السبت، 26 أغسطس 2023

شرح تجربة المسيح؛ ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ



 ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ (مت4: 1، لو4: 1، مر1: 12).

لقد أرشد الروح القدس يسوع في حياته الأرضية ، وقدم نموذجًا لأتباع يسوع لكي يتم تمكينهم وقيادتهم بواسطة الروح القدس، فالمسيح هو الرأس الجديد للبشرية، وآدم الجديد، وكاهن البشرية والمتحدث باسمها، لذا فكل ما فعله يسوع وتم في أيام جسده حدث لكي نتبعه نحن أيضًا.. فالروح القدس بإرشاده يسوع ارتاح في الطبيعة البشرية حيث صالح السمائيين بالأرضيين "وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ" (2 كو 5: 18).

الكلمة اليونانية بيرازو- πειράζω والتي تُرجِمَت بمعنى: "التجربة"، لا تعني الإغواء أو الشر، بل تعني الامتحان، فالله يستخدم الظروف لامتحان شخصية الإنسان.

وهذه كانت غاية اقتياد الروح القدس له وفقاً لإرادة الله الآب. قد تجرَّب المسيح بدلاً منا، فإن آدم الأول تجرَّب وسقط، وبسقوطه سقط الجنس البشري، فلزم أن آدم الثاني يُجرَّب ليُظهر استحقاق كونه فادياً للبشر، يرفعهم من هاوية ذلك السقوط. وقد جعل تجسد الابن التجربة ممكنة. وجعلت نيابتهُ عنَّا ذلك ضروريًا. فليست التجربةُ ضعف، إنما الضعف هو التسليم لها.[1]

لكن ليس آدم فقط، بل بالأكثر تجربة بني إسرائيل في البرية، والمذكورة في سفر التثنية، والذي استشهد به المسيح هُنا أكثر من مرة.[2] وتأتي قيادة روح الله للمسيح للبرية لإن الامتحان هو من الله، كما حدث مع بني إسرائيل، "وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ، لِكَيْ يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لاَ؟" (تث 8: 2).[3]

فبالرغم من أن العدد أربعين يومًا يُمكن أن يُشير إلى صوم موسى "وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً. فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ، الْكَلِمَاتِ الْعَشَرَ." (خر 34: 28)، "حِينَ صَعِدْتُ إِلَى الْجَبَلِ لِكَيْ آخُذَ لَوْحَيِ الْحَجَرِ، لَوْحَيِ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ، أَقَمْتُ فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لاَ آكُلُ خُبْزًا وَلاَ أَشْرَبُ مَاءً." (تث 9: 9). وصوم إيليا "فَقَامَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَسَارَ بِقُوَّةِ تِلْكَ الأَكْلَةِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ،" (1 مل 19: 8).[4] إلا أنه يُشير بالأساس إلى تجربة إسرائيل في البرية أربعين سنة، وليس عجيبًا على الفكر اليهودي أن تمثل السنة يومًا واحدًا، فقد جاء في سفر العدد: "كَعَدَدِ الأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي." (عد 14: 34)، وأيضًا في حزقيال: "فَتَحْمِلَ إِثْمَ بَيْتِ يَهُوذَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ عِوَضًا عَنْ سَنَةٍ." (حز 4: 6).[5]

ولم ينقاد المسيح إلى البرية[6] من الروح القدس، كمن ينقاد وهو لا يعلم، أو كابن يقوده أبوه، بل إنه انقاد للبرية بإرادته الحرة الكاملة لكي يهزم إبليس هناك،[7] فلم يكن ممكنًا أن يقوم إبليس بالمباردة مع ابن الله، لذا ذهب الابن إليه ليخوض التجربة معه ويهزمه.[8] وقد غلب إبليس فيما سبق الطبيعة البشرية عندما أغوى آدم، والآن هزمته تلك الطبيعة ذاتها من خلال المسيح، حين حضر الله وسكن في طبيعتنا البشرية، استطعنا به أن نهزم إبليس.. فالرب هزمه لحسابنا نحن.[9]

 



[1] وليم إيدي (الدكتور)، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، إنجيل متى (بيروت: 1973)، ص 26.

[2] خاصة الأصحاحان السادس والثامن من التثنية، وهما اللذان يتحدثان عن تجربة بني إسرائيل في البرية.

[3] Donald A. Hagner, Word Biblical Commentary: Matthew 1-13, Word Biblical Commentary (Dallas: Word, Incorporated, 2002). 63.

[4] نشير معظم هذه النصوص إلى أهمية الصوم قبل بدء الخدمة، وهكذا أيضًا فعل يسوع كمثال لنا، أنه صام قبل بدء خدمته الفعلية وبدء الكرازة بالانجيل. كما يذهب البعض إلى أن يسوع هُنا هو موسى الجديد الذي أتى بالعهد الجديد والتشريع الجديد.

[5] Donald A. Hagner, Word Biblical Commentary: Matthew 1-13, Word Biblical Commentary (Dallas: Word, Incorporated, 2002). 64.

[6] بحسب الفكر اليهودي فإن البرية تشير إلى أماكن حضور الشيطان، مثلها مثل المقابر والحمامات العامة، لذا فإنه يتبادر إلى ذهن القاريء أن يسوع هُنا ذهب ليحارب الشيطان في عقر داره.

Craig S. Keener and InterVarsity Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 1993). Mk 1:12.

[7] "أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ" (لو 4: 1). فالمسيح كان ممتلئًا من الروح القدس ولم يكن مُجرد مُنقاد له.

[8] أحد الآباء اليونان في تعليقه على إنجيل متى، عظة 5 (PG, 56: 661).

[9] هيلاري أسقف بواتييه، تعليقات على متى 3: 1- 2 (SC 254: 110-14).

شرح الآية: أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي

 


"سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ: أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي." (يو 14: 28).

صحيح أن يسوع، في دوره كعبد أثناء وجوده على الأرض، أخذ منزلة أقل في المجد من المجد الذي لله في لاهوته، مع أن الكلمة لم يفقد أي شيء، لإنه ماليء كل مكان في السماء وعلى الأرض، لكن الحديث هُنا عن جسده الخاص، غير أنّ هذه المنزلة لا تنفي طبيعته الإلهية، ونرى ذلك من خلال:

1- في ذلك الأصحاح نفسه قال يسوع لفيلبس: "الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أرنا الآب؟" (يوحنا 14: 8، 9).

2- يشير المسيح هُنا إلى دوره المؤقّت في الجسد، لا إلى كينونته ووجوده، أي أنه هُنا يتحدث عن حال وجوده في الجسد، لا عن طبيعته الإلهية في مجدها الآزلي.

 3- عندما قال المخلص ذلك كان قد أخبر التلاميذ لتوه بأنه عليهم أن يفرحوا لأنه ذاهب إلى الآب، ثم شرح سبب قوله مصرحًا: "لأن أبي أعظم مني".

4- لم تكن المقارنة التي أجراها بين الآب وبينه تتعلق بالطبيعة، وإنما بالوضع الذي هو عليه في تجسُّده وإخلائِه، وبين المجد الذي له عند الآب.

فعندما تجسد الابن وحل بين الناس، وضع نفسه بشكل العبد (في2: 7)، وذلك باختياره النزول إلى العار والآلام في أشد أشكالها (عب12: 2). لقد أصبح الآن ابن الإنسان الذي ليس له مكان يسند فيه رأسه (مت8: 20). فالذي كان غنيًا افتقر لأجلنا، صار رجل الأوجاع والأحزان ومختبرًا الأسى (إش53: 3). على ضوء هذا، أجرى المسيح مقارنة بين وضعه ووضع الآب في السماء. فقد كان الآب جالسا على عرش الجلالة الفائق السمو، لم يخفي بريق مجده، كان محاطًا بالجند المقدسين الذين يقدمون له العبادة والتسبيح باستمرار.

اما الأمر بالنسبة "للابن المتجسِّد"، فكان الوضع مختلفًا جدًّا – إذ كان محتقرًا ومرفوضًا من الناس، محاطًا بأعداء حقودين قساة القلوب، منتظرًا أن يُسمر قريبًا على صليب المجرمين. بهذا المعنى أيضًا. كان وضع الآب أعظم من وضع "الابن المتجسد" في ذلك الوقت، وقت الإخِلاء، وبذهابه إلى الآب سيعود إلى مجده. لقد كانت المقارنة إذًا بين وضعه الحالي المتسم بالتواضع وحالة جسده الخاص الممجدة القادمة لدى الآب. ولهذا كان يجب على الذين يحبونه أن يتهللوا للخبر السار عن ذهابه إلى الآب، لأن الآب أعظم منه، أعظم من حيث وضعه الرسمي ومن حيث الظروف المحيطة. فقد كان المسيح يتحدث عن وجوده في وضعية العبد مقارنة بالعظمة التي للآب.

ويكون ذلك كسبًا أو ربحًا لا يمكن التعبير عنه، وهذا الربح هو لنا، لإن وجود الابن بجسده الخاص في المجد يفتح الطريق للطبيعة البشرية كلها أن تكون فيه في النهاية، في المجد الذي فيه جسد الابن الخاص. "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ." (2 كو 8: 9).

فالمقصود باختصار أن الصورة السماوية هي أعظم من الصورة الأرضية المتواضعة. فالآب أعظم من الابن المتجسد من جهة الحالة الوقتية، وليس من جهة الجوهر والمساواة.

ودائمًا ما يُشدّد الآباء على أنّ المُقارنة لا تتم إلَّا بين من هم من نفس الطبيعة، فلا نستطيع أن نقارن بين البحر والنخلة، ولا بين الأرنب والجبال، بل يجب أن نقارن بين متساوين، لذا لم يستخدم يسوع كلمة ”أفضل“، بل كلمة ”أعظم“، والتي تشير إلى مساواته مع الآب في الطبيعة، مثلما يقول القديس أثناسيوس:

إنّ الابن لم يقل ”أبي أفضل مني“، خشية أن نتصور أنه غريب عن طبيعة الآب، بل قال أعظم مني، ليس من جهة القيمة، ولا من جهة الزمن، بل بسبب ميلاده من أبيه، وبذلك أظهر أنه من ذات طبيعة الآب، لان الآب والابن باستمرار من طبيعة واحدة.

ويضيف المطوَّب أمبرسيوس:

يقولون مكتوب: ”أبي أعظم مني“. أيضًا مكتوب: ”لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا للَّه“ (في 6:2). وأيضًا مكتوب أن اليهود أرادوا قتله، لأنه قال إنه ابن اللَّه معادلًا نفسه باللَّه (يو 18:5). مكتوب: ”أنا والآب واحد“ (يو 30:10). إنهم يقرأون نصًا واحدًا وليس نصوص كثيرة. إذن هل يمكن أن يكون أقل ومساوٍ في نفس الوقت لذات الطبيعة؟ لا، فإن عبارة تشير إلى لاهوته، وأخرى إلى ناسوته.

شرح الآية: يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ

 


"وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ"   (لو2: 52).

يذكرنا هذا النص بما جاء في سفر صموئيل النبي:

"وَأَمَّا الصَّبِيُّ صَمُوئِيلُ فَتَزَايَدَ نُمُوًّا وَصَلاَحًا لَدَى الرَّبِّ وَالنَّاسِ أَيْضًا." (1 صم 2: 26). "وَكَبِرَ صَمُوئِيلُ وَكَانَ الرَّبُّ مَعَهُ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ كَلاَمِهِ يَسْقُطُ إِلَى الأَرْضِ." (1 صم 3: 19).

إننا نقول إن الله تجسد، أو كما يقول الكتاب: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا." (يو 1: 14). "لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ." (في 2: 7). "فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا." (كو 2: 9).

فهو ظهر في جسد وعاش كإنسان، وكإنسان كان بينمو ويكبر في القامة وهذا أمر طبيعي.

أما في الحكمة والنعمة فهي في ظهورها واستعلانها قدام الناس، بمعنى أنه لم يكن ينمو ليقترب أكثر من الحكمة والنعمة، وكيف هذا والحكمة متجسد فيه! "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ." (كو 2: 3). إنما من جهة الانكشاف والظهور أكثر قدام الناس، فكلما نما كلما ظهرت حكمته وتجلت أمام البشر، حتى تجلت في تمامها في السن الذي بدأ منه خدمته (سن الثلاثين تقريبًا).

فالمسيح، شيئًا فشيئًا أظهر حكمة الكلمة الساكن فيه للناس، وشيئًا فشيئًا انخرط في المجتمع الذي جاء منه، دون أن يكون منفر أو غريب لهم.

أما عند الله، فتعني انكشاف الله فيه، أو تمام تجلي الله من خلاله أمام البشر، وهو أحد أهداف التجسد، أن يتجلى الله بذاته للبشرية، ليكلمهم بشخصه لا عن طريق وسيط آخر: "كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ،" (عب 1: 2).

وإن فهمناها بمعنى أنه كان ينمو عند الله فسيكون الله غير عالم بكل شيء، وهو يُفاجأ بأن المسيح نما في الحكمة والنعمة على غير المتوقع مثلًا! وحاشا لله، فهو العالم بكل شيء: "لأَنَّهُ إِنْ لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا فَاللهُ أَعْظَمُ مِنْ قُلُوبِنَا، وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ." (1يو3: 20).[1]

فالمقصود هنا ان المسيح نما على مستويين، المستوى الاجتماعي، من جهة القامة والحكمة والنعمة، والمستوى اللاهوتي أو الروحاني من جهة إنكشاف وتجلي الله فيه ومن خلاله.

ويقول القديس اثناسيوس الرسولي:

"لأنَّه هكذا بازدياد الجسد في القامة كان يزداد فيه ظهور اللاهوت أيضًا ويظهر للكل أنَّ الجسد هو هيكل اللَّه، وأنَّ اللَّه كان في الجسد ... وكما قلنا، أنَّه تألَّم بالجسد، وجاع بالجسد، وتعب بالجسد، هكذا يكون معقولاً أيضًا أنْ يُقال أنَّه تقدَّم بالجسد لأنَّ أيّ تقدُّم مثل الذي شرحناه لا يمكن أنْ يحدث للكلمة بدون الجسد".[2]

ويقول القديس كيرلس السكندري:

"لو أنَّه أبان وهو طفل من الحكمة ما يليق به كإنسان، لظهر للجميع كأنه كائن غريب شاذ عن الجميع. ولكنه كان يتدرَّج في إظهار حكمته بالنسبة إلي تقدُّمه في العمر بحسب الجسد، فيظهر كأنَّه امتلأ حكمة بنسبة ظهور الحكمة الكامنة فيه كأنها تبرز بدرجة ملائمة لنمو الجسد... فهو يعرف من جهة اللاهوت لأنَّه حكمة الآب ولكنه إذ أخضع نفسه إلي القياس الناسوتي إتّخذ لنفسه بحسب التدبير ذلك القياس. ولم يكنْ كما قلت سابقًا يجهل شيئًا لكن يعلم كلّ شيء كما يعلم الآب.[3]

ويكتب يوحنا الدمشقي أن المسيح كلما ترعرع كشف الحكمة المكنونة فيه، لانه اختص لنفسه في كل شيء ما هو لنا، فهو إله وإنسان معًا وكان جسده يظهر حكمة الكلمة ويفيض بها للعالم.[4]

ونفس الأمر يذكره القديس جيروم الذي يقول: "أن ناسوته كان يتلقى العلم من لاهوته".[5] واستشهد بأية إشعياء النبي: "وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ." (إش 11: 2).



[1] انظر أيضًا: "يَا رَبُّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا النُّورُ، رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا" (مز139).

[2] ضد الآريوسيين 3: 51-53.

[3] الرد على نسطوريوس، عن كتاب: مجموع الشرع الكنسي، الارشمندريت حنانيا إلياس ص 314

[4] المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، 3: 22.

[5] مواعظ على المزمور 61، مذكور في: التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، الإنجيل كما دونه لوقا (البلمند، 2007)، ص 110.