضعها أثناسيوس في صيغتها اللاهوتية دائماً هكذا: [من أجل التدبير]، قاصداً تكميل العمل الخلاصي الذي تجسَّد من أجله. فكما أن المسيح تجسَّد من أجل التدبير Economia، كذلك فإن جهله لليوم وللساعة الأخيرة هو من أجل التدبير سواء بسواء، لأن على قياس وغاية التجسُّد يتحتَّم فهم كل عمل وقول وتصرُّف أتاه المسيح، وكل تدبير هو - من جهة - يقوم على حجب اللاهوت في محدودية الناسوت، ومن جهة أخرى يقوم على استعلانه اللاهوت من داخل محدودية الناسوت، ولكن كلاًّ في موضعه، بحسب حدود دور الرسالة التي جاء يكمِّلها في طاعة الآب.



([1]) Athanas., Discourse III, 42-53.

([2]) N.P.N.F. Series II, vol. VI, p. 416.

([3]) Athanas., Discourse III, 48.

ليست هناك تعليقات: