لا يتم الوحي بطريقة آلية كما يزعُم هؤلاء الذين يأخذون بما يُعرف بالنظرية الآلية mechanic theory والتي بحسبها، فإن من يكون واقعاً تحت تأثير الوحي الإلهي، يَتَحَوَّل إلى أداة سلبية لا فاعِلية لها، إلى الدرجة التي ننظُر فيها إلى الكُتَّاب المُقدسين كأن عملهم لا يتجاوز مُجرَّد التوقيع، وهم يكتبون ما يُملى عليهم أو يُلقَّن لهم من الروح القدس، ويمتد تأثير الروح القدس – حسب هذه النظرية – إلى الأسلوب والكلمات، بل بالنسبة للبعض، يمتد حتى إلى علامات الترقيم.
على أن هذه الصورة التي تقدمها هذه النظرية للوحي، لا تتفِق مع الصورة الحقيقية التي كان عليها رجال الوحي عندما كتبوا الكتاب المقدس، ومهما كان الأمر، فإنه يستحيل على كاتِب مهما كان، أن يكتُب بإملاء الروح القدس رسالة مثل الرسالة إلى رومية، أو إنجيلاً مثل الإنجيل للقديس يوحنا، كما كُتِب هذان الكتابان الأول بواسطة الرسول بولس، والثاني بواسطة الرسول يوحنا.
ويتبين لنا من قراءتنا للكتاب المقدس أن الوحي قد ترك
للكتبة أن يستعملوا المعارف والثقافة التي اكتسبوها. ثم إن الوحي لا يعفي الكتبة
من بذل الجُهد للتعَرُّف على بعض المعلومات والمعارف التي يتضمنها الكتاب المقدس
في أجزاء أخرى منه. فمثلاً في (2مل12: 19)، أشير إلى مصادر لابد أن يكون الكاتِب
على معرفة بها “وَبَقِيَّةُ أُمُورِ يُوآشَ وَكُلُّ مَا عَمِلَ، أَمَا هِيَ
مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ يَهُوذَا؟”. (2مل12: 19).
وبلا شك فقد استعان كل من القديسين متى ولوقا في سلسلتي
النسب بجداول الأنساب التي كان يستعملها اليهود في ذلك الوقت. والقديس لوقا في
افتتاحية انجيله، يُشير إلى الكتابات الأخرى التي كان يعرفها، فيقول:
“إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَيوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.” (لو1: 1ـ 4).
وفى بعض الأحيان، يبدو الكُتَّاب، كمن يكتبون من واقِع
خِبراتهم الخاصة، فالقديس يوحنا مثلاً يقول:
وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ، وَكَانَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفًا عِنْدَ الْبَابِ خَارِجًا. فَخَرَجَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَلَّمَ الْبَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ. (يو18: 15ـ 16)
ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ:”هُوَذَا أُمُّكَ“. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ.” (يو 19: 27)
وفي سفر الأعمال الذي كتبه القديس لوقا، يشير إلى أنه
كان يصحُب الرسول في رحلاته، ويتكلم بضمير المُتكلم الجمع.
هذا بالإضافة إلى اختلاف الأسلوب واللغة من كتاب لآخر.
وفي القصص الواحدة في الإنجيل، للكُتَّاب الأربعة، يختلف
العرض بين الإسهاب والإيجاز واستعمال كلمات خاصة لا تَرِد في المواضِع المُقابلة.
2ـ وهناك نظرية أخرى تُسمى بالنظرية الطبيعية natural
theory، وبحسب هذه النظرية، يكفي كعنصر للوحي، شركة
الرُسُل الشخصية مع المسيح، التي طَبَعَت بدرجة حية وعميقة فيهم أثر حياة الرب
يسوع، حتى أنهم استطاعوا أن يدركوا شخص المسيح ومقاصِده أكثر من جميع الأشخاص
الآخرين، ومن هنا فإن العقول الأكثر نمواً بين المسيحيين في تلك الأيام، أخذت
كتاباتهم وضعاً خاصاً، وهناك أيضاً آخرون، عرفوا عملاً من أعمال الروح القدس، وهو
ما يُسمَّى بالميلاد الثاني، وزعموا أن بين هؤلاء الذين وُلدوا هذا الميلاد الثاني
وُجِدَ البعض الذين تَمَيَّزوا بعُمق أكثر من غيرهم بعمل الروح القدس هذا، مما مَكَّنهم
لأن يكونوا أقدر من غيرهم على كتابة الكُتُب المقدسة.
على أن هذه النظرية، تسلب كُتَّاب الوحي من عمل الروح
القدس الخاص بهم، الذي يُمكِّنهم من أن يصيروا أصواتاً للروح القدس يتكلم على
لسانهم.
وكذلك فإن هذه
النظرية تصل إلى القول بأن سُلطة الكتاب المقدس لا تُستَمَد مُباشرةً من الله. بل
من الكنيسة وكذلك فهي لا تُقدِّم الكتاب المقدس كقانون إلهي سام يجب على الكنيسة
أن توجِّه تعاليمها وحياتها في ضوئه، بل كما لو كان انعكاساً ونتاجاً لحياة وروح
الكنيسة.
وأكثر من ذلك، فإنها تنتهي إلى وضع الكُتُب المُقدسة على
مستوى كتابات الكُتَّاب الكنسيين لا تتميز عنها إلا بالدرجة فقط. وهذه النظرية
تُعارض التأكيد الكنسي العام الذي بحسبه تكون الكُتُب المقدسة قد كُتِبت بالروح
القُدس الذي تكلَّم على لسان الأنبياء والرُسُل، وأن هؤلاء لم يتكلموا من أنفسهم
أنظر:
2 Tim. M. 82, 849.
Justin 1, Apol, 36.
Autol. II 10.
Clement of Rome, 1 cor ch. 45, 2 – 3…
Basil, Psal. 1, 1.
Origen, in Cantic. II
Gregory of Nyssa, anti Eunom. VII.
Chrysost, Psalm 145, 2 + Genes. Hom. 7, 4, M. 6, 386,
1065 + 29, 209 + 13, 121 – 122 + 45, 741 + 55, 520 + 53, 65.
3ـ وشبيه بهذه النظرية، النظرية الأخلاقية moral theory والتي بحسبها، فإنه بتجسُّد الكلمة، قد خُلِقَ نمط جديد من الحياة
يُشارك فيه جميع المؤمنين، فتتغيَّر ضمائِرهم وتستنير وتتقدَّس. وهنا فإن عيونهم
الروحية يحدُث لها جلاء بصري حتى أنها ترى من العالم الروحي ما لا تدركه عيون غير
المؤمنين.. على أن قدرة هذه العيون تختلف بين المؤمنين من حيثُ الدرجة، فإن الذين
يكونون على درجة أعلى من الجلاء يُمكنَهم أن يُدركوا الرَّوحِيَّات بصورة أكثر
وُضوحاً وتَمَيُّزاً، وهؤلاء هم الرُسُل، وحسب هذه النظرية، فإن الوحي هو نصيب
مُشترك يُقاسِم جميع المؤمنين، ولا يختلف المؤمنون عن الكتبة القديسين إلا من حيثُ
الدرجة لله.
لكن هذه النظرية تفتقد الضمانات التي تهب هذه الكُتُب
المُقدسة خصائص مُعيَّنة بين الكُتُب المسيحية تعطيها أن تكون وحدها هي كلمات وصوت
الروح القُدُس.
4ـ أما النظرية الرابعة وهي أرجح النظريات وأصحَّها، لأنها النظرية الوحيدة التي تعرض عرضاً صحيحاً طبيعة الوحي والتي تُعَبِّر عن التعليم الأرثوذكسي، ويأخذ بها آباء الكنيسة، فهي التي تُعرف بالنظرية الديناميكية dynamic theory. وحسب هذه النظرية، فإن الوحي هو عمل خاص وخارِق للطبيعة، من قِبَل الروح القُدُس، وبموجبه ترتوي وتمتلئ إرادة الكاتِب وفِكره، وكل ملكات الإنسان الباطنة، ولكن مع ذلك، فإن الروح القُدُس لا يلغي شخصية الكاتِب ولا يفقدها حُريتها وعملها الخاص(1). وإنما يرفعها ويُنهِضها ويُشَكِّلها لكي تعمل مع الروح القُدُس هذا العمل الإلهي المُتمَثِّل في كتابة هذه الكُتُب الموحى بها من الله.
إن الوحي، هو هذا الدخول والتغَلغُل للروح القُدُس في كل
الشخصية الإنسانية للكاتِب، وليس في هذا فُقدان لشخصيته أو ضياع لها، وكذلك ليس
فيه أي إقلال أو إنقاص لها، بل يَتَقَدَّم بها ليكسب النفس لتكون أكثر تَبَصُّراً
وفِطنة وحذقاً، وليجعل العقل أكثر إشراقاً وتلألؤاً ولمعاناً(2). وهنا، فإن كل
كاتِب من هؤلاء الكُتَّاب يتكلَّم لُغته الخاصة ويُعبَّر وِفقاً لتعبيره وأسلوبه
الخاص، ذلك لأن الروح القُدُس في وَحْيِهِ يستخدِم الكِتاب، ككائنات شاعِرة عاقِلة
وليس كآلات سلبية. على أن ما يصدُر عنهم لا يكتبونه كأنه من أنفسهم، ولكن من خلال
تَغَلغُل الروح القُدُس فيهم يكتبون حسبما يُوجَّهون ويُرشَدون، وكما تكتُب اليد
بتوجيه الرأس الذي هو المسيح(3).
ومِما يدُل على أن الوحي لا يلغي شخصية الكاتِب، وأن
الكاتِب يكتُب مُتأثِّراً بثقافته وبيئته، هو ما نُلاحِظه من اختلاف الأسلوب بين
كُتُب الكتاب المُقَدَّس المُختلفة، وكذلك عدم التزام الكاتِب بالحرفية فيما
يُكتَب، ففي قصة عِماد السيد المسيح لم يذكُر القديس متى أن صوتاً من السماء قال
حسب رواية القديس لوقا: “أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرت” (لو 3: 22). كذلك يختلف
الأمر بين البشائر الأربع فيما ذكروه عن النص الذي كُتِب على صليب السيد المسيح.
فهو بحسب القديس متى: “هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت 27: 27) وهو بحسب القديس مرقس
“ملك اليهود فقط” (أنظر مر 15: 26) وفي القديس لوقا: هذا هو ملك اليهود (لو23:
38)، وأما في بشارة القديس يوحنا فهو: يسوع الناصري ملك اليهود (يو19: 19).
—————————————————————————
Chrysost John hom. 1, 1-2, 1 + 1 Cor. Hom. 29,2 M. 59,
25- 26 + 61, 241.
Origen,
anti Celsus VII 4, M. 11, 1425.
Psal. 142, 2, Agust. De Consensu evangelistraum, 1,35.
المصدر: كتاب علم اللاهوت العقيدي لدكتور موريس تاوضروس
مراجعة وتقديم نيافة الأنبا موسي، الجزء الأول ص 81 وما بعدها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق