الجمعة، 1 سبتمبر 2023

الله ثالوث، للأب كاليستوس وير، عن كتاب: "الطريق الأرثوذكسي"



 الله كمحبة متبادلة :


          نحن نؤكد في بداية قانون الإيمان أننا " نؤمن بإله واحد " ، لكننا نقول على الفور ما هو أكثر من ذلك. فنحن نستمر قائلين، نحن نؤمن بإله واحد الذي هو في نفس الوقت ثلاثة: الآب والابن والروح القدس. يوجد في الله تمايز أصيل وأيضًا وحدانية حقيقية. إله المسيحيين ليس مجرد وحدة unit من الوحدات بل هو اتحاد، ليس مجرد وحدة بل شركة. هناك في الله شئ ما مماثل للـ" المجتمع ". هو ليس شخصًا فرديًا يحب ذاته وحده، وليس جوهرًا فرديًا monad أو "الواحد". بل هو ثالوث أو وحدة ثالوثية triunity : ثلاثة أشخاص متساوون، كل شخص يوجد في الاثنين الآخرين بفضل حركة محبة متبادلة لا تتوقف. " أنا أحب، لهذا أنا كائن Amo ergo sum" ذلك عنوان قصيدة "كاتلين راين" والتى يمكن أن تكون شعارًا لله الثالوث القدوس. وما يقوله شكسبير بشأن الحب الإنسانى بين شخصين يمكن تطبيقه أيضًا على المحبة الإلهية بين الأقانيم الثلاثة الأزليين:

          هكذا أحبا، حبًا بين اثنين

          ولهما جوهر واحد

          والاثنان متميزان ، بلا انقسام

          فالعدد في الحب شئ منعدم

 

          إن الغاية الأخيرة من الطريق الروحى أننا نحن البشر يجب أن نكون أيضًا جزءً من الوجود الحى المتبادل في الثالوث [Trinitarian Coinherence أو ما يسمى بالـPerichoresis ]، إذ تجذبنا بالكامل دائرة الحب القائمة في داخل الله. هكذا صلى المسيح لأبيه ليلة صلبه       " ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكون هم أيضًا واحدًا فينا " (يو21:17) .

 

          لماذا نؤمن أن الله ثلاثة ؟ أليس من الأسهل أن نؤمن ببساطة بالوحدانية الإلهية، مثلما يفعل اليهود والمسلمون؟ بالتأكيد هذا أسهل. إن عقيدة الثالوث تقف أمامنا بمثابة تحدٍ، كاللغز (crux) بالمعنى الحرفى: إنها بعبارة فلاديمير لوسكى "صليب لطريق التفكير البشرية"، وهى تتطلب يتطلب منا التوبة (metanoia) بصورة جذرية ـ وليس مجرد لفتة تصديق رسمى، بل تغير حقيقى في الذهن وفى القلب .

          لماذا الإيمان إذن بالله كثالوث ؟ وجدنا في الفصل السابق أن أكثر طريقين يساعدانا على الدخول إلى السر الإلهى أن نؤكد أن الله شخص  وأن الله محبة. ويتضمن هذان المفهومان المشاركة والتبادل. أولاً، ليس "الشخص" هو نفس الشيء "كالفرد" على الإطلاق. فأى واحد منعزل ومستقل بذاته لا يكون شخصًا أصيلاً حقيقيًا بل مجرد فرد، أى وحدة مجردة كما يتم تسجيلها في التعداد. إن التمركز حول الأنا هو موت الشخصية الحقيقية. ويصبح كل فرد شخصًا حقيقيًا فقط من خلال الدخول في علاقة مع أشخاص آخرين، أى من خلال الحياة لأجلهم وفيهم. لقد قيل وهذا حق، إنه ما من إنسان يمكن أن يوجد، ما لم يكن اثنان على الأقل في علاقة معًا. ونفس الشيء يُصدق، على المحبة. لا يمكن للمحبة أن تقوم في عزلة، بل هى تفترض وجود الآخر. إن محبة الذات هى إلغاء المحبة. ومثلما أوضح " تشارلز ويليامز" هذا التأثير المُخرِّب فى روايته " الهبوط إلى الجحيم "، فإن حب الذات هو الجحيم، لأن حب الذات إذا ما بلغ منتهاه، إنما يدل على نهاية كل فرح وكل معنى. ليس الجحيم هو الآخرون، إنما الجحيم هو ذاتى، إذا ما انفصلت عن الآخرين وتمركزت حول نفسها.

 

          إن الله أفضل بكثير من أحسن ما نعرفه في نفوسنا. فإن كان اثمن عنصر في حياتنا كبشر هو العلاقة بين " الأنا والأنت "، فإننا لا يمكننا إلاّ أن ننسب نفس العلاقة، بمعنى ما، إلى كيان الله الأزلى ذاته. وهذا بالضبط ما تعنيه عقيدة الثالوث القدوس. ففى قلب الحياة الإلهية ذاتها، ومنذ الأزل يعرف الله ذاته بصفته " أنا وأنت " I and Thou "، بأسلوب ثالوثى، وهو يفرح على الدوام بهذه المعرفة. إذن، كل ما يتضمنه فهمنا المحدود للشخص الإنسانى وللحب الإنسانى، هذا نؤكده أيضًا عن الله الثالوث، ونضيف أن هذه الأمور في حالة الثالوث تعنى أكثر بغير حدود مما يمكن أن نتخيله على الإطلاق .

 

          إن الشخص والمحبة يعنيان الحياة، والحركة، والاكتشاف. هكذا فإن عقيدة الثالوث تعنى أننا يجب أن نفكر في الله بمعانٍ متحركة أكثر منها ساكنة. فليس الله مجرد سكون وراحة وكمال غير قابل للتغيير. ولكى نكوّن صورًا عن الله الثالوث علينا أن نتأمل الريح، والمياه الجارية ولهب النيران المتأججة. هناك تشبيه مفضل عن الثالوث كان دائمًا يصوره بثلاثة مشاعل تشتعل بلهب واحد. وتخبرنا " أقوال آباء البرية " كيف أن أخًا جاء مرة ليتحدث إلى الأنبا يوسف فى بانيفو وقال الزائر " يا أبانا، إنى أتبع حسب مقدرتى قاعدة متواضعة للصلاة والصوم، والقراءة والصمت، وبقدر استطاعتى أحفظ نفسى طاهرًا في أفكارى. فماذا لى أن أفعل أكثر؟ فأجابه الأنبا يوسف وقد وقف على قدميه ورفع ذراعيه نحو السماء، وأصبحت أصابعه مثل عشرة مشاعل مضيئة، وقال الشيخ العجوز للزائر: "إن أردت، يمكنك أن تصير كلك نارًا بالكامل". فإن كانت هذه الصورة عن اللهب الحى تساعدنا على فهم طبيعة الإنسان في أعلى حالاتها ، ألاّ يمكن أن تنطبق أيضًا على الله ؟ إن أقانيم الثالوث هم " بالكامل نار " .

 

          لكن في النهاية، فإن أقل صورة تضلل فهمنا يمكن أن نجدها، لا في العالم الطبيعى خارجنا، بل في القلب البشرى، إن التشبيه الأفضل هو ذلك الذى بدأناه ألاّ وهو خبرتنا بالاهتمام الشديد بشخص آخر ومعرفتنا أن محبتنا تُرد لنا بمحبة مثلها.

 

ثلاثة أشخاص (أقانيم) في جوهر واحد :


          قال المسيح " أنا والآب واحد " (يو30:10) فماذا كان يعنى ؟ للإجابة علينا أولاً أن نرجع أول مجمعين من المجامع المسكونية : مجمع نيقية      (325)، ومجمع القسطنطينية (381)، وإلى قانون الإيمان الذي صاغه هذان المجمعان. إن التأكيد الأساسى والحاسم في قانون الإيمان هو أن يسوع المسيح هو "الإله الحق من الإله الحق"، "واحد في الجوهر" (أو "هوموأوسيوس") مع الله الآب. بعبارة أخرى، فإن يسوع المسيح مساوٍ للآب: هو الله بنفس معنى أن الآب هو الله، ومع ذلك فهما ليسا إلهين بل إله واحد. ومن ثم إن الآباء الشرقيين في أواخر القرن الرابع الميلادى قالوا نفس الشيء عن الروح القدس: هو بالمثل إله حق، "واحد في الجوهر" مع الآب والابن. ورغم أن الآب والابن والروح القدس إله واحد، فإن كلاً منهم هو منذ الأزل شخص (أقنوم)، هو مركز متميز لوعى ذاته. الله الثالوث إذن يوصف بأنه ثلاثة أقانيم في جوهر واحد. توجد في الله منذ الأزل وحدة حقيقية، مرتبطة بتمايز شخصى أصيل: لفظة "جوهر"، "كيان" (ousia)، إنما تدل على الوحدة، ولفظة "شخص" أو "أقنوم" (هيبوستاسيس) (hypostasis) أو (بروسوبون) تدل على التمايز. فلنحاول أن نفهم ما الذى تدل عليه هذه اللغة المحيرة ، لأن عقيدة الثالوث القدوس عقيدة حيوية بالنسبة لخلاصنا .

 

          الآب والابن والروح واحد في الجوهر، لا بمعنى فقط أن الثلاثة هم أمثله لنفس المجموعة أو الجنس العام، بل بمفهوم أنهم يشكلون معًا حقيقة واحدة فريدة وخاصة. وفي هذا الصدد هناك فارق هام بين معنى أن أشخاص الله الثلاثة هم واحد، ومعنى أن يدعى ثلاثة أشخاص من البشر واحدًا. فالأشخاص الثلاثة من البشر بطرس ويعقوب ويوحنا، ينتمون إلى نفس الجنس العام، جنس "الإنسان". وبرغم أنهم متقاربون معًا متعاونون معًا، فإن لكل واحد منهم إرادته الخاصة وقدرته الخاصة، يعمل كل واحد بمقتضى قوته الخاصة المنفصلة في اتخاذ القرار أو المبادرة. باختصار، هم ثلاثة رجال وليس رجلاً واحدًا. لكن في حالة أشخاص الثالوث الثلاثة ليس الأمر هكذا. هناك تمايز، لكن ليس هناك انفصال على الإطلاق. فالآب والابن والروح كما يؤكد القديسون ـ تابعين شهادة الكتاب المقدس ـ لهم إرادة واحدة فقط وليست ثلاث إرادات. لهم طاقة واحدة وليست ثلاثًا. لا أحد من الثلاثة يعمل منفردًا، بمعزل عن الاثنين الآخرين. هم ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد .

 

          ومع ذلك ورغم أن الأقانيم أو الأشخاص الثلاثة لا يعملون أبدًا بمعزل الواحد عن الآخر، فإن في الله تمايزًا أصيلاً كما أن فيه وحدة خاصة. فى اختبارنا لله وهو يعمل في عمق حياتنا الخاصة، وبينما نجد أن الثلاثة يعملون دائمًا معًا، مع ذلك فإننا نعلم أن كلاً منهم يعمل فينا بطريقة مختلفة. نحن نختبر الله كثلاثة فى واحد، ونؤمن أن هذا التمايز الثلاثى فى عمل الله الخارجى يعكس تمايزًا ثلاثيًا فى حياته الداخلية. والتمايز بين الأشخاص الثلاثة يعتبر تمايزًا أزليًا قائمًا فى داخل طبيعة الله نفسه؛ فالتمايز لا ينطبق فقط على فعله الخارجى فى العالم. الآب والابن والروح القدس ليسوا مجرد "أشكال" أو "أساليب" للاهوت (الألوهية)، ليسوا مجرد أقنعة يرتديها الله لفترة فى تعاملاته مع الخليقة ثم يخلعها جانبًا. هم على النقيض ثلاثة أشخاص متساوون معًا وأزليون معًا (Coequal, Coeternal Persons). الأب البشرى أكبر سنًا من ابنه. لكن حين نتحدث عن الله "كأب" و"كابن" لا نفسر هذه الألفاظ بهذا المعنى الحرفى. نحن نؤكد أن " الابن " لم يكن هناك وقت لم يكن فيه موجودًا. ونفس الشيء يُقال عن الروح .

 

          كل واحد من الثلاثة هو بالكامل وبالكلية الله. ليس أحد منهم أكثر أو أقل من إله بالنسبة للآخرين. كل واحد يملك، لا ثلث لاهوت، بل الألوهية الكاملة فى مجملها، ومع هذا فكل واحد يحيا ويكون هذا اللاهوت الواحد بطريقته المتميزة الخاصة ‎والشخصية. وإذ يؤكد القديس غريغوريوس النيسى على هذه الوحدة الثالوثية فى تنوع، يكتب:

          [ كل ما يكونه الآب، نراه ظاهرًا (مستعلنًا) فى الابن، وكل ما هو للابن فهو للآب أيضًا، لأن الابن بكامله يسكن فى الآب، وله الآب بكامله ساكنًا فى ذاته، الابن الكائن دائمًا فى الآب لا يمكن أن ينفصل عنه، ولا يمكن أن ينفصل الروح عن الابن الذى يعمل بالروح كل شئ. والذي يقبل الآب يقبل أيضًا وفى آنٍ واحد الابن والروح. من المستحيل أن نتخيل أى نوع من الانفصال أو القطع بينهم: فلا يمكن للمرء أن يفكر فى الابن بمعزل عن الآب، ولا أن يفصل الروح عن الابن. هناك بين الثلاثة مشاركة وتمايز يفوق التعبير بالكلام ويفوق الفهم. والتمايز بين الأشخاص لا يضعف وحدانية الطبيعة ولا تقود وحدانية الجوهر المشتركة إلى اختلاط بين الخصائص المتميزة للأشخاص (الثلاثة). لا تندهشوا أننا يجب أن نتكلم عن اللاهوت بأنه موحد ومتمايز في آنٍ واحد. وإذا استخدمنا الألغاز، إن جاز التعبير، فإننا نتصور تنوعًا ـ فى ـ وحدة، ووحدة ـ فى تنوع، غريبة ومتناقضة].

 

وباستخدامه عبارة " إذا استخدمنا الألغاز.. " فإن القديس غريغوريوس مضطر أن يؤكد أن تعليم الثالوث " فيه تناقض ظاهرى " Paraoxical وأنه " يفوق التعبير بالكلام والفهم ". إنه شئ أعلنه الله لنا ولم توضحه لنا عقولنا. يمكننا أن نلمح له بلغة بشرية، لكننا لا نقدر أن نشرحه بالكامل. وقدراتنا العقلية هى هبة من الله ويجب أن نستخدمها حتى الكمال، لكن علينا أن ندرك محدوديتها. ليس الثالوث نظرية فلسفية، لكنه الله الحى الذي نعبده، لهذا تأتى نقطة فى اقترابنا من الثالوث حين يجب لمناقشتنا وتحليلنا أن يترك المكان للصلاة التى بغير كلام :

          " فليصمت كل جسد مائت

وليقف فى خوف ورعدة ."                                     (ليتورجية القديس يعقوب)

 

الخصائص الشخصية فى الثالوث :


          الشخص الأول فى الثالوث، الله الآب، هو "نبع اللاهوت"، المصدر، العلة، أو مبدأ أصل الشخصين الآخرين. هو رابطة الوحدة بين الثلاثة: هناك إله واحد لأن هناك آبًا واحدًا. " الوحدة هى الآب ، الذى منه وإليه يسير مجرى نظام الأشخاص" (القديس غريغوريوس اللاهوتى). كل شخص من الشخصين الآخرين يُعّرف بألفاظ تعبر عن علاقته بالآب: فالابن "مولود" من الآب، والروح "ينبثق" من الآب . وفى الغرب اللاتينى، هناك اعتقاد ثابت بأن الروح ينبثق " من الآب ومن الابن ". وقد أُضيفت لفظة فيليوك filioque (أى من الابن) إلى النص اللاتينى لقانون الإيمان. وتعتبر الأرثوذكسية لفظة فيليوك إضافة غير شرعية ـ لأنها أُضيفت إلى قانون الإيمان دون موافقة الشرق المسيحى ـ ليس هذا فحسب، بل إنها تعتبر أيضًا أن تعليم " الانبثاق المزدوج "، كما يُشرح عادة، هو تعليم غير دقيق لاهوتيًا وضار روحيًا. وبحسب آباء القرن الرابع الشرقيين، الذين تتبعهم الكنيسة الأرثوذكسية حتى يومنا هذا، فإن الآب هو المصدر الوحيد وأساس وحدة اللاهوت. ولكى نجعل الابن مصدرًا مثل الآب، أو بالاشتراك معه، معناه أن نتسبب فى ارتباك الخصائص المميزة للأشخاص.

 

          والشخص الثانى فى الثالوث هو ابن الله، " كلمته " أو اللوغوس . ولكى نتحدث بهذا الأسلوب عن الله كابن وآب معناه على الفور أن يتضمن (هذا الحديث) حركة من المحبة المتبادلة، كما أشرنا قبلاً. ومعناه أن يتضمن (كلامنا) أنه منذ الأزل فإن الله نفسه، كابن ـ فى طاعة بنوة ومحبة ـ يرد إلى الله الآب الكيان الذى يولّده الآب فيه منذ الأزل بالبذل الذاتى الأبوى. وفى الابن ومن خلاله يُستعلن أو ينكشف الآب لنا: " أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى الآب إلاّ بى" (يو6:14). هو الذى وُلِدَ على الأرض كإنسان من العذراء مريم فى مدينة بيت لحم. لكنه كالكلمة أو لوغوس الله فهو أيضًا يعمل قبل التجسد الإلهى. هو مبدأ النظام وهو الغاية الذى يتغلغل فى كل الأشياء ويجذبها إلى الوحدة فى الله، وهكذا يجعل العالم universe "كونًا Cosmosأى كلاً متكاملاً ومتناسقًا. وقد أسبغ اللوغوس الخالق على كل شئ مخلوق اللوغوس الخاص به الساكن فيه أى المبدأ الداخلى، الذى يجعل هذا الشيء هو ذاته بشكل متميز، والذى يجذب فى آنٍ واحد ويوجه كل شئ نحو الله. ومهمتنا البشرية كصناع أو حرفيين هى أن ندرك هذا اللوغوس الساكن فى كل شئ وأن نجعله ظاهرًا (معلنًا)، نحن لا نسعى أن نهيمن ونسيطر بل أن نتعاون .

 

          أما الشخص الثالث فهو الروح القدس، "الريح" أو" نفس" (نسمة) الله. وبينما نحن ندرك عدم دقة التقسيمات المرتبة، فإننا يمكن أن نقول إن الروح هو الله فينا، والابن هو الله معنا، والآب هو الله فوقنا أو فيما وراءنا أو أبعد منا. ومثلما يكشف الابن الآب لنا، هكذا فإن الروح هو الذى يكشف الابن لنا، ويجعله حاضرًا معنا. ومع ذلك فالعلاقة متبادلة. فالروح يجعل الابن حاضرًا معنا، لكن الابن هو الذى يرسل الروح إلينا. (نحن نلاحظ أن هناك تمايزًا بين "الانبثاق الأزلى" للروح و"إرساليته الزمنية". فالروح مرسل إلى العالم فى الزمن، بواسطة الابن، لكن بالنسبة لأصله فى داخل الحياة الأزلية للثالوث، فإن الروح ينبثق من الآب وحده).

 

          ويكتب سينيسيوس القيروانى مميزًا كل شخص من الأشخاص الثلاثة:

نهتف، يا أيها الآب، نبع الابن،

أيها الابن، صورة الآب،

أيها الآب، القاعدة حيث يقوم الابن،

أيها الابن، ختم الآب؛

أيها الآب، قوة الابن،

أيها الابن، جمال الآب،

أيها الروح الكلى الطهر، الرابطة بين الآب والابن،

أرسل أيها المسيح، الروح،

أرسل الآب إلى نفسى،

أغمر قلبى الجاف فى هذا الندى، أحسن كل عطاياك.

           

لماذا نتحدث عن آب وليس أم :


          لكن لماذا نتحدث عن الله كآب وابن، وليس كأم وابنة، إن اللاهوت فى ذاته ليس فيه ذكورة ولا أنوثة. وعلى الرغم من أن خصائصنا البشرية كذكر وأنثى تعكس، فى أعلى وأصدق صورها ملمحًا أو مظهرًا من الحياة الإلهية، إلاّ أنه لا يوجد فى الله مثل هذا التمايز الجنسى. لهذا فحينما نتحدث عن الله كآب فإننا لا نتكلم كلامًا حرفيًا بل روحيًا. ومع ذلك فلماذا تكون الرموز ذكرية وليست أنثوية؟ لماذا ندعو الله " هو " وليس " هى" ؟ فى الحقيقة فإن المسيحيين قد طبقوا أحيانًا لغة " الأم " على الله. فيتحدث أفراهات، أحد قدامى الآباء السريان الأوائل، عن محبة المؤمن "لله أبيه والروح القدس أمه"، بينما نجد فى العصور الوسطى للغرب أن الليدى يوليان من نورويخ تؤكد أن: "الله يتهلل بأنه أبونا ، والله يتهلل بأنه أمنا ". لكن تلك استثناءات . فالرمزية المستخدمة عن الله بواسطة الكتاب المقدس وفى عبادة الكنيسة هى تقريبًا على الدوام رمزية ذكرية.

 

          ولا يمكننا أن نثبت بالمجادلات لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا، ومع ذلك تبقى حقيقة اختبارنا المسيحى أن الله وضع ختمه على بعض الرموز دون رموز أخرى. ولم نختر نحن الرموز بل هى قد أُعطيت وأُعلنت لنا من الله. يمكن للرمز أن يتحقق ويُعاش ويُصلى به ـ لكن لا يمكن أن "نبرهن" عليه منطقيًا. وهذه الرموز " المعطاة " رغم ذلك، وإن كان من غير الممكن أن يكون لها برهان، إلاّ أنها بعيدة رغم ذلك عن أن تكون اعتباطية Arbitrary. ومثل رموز الأساطير، والأدب والفن، فإن رموزنا الدينية تتغلغل بعمق إلى جذور كياننا الخفية ، ولا يمكن أن تتبدل أو تتغير دون أن تنتج عنها عواقب فورية. فإن بدأنا مثلاً بالقول " أمنا التى فى السموات " بدلاً من " أبانا"، فإننا لا نكون فقط قد غيرنا فى نص بتصور آخر عارض بل نكون قد بدلنا المسيحية بدين جديد. فإن الإلهة الأم ليست هى الرب الذى تؤمن به الكنيسة المسيحية .

 

          ولماذا يكون الله شركة أشخاص ثلاثة إلهيين لا أكثر ولا أقل ؟ هنا أيضًا لا يوجد دليل منطقى. فإن ثالوثية الله شئ معطى وموحى به لنا فى الكتاب المقدس، واستلمناه فى التقليد الرسولى، وفى خبرة القديسين عبر القرون. كل ما يمكننا عمله أن نثبت صحة هذه الحقيقة المعطاة من خلال حياتنا الخاصة فى الصلاة .

 

الولادة والانبثاق :


          ما الفرق بالضبط بين "ولادة" الابن و"انبثاق" الروح ؟ "إن طريقة الولادة وطريقة الانبثاق من الأمور التى لا يمكن إدراكها بالعقل"، هكذا يقول القديس يوحنا الدمشقى. " لقد عرفنا أن هناك فرقًا بين الولادة والانبثاق لكن ما هى طبيعة هذا الفارق، فهذا ما لا نفهمه على الإطلاق". فإن كان القديس يوحنا الدمشقى نفسه يعترف أنه متحير أفلا نكون نحن كذلك. إن ألفاظ "ولادة" و" انبثاق" هى رموز اصطلاحية لواقع يفوق مدارك دماغنا المفكر. يقول القديس باسيليوس الكبير " إن عقلنا المفكر ضعيف ولساننا أضعف، من الأسهل قياس البحر كله بقدح صغير عن أن ندرك عظمة الله غير المدركة بالعقل البشرى ". ولكن إن كانت تلك الرموز لا يمكن شرحها بالكامل  إلاّ أننا يمكن (كما قلنا) أن نتأكد منها خلال لقائنا بالله فى الصلاة ، فنعرف أن الروح ليس هو نفسه الابن، حتى إن كنا لا نستطيع تعريف الفارق بالضبط بواسطة الكلمات .

 

يدا الله :

          فلنحاول أن نشرح تعليم الثالوث بالتأمل فى النماذج الثالوثية فى تاريخ الخلاص وفى حياة الصلاة التى نعيشها.

          إن الأشخاص الثلاثة، كما رأينا، يعملون دائمًا معًا، ولهم إرادة وقوة واحدة. ويتحدث القديس إيريناؤس عن الابن والروح القدس "كيديّ" الله الآب؛ وفى كل فعل خلاّق وتقديسى يستخدم الآب هاتين " اليدين" معًا فى وقت واحد. ويوفر لنا الكتاب المقدس والعبادة أمثلة متكررة لذلك :

 

1 ـ الخلق: " بكلمة الرب صُنعت الأرض السموات وبنسمة فيه كل جنودها" (مز6:33). يخلق الله الآب بواسطة "كلمته" أى اللوغوس (الأقنوم الثانى)، وبواسطة "نسمته" أى روحه (الأقنوم الثالث). وتعمل "يدا" الآب معًا فى تشكيل الكون. وقيل عن اللوغوس " كل شئ به كان" (يو3:1). قارن قانون الإيمان .. " الذى به كان كل شئ " ـ وقيل عن الروح فى الخلق إنه " كان يرف على وجه المياه " (تك2:1). فكل المخلوقات تحمل ختم الثالوث.

 

2ـ التجسد: عند البشارة، يرسل الآب الروح القدس على العذراء المباركة مريم فتحمل بابن الله الأزلى (لو35:1). هكذا فإن إتخاذ الله لبشريتنا هو عمل ثالوثى. يُرسل الروح من الآب، ليحقق حضور الابن فى داخل رحم العذراء. ويجب أن نضيف أن التجسد ليس فقط عمل الثالوث بل أيضًا عمل إرادة مريم الحرة. لقد انتظر الله قبولها الإرادى، الذى تعبر عنه الكلمات " هوذا أنا أمة الرب ، ليكن لى كقولك " (لو38:1)، وهو القبول الذى لو كانت قد امتنعت عن تقديمه، لِما أصبحت مريم أم الله. فالنعمة الإلهية لا تحطم الحرية البشرية بل تؤكدها.

 

3 ـ معمودية المسيح: فى التقليد الأرثوذكسى، تُرىَ هذه المعمودية كاستعلان للثالوث. فصوت الآب من السماء يحمل الشهادة للابن قائلاً : "هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت " وفى نفس اللحظة، فإن الروح القدس، فى شكل حمامة، ينزل من الآب ويستقر على الابن (مت16:3ـ17). ولهذا تُرّنم الكنيسة الأرثوذكسية فى عيد الظهور الإلهى عيد معمودية المسيح [1]:

          حين تعمدت أيها الرب فى نهر الأردن

          استعلنت عبادة الثالوث.

          لأن صوت الآب حمل الشهادة لك

          فناداك بالابن الحبيب.

          والروح فى شكل حمامة

          ختم على كلمته بأنها أكيدة وثابتة.

 

4 ـ تجلى المسيح: وهو حدثٌ ثالوثى أيضًا . فنفس العلاقة تتجلى بين الأقانيم الثلاثة كما فى المعمودية . فالآب يشهد من السماء " هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت له اسمعوا " (مت5:17)، بينما ينزل الروح كما حدث قبلاً على الابن ، وفى هذه المرة فى شكل سحابة نور(لو34:9). كما نؤكد فى واحدة من ترانيم هذا العيد :

          اليوم على جبل طابور فى استعلان نورك أيها الرب

          أنرت أيها النور غير المتغير من نور الآب غير المولود،

          ورأينا الآب كنور

          والروح كنور

          الذى بنوره يرشد الخليقة كلها .

 

5 ـ استدعاء الروح فى الإفخارستيا: نفس النموذج الثالوثى الذى يتجلى فى البشارة وفى المعمودية، وفى التجلى، يظهر أيضًا فى لحظة الذروة فى الإفخارستيا ، لحظة استدعاء الروح القدس (Epiclesis)، فالكاهن خديم السر حينما يخاطب الآب يقول فى قداس القديس يوحنا ذهبى الفم:

نقدم لك هذه العبادة الروحية بدون سفك دم.

ونصلى ونتضرع ونبتهل إليك

أن ترسل إلينا روحك القدوس، علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة أمامك

وأن تجعل هذا الخبز الجسد الثمين لمسيحك

وأن تجعل ما بداخل هذه الكأس دم مسيحك

محوّلاً إياهما بروحك القدوس .

 

          ومثلما هو الحال فى البشارة هكذا فى الإفخارستيا التى هى امتداد لتجسد المسيح. فالآب يرسل الروح القدس ليحقق حضور الابن فى القرابين المقدسة. وهنا ـ مثلما هو فى كل حال ـ فإن الأقانيم الثلاثة للثالوث يعملون معًا .

 

نصلى للثالوث ونحيا الثالوث

نحن نصلى للثالوث :

          ومثلما يكون فى استدعاء الروح القدس فى الإفخارستيا بنيان  ثالوثى، هكذا الأمر تقريبًا فى كل صلوات الكنيسة . فالابتهالات الافتتاحية، التى يستخدمها الأرثوذكس فى صلواتهم اليومية كل صباح ومساء ، هى ذات روح ثالوثية واضحة. وهى صلوات مألوفة جدًا ، وتكرارها دائم، حتى أنه من السهل أن يفوتنا الانتباه إلى سمتها الحقيقية باعتبارها تمجيد للثالوث القدوس . ونحن نبدأ بالاعتراف بالله بأنه ثلاثة فى واحد، حينما نرشم علامة الصليب ونتلو الكلمات التالية :

باسم الآب والابن والروح القدس

          هكذا أيضًا فى مستهل كل يوم جديد، فنحن نضع اليوم تحت حماية الثالوث. ثم نقول " المجد لك، يا إلهنا، المجد لك" ـ ويبدأ اليوم الجديد بالاحتفال والبهجة والشكر. ويلى هذا صلاة للروح القدس، " أيها الملك السمائى ... " ثم نكرر ثلاث مرات :

قدوس الله ، قدوس القوى ، قدوس الحى الذى لا يموت ، ارحمنا

          وهذه التقديسات الثلاث، هى تمثل بتسبحة " قدوس قدوس قدوس " التى يسبح بها الشاروبيم فى رؤيا إشعياء (إش3:6)، والأربعة الكائنات الحية فى سفر الرؤيا (رؤ8:4).وفى هذه الـ " قدوس" التى تتكرر ثلاث مرات هناك ابتهال للثلاثة اقانيم الأزليين. ونتبع ذلك، فى صلواتنا اليومية، بأكثر عباراتنا الليتورجية تكرارًا: " المجد للآب وللابن وللروح القدس.." وعلينا هنا قبل كل شئ ألاّ نسمح للألفة أن تولد الاحتقار. ففى كل مرة نستخدم هذه العبارة، من الضرورى أن نتذكر معناها الحقيقى باعتبارها تقديم المجد للثالوث. وهذا التمجيد Gloria تليه صلاة أخرى للأقانيم الثلاثة :

أيها الثالوث الأقدس ارحمنا           يارب اغفر لنا خطايانا

يا سيد اصفح عن آثامنا                    أيها القدوس افتقدنا واشفِ أمراضنا

لأجل اسمك القدوس .                     

          وهكذا تستمر صلواتنا اليومية. وفى كل خطوة، سواء ضمنًا أم صراحة، هناك بنية ثالوثية، واعتراف بالله كواحد فى ثلاثة. فنحن نفكر بالثالوث، نتحدث بالثالوث، ونتنفس الثالوث.

هناك أيضًا بعد ثالوثى فى الصلاة المحبوبة جدًا، وهى صلاة أرثوذكسية من جملة واحدة، ألاّ وهى "صلاة يسوع"، وهى "صلاة سهمية" تستخدم فى العمل وفى أثناء فترات الهدوء. وأكثر أشكالها شيوعًا هو:

يا ربى يسوع المسيح ، ابن الله ، ارحمنى أنا الخاطئ

          وهى فى شكلها الخارجى، صلاة للأقنوم الثانى من الثالوث ، الرب يسوع المسيح. لكن الأقنومين الآخرين موجودان أيضًا فيها، رغم أنهما لا يذكران بالاسم. لأننا بذكرنا ليسوع أنه " ابن الله " نشير بذلك إلى أبيه، وتتضمن صلاتنا الروح أيضًا لأنه "لا يقدر أحد أن يقول إن يسوع رب إلاّ بالروح القدس" (1كو3:12). إذن فصلاة يسوع ليست صلاة متمركزة فقط حول المسيح ، بل هى صلاة ثالوثية.

 

نحن نحيا الثالوث :

          يقول تيتو كولياندر : " الصلاة فعل " .

" ما هى الصلاة النقية ؟ هى الصلاة  الموجزة فى كلماتها لكنها غزيرة فى فعلها. لأنه إن كانت أعمالك لا تفوق توسلاتك، فإن صلواتك ليست إلاّ مجرد كلمات، وليس فيها بذار اليدين "                             (من أقوال آباء البرية)

 

          فإن تحولت الصلاة إلى فعل، فإن هذا الإيمان الثالوثى الذى يغذى كل صلاتنا يجب أن يظهر أيضًا فى حياتنا اليومية. وقبيل تلاوة قانون الإيمان مباشرة فى القداس الإلهى[2]، نردد هذه الكلمات:

          " فلنحب بعضنا بعضًا، حتى إننا بذهن واحد نعترف بالآب والابن والروح القدس، الثالوث الواحد فى الجوهر والغير منقسم". لاحظوا هذه الكلمات، "حتى إننا". إن الاعتراف الأصيل بالإيمان بالإله الثالوث فى واحد لا يمكن أن يقوم به إلاّ أولئك الذين، بحسب مثال الثالوث، يظهرون محبة الواحد نحو الآخر. هناك صلة وثيقة بين محبتنا الواحد للآخر وإيماننا بالثالوث: فالمحبة شرط أساسى للإيمان بالثالوث، والإيمان بالثالوث بدوره يعطى كامل القوة والمعنى للمحبة.

 

          إن عقيدة الثالوث أبعد من أن ندفع بها فى ركن بعيد ونعاملها كقطعة عويصة من التنظير اللاهوتى الذى لا يعنى به إلاّ المتخصصون ، بل يجب أن يكون لعقيدة بالثالوث أثرها على حياتنا اليومية ، ذلك الأثر الذى ينبغى أن لا يقل عن أن يكون أثرًا ثوريًا. فالبشر إذ هم مخلوقون على صورة الله الثالوث، مدعون أن يُظهروا على الأرض سر المحبة المتبادلة التى يحياها أقانيم الثالوث فى السماء.

 

          وفى العصور الوسطى بروسيا، كرس القديس سرجيوس الرادونيزى ديره الجديد للثالوث القدوس، وكان قصده الفعلى فى ذلك أن يظهر رهبانه المحبة الواحد نحو الآخر كل يوم، وهى نفس المحبة التى تسرى بين أقانيم الثالوث الثلاثة. وهذه ليست دعوة الرهبان وحدهم بل هى دعوة كل واحد فينا .

          فينبغى على كل وحدة اجتماعية: الأسرة، المدرسة، الورشة، والإيبارشية والكنيسة الجامعة ـ أن تصبح أيقونة للثالوث.

 

          ولأننا نعرف أن الله ثلاثة فى واحد ، فإن كل واحد منا ملتزم أن يحيا حياة البذل مع الآخر ولأجل الآخر، كل منا ملتزم بشكل نهائى أن يحيا حياة الخدمة العملية، أن يحيا حياة الحنان النشيط. إن إيماننا بالثالوث يضعنا تحت التزام الجهاد على كل مستوى، من الشخصى جدًا وحتى العام المنظم تنظيمًا عاليًا، أى أن نناضل ضد كل أشكال القهر، والظلم، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وفى صراعنا لأجل البر الاجتماعى و"حقوق الإنسان" ، فإننا نتصرف بوجه خاص " باسم الثالوث القدوس " .

 

          " إن أكمل قاعدة للمسيحية، وتعريفها الدقيق، وذروتها العليا، هى هذه: أن نبحث عما هو لنفع الجميع "، هكذا يقول القديس يوحنا ذهبى الفم. ".. لا أقدر أن أؤمن أنه من الممكن لأى إنسان أن يخلص إن لم يعمل لأجل خلاص جاره " تلك هى المضامين العملية لعقيدة الثالوث. وهذا هو معنى أن " نحيا الثالوث " .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

          لا نمجد ثلاثة آلهة بل إلهًا واحدًا.

          نحن نكرم الأقانيم الثلاثة الذين هم بالحقيقة ثلاث

 الآب غير المولود والابن المولود من الآب والروح القدس المنبثق من الآب إله واحد فى ثلاثة :

          وبإيمان ومجد حقيقيين ننسب إلى كل منهم لقب الله .

(من كتاب التريوديون)

تعالوا ، يا جميع الشعوب، لنعبد اللاهوت الواحد فى ثلاثة أقانيم،

الابن فى الآب مع الروح القدس  لأن الآب أعطى الميلاد قبل الزمان للابن،

الأزلى معه والجالس فى العرش معه،

والروح القدس ممجد فى الآب مع الابن:

قوة واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد، الذين نعبدهم كلهم والذين نقول لهم:

قدوس الله، الذى خلق كل الأشياء بالابن، بمشاركة الروح القدس .

قدوس وقوى الذى به نعرف الآب والذى به أتى الروح القدس ليسكن فى العالم

قدوس وغير مائت، الروح البارقليط، المنبثق من الآب والمستقر على الابن.

أيها الثالوث القدوس ، المجد لك

(من صلوات عيد الخمسين)


أسبح اللاهوت ، الواحد فى ثلاثة أقانيم

لأن الآب نور،  والابن نور،   والروح نور

لكن يبقى النور بغير انقسام ساطعًا فى وحدة الطبيعة،

ومع ذلك فهو يسطع فى ثلاثة أشعة من الأقانيم  (من كتاب التريوديون)

          المحبة هى الملكوت الذى وعد به الرب سريًا للتلاميذ، حينما قال إنهم سيأكلون فى ملكوته " ستأكلون وتشربون على مائدتى فى ملكوتى " (لو30:22). فما الذى سيأكلونه ويشربونه ، المحبة؟

          وحينما نبلغ المحبة، نكون قد أدركنا الله وتكتمل رحلتنا. فقد عبرنا إلى الجزيرة التى تقع فيما وراء العالم، حيث الآب والابن والروح القدس: الذين لهم المجد والسلطان. فليجعلنا الله مستحقين أن نخافه ونحبه. آمين.                                                                                                               (القديس مار اسحق السريانى)

          مهما حاولت جاهدة، أجد من المستحيل أن أشيد شيئًا أعظم من هذه الكلمات الثلاث، " احبوا بعضكم بعضًا " فقط حتى النهاية، ومن دون استثناءات: حينئذٍ يتبرر كل شئ وتستنير الحياة، وإلاّ صارت خلاف ذلك بغيضة وعبئًا ثقيلاً .                                                                              (الأم ماريا من باريس)

          لا يمكن أن تكون كنيسة بدون محبة .   (القديس يوحنا كرونستادت)

          صدقونى، توجد حقيقة واحدة تسود وتسمو ابتداءً من أهداب إكليل المجد وحتى أدنى ظل لأتفه المخلوقات الدنيا: هذه الحقيقة هى المحبة. المحبة هى المنبع الذى تفيض منه الينابيع المقدسة للنعمة بدون توقف من مدينة الله، تروى الأرض وتجعلها مثمرة"، "غمر ينادى غمرًا" (مز7:42): كمثل غمر أو هاوية، وفى لانهائيتها تساعدنا المحبة على أن نصور لذواتنا الرؤيا المرهبة للألوهية. إنها المحبة التى تشكل كل الأشياء وتحافظ عليها فى وحدة. المحبة هى التى تهب الحياة والدفء، وتلهم وترشد. المحبة هى الختم الموضوع على الخليقة، هى توقيع الخالق. المحبة هى شرح صنع يديه.

          كيف نجعل المسيح يأتى ويسكن فى قلوبنا؟ كيف إن لم يكن بالمحبة ؟

(الأب ثيوكليتوس من دير ديونيسيوس)

          أرح المتعبين ، افتقد المرضى، أعن الفقراء، لأن هذه أيضًا صلاة.

(القديس أفراهات)

          علينا أن نعامل أجساد رفقائنا من البشر بعناية أكثر مما نوليها لأجسادنا. تعلمنا المحبة المسيحية أن لا نعطى اخوتنا عطايا روحية فقط ، بل عطايا مادية كذلك. حتى قميصنا الأخير، وآخر قطعة خبز عندنا، علينا أن نعطيها لهم. إن الصدقة الشخصية وأوسع الأعمال الاجتماعية انتشارًا، هما بالتساوى مهمان وضروريان.

          يكمن الطريق إلى الله فى محبة الآخرين، وليس هناك من طريق آخر. فى الدينونة الأخيرة، لن أُسأَل إن كنت ناجحًا فى نسكياتى أو كم عدد السجدات التى أديتها فى صلواتى، بل أُسأل، هل أطعمت الجوعى، وكسوت العرايا، وافتقدت المرضى والمساجين، هذا ما سوف أُسأل عنه.

(الأم ماريا من باريس)

أيها الثالوث ، الأعلى فى الكيان  أيتها الوحدانية التى بلا بداية

أجناد الملائكة يرنمون بتسابيحك، وهم يرتعدون أمامك،

تقف السموات والأرض والأعماق فى رهبة أمامك أيها الثالوث الكلى القداسة: يباركك الناس،  وتخدمك النار، ويطيعك كل شئ فى خوف

(من كتاب الميناون يوم 8 سبتمبر)

 



[1]  هذه التسابيح موجودة فى الكتب الطقسية لكنيسة الروم الأرثوذكس، وتوجد صلوات مشابهة فى كتب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

[2] قداس يوحنا ذهبى الفم المستعمل فى كنائس الروم الأرثوذكس (المعرب).

لماذا الثالوث

 


مقدمة:

إن هدف كل عقيدة هو الحياة في المسيح. ولهذا فعقيدة الثالوث القدوس أو بمعنى آخر هذه الحقيقة قد أُعطيتْ للإنسان لكي تقوده إلى علاقة مع الله مثلث الأقانيم وشركة حياة الثالوث القدوس، كما يقول القديس يوحنا الإنجيلي "أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (1يو1: 4) في الروح القدس.

ولقد أدرك آباء الكنيسة تلك الحقيقية وعاشوها، لهذا نجد مثلاً أن القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات يصف عقيدة الثالوث القدوس بأنها "رأس الإيمان" ويُشَدِّد القديس أثناسيوس[1] أيضًا على أن الكنيسة قد تأسست على الإيمان بهذه العقيدة والتي بدونها لا يمكن أن يكون المرء مسيحيًا ولا ينبغي أن يُدعَى كذلك فيما بعد.

إن التعليم بعقيدة الثالوث القدوس يُمَثِّل تعليمًا أساسيًا وجوهريًا في إيماننا المسيحي ولهذا فإن القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات يصف هذه العقيدة بأنها "رأس الإيمان".

 

المحبة الأزلية المتبادلة في الثالوث القدوس:


إن مفتاح المسيحية هو أن "الله محبة" (1يو4: 8، 16).

فمن كان الآب يحب قبل أن يخلق العالم والملائكة والبشر؟ 

إذا أحب الآب نفسه يكون أنانيًا (ego – centric)، وحاشا لله أن يكون هكذا، إذن لابد من وجود محبوب كما قال السيد المسيح في مناجاته للآب قبل الصليب "لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ."(يو17: 24)..وبوجود الابن قبل إنشاء العالم وفوق الزمان أي قبل كل الدهور؛ يمكن أن نصف الله بالحب أزليًا وليس كأن الحب شئ حادث أو مُستحدَثُ بالنسبة للآب. فالأبوة والحب متلازمان، طالما وُجدتْ الأبوَّة فهناك المحبة بين الآب والابن.

ولكن الحب لايصير كاملاً إلا بوجود الأقنوم الثالث، لأن الحب نحو الأنا هو أنانية وليس حبًا، والحب الذي يتجه نحو الآخر الذي ليس آخر سواه (المنحصر في آخر وحيد) هو حب متخصص رافض الاحتواء (exclusive love) بمعنى أنه حب ناقص. ولكن الحب المثالي هو الذي يتجه نحو الآخر وإلى كل من هو آخر (inclusive love) وهنا تبرز أهمية وجود الأقنوم الثالث من أجل كمال المحبة.

إن الكلام عن المحبة الأزلية المتبادلة بين أقانيم الثالوث القدوس يجب تناولها بحذر شديد لئلا نتخيل وجود ثلاثة جواهر مختلفة تجمعها محبة متبادلة. إن تمايُز الأقانيم لا يلغي وحدتها في الجوهر وكذلك وحدة الجوهر الإلهي لا تلغي التمايُز بين الأقانيم.

ولكن كيف أن الجوهر الإلهي واحد ومع هذا فإن هناك ثلاث أقانيم متمايزة ومتساوية؟

سأكتفي للإجابة على هذا السؤال بمثال توضيحي، أما شرح فكرة الجوهر الواحد لثلاث أقانيم متمايزة ومتساوية في الجوهر بشئ من التفصيل فسوف يتناولها الكتاب في صفحاته التالية. ولكن يجب ملاحظة أن استعمال الأمثلة في شرح الأمور الإلهية هو لمجرد تقريب الصورة للذهن فقط، ولا يجب تطبيق المثال على الحقيقة التي يشرحها في كل الأمور، لأنه لو تتطابق المثال مع الحقيقة لصار المثال هو الحقيقة عينها.

 

المثال هو مثلث من الذهب الخالص، له ثلاث زوايا متساوية "أ"، "ب"، "ج":

الرأس "أ" هو ذهب من حيث الجوهر.

الرأس "ب" هو ذهب من حيث الجوهر.

الرأس "ج" هو ذهب من حيث الجوهر.

الرؤوس الثلاثة لهم جوهر واحد، وكينونة واحدة، وذهب واحد، هو جوهر المثلث وتشترك كل رأس من رؤوس المثلث في كل الذهب وليس في ثلث الذهب فقط.

ولكن "أ" ليس نفسه هو "ب"، "ب" ليس نفسه هو "ج" وأيضًا "ج" ليس نفسه هو "أ".

لأن "أ" لو كان هو "ب" لانطبق الضلع "أب" على الضلع "ب ج" وبذلك ينعدم الذهب ويتحول إلى مجرد خط مستقيم ليس له مساحة.


لو طبقنا نفس الفكرة بالنسبة للثالوث القدوس:


الآب هو الله من حيث الجوهر.

الابن هو الله من حيث الجوهر.

الروح القدس هو الله من حيث الجوهر.

والثلاثة يتساوون في الجوهر، والجوهر نفسه الإلهي هو في الآب والابن والروح القدس.

ولكن الآب ليس هو نفسه الابن وليس هو نفسه الروح القدس، وكذلك الابن ليس هو نفسه الروح القدس وليس هو نفسه الآب، وكذلك الروح القدس ليس هو نفسه الآب وليس هو نفسه الابن.

لكن قد يسأل سائل لماذا لا تكون الأقانيم أربعة أو خمسة؟ وللرد نقول أن أي شئ ناقص في الله يُعتبَر ضد كماله الإلهي، كما أن أي شئ يزيد بلا داع يُعتبَر ضد كماله الإلهي. إن مساحة الحب بين الأقانيم الثلاثة هي ما لا نهاية، ومثلث الحب هذا يتسع حتى يشمل كل الخليقة، فأي كائن يقع داخل نطاق المثلث يشمله هذا الحب، فما الداعي لرأس رابع أو خامس؟!

إذا وُجدتْ الخليقة في أي وقت وفي أي مكان فهي تدخل في نطاق هذا الحب اللانهائي، لأن مثلث الحب هنا هو بلا حدود ولا مقاييس. هذا الحب اللانهائي الكامل يتجه أيضًا نحو الخليقة حيثما وحينما توجد، كما قال السيد المسيح للآب "لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ" (يو17: 26). إن الحب الكامل هو الحب بين الأقانيم وهذا هو أعظم حب في الوجود كله.

إن الله في حركة أزلية، حتى في داخله، يمكن أن توصف بأنها حركة حب متبادلة؛ حركة المحبة في الثالوث تبدأ من الآب وتُعلَن في الابن وتُعطَى بالروح القدس. فالأبوة تعني أن حركة الله الداخلية هي حركة حب وليست فقط حركة قدرة وسلطان.

ونحن نؤمن بأن الله هو الحب، الحب اللانهائي؛ حركة محبته نابعة من داخله خلال علاقة الثالوث القدوس الأزلية. وقد استُعلِنَ حب الله بخلقته العالم، ولا تزال هذه المحبة فعَّالة، لن تبطل قط حتى مجيء المسيح الثاني. الله هو حركة حب أزلي، تحتضن العالم كله، والإنسان بوجه خاص. فهو يعتني به في هذه الحياه الزمنية حتى آخر شعرة في رأسه "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (مت 30:10)، غاية ذلك أن تنعم البشرية بالمجد الأبدي. ويؤكد الآباء السكندريون بقوة أن الله وهو غير مُدرَك يعتني بالإنسان من خلال محبته الفريدة، لأن ملكوت محبته السماوي تأسس في أعماق نفس الإنسان "لأن ها ملكوت الله داخلكم."(لو 21:17). قدرة الله هي تلك المحبة الدائمة الحركة.

إن علاقة الآب والابن حركة وحياة ويُلاحَظ أن pro/$ يتضمن معنى "الحركة نحو" وقد استعمله القديس يوحنا الإنجيلي: "وكان الكلمة نحو الله kai\ o( Lo/go$ h!n proJ$ to\n Qeo/n" (يو1: 1) ليشير إلى العلاقة بين الابن والآب، فهي علاقة حركة وحياة وليس علاقة سكون. إن الآب يحب الابن، ولم يكن هناك زمان لم يحب فيه الآب الابن. فالحُب كخاصية إلهية هو حب أزلي بالقوة كما بالفعل، لأن "الحب" هو الله ذاته الذي يحب منذ الأزل وإلى الأبد؛ لم يكن في حاجة إلى خليقته لكي تكشف عن خصائصه. تحدث ربنا يسوع المسيح إلى أبيه الأزلي قائلاً: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم." (يو 24:17)، "لأن الآب يحب الابن و يريه جميع ما هو يعمله" (يو20:5).

إن الأقانيم الثلاثة يتبادلون الحب مع بعضهم البعض، فالحب هو صفة للجوهر وليس الخاصية الأقنومية للروح القدس، الحب هو صفة للجوهر فهو في الآب والابن والروح القدس بنفس القوة ونفس التأثير. فكل أقنوم يحب الآخر ويبادله الحب ولا نستثني الروح القدس من هذه القاعدة. فإذا جعلنا الآب هو المحب والابن هو المحبوب، هذا يعني أن لهما وحدهما ديناميكية الفعل وبهذا يتحول الروح القدس إلى مجرد طاقة بينهما يتبادلها الآب والابن فتُلغَى بذلك أقنومية الروح القدس.

أٌعلِنَتْ لنا العلاقة التي بين الثالوث القدوس والمطلقة خلال معاملات الله معنا، خاصة خلال عمله الخلاصي. قبل تسليمه صلَّى ربنا يسوع المسيح للآب لحسابنا، قائلاً: "كما أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك فيكونوا هم أيضًا واحداً فينا..وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد..وعرَّفتهم اسمك، وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم." (يو 17: 21-26).

خارج الإيمان الثالوثي، إن قلنا إن الله يحب منذ الأزل ننسب له الأنانية، أي يحب نفسه، حاشا لله! هكذا بالنسبة للسلام، فإننا نتساءل: مع من كان الله في سلام منذ الأزل؟ إلخ..وهكذا توجد أسئلة كثيرة لا إجابة لها إلا في الإيمان بالثالوث القدوس في جوهر إلهي واحد.

يوضح الأستاذ نيقوس أ. نيسيوتوس[2] التثليث المسيحي كحركة حب سرمدية تضاد الفلسفة الجامدة لوحدة الله قائلاً بأن التثليث المسيحي يُقَدِّم الله في حركة ديناميكية داخلية تضاد كل نوع من الأنانية  solipsism(نظرية تقول بأنه لا وجود لشيء غير الأنا). الثالوث القدوس: غير المولود(الآب)، والمولود (الابن) والمنبثق (الروح القدس)، هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب الذي يقيم علاقة سببية بين الأقانيم الثلاثة، علاقة حب داخلي، أي علاقة بين الآب ولوغوسه (الكلمة) وروحه، خلال هذه العلاقة قدَّم الله وعدًا وحَقَّقَه؛ لذا نرى الله حيًا فعالاً في التاريخ، يحقق غاية نهائية للخَلْق. لذا يرتبط الحديث عن اللاهوت المسياني (لاهوت اللوغوس) باللاهوت الخاص بالخَلْق، لأن اللوغوس يُجَدِّدُ الخليقة ويُحَقِّقُ هدفها. بحلول الروح القدس في يوم الخمسين أمكننا فهم العلاقة القائمة بين اللاهوت المسياني ولاهوت الخَلْق كلاهوت عملي نمارسه ونحياه. أمكننا أن ندرك الله ككائن ديناميكي يتفاعل فيه الأقانيم في حركة حُب حيث يوجد المُحِب والمحبوب. يقول نيسيوتوس أن جوهر الله بكونه الحب هو حركة متدفقة نحو آخر تؤكد ذاتها، حركة علاقة متبادلة عميقة داخل الجوهر الإلهي.

خلص الأستاذ نيسيوتوس إلى أن التعليم الثالوثي يقوم على فهم كتابي لجوهر الله بكونه "الحب"، فلا يكون الله واحدًا منفردًا (mo/no$) ولا منعزلاً (mona/$) ، إنما يوجد الآب مع الأقنوميْن الآخريْن ولأجلهما في جوهر واحد.

يجب التمييز بين الواحد المنفرد (mo/no$) والواحد (ei!$) . ففي نظره الأول: هو وحدانية الأنانية الفلسفية غير المسيحية، أما الثاني فهو الفهم المسيحي لله الواحد الثالوث الحي، إنه توحيد في إتجاه وحدانية الشركة في ذات الجوهر. التعليم الثالوثي لا يتحدث عن الله في وحدانية معتزلة مطلقة جامدة. ولاعن كائنات ثلاثة منفصلة. هو واحد في جوهره.

يهبنا الإيمان الثالوثي فهمًا متسعًا للكمال . إذ يتساءل البعض: كيف يمكن أن يكون الآب كاملاً في سماته وهو لا ينفصل عن الابن والروح القدس(أى يشاركه سماته)؟ ونفس الأمر بالنسبة للابن وللروح القدس. نجيب على هذا السؤال بأن الكمال الحقيقي لايُستعلَنُ خلال الاكتفاء الذاتي والإنعزالي، وإنما خلال حركة الحب الأزلية في الله والعلاقات المتبادلة اللانهائية.

يبلغ الإنسان (والحياة البشرية) الكمال لا بتمجيد الإنسان ذاته ولا بإكتفاءه بذاته..وإنما خلال الوحدة مع الغير القائمة على الحب. الإنسان الكامل  ليس هو من يغذي الذات ego وينميها من أجل إقتناء كل مجد باطل ونفع لحسابه، بل هو ذاك الذي يحب الغير ويقبل حبهم له.

 

الوجود الحقيقي هو في الشركة: [3]


إن الوجود الحقيقي هو في الشركة ولا وجود بلا شركة؛ بمعنى أن الشركة هى أساس الوجود وأن أى كيان حقيقى لا يمكن معرفته بدون الشركة وهذا ما أنجزه الآباء. وإذا كان الوجود شركة فإننا لا نفهم الوجود بل لا نستطيع أن نفهمه إلا من خلال علاقة وبالتالى لا يمكننا أن نفهم الوجود كوجود فى حد ذاته لأن كل كائن لا يوجد فى حالة عزلة ولايحيا كفرد. ولايوجد كائن قائم بذاته يمكن فهمه كما هو فى ذاته وهذا ما أنكره الآباء على أرسطو فهو يطلب فهم الوجود وكيان كل الموجودات كما هى وليس كما هى فى علاقة وشركة مع غيرها. وشكرًا لله الكائن فى شركة مع ذاته ومع الخليقة.

وهنا يمكننا أن نقول أن العالم القديم كله سمع لأول مرة فى تاريخه أن الشركة هى التى تجعل أى كائن كائن فعلاً وأن الكينونة والوجود لا تقوم إلا بالشركة حتى فى الله نفسه.

فوجود الله هو وجود قائم على علاقة والعلاقة تعني شركة وبدون الشركة لايمكن أن نتكلم عن وجود الله. ومن يُفَسِّر الماء بالماء إنما يقع فى دائرة التكرار والغموض وكذلك من يقول أن "الله هو الله" لأنه لا يقول شيئًا عن وجود الله. وحتى الاعتراف الصحيح بأن "الله واحد" يصبح بلا معنى في اللاهوت المسيحي ما لم يكن هذا التوحيد هو توحيد شركة أي قائم على الثالوث القدوس. فالثالوث هو أول الوجود وهو لذلك لا يُضاف إلى التوحيد وإنما يشرح التوحيد. وحتى عندما نقول أن جوهر الله هو واحد فإننا نفهم أن المقصود هو وحدة الجوهر.

إن المحبة عطاء والعطاء في الله لا يقف عند حدود وهذا العطاء الكياني يجعل الوجود الإلهي شركة فميلاد الابن يخلق هذه الشركة وبالتالي يصبح الله قادرًا على أن يمارس حريته الذاتية بميلاد الابن وبمشاركة الابن له دون أن يفقد ذاته بل بالتسامي والانطلاق إلى ما هو أعظم من مجرد البقاء والوجود أي بعطاء المحبة. وهنا يصبح الوجود شركة والشركة ليست في الجوهر بالمعنى الفلسفي القديم وإنما شركة في الشخص شركة في أقنوم الآب. وهنا نرى أن الطبيعة الإلهية المتأقنمة في الآب هي طبيعة تعلو على ذاتها وتُعطِي ليس لأنه طبيعة إلهية بالمعنى الفلسفي السائد، بل لأن الآب كشخص يُعطِي و كآب هو علة الشركة و سبب وجودها.

إذا قلنا أن الآب يعطى كيانه للابن ومن الآب يولد وينبثق الروح بات من الواضح أن ممارسة الحرية فى الله بشكل كيانى حقيقى هى في علاقة المحبة لأن المحبة ليست صفة وإنما هى كيان الله نفسه حسب قول الرسول يوحنا "الله محبة" (1يو16:4) وهذا التعبير "الله محبة" يعني أنه "ثالوث"، ويعنى بشكل ضرورى إن الله كثالوث هو في شركة، هو محبة لأن الوجود = الشخص وأن الكينونة = الأقنوم وأن الأقنوم = الشخص (هناك حقيقة أساسية وهي أن الكائن = الشخص = الأقنوم)، هكذا يصير من الواضح أن المحبة تُمَارَس أقنوميًا وليس كصفة من صفات الجوهر الإلهى. والمحبة ليست شيئًا يصدر عن الله ولا هى صفة للجوهر، وإنما المحبة تُكَوِّن الجوهر والجوهر ليس الوجود المُجَرَّد بل الجوهر هو فى الله الوجود المتأقنم. فالمحبة هى التى تجعل الله هو الله وهى التى تجعله حقًا و بشكل صحيح الإله الواحد. وهنا فى إطار الفهم الصحيح لعقيدة الثالوث لا تصبح المحبة هى أسمى ما فى الكيان الإلهى وأعظم ما يميز الكينونة الإلهية.[4] والمحبة تؤقنم الله وتؤقنم وجوده ولذلك لا يخضع الله للوجود من أجل الوجود بل يعلو على كل ضرورات الوجود من خلال المحبة وتصبح محبته وحريته هى ما يُكَوِّن وجوده.

وحسب تعليم الآباء لا فَصْل بين الوجود والشخص أو الأقنوم والجوهر فالله لا ينتمى إلى طبيعة بل الله شخص له طبيعة متأقنمة لا وجود لها خارج حياة الأقانيم.

ويقول الأب صفرونيوس[5]: {التوحيد بلا ثالوث هو تعليم ينفي حياة الشركة لأننا لا نملك أن نشترك في الحياة الإلهية إلا إذا كان في هذه الحياة ما هو متمايز، ومُعلَن في الله وله أصل (جذر) في الإنسان أي صورة الله.}

 

الثالوث القدوس وخلاصنا:


إن مدخل القديس أثناسيوس إلى فهم وشرح عقيدة الثالوث القدوس كان يقوم على أساس أعمال الله الخلاصية والإعلانية التي تحققت في ظهور ابنه الوحيد بالجسد. ومن خلال مفهوم "هوموأوسيوسo(moou/sio$" كان القديس أثناسيوس يصل إلى العلاقات الأزلية والتمايُز داخل جوهر اللاهوت الواحد.[6] القديس غريغوريوس النيسي[7] يدعو عقيدة الثالوث القدوس بـ "العقيدة الخلاصية" لأنها عطية الله لنا لأجل خلاصنا.

لهذا فإن التقليل من شأن أي أقنوم من الأقانيم يحط من شأن خلاصنا، ولعل ما وصل إلينا كأول عظة مكتوبة بعد الرسل يكشف لنا عن مفهوم الكنيسة الأولى للإيمان الثالوثي: {يلزمنا أيها الإخوة أن نفكر في يسوع المسيح بكونه الله ديَّان الأحياء والأموات. فإنه يليق بنا ألا نحط من شأن خلاصنا، لأننا إذ نقلل من شأن المسيح نتوقع أيضًا أن ننال أقل.}[8]

ويشرح الأب صفرونيوس[9] عن كيفية نوالنا الخلاص من الثالوث القدوس وأنه بدون الثالوث القدوس لا خلاص لنا قائلاً:

{أولاً: نحن ننال التبني في الابن الوحيد ربنا يسوع المسيح. لو تصوَّرنا أن هذه عطية منفردة لا تخص الثالوث الواحد، وإننا عندما ننال التبني في المسيح لا شركة لنا مع الآب، فإننا نسقط ليس فقط في الهرطقة الأريوسية، بل في توحيد ناقص لا قيمة له بالمرة عند الله، لأنه ليس من الله، ولا يُغيِّر شيئًا في حياة الإنسان، إذ لا يؤدي التوحيد بدون الثالوث إلى التبني. أما حسب التعليم القويم، فإننا عندما ننال البنوة في المسيح، فإننا ندخل شركة الابن في الآب، فلا بنوة بلا أبوة، ولا أبوة بلا بنوة. وهكذا عندما تُعلَنُ طبيعة الثالوث القدوس، فإننا ننال التبني في الابن لكي يكون لنا شركة مع الآب. وعندما نشترك في الآب الذي هو مصدر البنوة، فإننا نعود إلى الله الذي اغتربنا عنه بواسطة الخطية.

ثانياً: وعندما نشترك في بنوة الابن فإننا به ننال شركة في الروح القدس. وعندما سأل الأب زكريا الأسيوطي عن دور الروح القدس في التبني، أجابه معلمنا الكبير الأب ديونيسيوس بأن الروح قائم في الثالوث في ذات الجوهر، وإن شركتنا في الابن تفتح لنا أحضان الآب، وإننا عندما نتكئ في أحضان الآب السماوي فإنه يجود علينا بالروح القدس الذي ينبثق منه "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي." (يو26:15)..التقديس هو روح الوحدة وهو يُعطَى من الروح لكل الخليقة، حتى الرتب السماوية لكي تثبت في التسبيح. وكلما يتكلم الوحي عن الثبات في الله، فالثبات هو كلمة أخرى تُعبِّر عن التقديس. وهكذا عندما نقول أن الروح هو روح الحياة، فإننا نقصد من هذا أنه يُعطي الحياة للتقديس، أي الحياة المختومة بختم التفرد فتثبت في طبعها الذي خُلِقَت به، وتبقى مقدسة حسب مشيئة الثالوث. ونحن ننال البنوة في المسيح، وكل منا يتقدَّس أي يحفظه الروح القدس ثابتًا في الابن حسب عبارة رسول المسيح "ولكن الذي يُثَبِّتنا معكم في المسيح، وقد مَسَحَنا،هو الله." (1كو21:1). نحن نُمسَح بذات المسحة التي أُعطيت للرب يسوع في معموديته في الأردن، لكي نكون حقًا وفعلاً مسيحيين، ونُمسَح لكي نثبت،أي نتقدس في المسيح، أي لكي نصير مثله، وننال منه بنوة ثابتة مقدسة.

ولما سأل الأب زكريا وقال لماذا لا ننال الثبات والتقديس من المسيح؟

أجاب الأب ديونيسيوس بأن هذا السؤال بالذات يكشف عن فكر يحاول أن يُفَرِّق الأقانيم، فالثبات يُعطَى بالروح القدس في المسيح. ولذا حذر الأب ديونيسيوس من الأسئلة التي تولَد من المُخيِّلة التي تتصور الانفصال والاغتراب، ثم تسأل عن حالة أقانيم منفصلة وليس عن حالة أقانيم متحدة. وهكذا عندما ننال الثبات في المسيح من الروح القدس فإننا نناله من الآب الذي إليه نعود لكي نصبح واحداً معه.}

انسكاب حياة الثالوث فينا كعطية إلهية هي أصلاً عائدة إلى تمايز الأقانيم. فقد وُهِبْنَا التبني، أي عطية خاصة أصلها في تمايز الآب والابن لأننا نشترك حسب النعمة الإلهية في بنوة الابن للآب ولذلك نحن نصرخ معه "يا أبّا الاب." (غلا6:4). ووُهِبْنَا سُكنَى الروح القدس، وسُكنَى الروح القدس هي عطية خاصة أصلها في إنبثاق الروح القدس من الآب وحده، ثم انسكاب هذه العطية بواسطة الابن. هنا بالذات يُحَدِّدُ لاهوت الآباء ضرورة الإيمان بأن المسيح وحده هو الذي يُعطِي الروح القدس من عند الآب، لأن عطية الروح القدس لا يمكن أن توهب إلا إذا تقدست الطبيعة الإنسانية وتم تحريرها من الفساد والخطية، وهو العمل الذي لأجله تجسد الابن ومات وقام.

فالابن يولد أزليًا من الآب والروح ينبثق أزليًا من الآب والولادة من أصل عطية التبني والإنبثاق هو أصل عطية سُكنَى الروح القدس فينا.

فالخلاص لا يمكن شرحه أو اختباره إذا كان الله هو أقنوم واحد. وهكذا نجد أن تدبير الخلاص كائن في الآب مُعلَنُ في الابن ومُعطَى بالروح القدس وأنه بدون الثالوث القدوس لا خلاص لنا. بل أن كل ما يُعطَى إنما يُعطَى في الثالوث القدوس؛ فاللَّه الثالوث القدوس هو مصدر كل نعمة وحب وشركة.



[1] Athanas., Ad. Serap. I, 28.

[2] الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والعقائد-الله-القمص تادرس يعقوب.

[3] انظر: Being as communion-Metropolitan John Ziziolas تعريب مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية. الطبعة الثانية 2006.

[4] أسمى وأعظم ليس بالمقارنة بما في الله، وإنما بالمقارنة بالمخلوقات فليس في الله إمكانية للمقارنة بين صفة وأخرى.. ولذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: نستطيع أن نقارن بين المحبة والعدل في الإنسان لأنه مخلوق أما في الله فلا تجوز المقارنة.

[5] الثالوث فرح الخليقة الجديدة-فقرة 82.

Tomas F. Torrance, The Trinitarian Faith. T.&T. Clark. Edinburgh 1988. p305.[6]

[7] رسالة 24 PG. 46. 1089A

[8] Jaroslav Pelikan, The Christian Tradition: 1. The Emergence of the Catholic Tradition (100-600),

[2 Clem. 1:1-2 (Bihlmeyer 71)], 1971, p. 173.

[9] الثالوث فرح الخليقة الجديدة-فقرة 61.