أهمّيّة التعليم عن التألُّه
إنَّ التعليم بحسب
التقليد الرسوليّ في الكنيسة في ما يخصّ الإنجيل والخلاص والكلمة، كان هو المرجع
النهائيّ الثابت غير القابل للنقاش، والمُلزم للمؤمنين، ليس من جهة التصديق العقليّ،
بل من جهة الحياة المنبثقة منه، تلك الحياة التي انطبعت في ليتورجيا الكنيسة،
وتعاليم آبائها المدونة.
وهذا يوضِّح لنا أنّ المسيحيّة
إيمان بالتسليم الحي المنحدر من ”الكلمة“ الحي، عَبْر
الرسل، أو أنّ الإيمان هو هو الكلمة المحيي
المذخر بالتقليد وبالإنجيل في الكنيسة، وليست المسيحيّة موضوع نقاش لاهوتيّ
أو صراع فكريّ استقر على صورة ما.
والمسألة في أمر ”التألُّه“، أي الاتحاد بالله، ليست هيِّنة، فهي تختصُّ
بالإيمان كلّه وبمنهج العبادة والصلَّاة والاتصال بالله. فلكي نعرف الله لا بد أن نقترب
منه، ويستحيل الاقتراب من الله إلاَّ عن طريق ”الكلمة“ والروح، وهذا هو - الاتصال - الذي يؤدِّي إلى كشف طرق الحكمة الإلهيّة والذي
عليه يبني الإنسان فكره وسلوكه، وهو ”الاتحاد بالله“ المعتبر هبة الكمال التي أُهِّلت لها طبيعة الإنسان بواسطة ”الكلمة“، لما قَبِل أنّ يتحد بجسد إنسان أي يتأنَّس، فتأنُّس الله أعطى فرصة لتألُّه
الإنسان، حيث إنّ التألُّه لا يُخرج الإنسان عن إنسانيّته ولا يستنفذ كلّ ما لله،
حيث ما يتحصَّل عليه الإنسان من الاتحاد بالله لا يوصِّله إلاَّ إلى كمال صورة الله الذي خلقه عليها ليبلغها في النهاية، والتي لا يمكن أنّ تتمّ
إلاَّ بالاشتراك في الحياة الأبديّة.
لقد
صلّى السيد المسيح ليلة آلامه قائلًا: ” ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم
أيضًا واحدًا فينا“ (يو21:17). فكما أنّ أقانيم الثالوث الثلاثة كلّ منهم كائن في
الآخر، هكذا الإنسان الذي جُعل على صورة الثالوث، مدعو ”للثبات“ في الله الثالوث. فالذين يثبتون في الله
بالمحبة ويمتلئون من حضوره فيهم بالروح هؤلاء يعبّرون عن المحبة التي هيَ الثالوث ”الله محبة“.
هذه
الحقيقة عن اتحاد الإنسان بالله والثبات فيه، وعن كون الله ساكنًا فينا ونحن فيه،
هيَ موضوع إنجيل القديس يوحنا، وتظهر أيضًا كثيرًا في رسائل بولس الرسول الذي ينظر
إلى الحياة المسيحيّة على أنّها، قبل كلّ شيء ”حياة في المسيح“، إذ يقول على سبيل المثال: ”أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ“ (غلا20:2).
ونعثر
على الفكرة عينها في النص الشهير لرسالة بطرس الثانية: ”قد وهب لنا
المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهيّة“ (2بط4:1).
وصوَّر
القديس باسيليوس الكبير الإنسان على أنه مخلوق أُمِرَ بأن يصبح إلهًا[1].
أمَّا القديس أثناسيوس فقال: ”إنّ كلمة الله صار إنسانًا لكي يؤلِّهنا نحن“[2]. ويؤلِّهنا تعني تقديسنا، والقدَّاسة
وفقًا لتعاليم الكنيسة الأرثوذكسيّة، هيَ الهدف النهائيّ الذي يجب أن يتطّلع إليه
كلّ مسيحيّ، أي أن يصبح بالنعمة على مثال الله في القداسة. وباستطاعتنا أن نعرف
الله ونحيا في شركة معه كما يقول القديس غريغوريوس النزينزيّ في تفسيره للتطويبات:
”لم يُطوِّب الرّب مَن يعرف شيئًا عن الله، بل من يكون الله حاضرًا فيه“.
والقداسة
ليست عملية ”إنزوائية“، بل لها علاقة ”بالآخر“، فنحن نصل إلى حالة القداسة ”بإتباع الوصايا“، والسيد المسيح لخّص لنا الوصايا
كلّها في وصيتين هما: محبّة الله ومحبّة القريب. هاتان الوصيتان لا تنفصلان،
فالإنسان لا يستطيع أن يحب قريبه محبّته لنفسه ما لم يحب الله فوق الجميع، كما لا
يستطيع الإنسان أنّ يحبّ الله مالم يحبّ إخوته البشر (انظر 1يو12:4). يقول ق.
يوحنا ذهبي الفم:
”ليس شيء يجعل الإنسان مثل المسيح كاهتمامه بالآخرين. ليس شيئًا تافهًا مثل مسيحيّ لا يهتم بخلاص الآخرين. إن قلت إنّك مسيحيّ ولا تقدر أن تفعل شيئًا للآخرين يكون في قولك هذا تناقضًا، وذلك كالقول أنّ الشمس لا تقدر أنّ تعطي نورًا “[3].
هذه النعمة الجزيلة التي من فوق هيَ التي تميِّز المسيحيّة عن سابقتها أي
اليهوديّة والتي أعلنت - قبل مجيء المسيح - وتنبَّأت عن هذه النعمة على فم
المرتِّل: «أنا قلتُ إنكم آلهة وبنو العليِّ كلُّكم» (مز 82: 6)، وقد ذكرها المسيح
حينما تعجَّب اليهود أنّ المسيح كان يتكلَّم وكأنَّه إله: «وأنت إنسان تجعل
نفسك إلهًا»، فأجابهم يسوع بنفس كلمات المزمور مُقدِّمًا لها بهذه الكلمات:
«أليس مكتوبًا في ناموسكم إنّكم آلهة»، وختمها بقوله الذي أصبح هو أساس التعليم
بعقيدة الثيئوسيس: «إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أنّ يُنقض
المكتوب. فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تُجدِّف لأني قلتُ
إني ابن الله» (يو 10: 34-36).
[1] انظر: الكنيسة الأرثوذكسيّة إيمان
وعقيدة، تيموثي وير، منشورات النور ـ لبنان 1982.
[2] تجسد الكلمة
(3:54) ترجمة د. جوزيف موريس فلتس ـ إصدار مركز دراسات الآباء ـ القاهرة 2002.
[3] القديس يوحنا ذهبي الفم، القمص
تادرس يعقوب ملطي، إصدار كنيسة مار جرجس سبورتنج ـ الأسكندرية 1980، ص199ـ200.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق