مفهوم العقوبة
الفارق بين التأديب والعقوبة
بداية يجب أن نفرق بين مفهومين مختلفين، وهما: التأديب،
والعقوبة، فهذان مفهومان مختلفان كلّ الاختلاف وكثيرًا ما نخلط بينهم. فالتأديب
هدفه الإصلاح والتقويم، حين يصيح أب في وجه ابنه فهو يهدف إلى تنبيهه إلى أمر خاطيء
فعله، يهدف إلى حفظه من الأفعال الشريرة، وإعادته إلى طريق بار مستقيم، وهذا ما
يفعله معنا الله كأبناءه، فحين نخطيء ونتركه ونعطيه القفا لا الوجه (إر32: 33)،
فإننا بذلك نخرج عن مجال عنايته الإلهية التي تحفظ الكون، وهكذا نحيا بطبيعتنا
الضعيفة في عالم مضطرب ونتعرض لتأديبات كثيرة جلبتها علينا أفعالنا، فنفيق من
غفلتنا ونعود إلى حضن الآب مرة أُخرى، وهذا ما يؤكده القديس كليمندس الروماني، وهو
أحد أقدم الكتاب الكنسيين، ربما كتبت رسالته هذه بالتوازي مع كتابة سفر الرؤيا من
العهد الجديد، ويقول:
فلنقبل أيها الأحباء التأديب الذي يجب ألَّا يتكدر أحد بسببه[1]؛ فإن النصائح التي ننبه بها بعضنا البعض جيدة ونافعة جدًّا لأنها توحِّدنا مع إرادة الله. فإنه لهذا تقول الكلمة المقدسة: "تأديبًا أدبنى الرب وإلى الموت لم يسلمني[2]، لأن من يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله"[3]. ويقول أيضًا: "فليؤدبنى الصديق برحمة ويوبخني، أما زيت الخطاة فلا يدهن رأسي"[4]. وفي موضع آخر: "طوبى للرجل الذي يؤدبه الرب؛ فلا ترفض تأديب القدير لأنه هو يجرح ويعصب يسحق ويداه تشفيان. في ست شدائد ينجيك وفي السابعة لا يمسك سوء. في الجوع يفديك من الموت، وفي الحرب من حد السيف. من سوط اللسان يخبئك، فلا تخاف من الشرور إذا انقضت عليك. تضحك على الأثمة والأشرار، ولا تخشى من وحوش الحقل. لأن الوحوش تسالمك. حينئذ تبصر السلام يملك في بيتك، وتهليل خيمتك لا يعثر. بل ترى نسلك يكثر، وأولادك كعشب الحقل. وحين تذهب إلى القبر تكون كالحنطة الناضجة في ميعادها، أو كرفع الكُدس[5] في أوانه "[6].
وهكذا ترون أيها الأحباء أن الأمن مكفول للذين يؤدبهم السيد؛ إنه كأب صالح لا يقومنا إلاّ لكى نختبر رحمته بواسطة تأديبه المقدس.[7]
في
ختام كلماته يوضح القديس كليمندس بجلاء أنّ التأديب يهدف إلى التقويم، والتقويم
هدفه اختبار حضن الله ومراحمه، فالتأديب هدفه الإصلاح لا التعذيب.
أمَّا
العقوبة، فإن هدفها التشفي والحاق الأذى بمن أخطأ بنا على فعله. لكن، هل هذا ما يفعله الله
حقًا؟ هل يُلحق الأذى بالخطاة؟!
بقراءة
مدققة لنصوص الكتاب المقدس ولتعاليم آباء الكنيسة الشرقية، فإن الإجابة بكل تأكيد
أن الله لا يفعل ذلك، بل إن أشد عقوبة يُعرض لها الخاطيء نفسه هو الترك الإلهي،
أن يتخلى عنه مصدر الوجود والفرح والحياة والرجاء، فيحيا في يأس وضعف وموت وحزن.
لنعود
مرة أٌخرى للقديس كليمندس الروماني، وفي رسالته إلى أهل كورنثوس، يؤكد على
مفهوم التخلي هذا إذ يكتب:
"وقد أظهر السيد بذلك أنه لا يترك من يلقي رجاءَهُ عليه، أمَّا العُصاة فيتخلى عنهم للعقاب والعذاب".[8]
إنَّ
العقوبة عند البشر تأخذ النقمة وحب الانتقام فيها مركز القيادة. ففي العقوبة الانتقاميّة ينتفي الحبّ،
وتحلّ النقمة والرغبة في التشفي والتعذيب، هكذا يرى البشر العدالة.
أمَّا
الله فهو يؤدبنا في هذه الحياة ولا يقتص منا، ودافع التأديب هو الحب، وهدف التأديب
هو التوبة
والعودة إلى أحضانه. فالمطلوب هو تعليم الجُهَّال وليس معاقبتهم، فالأعمى لا
يُضرب بل يؤخذ بيده لهدايته.
وكل
العقوبات التي ظهرت في العهد القديم هيَ عقوبات تأديبية لا عقوبات انتقامية، تأديبات الله هذه حتّى المؤلمة منها،
ليست عقوبات نقمة، لأنّ الله لا يرد الشر بالشر. ( مت 26: 51 – 52 )، ( يو 8: 3 –
11 ).[9] يقول القديس
يوحنا ذهبي الفم:
"غضب الله ليس انفعالًا، وإلَّا كان يحق للإنسان أن ييأس لعدم قدرته على إطفاء لهيب غضب الله المشتعل بسبب أعماله الشريرة. لكن الله بطبيعته خالٍ من الانفعال، حتّى إن قيل أنّه عاقب وأنّه انتقم ، فإنّه لا يصنع ذلك حنقًا، بل عن اهتمام بنا فيه حنان وعفو عظيم. وهذا يدفعنا إلى أن تكون لنا شجاعة عظيمة صالحة، وأن نثق في قوَّة التوبة" .[10]
ويقول القديس إكليمندس السكندري:
"يقولون إن كان الرب يحبّ الإنسان وهو صالح، فكيف يغضب ويعاقب؟
بالتأديب تُعالج كثرة الأهواء.. فالتوبيخ هو الجراحة لاستئصال أهواء النفس.. إنَّه أشبه بعقاقير تذيب صلابة الأهواء، وتطرد أدران دنس الحياة، بالاضافة الي انها تنزل بتشامخ الكبرياء والغطرسة، فيستعيد المريض صحته ويعود الي انسانيته الحقة".[11]
العلَّامة
أوريجانوس،
وفي سياق شرحه للنص الكتابيّ: "لا
أشفق ولا أترأف
ولا أرحم من
إهلاكهم". (إر 13: 14). يوضح
الفارق بين العقوبة والتأديب، وأهميّة كلٍ منهما، فيقول:
"يعتمد الهراطقة على تلك الكلمات ويستندون عليها ليقولوا: انظروا ما يقوله خالق العالم ورب الأنبياء عن نفسه، فكيف يمكن إذًا أن يكون إلهًا صالحًا؟
أنظر أيضًا إلى الطبيب ولاحظ كيف لو أشفق على المريض ولم يستخدم معه المشرط في الوقت المناسب، ولو أشفق عليه ولم يعالجه بأنواع الأدوية الكاوية حتى يُجّنِبَه الآلام المصاحبة لهذا الأنواع من العلاج، انظر كيف سيتفاقم المرض وتزيد خطورته عن ذي قبل. أما إذا تقدم الطبيب في جرأة ولجأ إلى الاستئصال أو إلى الكي، فإنه في هذه الحالة يمنح المريض الشفاء، رغم أن المظهر الخارجي يوحي بأنه يرفض أن يشفق وأن يرحم المريض بتعريضه لكل الألم".
ما
سبق قاله عن التأديب، فالله يؤدب لكي يقوِّم ويصلح ويمنع ضررًا أكبر في المستقبل. أمّا
العقوبة، فهدفها الأساسي إصلاح الآخرين لا الشخص الذي تقع عليه العقوبة حاليًا، بل
الذي يقرأ عن العقوبة والذي يعرف بخبرها، يخاف فيقوِّم طريقه، فيقول:
وإذا أردت أن أذكر لك مثاًلا من الكتاب المقدس يشهد أن معاقبة الخطاة تكون أيضًا من أجل نفع الأخرين وتعليمهم، حتى ولو كنا يائسين من شفاء هؤلاء الخطاة أنفسهم، فإليك ما يقوله سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "اضرب المستهزيء فيتذكى الأحمق" (أم 19: 25)، فهو لم يقل أن الذي يُضرَب هو الذي يتذكى ويعود إلى عقله بسبب الضربات، وإنما يقول أن الأحمق بسبب الضربات الواقعة على المستهزيء يكف عن التمادي في حماقته ويصير عاقًلا. فهو يتغير حينما يرى عقاب الأخرىن.
وكما أن سقوط إسرائيل كان فيه خلاص الأمم، كذلك أيضًا فإن عقاب البعض يكون فيه خلاص الأخرين".[12]
ماذا عن موت الأشرار المذكور
في العهدين؟
حتّى موت البشر في الطوفان وسدوم وعمورة، وعقوبات الشعوب
في العهد القديم، أو موت حنانيا وسفيرة أو هيرودس، الذي مات وصار يأكله الدود (أع12:
23) في العهد الجديد، فإنّها ميتات جسديّة أنهى بها الله حياة البعض في الزمن
الأرضيّ، كتأديب لهم ولنا، ليس لأنّ قلب الله قد ضعفت فيه المحبّة لأي من
هؤلاء – حاشا – فكلّ إنسان هو عزيز جدًّا لقلب الله، مهما كان خاطئًا، ولكن لأنّ
تأديب هذا الإنسان ومن حوله اقتضى هذا الموت المُبكِّر أو المُروِّع. وحكمة
هذه الطريقة من الموت الجسديّ هيَ حكمة محبّة وتدبير عالٍ، ولكنه يقوم أوّلًا
على المحبّة والرحمة، لا على التشفي والنقمة، كما عند البشر. ونؤكِّد مرة
أُخرى أنّ موت الجسد آتٍ لا محالة، فلا يهم طريقة هذا الموت.
عقوبات الله هيَ تأديبات زمنيّة، مهما كانت قاسية، لكي
يرجع الإنسان إلى أحضان الله المُحبِّة والحياة الحقيقيّة. لا لكي ينتقم ولا لكي
يقتص لعدالته وكرامته المهانة بالشر. لأنّ الله لا يُهان بشر الإنسان، كما أنّه لا
يزيد ببره، هكذا قال أليهو لأيوب: "إن اخطأت فماذا فعلت به؟ وإن كثرت
معاصيك فماذا عملت له؟ إن كنت بارًا فماذا اعطيته أو ماذا يأخذه من يدك؟ لرجل مثلك
شرك ولابن آدم برك" (أي35: 6 – 8). ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
"الذين اخطأوا ولو في حقه لا يرغب في معاقبتهم انتقامًا لنفسه لأنّه لا يصيب لاهوته ضررًا، إنما يفعل ذلك لأجل نفعنا نحن، لكي يمنع انحرافنا الذي يتزايد باستهتارنا وعدم مبالاتنا به. فكما أنّ الذي يبقى خارجًا بعيدًا عن النور، لا يضر النور في شيء، بل تقع الخسارة العظمى عليه كونه في الظلام، هكذا من اعتاد أن يحتقر القوَّة القادرة، لا يضر القوة بل يضر نفسه بأكبر ضررٍ ممكن".[13]
ويكتب العلامة اوريجانوس:
انظروا كم هو عظيم تأثير الخطية، لان بها نثير ونغيظ الله الواحد الذي ليس فيه انفعال الغضب أو حتّى تغيير وانفعال. يبقي الله غير متغير في طبيعته، ولا يسقط في أحاسيس الغضب. بالرغم من هذا فإني ابتلي نفسي بالغضب من خلال الخطايا التي اقترفتها تمامًا كما يقول الرسول نفسه معلمًا هذه الأمور: "لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كلّ واحد حسب أعماله" (رو2: 5 – 6).[14]
فالله يهمس لنا وسط مسراتنا، ويتحدث إلينا في ضمائرنا،
لكنه يصرخ إلينا في آلامنا: فالألم هو بوق الله لإيقاذ عالم الصم، كما يقول سي إس
لويس، فكل كارثة ما هيَ إلَّا إنذار بالهلاك المعدّ للباقين إن لم يتوبوا.
فبإمكاننا فهم هذه الكوارث، والتي تفضي إلى الموت الجسديّ، على أنّها تحذيرات
لتوبة الباقين، وليست نقمة من الله على شرور قد وقعت عليهم.
نقول مرة أُخرى إنّ الموت الجسدي البيولوجيّ هو حتمي
ولا مفر منه، لأنّه صار بسبب المعصية جزء من تدبير رحمة الله، لكي يرقد الإنسان
وينتقل من هذا العالم لحين قيامه مرة أُخرى ليقف أمام الديَّان العادل في اليوم
الأخير. فالموت الجسديّ أيًا كانت طريقته هو تدبير رحمة ومحبّة.
إنّ سبب الموت ليس الله، ولكن الخطية التي ارتكبها
الإنسان الأوَّل في الفردوس بحرّيّة اختياره.[15]
والله قد سمح بدخول الموت إلى الطبيعة البشريّة من حبَّهُ للبشر. فيقول القديس باسيليوس
الكبير:
"قد سمح الله بالموت لكي لا يبقى الإنسان إلى الأبد في موت روحيّ".
أي أن الله سمح بوجود الموت حتى يضع حدًا لشرور الإنسان
الخاطيء، حتى لا يظل الشرّ مؤبدًا، وحتى تنتهي أحزان يصنعها الشرّ في العالم. إنَّ الله في
محبته لجنس البشر وحتّى لا يصبح الشر أبديًّا خالدًا، سمح لرباط النفس والجسد غير
القابل للكسر ان ينحلّ.[16]لكن الله
لم يخلق الموت، الموت ليس من صنع الله، يقول المطوَّب أغسطينوس:
"إنَّ الموت (الذي يفصل الروح عن الجسد) ليس بعقاب، ولكن لأنّ الكثيرين يشعرون بخوف من الموت، لذلك استخدمت عقوبة الموت لتخويف الخطاة. والحقيقة أنَّ الموت لا يضر من يؤدَّب به، إنّما الذي يجلب الضرر هي تلك الخطية التي تتزايد ببقاء الخطاة أحياء في الجسد".[17]
"إنَّ أتباع ماني ينقدون العهد القديم ولا يعترفون به لأجل تلك الأحكام. ولكن عليهم أن يتأملوا ما قاله بولس الرسول بخصوص الخاطيء الذي أُسلِمَ إلى الشيطان لهلاك الجسد "لكي تخلص الروح" (1كو5:5). ورغم أنّ هذا النص لا يفهم منه موت الجسد إلَّا أنّ الرسول كان يفرض هذا التأديب لا عن كراهية بل في حبٍّ كما يتضح من قوله: "لكي تخلص الروح".[18]
"في موضع آخر قلت: "الله لا يطلب موت أحدٍ". هذا يُفسَّر هكذا: جلب الإنسان الموت لنفسه بهجره الله، فمن لا يرجع إلى الله يجلب الموت على نفسه، كما هو مكتوب: "لأن الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13)"[19].
"الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13)، مع أنه مكتوب في موضع آخر: "الموت والحياة هما من الرب الإله" (سي 11: 14). عقاب صانعي الشر الذي هو من الله يُحسب شرًا بالنسبة لصانعي الشر، لكنه يُحسب من الأعمال الصالحة التي لله، لأنه من العدالة أن يُعاقب صانعو الشر، وكل ما هو من العدالة بالتأكيد هو صالح"[20].
ويكتب
المطوَّب أمبرسيوس:
"بالحق لم يكن الموت جزءً من طبيعة الإنسان، وإنما صار أمرًا طبيعيًا، لأن الله لم يؤسس الموت في البداية، لكن قدمه كعلاجٍ. لنحذر إذن لئلا يظهر لنا ما هو خلاف ذلك. فلو كان الموت صالحًا، فلماذا كُتب أن "الله لم يصنع الموت" (حك 1: 14)، إلا لأنه بشرِّ البشر دخل إلى العالم"؟[21]
وفي
مناظرات القديس يوحنا كاسيان يقول الأب شيريمون إن الهالكون يهلكون بغير
إرادة الله، لإن إرادة الله الخير والصلاح، إرادة الله أن يحيا الإنسان إلى
الأبد:
"فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته، وهو يشهد ضد كل واحدٍ منهم يومًا فيومٍا قائلاً: "ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة، فلماذا تموتون" (حز11:33). وأيضًا: "كم مرَّةٍ أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت37:23)، "فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا" (إر 5:8).
فلو لم يدعُ الجميع بل البعض فقط، لكانت النتيجة أن يكون الكل مثقلاً بالخطايا، وإلا صار القول التالي غير صادق: "إذ الجميع أخطأُوا وأعوزهم مجد الله" (رو23:3)، وما كنا نصدق أن الموت قد عبر إلى جميع الناس (رو12:5).
وإذ الهالكون يهلكون بغير إرادة الله، لهذا يمكننا أن نقول بأن الله ليس بصانع الموت، وذلك كشهادة الكتاب المقدس القائل: "إذًا ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسرَّه" (حك13:1)[22].
ماذا يعني غضب الله في
الكتاب المقدس؟
جميع المسيحيين بكل أطيافهم وتوجهاتهم الفكرية يتفقون
على أنّ الله ليس إنسانًا، ولا يملك مشاعر كما البشر، أي أنّ الله لا يسخط ولا
يتغير ولا يغضب ولا ينفعل ولا يحدث في طبيعته أو إن جاز أن نقول مشاعره أي تغيُّر
تجاه خليقته، مهما حدث، ومهما صدر منها، لأنّ أي شرٍ تصنعه البشرية
يعود عليها هي بالأثر السلبي، ولا يصيب الله في لاهوته أي ضررٍ من هذه الأفعال.
فيكتب المطوَّب أمبرسيوس:
"أنت تسمعه يتكلم عن الرحِم، فعليك أن تعترف بحقيقة الميلاد الذى لا شك فيه[23]، وتسمع عن قلبه ـ فعليك أن تعترف أنه يوجد هنا كلمة الله[24]. وعن يده اليمنى ـ فعليك أن تعترف بقوته[25]. وعن وجهه ـ فاعترف بحكمته[26]. فعندما نتكلم عن الله، فلا يجب أن نفهم هذه الكلمات، كما نفهمها حينما نتكلم عن الأجساد".[27]
ولكننا نجد الكثير من نصوص الكتاب المقدس التي تتحدث عن
الله كغاضب أو ثائر، فماذا تعني تلك النصوص؟ وكيف فسرها آباء الكنيسة؟
للقديس كيرلس الكبير كتاب تُرجِم بعنوان:
"السجود والعبادة بالروح والحق"، في المقال الأوّل من هذا الكتاب يشرح
في جملة بسيطة ما هو مفهوم الغضب في النصوص الكتابية، وفي كتابات الآباء أيضًا،
فيقول:
عندما نقول: انت سخطت، أو غضبت إذ أخطأنا، نقصد أنّه إن لم يشملنا عطف الرب، فلن يكون أمام الخطية أي عائق يمنعها من تعذيبنا! وذلك بسبب ضعف طبيعتنا![28]
فالغضب الإلهي سواء في الكتاب المقدس أو في كتابات
الآباء يعني خروجنا من المعية الإلهيّة، يعني أنّنا بكامل إرادتنا الحرّة تركنا
الله، وسرنا خلف أهوائنا، وفعلنا الشرّ، وهذا يعني خروجنا من دائرة العناية
الإلهية، والتي يتبعها بالضرورة حدوث شرور كثيرة لنا، جزء منها نتيجة الفعل الشرير
الذي نقدم عليه، والجزء الآخر نتيجة وجودنا بمفردنا وبطبيعتنا الضعيفة الساقطة
المائتة في عالم يعج بالمخاطر.
وهذا ما يؤكِّده جميع الآباء الشرقيّين، حيث يكتب يوحنا
كاسيان:
حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.
وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المُجَازي عن أعمالنا، وأن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.
فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ[29].
والعلامة
أوريجانوس يقول:
تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبه فيها الله بصفات الإنسان. فإذا سمعت يومًا كلمات "غضب الله وثورته" لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة عند الله، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم.
لأننا نحن أيضًا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونصحح أخطائهم نظهر أمامهم بصورة مخيفة ووجه صارم وحازم لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية، إنما يتناسب مع طريقة التأديب.
إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكل دائم، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردهم إلى الأسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله، فحينما يقال أن الله يغضب، فإن المقصود بهذا الغضب هو توبتك وإصلاحك، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور، لكنك أنت الذي ستتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك، في حالة تأديب الله لك بما نسميه غضب الله![30]
[1] عب7:12، أف4:6.
[2] مز8:118.
[3] أم12:3، عب6:12، رؤ19:3.
[4] مز5:141.
[5] الكُدْس
جمعها أكداس وهو الحَبْ المحصود المجموع (قاموس المنجد).
[6]
أيوب17:5ـ26.
[7]
القديس اكليمندس الروماني. الرسالة الي كورنثوس، 2: 16.
[8] تك19. قارن 2بط6:2ـ9.
[9]
الأنبا هرمينا، اتركها هذه السنة أيضًا، ص 32.
[10]
N.P.N.F first series vol. IX, an exhortation to Theodore
after his fall, letter 1. p 93
[11]
the ante – Nicene fathers: vol II, paedagogus, 1: 8 p.
225
[12]
عظات علي ارميا، 12: 5، 6.
[13]
N.P.N.F first series vol. IX, an exhortation to Theodore
after his fall, letter 1. p 93
[14]
التأديب للبنيان لا للهدم. تعريب الشماس بيشوي بشري فايز. ص 18،
19.
[15]
كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: "لكن البشر تحولوا عن الأبديات..
وصاروا صانعي هلاكهم بالموت بأيديهم لأنّهم كانوا معرضين بالطبيعة للفناء". (تجسد
الكلمة. 4: 6).
[16]
الحياة بعد الموت. ايروثيئوس مطران نافباكتوس. ص 36.
[17]
شرح الموعظة على الجبل. فصل 63.
[18]
المرجع السابق، ص 64.
[19] The Retractions, 1:20.
[20] The Retractions, 1:25.
[21] On Belief in the Resurrection, Book 2: 47.
[22]
[23] قد يكون الشاهد هنا هو إش5:49س
" والآن قال الرب جابلى من الرحم (البطن)".
[24] 1صم14:13 " .. قد انتخب الرب لنفسه رجلاً حسب قلبه .." .
[25] مز2:97 " أحيَت (خلَّصت) له
يمينه وذراعه القدوسة .. ".
[26] مز9:27 " لا تحجب وجهك عنى
.." .
[27] شرح الإيمان المسيحي. ك1. ف10: 67.
[28]
كيرلس الكبير، السجود والعبادة، المقالة الأولى.
[29] Cassian: De institutis caenoboum, 8:2-4.
[30] Homilies on Jer., 18.