الأحد، 23 مايو 2021

الإتحاد بالله (التأله) في تعليم القديس اثناسيوس الرسولي ج1

 

يجدر بنا هنا أن نشير إلى أن الكنيسة منذ لحظة انطلاقها بأمر الرب العلني وبقوة دفع الروح القدس، وبسلطان إلهي ظهر على لسان بطرس الرسول أنه قادر أن يميت ويحيي بكلمة - كما حدث في حالة حنانيا وسفيرة - هكذا وضحت الكنيسة للعالم أنها إلهية منذ أول لحظة، وهكذا استمرت بالتلاميذ ثم الأنبياء ثم الأساقفة والقديسين تنطق باستعلان إلهي في ما يخص رسالة الخلاص في الإنجيل، وكل نطق إلهي في ما يخص عمل المسيح بالإنجيل حُفظ فيها كقضية مسلَّم بها أنها نطق إلهي. وكان هو التقليد: «وإذ كانوا يجتازون في المدن كانوا يسلِّمونهم القضايا التي حكم بها الرسل والكهنة والشيوخ الذين في أُورشليم ليحفظوها» (أع 4:16). هذه التي على أساسها كان يُبنى الشرح والتعليم، لا كأنه تعليم اجتهادي، بل كان يُنظر إليه بكل هيبة ووقار أنه تعليم الرب، أو بصورة مختصرة: “كلمة” الله ذاتها.

لهذا فإن التعليم بحسب التقليد الرسولي في الكنيسة في ما يخص الإنجيل والخلاص والكلمة، كان هو المرجع النهائي الثابت غير القابل للنقاش، والمُلزم للمؤمنين، ليس من جهة التصديق العقلي، بل من جهة الحياة المنبثقة منه. وكان هذا هو مفهوم الإيمان De fide قبل أن يصبح له قانون ومجامع.

وهذا يوضِّح لنا أن المسيحية إيمان بالتسليم الحي المنحدر من “الكلمة = اللوغوس” الحي، عَبْر الرسل، أو أن الإيمان هو هو الكلمة المحيي المذخر بالتقليد وبالإنجيل في الكنيسة، وليست المسيحية موضوع نقاش لاهوتي أو صراع فكري استقر على صورة ما.

فالإيمان كما تقدِّمه الكنيسة منذ البدء هو تعليم محيي، هو “الكلمة” نفسه “هو الحق الكلي”، ولا يمكن أن يؤخذ منه جزءٌ ويُترك الآخر، أو أن يكون قابلاً للتغيير والتعديل، وقد وضعته الكنيسة من خلال مجمع نيقية في حدود قاطعة مانعة كما يسميها أثناسيوس. فيوضِّح أيضاً هذه الحقيقة الهامة جدًّا بقوله:
[إن كلمة الرب التي تُسلِّمت إلينا من خلال المجمع المسكوني في نيقية هي باقية إلى الأبد.]([2])

وهكذا فإن أثناسيوس حينما يركِّز بشدة على الإيمان بتألُّه الإنسان، فهو كان يتمسَّك بقوة بتقليد الكنيسة القديم من جهة النتيجة المباشرة التي آلت إلى الإنسان بسبب تجسُّد ابن الله وتأنُّسه ثم موته على الصليب الذي به تبرّر الإنسان، والقيامة التي نال بها الإنسان الحياة الأبدية، وهكذا نال الإنسان نصيباً في الطبيعة الإلهية كنتيجة حتمية.

وهنا يُبرز أثناسيوس الاصطلاح التقليدي الذي أصبح ميراث اللاهوت الشرقي كله([3]):

“تألُّه الإنسان”، وهو التعبير المقابل للتجسُّد؛ “فالتأنُّس” يقابله “التألُّه” الذي يعني في اللاهوت الاتحاد بالله، الذي ابتدأ الإعلان الإلهي عنه بإلهام وبتحديد قاطع من بطرس الرسول في رسالته الثانية 4:1 بتعبير الاشتراك في الطبيعة الإلهية، ثم التزم به الآباء إيرينيئوس ومن بعده، وامتد عبر هيبوليتس وأُوريجانوس وآباء آسيا الصغرى إلى أثناسيوس الذي بلغ به إلى القمة من جهة البرهان والشرح والتوضيح.

وهنا ينقسم مفهوم “الاتحاد بالله” أي “التألُّه” في اللاهوت الشرقي إلى اتجاهين:

الأول:
أوريجاني، حيث يعتبر أوريجانوس أن أعلى ما يهدف إليه الإنسان هو أن يعود إلى مصدره الأول بحالته الأُولى التي خُلق عليها.

الثاني:
عند إيرينيئوس وآباء آسيا الصغرى، وهو يختلف تماماً عن أوريجانوس. فإن الإنسان عندهم خُلق لغاية لم يستطع أن يحقِّقها إطلاقاً، وأن فترة الاضطراب العظمى التي وقع فيها الإنسان بسبب دخول عنصر الخطية عليه قد أصلحه وشفاه التجسُّد. والتجسُّد هو الذي حمل الإنسان إلى رأس آخر (المسيح) جديد، غير رأسه الأول آدم الذي انحدر منه، وبذلك فإن التجسُّد حمل الإنسان إلى غاية جديدة أخرى كان يستحيل عليه أن يبلغها لو بقي تحت رئاسته الأُولى القديمة.

وباختصار نستطيع أن نضع هاتين النظريتين هكذا:
1 - عند أوريجانوس كان التجسُّد لعودة الإنسان “إلى” حالته الأُولى.
2 - عند إيرينيئوس وأثناسيوس كان التجسُّد لتقدُّم الإنسان وامتداده فوق حالته الأُولى.

وهذا التركيز على هذه الرؤية اللاهوتية بالنسبة لأثناسيوس كان مدخلاً ضمن أسلحته الماهرة لتحطيم الفلسفة العقلانية التي للأريوسيين، التي تؤكِّد على أن اللاهوت عند أثناسيوس بالذات لا ينحصر في دائرة المعرفة Gnosticism، لكنه يخترقها سريعاً ليبلغ الغاية الحقيقية من الخلقة ومن التجسُّد التي تفوق قامة المعرفة البشرية، بل وكل ما للإنسان، وهي الاتحاد بالله، التي يسمِّيها اللاهوتيون الأوائل ذوو الجراءة في الإيمان والتعبير “بالتألُّه”، التي يُقصد منها بحسب التفسير عامة “الاتحاد بالله” أو أحياناً وبصورة خافتة “التبني” لله، أو بحسب تعبير بولس الرسول “ورثة مع المسيح في الله”؛ والتألُّه هو المقابل المتحصِّل من التأنُّس. فكما أن المسيح أخذ بالاتحاد بالجسد البشري كل ما للإنسان (ما عدا الخطية طبعاً ولو أنه حمل عقوبتها)، كذلك فالاتحاد بالمسيح يعطينا كل ما لله أو بحسب تعبير بولس الرسول نأخذ “كل ملء الله”، كما تقول التسبحة السنوية المقدَّسة: 
[هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. فلنسبِّحه ونمجِّده ونُزِدْه علواً].

والمسألة في أمر “التألُّه”، أي الاتحاد بالله، ليست هينة، فهي تختص بالإيمان كله وبمنهج العبادة والصلاة والاتصال بالله في الصميم. فلكي نعرف الله لا بد أن نقترب منه، ويستحيل الاقتراب من الله إلاَّ عن طريق “الكلمة” والروح، وهذا هو - الاتصال - الذي يؤدِّي إلى كشف طرق الحكمة الإلهية والذي عليه يبني الإنسان فكره وسلوكه، وهو “الاتحاد بالله” المعتبر هبة الكمال التي أُهِّلت لها طبيعة الإنسان بواسطة “الكلمة”، لما قَبِل أن يتحد بجسد إنسان أي يتأنَّس، فتأنُّس الله أعطى فرصة لتألُّه الإنسان، مع تحفظات في المفهوم اللاهوتي، حيث أن التألُّه لا يُخرج الإنسان عن إنسانيته ولا يستنفذ كل ما لله، حيث ما يتحصَّل عليه الإنسان من الاتحاد بالله لا يوصِّله إلاَّ إلى كمال صورة الله الذي خلقه عليها ليبلغها في النهاية، والتي لا يمكن أن تتم إلاَّ بالاشتراك في الحياة الأبدية.

وبحسب أثناسيوس فإن آدم لم يحقِّق غاية رسالته وأخفق في الاحتفاظ بمعرفة الله بسبب استخدامه لحريته، ووقع فريسة لقوة أخرى خارجية، وفقد قوة “الكلمة” لمَّا انحاز لمعرفة غير معرفة الله، وبالتالي فقد كل أمل في تحقيق الاتحاد بالله وهي غاية خلقته. من أجل هذا تجسَّد “الكلمة” لكي يرفع الإنسان مرَّة أخرى إلى معرفة الله الحقة، وبالتالي استرد له ما كان له من قدرة على الاتحاد بالله “التألُّه” ولكن بنعمة عظمى، لأن تجسُّد الكلمة وبقاءه في جسد إنسان الذي يجلس به المسيح الآن عن يمين العظمة في الأعالي أعطى ضماناً للإنسان لتكميل الاتحاد بالله والثبوت فيه بالفداء، وإنما على طول المدى، لأنه يستحيل بلوغ كمال نعمة الاتحاد بالله قبل أن يخلع الإنسان جسد الموت الفاسد ويلبس عدم الموت وعدم الفساد. «أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر (المسيح) نكون مثله لأننا سنراه كما “هو”.» (1يو 2:3)

على أن كل ما أخذه كلمة الله من الإنسان بالتجسُّد قدَّمة للإنسان وجعله قابلاً للاتحاد بالله (التألُّه) جسداً ونفساً وعقلاً وروحاً، أي كل طبيعته!! كذلك فإن كل ما استرده المسيح لنا - بصفة عامة وليست فردية - أصبح غير قابل للضياع أو الفقدان الناتج من ضعف طبيعتنا، فالمسيح لا يمكن أن يفقد ما اكتسبه لنا بسبب أخطائنا نحن، وهذه هي صفات الخليقة الجديدة التي هو رأسها والضامن لتحقيقها!!

[لأنه بالموت الذي (جازه) وصل عدم الموت إلى الجميع، ولأنه بتأنس الكلمة عرَّفت العناية الإلهية العامة الإنسان بكل شيء، كما عرف الإنسان واهبها وبارئها أي كلمة الله نفسه، لأنه صار إنساناً لكي نصير نحن فيه إلهاً، وأظهر نفسه في جسد لكي يستعلن لنا الآب غير المنظور.]([4])

[فالبشرية تكمَّلت فيه - أي بلغت كمالها - فهي استردت ما كانت عليه في خلقتها منذ البدء، ولكن بنعمة أكبر! لأنه عندما نقوم من الأموات فلن نخاف الموت في ما بعد، بل سنملك مع المسيح إلى الأبد في السموات.]([5])

وواضح جدًّا من تعبيرات أثناسيوس من جهة “التألُّه” للطبيعة البشرية أنه يعني الاتحاد بالله، الأمر الذي أوضحه القديس بطرس الرسول بمعنى: “لتصيروا شركاء الطبيعة الإلهية”، وهذا يُرجعه أثناسيوس إلى ما أكمله الكلمة في نفسه بالتجسُّد ليضمن خلاصنا.

[الكلمة صار جسداً لكي يقدِّم جسده من أجل الجميع، ولكي إذا ما نحن اشتركنا في روحه القدوس نصير آلهة (شركاء في الطبيعة الإلهية).]([6])

[إنه لم يكن إنساناً وصار إلهاً بعد ذلك، بل هو إله صار إنساناً لكي يصيِّرنا نحن آلهة (فيه) (شركاء في الطبيعة الإلهية).]([7])

[هذه هي النعمة التي صارت إلينا والارتفاع الذي حدث لنا، لأنه لمَّا صار إنساناً صار ابن الله يُعبد، فصرنا نحن معه جسداً واحداً، ولكن لم تفزع منَّا القوات السمائية حينما أُدخلنا إلى مجالاتهم.]([8])

[ومن أجل صِلاتنا بجسده صرنا نحن أيضاً هيكلاً لله، وبالتالي صرنا أبناء الله، حتى أن الرب المعبود محسوب أنه داخلنا أيضاً، والذين ينظروننا يقولون: «إن الله فيهم بالحقيقة».]([9])

[وبالرغم من أنه لا يوجد إلاَّ ابن واحد لله بالطبيعة، حقيقي ووحيد، إلاَّ أننا نحن أيضاً صرنا أبناءً ... فبالرغم من أننا بشر من الأرض، إلاَّ أننا نُدعى الآن آلهة ... لأن في هذا كانت مسرَّة الله الذي أعطانا هذه النعمة.]([10])

[ونحن نُحسب أولاد الله وآلهة، بسبب أن “الكلمة” فينا. فإننا نُحسب أيضاً أننا في الابن وفي الآب، لأن الروح القدس فينا.]([11])

[نحن البشر جُعلنا آلهة بالكلمة، بسبب أننا اتحدنا به من خلال جسده.]([12])

[وما هذا السمو والتقدُّم الذي صار لنا إلاَّ التأليه والنعمة التي وُهبت لنا من الحكمة.]([13])

[من أجل ذلك اتخذ جسداً إنسانياً حتى إذا ما جدَّده لنفسه (كخالق) له حينئذ يؤلِّهه في ذاته وبهذا يُحضرنا جميعاً إلى ملكوت السموات على مثاله. (أي ما صار له بالجسد جعله لنا أيضاً) لأن الإنسان كان لا يمكن أن يتألَّه (يتحد بالله) إن كان اتحاده يتم بمخلوق، أو أن يكون ابن الله ليس إلهاً، وكذلك لا يمكن أن يأتي “إنسان” إلى حضرة الله إذا لم يكن هو كلمته الحقيقية ومن جوهره وقد لبس جسداً.
وكما أنه كان يستحيل علينا أن نتخلَّص من اللعنة والخطية إن لم يكن الجسد الذي اتخذه الكلمة هو جسد بشري، إذ يستحيل أن تكون لنا شركة بيننا وبين آخر غريب عنا (عن طبيعتنا)، كذلك أيضاً فالإنسان يستحيل أن يتألَّه (يتحد بالله) إن لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو من جوهر الآب. لأن اتحاد الإنسان بالله هو من هذا النوع، حتى يمكنه أن يوحِّد (يُتحِد) ما هو لطبيعة الإنسان بنفسه الذي هو بطبيعة الله (أو هو إله بطبيعته)، وهكذا يصير خلاص الإنسان وتألُّهه (أي اتحاده بالله) مؤكَّداً ومضموناً.]([14])

كذلك من الواضح أن أثناسيوس يؤكِّد أن تأليه الإنسان لا يتم خارجاً عن المسيح، كما يستحيل أن يكون عملاً قائماً بحد ذاته، بل إن تأليه الإنسان يتم “في المسيح” - بالإيمان والأسرار - وخارجاً عن المسيح يستحيل أن يتم أي اتحاد أو حتى اقتراب من الله!! لأن الاتحاد بالله يستلزم أولاً تخلُّص الإنسان من كل أخطائه، وهذا أكمله المسيح بموته على الصليب غاسلاً بدمه كل خطايا الإنسان التي كانت تعوق الاتحاد بالله.

[فإذا كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فهذه الحقيقة لا تخجلنا، بل على النقيض تعطينا مجداً ونعمة عظمى لأنه صار إنساناً حتى يستطيع أن يؤلهنا (يوحِّدنا بالله) في ذاته، ووُلد من عذراء حتى يأخذ على نفسه خطأ جنسنا، حتى نصير نحن من الآن فصاعداً جنساً مختاراً و“شركاء في الطبيعة الإلهية” كما يقول المغبوط بطرس (2بط 4:1).]([15])

ومرة أخرى يوضِّح أثناسيوس أن هذا الاتحاد بالله يتم عن طريق الروح القدس أيضاً:

[وفضلاً عن هذا فإننا بالروح القدس نشترك كلنا في الله لأنه يقول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل الله مقدَّس الذي أنتم هو” (1كو 3: 16و17)، ونظراً لأننا دُعينا شركاء المسيح - «أمين هو الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه» (1كو 9:1) - وإن كنَّا بالاشتراك في الروح القدس نصبح “شركاء الطبيعة الإلهية” فمن الجنون أن نقول إن الروح القدس له طبيعة مخلوقة أو أنه ليس له طبيعة الله، لأن الذين فيهم الروح القدس، هؤلاء يصيرون آلهة، (أي مشتركون في الطبيعة الإلهية) فإن كان الروح القدس يجعل الناس آلهة، فلا شك أن طبيعته هي طبيعة إلهية.]

ومن أقوال أثناسيوس هذه يتضح لنا أن موضوع اتحاد الإنسان بالله “التأليه” هو حقيقة غير منازَع فيها، بل وبالأكثر فإنه يتخذها أساساً وبرهاناً على أن الروح القدس نفسه له طبيعة الله، مما يوضِّح أن موضوع اتحاد الإنسان في الله بواسطة الشركة في المسيح والروح القدس هو حقيقة أساسية في اللاهوت، وتقليد كنسي راسخ منذ الآباء الأوائل يوستينوس وبوليكاربوس وإغناطيوس وإيرينيئوس وهيبوليتس وترتليان، الذين اعتبروا الخلاص مستحيلاً وغير مضمون إذا لم يبلغ الإنسان هذا الاتحاد بالله بالروح القدس و“الكلمة” والأسرار.

ولئلاَّ يتوه أحد في معنى “تأليه الإنسان” - الذي لا يُفهم منه إلاَّ انتساب الإنسان لله - ولئلاَّ يظن أحد أن “تأليه الإنسان” عمل يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يغيِّر شيئاً من طبيعته الإنسانية، يعود أثناسيوس ويوضِّح جدًّا هذا الأمر هكذا:

[إن الآب بواسطة الابن يؤلِّه ويضيء الجميع ...، فالذي به ينال الجميع الألوهة والحياة كيف يمكن أن يكون هو (الابن) من جوهر مخالف لجوهر الآب؟]([16])

[ولكن ليس بحسب الطبيعة نكون أبناء الله، بل بسبب الابن الوحيد الذي يكون فينا. وكذلك أيضاً الآب لا يكون أباً لنا بحسب الطبيعة، بل لأنه أبٌ للكلمة الذي يكون فينا، الذي به وفيه نصرخ يا أبا الآب. وهكذا الآب لا يدعو أبناءً له إلاَّ الذي يرى فيهم ابنه الوحيد.]([17])

[إذن، فالروح هو الذي في الله، ولسنا نحن من أنفسنا نكون في الله، ولكن كما أننا نصير أبناءً وآلهة بسبب الكلمة الذي يكون فينا، هكذا أيضاً نصير في الابن وفي الآب، ونصير واحداً معهما بسبب الروح الذي فينا، لأن الروح هو في الكلمة والكلمة نفسه هو بالحقيقة في الآب.]([18])

[من أجل هذا صار الكلمة جسداً لكي يقدِّم جسده عن الجميع، ولكي إذا اشتركنا في روحه “نتألَّه”، وهي العطية التي كان يستحيل علينا الحصول عليها إذا لم يكن قد لبس هو بنفسه جسدنا المخلوق، لأنه من ذلك أخذنا اسمنا “كرجال الله” و“إنسان المسيح”.
ولكن كما أنه بأخذنا الروح القدس لا نفقد طبيعتنا الخاصة (الإنسانية)، هكذا الرب لمَّا صار إنساناً من أجلنا ولبس جسداً لم يتغيَّر عن لاهوته، لأنه لم ينقص شيئاً عندما تسربل بالجسد، بل بالحري ألَّهه وجعله غير مائت.]([19])

وهنا يقول القديس مقاريوس الكبير في عظته 49 في هذا الموضوع مفرِّقاً بين النفس البشرية والله هكذا:
[هو الله وهي ليست إلهاً، هو الرب وهي صنعة يديه، هو الخالق وهي المخلوقة، هو الصانع وهي المادة، ولا يوجد شيء مشترك قط بينه وبين طبيعتها.]([20])

ويعود أثناسيوس يناقش كيف يتم “تأليه الإنسان” أي اتحاده بالله، موضِّحاً أن بواسطة “جسد المسيح” والاتحاد به يتم تأليه الإنسان، لأن جسد المسيح صار متألِّهاً بمجرَّد اتحاده بالكلمة:
[وكما أن المسيح مات ثم ارتفع ممجَّداً - كإنسان - كذلك فإنه - كإنسان - قيل عنه إنه أخذ ما لله (المجد)، حتى تصير عطية أو هبة هذه النعمة لنا أو تصلنا، لأن “الكلمة” لم يكن ضعيفاً أو قليل الشأن عندما قَبِلَ المجد لنفسه كأنه يطلب أو يبحث لنفسه عن نعمة، بل إنه بالحري ألَّه الجسد الذي لبسه. والأكثر من هذا أنه “أعطى” وسلَّم - جسده المؤلَّه هذا - بنعمة خاصة ومجَّاناً إلى الجنس البشري (الأسرار) ...
وهذه هي نعمتنا وارتفاع مجدنا، لأنه بالرغم من أنه صار إنساناً، فابن الله لا يزال معبوداً؛ وقوات السموات لا تستغرب عندما تراناً جميعاً نحن المعتبرين جسداً واحداً معه، داخلين في دائرة مملكتهم.]([21])

[ونحن إنما نتألَّه (نتحد بالله) ليس باشتراكنا (السرائري) من جسد إنسان ما ولكن بتناولنا من “جسد” “الكلمة” ذاته!!]([22])

ثم يعود أثناسيوس ويؤكِّد أنه عندما نأخذ جسد المسيح هذا المعتبر أنه مؤلَّه، نتخلَّص من ضعفاتنا ونتحرَّر من قيود خطايانا، وبالتالي فنحن نشترك في صفات وأمجاد اللوغس الكلمة!! ونأخذه:
[لأنه ليس بحسب آدميتنا بعد نموت، ولكن من الآن فصاعداً كل ضعفاتنا الجسدية التي هي بحسب أصل جنسنا قد تحوَّلت إلى “اللوغس” الكلمة، فنحن نقوم من التراب واللعنة التي بسبب الخطية قد رُفعت، بسبب ذلك الذي هو فينا (أي الكلمة المتجسِّد)، والذي صار لعنة من أجلنا.
وهذا تمَّ بحكمة، لأنه كما أننا جميعاً من تراب الأرض ونموت في آدم، هكذا إذ تجدَّدنا ووُلدنا ثانية من فوق من الماء والروح في المسيح، نحيا ونقوم، لأن الجسد (الإنسان عامة) لم يعد أرضياً بعد بل صار “كلمة= لوغوس” بسبب كلمة الله الذي من أجلنا صار جسداً (إنساناً كاملاً).]([23])

وأثناسيوس هنا يقصد جسد البشرية عامة. وحينما يقول إن الجسد صار كلمة، فهذا لا يفيد أن الجسد البشري تحوَّل عن بشريته أو فقد شيئاً من إنسانيته، ولكنه فقد الموت والفساد وتحوَّل عن الشر الذي استُعبد له وصار من خاصة الكلمة ومناسباً له ومطابقاً لصفاته، “لأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي” (يو 19:17)، أو كما تقول التسبحة السنوية [أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له].

ويستمر أثناسيوس في شرحه وتعليله لقيمة اتخاذ الكلمة جسداً بشرياً كاملاً ليعمل فيه عمله الخلاصي العجيب، موضِّحاً أن كل ما “للكلمة” صار للجسد البشري الذي اتخذه لنفسه، وهذا بالتالي كله انتقل إلينا لمَّا أعطانا جسده. وبذلك ضمن الله لنا بواسطة التجسُّد وموت المسيح على الصليب الخلاص الشامل، ليس من الموت فقط، بل أيضاً من الخطية العاملة بالشهوة!

[لأنه إن لم تكن أعمال لاهوت “اللوغس” أي أعمال الكلمة بصفته إلهاً - لم تتم من خلال الجسد، فإنه كان يتعذَّر تأليه الإنسان (اتحاده بالله).
كذلك فإنه لو لم تكن خواص وصفات “الجسد” (البشري) نُسبت “للكلمة”، فإنه كان يستحيل على الإنسان أن يتخلَّص منها (أي من الصفات المتعارضة مع الحياة الأبدية كالجوع والعطش والتعب والبكاء التي سنتخلَّص منها جميعاً بالقيامة).
... ولكن الآن لأن الكلمة صار إنساناً وامتلك “كل ما” يخص الجسد (من موت ولعنة وفساد)، فإن كل هذه لا تستطيع بعد أن تمس الجسد بسبب الكلمة الذي حل فيه، ولكنها أُبيدت تماماً بواسطته، وهكذا لم يعُد الناس بعد خطاة وأمواتاً بحسب شهواتهم، ولكن لأنهم قاموا بقوة الكلمة فإنهم سيبقون إلى الأبد غير مائتين وبلا فساد.]([24])

وفي اختصار وروعة يبرز أثناسيوس حتمية بلوغنا الحرية والخلاص من كل فساد الطبيعة البشرية بالاتحاد بالله، كقضية مرتبطة ارتباطاً جذرياً وبالأساس بالتجسُّد نفسه أي باتحاد الكلمة بجسد الإنسان هكذا:

[فإذا اعترضتَ على كوني أنا قد تحرَّرت وتخلَّصت من الفساد الذي هو في طبيعتي، فانظر لأنك لا تستطيع أن تعترض على كلمة الله لأنه أخذ هيأتي كعبد! لأنه كما أن الرب لمَّا لبس الجسد صار إنساناً، هكذا نحن البشر قد تألَّهنا (اتحدنا بالله) بالكلمة لأنه أخذنا وضمنا إليه في جسده، وبذلك ورثنا من الآن فصاعداً الحياة الأبدية.]([25])

والقديس أثناسيوس ينبِّه ذهننا أن “التقديس” شيء و“التأليه” شيء آخر والأول يمهِّد للثاني.

ثم إن كل ما قيل عن المسيح في ما يخص جسده منذ ميلاده حتى صعوده وجلوسه عن يمين الآب هو في الحقيقة عملية استرداد رسمية خطَّط لها الآب ليكمِّلها الابن بالجسد لحساب الإنسان، سواء في نموه في القامة والنعمة، أو طاعته لأبيه وأمه، أو عماده وحلول الروح القدس عليه، أو غلبته للشيطان على جبل التجربة بالصوم والصلاة، أو إتيان المعجزات العديدة، أو طلبه المجد من الآب، أو قيامته من الأموات، أو صعوده إلى السموات، أو جلوسه عن يمين الآب؛ فهذه كلها غنائم الإنسان من تجسُّد الكلمة!!

[ولكي يفدي البشرية جاء الكلمة وحلَّ بيننا، ولكي يقدِّس ويؤلِّه (يوحِّد بالله) الإنسان صار الكلمة جسداً.
ومَن ذا الذي بعد ذلك لا يرى أن كل ما قاله الرب بخصوص ما تقبَّله من الله - (النعمة، المجد، الروح القدس، الذهاب إلى الآب) - لمَّا صار جسداً إنما ذكره ليس من أجل نفسه.]([26])

ويعتبر القديس أثناسيوس أن “تأليه الإنسان”، أي اتحاده بالله، عملية تتم على مستوى الفرد، وليست عملية صورية تمت لحساب المجموع البشري، فكما يتقدَّس كل إنسان بالروح القدس ليصير عضواً حيًّا قائماً بذاته في الجسد الكلي، كذلك عملية التأليه أي الاتحاد هي عملية فردية تتم بالاتحاد بالابن والآب. لذلك يضعها أثناسيوس بصورتها الواضحة في صيغة الجمع بقوله: نحن أبناءً وآلهة، ولم يقل صرنا ابناً وإلهاً. ولكن من هذا التقديس الفردي والتأليه أي الاتحاد الفردي بالله تتم الوحدة الكلية الشاملة = “ليصير الكل إلى واحد”. ويؤكِّد أن “تأليهنا” أي اتحادنا ووحدتنا مع الآب والابن بواسطة الروح القدس شيء آخر تماماً ويختلف كلية عن اتحاد الآب والابن.

[وليس كما أن الابن في الآب هكذا نصير نحن في الآب، لأن الابن لا يأخذ مجرَّد شركة في الروح القدس (كما نأخذ نحن) حتى يصير في الآب، بل ولا يُقال أصلاً إن الابن يأخذ الروح القدس، بل إنه هو الذي يعطيه، ولا يُقال إن الروح القدس يوحِّد الكلمة في الآب أصلاً بل إن الروح القدس يأخذ من الكلمة «يأخذ مما لي ويخبركم». فالابن في الآب مثل كلمته الخاصة ومثل شعاعه، أمَّا نحن فبدون الروح القدس نصير مفترقين وغرباء عن الله!! ولكن بشركتنا في الروح القدس نلتحم باللاهوت، لذلك فوجودنا في الآب ليس هو منَّا - بتاتاً - ولكنه من الروح القدس الذي فينا والذي يسكن داخلنا، الذي باعترافنا الحسن والحق نحتفظ به فينا، كما يقول يوحنا: «مَن اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو في الله» (1يو 15:4).
... إذن، فالروح القدس الذي هو في الله - الذي لا نستطيع أن نراه نحن في أنفسنا - وكما أننا نحن “أبناء وآلهة” بسبب الكلمة([27]) الذي فينا، لذلك نحن سنصير في الابن وفي الآب، وسنُحسب أننا صرنا واحداً في الابن وفي الآب، لأن الروح القدس فينا، الذي هو في الكلمة وفي الآب.]([28])

ثم يرتفع أثناسيوس بمعنى “التأليه” كحقيقة تكميل عمل الابن في الخليقة ليس بالمفهوم اللاهوتي الجامد بل على مستوى تكميل كل شيء في الأخلاق والسلوك والحب، فهو غاية الله من خلقة الإنسان، وغاية الإنسان من عبادته لله؛ وغاية المسيح من كل أعماله أن يبلغ بالإنسان إلى “الكمال المسيحي” أو التكميل في المسيح لحساب الآب، وهكذا يرتفع بمعنى تأليه الإنسان (أي اتحاده بالله) إلى مستوى - التقدُّم في - السلوك والأخلاق ويصبُّه أخيراً في مفهوم المحبة! وهذا هو شأن أثناسيوس في كل لاهوته!! وهنا أثناسيوس يشرح بتفصيل صلاة المسيح في يوحنا 17:
[أيها الاب امنحهم روحك حتى يكونوا هم أيضاً واحداً في الروح ويكونوا كاملين (يتكمَّلون فيَّ). لأن كمالهم يعلن أن كلمتك قد نزل إليهم وحلَّ بينهم، وحينما يراهم العالم كاملين ومملوئين من الله يؤمنون أنك أرسلتني وأنني حالٌّ هنا، لأنه من أين يأتيهم الكمال إلاَّ كوني أنا هو “كلمتك” الذي لبست جسدهم وصرت إنساناً فأكملت العمل الذي أعطيتني؟
والعمل قد أُكمل لأن بني الإنسان قد أُكمل فداؤهم، ولن يبقوا في الموت بعد، بل إذ تألَّهوا صار يشدهم رباط الحب كلما تطلَّعوا إليَّ.]([29])

[فإذا كان الكلمة قد نزل من أجل تقدمنا، فهو لم يأخذ اسم ابن الله كامتياز أو مكافأة بل إنه هو نفسه قد جعلنا أبناء للآب، وألَّه (وحَّد بالله) الإنسان بأن صار هو نفسه إنساناً، لذلك فالكلمة لم يكن إنساناً ثم صار إلهاً بل على النقيض فهو كإله صار أخيراً إنساناً لكي بالحري يؤلِّهنا.]([30])

[لقد لبس جسداً مخلوقاً مكمَّلاً ... حتى فيه نصير قادرين أن نتجدَّد ونتألَّه.]([31])

وبهذا العرض السريع لمفهوم “التألُّه” عند أثناسيوس نرى أنه يقع موقع القلب من اللاهوت بل ومن مفهوم المسيحية كلها عند قديسنا الكبير، وقد صار أسلوبه المفضَّل والمؤكَّد دائماً للتعبير عن اتحاد الإنسان عامة بالمسيح.

وهو لا يقصد قط أن يعتبرنا الآن في وضعنا الحالي في مفهوم حالة “التألُّه”، ولكن واضح أنه يقصد دائماً أنها “غاية” عمل التجسُّد كلياً.

والعجيب أن أثناسيوس حينما يتكلَّم عن الفداء فإنه بغاية السرعة يرتفع إلى حقيقة “التألُّه”، أي الاتحاد بالله، كغاية هامة جدًّا ينتهي إليها الفداء، حيث يؤكِّد عليها بكل اعتناء وأهمية بكثرة وتكرار.

واتجاه “التألُّه” (الاتحاد بالله) عند أثناسيوس لا ينشأ أصلاً كأنه حاجة الإنسان الخاطئ بنوع خاص، بل كحاجة الإنسان كمخلوق بنوع عام! لأن آدم باعتباره مجرَّد مخلوق لم يكن فيه أساس أمين للنعمة لتقيم فيه بدون خطر الزوال، لأنه حاز نعمة الله كهبة من خارجه وليست من صميم طبيعته الترابية، أي أن آدم لم يكن متحداً بالنعمة لذلك فقدها، ولذلك أصبح في التجديد من أهم الأمور الأساسية أن يتحد الإنسان بالنعمة أي بالروح القدس ليصير للنعمة والقداسة أساسٌ راسخٌ فيه لا يزول.

[وبالأكثر جدًّا ينبغي أن ندرك أن السبب المتقن والصالح الذي من أجله صنع هذا (الفداء بالتجسُّد وليس بمجرد نطق إلهي) أنه إذا كان الله قد أمر أو تكلَّم فقط - وهذا كان في سلطانه - لكانت اللعنة قد رُفعت في الحال، ولكانت قدرة الله قد استُعلنت بسبب هذا الأمر (النافذ المفعول)، ولكن الإنسان كان سيظل مثل آدم قبل التعدي يحوز النعمة من الخارج ولا يحوزها متحدة بجسده.]([32])

وهكذا ينفرد أثناسيوس دون جميع الآباء في التأكيد على أن التجسُّد هو بالدرجة الأُولى حاجة ملحة كانت تحتاجها الخليقة لضمان الاتحاد بالله (التألُّه) أسبق وأعمق من مفهوم رفع الخطية، لأن رفع الخطية هو عند أثناسيوس درجة في طريق الاتحاد بالله وليست غاية بحد ذاتها.

[لأن الاتحاد المطلوب هو أن “الكلمة” (المتجسِّد) يصنع اتحاداً بين ما هو إنسان بطبيعته وبين ما هو إله بطبيعته، وهكذا يصبح خلاص الإنسان وتألُّهه (اتحاده بالله)، ثابتاً ومؤكَّداً.]([33])

[لأن طبيعة الأشياء المخلوقة لا يمكن أن تعطي ضماناً - أي لا يمكن ضمانها - لأنه حتى الملائكة تعدت وكل البشر خالف، لذلك أصبحت الحاجة إلى الله نفسه - أي كلمة الله - لكي يحرِّر الذين وقعوا تحت اللعنة.]([34])


بهذا يمكن للقارئ أن يفهم فكر أثناسيوس وكيف يركِّز بشدة على التجسُّد وما أكمله المسيح بالجسد كمدخل للاتحاد بالله كملجأ أخير لا مفر منه للحصول على الخلاص الأبدي، ليبقى الإنسان ويدوم مع الله في حياة أبدية آمنة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
- عن كتاب حقبة مضيئة في تاريخ الكنيسة، القديس اثناسيوس الرسولي.


([1]) Athanas., De Decr. II.

([2]) Ibid., Ad Afros., 1,2.

([3]) St. Irenaeus, Adv. Haer. IV. 38:4, V ix,2.

Origen, cels. iii.28.

St. Greg. Naz., Poem dogma X:5-9.

St. Greg. Nyss., Oratio Catech. XXV.

St. Cyr. Alex., in Joan.

Harnack, op. cit., Dog. II p. 46.

([4]) De lncar., 54. 2,3. N.P.N.F., ser. II, vol. IV, p. 65.

([5]) Discourse Against Ar., II. 67.

([6]) Athanas., De Decr., 14.

([7]) Idem., C. Ar., 1. 39.

([8]) Ibid., C. Ar., 1. 42.

([9])Ibid., C. Ar., 1. 43.

([10])Ibid., C. Ar., III. 19.

([11]) Ibid., C. Ar., III. 25.

([12]) Ibid., C. Ar., III. 34.

([13])Ibid., C. Ar., III. 53.

([14]) Discourse, II:70.

([15]) Letter to Adelph., 4.

([16]) Athan., De Synod. 51.

([17]) Athanas., Contr. Ar 59:2.

([18]) Athanas., Contra Ar., 15:3.

([19]) De Decr. 14.

([20]) St. Macarius of Egypt. Hom. 49 c.4 P.G. xxxiv, c. 816.

([21]) Discours., 1:42.

([22]) Letter to Maximus, (LXI): 2.

([23]) Discours., III:33.

([24]) Discours., III:33.

([25]) Ibid. III:34.

([26]) Ibid. III:39.


([27]) يوضِّحها القديس كيرلس أكثر بقوله: إننا أبناء وآلهة بالنعمة - في شرحه لإنجيل يوحنا في هذا الموضع.


([28]) Discourse, III 24,25.

([29]) Discourse, II 23.

([30]) Contr. Ar., I, 38-39.

([31]) Ibid., II. 47.

([32]) Discourse, II. 68.

([33]) Ibid. II. 70.

([34]) Ibid. I. 49.

سرية التعاليم العقائدية في الكنيسة الأولى

 


لقد عانت الكنيسة أشد المعاناة وتعذَّبت أشد التعاذيب بسبب إشاعة الأخبار الكاذبة عن الإفخارستيا في الدوائر الحكومية وبين رعاع الوثنيين، سواء من جهة مواد أسرارها أو كيفية ممارستها أو ماذا يحدث في الاجتماعات أثناءها.

فقد ذاعت الإشاعات أنهم في اجتماعاتهم السريَّة يذبحون الأطفال ويشربون الدم ويُفسدون الأخلاق ويدبِّرون المؤامرات ويقاومون السلطات، وكل هذا كان يسبِّب القلق الشديد للحكَّام ويثير حب استطلاع الرعاع لاقتحام الاجتماعات.

والخطاب الرسمي المشهور المسمَّى » خطاب بليني «إلى الإمبراطور تراجان سنة 112م، يشير إلى هذا:

[إنه بعد امتحانه للمسيحيين قد اتضح له أنه لا خطر ولا ضرر من الطعام الذي يشترك فيه هؤلاء المسيحيون في اجتماعاتهم.]([1])

وكذلك القديس بطرس الرسول يشير إلى هذه الظروف بقوله:
+ » وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا فيما يفترون عليكم كفاعلي شر، يمجِّدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها. «(1بط 12:2)

+ » أيها الأحباء لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة لأجل امتحانكم كأنه أصابكم أمر غريب ... إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم. «(1بط 4: 12و14)

والواقع أن هذا كان بسبب السرية المطلقة التي كانت تمارسها الكنيسة في ممارستها للأسرار سواء المعمودية أو الإفخارستيا، فلا يُسمح لأقرب المقرَّبين أن يعرفوا شيئاً عنها، وحتى المتقدمون للإيمان كان يُخفى عنهم كل التعاليم، حتى الصلاة » أبانا الذي في السموات « والإيمان بالثالوث، وقانون الإيمان، وما يجري في العماد، أو ما هو سر الإفخارستيا وما يجري فيه، كل ذلك كان محظوراً أن يعرفه المتقدِّم للإيمان وإلى يوم عماده!!

كذلك فإن الأسلوب والألفاظ التي كانت تستخدمها الكنيسة في الإشارة أو التعبير عن الأسرار كانت كلها رموزاً واصطلاحات وإشارات سرية، وهذه كانت تحيِّر غير المؤمنين وتجعلهم يظنون الظنون ويفهمون أموراً خاطئة مهولة ومشوَّشة عن الأسرار المسيحية وما يجري فيها.

وقد كانت الكنيسة مضطرة إلى اتخاذ هذا الأسلوب خوفاً من الوثنيين، وفي نفس الوقت كانت تعاني بسببه. فالتقليد الكنسي كله تسليم وتسلُّم شفاهي ويقوم على سريِّة مطلقة، لأن المعرفة بالأسرار كانت تُعتبر أيضاً سر الله، والمسيح أشار إلى هذا النوع من المعرفة التي كانت رأسمال الكتبة والفريسيين: » أخذتم مفاتيح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم «(لو 52:11). هنا كلمة “مفتاح المعرفة” تشير إلى الخزانة المغلقة!

وقد ظلت هذه التعاليم السرية Disciplina Arcani منهجاً رسمياً في الكنيسة([2]) حتى القرن الثاني، فكان محظوراً على أي كاتب أن يسجِّل التعاليم السرية على ورقة أو في رسالة أو في كتاب، وكان محظوراً على أي مسئول أن يسلِّم التقليد لأكثر من واحد.

ولكن هذا كله ليس بالأمر المستغرب، فالسيد المسيح له المجد اتَّخذ هذا الأسلوب: » فقال لهم: قد أُعطي لكم أن تعرفوا سرَّ ملكوت الله، وأمَّا الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء. «(مر 11:4)

وكانت هناك أمور يهتم الرب جداً أن تُحفظ في طي الكتمان أو في مفهومها السري مثل الآتي:

1- أنه هو المسيا:
+ » وأنتم مَنْ تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح (المسيا)، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه. «(مر 8: 29و30)

2 - أخبار آلامه وموته:
+ » ولم يُرِد أن يَعلم أحدٌ، لأنه كان يعلِّم تلاميذه (سراً) ويقول لهم إن ابن الإنسان (التعبير السري عن المسيا) يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث. وأمَّا هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه. «(مر 9: 30-32)

3 - نبوات آخر الأيام:
+ » سأله بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس على انفراد: قُل لنا متى يكون هذا وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا؟ ... فانظروا أنتم ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء. «(مر 13: 3و23)

وكان السيد المسيح دائماً يشير إلى التعاليم الخاصة أو السرية بقوله:
+ » مَنْ له أذنان للسمع فليسمع «(مت 15:11؛ 9:13)،
+ » الذي تسمعونه في الأذن (أي في السر) نادوا به على السطوح «(مت 27:10)،
+ » ليس مكتومٌ لن يُستعلن «(مت 26:10)،
+ » لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا دُرركم قدَّام الخنازير «(مت 6:7)،
+ » ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب «(مت 26:15)،
+ » ليفهم القارىء. «(مر 14:13)

كذلك كان الرب يُخفي حقائق إرساليته وعودته إلى الآب في قالب القصة والمثل الذي يحتاج إلى ذكاء وإعمال الفكر.

والقديس بولس الرسول يحفظ نفس الطريقة، فهو يعتبر نفسه والرسل » خدام المسيح ووكلاء سرائر الله «(1كو 1:4). وهو وإن كان يتكلَّم ويكتب للجميع ولكن لا يزال عنده من أقوال الحكمة التي لا ينبغي أن يتكلَّم بها للجميع بل للأخصَّاء جداً: » لكننا نتكلَّم بحكمةٍ بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من (أقوال) عظماء هذا الدهر الذين يُبطَلون، بل نتكلَّم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر. «(1كو 2: 6-8)

وهو إنما يعطي أهل كورنثوس (وهم أهل حكمة أفلاطون وأرسطو) مجرد لبن كغذاء يتناسب مع ضعف قدرتهم الطفولية وحكمتهم الجسدية!! أمَّا الغذاء الكامل فأبقاه وأخفاه للكاملين بالروح! الذين يمكن أن يبلغوا إلى معرفة » أعماق الله «! (1كو 1:3؛ 10:2)، هؤلاء يمكن أن تُكشف لهم الأسرار المخفية والمكتومة، فإن كان هذا بالنسبة لمسيحيي كورنثوس الذين لهم في المسيح عدة سنوات، فكم ينبغي أن يكون الكلام للمبتدئين والذين لم يُعمَّدوا والذين ليسوا بمسيحيين؟

كذلك يرى القديس بولس الرسول أن كل ما يختص بدقائق الأسرار وممارستها لا ينبغي أن يكتبها في رسالة بل ينبغي أن يُبقي عليها مكتومة حتى يسلِّمها شفاهاً: » وأمَّا الأمور الباقية فعندما أجيء أُرتبها «(1كو 34:11)، وهذا بالنسبة لترتيب إقامة الإفخارستيا.

كذلك كل ما يختص بكشف أسرار المسيح ورموزه في العهد القديم، وخصوصاً فيما يختص بتجسده واتضاعه وارتفاعه: » الذي من جهته الكلام كثير عندنا وعسر التفسير لننطق به (محفوظ للتسليم الشفاهي) إذ قد صرتم متباطئي المسامع، لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون أن يعلِّمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله، وصرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعامٍ قوي. «(عب 5: 11و12)

لذلك نجد القديس بولس الرسول في موضع آخر يجمع كل هذه الحقائق في جملة واحدة مقتضبة غاية الاقتضاب، عن قصد واضح وإحجام متعمَّد عن الشرح أو التفسير: » وبالإجماع عظيم هو سرُّ التقوى الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أُومِنَ به في العالم، رُفع في المجد. «(1تي 16:3)

وفي موضع آخر يقول صراحة إنه: » سمع كلمات لا يُنطَق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلَّم بها. «(2كو 4:12)

كذلك يَعتبر القديس بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين أن بعض التعاليم التي تُقدَّم للمؤمنين في البداية، ينبغي أن تُقدَّم بمفردها، وعلى أكثر تحقيق تُقدَّم شفاهاً، ولذلك رفض تسجيل شيء عنها في رسالته. وقد قسَّمها بولس الرسول إلى ثلاثة أقسام:

( أ ) التوبة من الأعمال الميتة،

(ب) الإيمان بالله،

(ج) تعليم المعمودية ووضع الأيادي (يساوي الآن مسحة الميرون)، والقيامة من الأموات والدينونة الآتية (الحديث عن القيامة، وأغلبه على الشيطان، كان من الأمور التي يتحفَّظ فيها الإنجيليون جداً ولم يقدِّموا دقائق أسرارها).

ويلاحَظ هنا عدم ذكر الإفخارستيا باعتبارها تعليماً خاصاً لا يُقدَّم للمبتدئين.

بهذا الفكر وعلى أساس ما قدمناه من اتجاه الإنجيليين والرسل في رسائلهم، من جهة إخفاء هذه الحقائق أو محاولة صياغتها في ألفاظ مقتضبة جداً ومبهمة أحياناً بصورة شديدة، يتضح لنا لماذا
ارتأى القديس يوحنا الرسول أن لا يكتب شيئاً عن العشاء السري بخصوص ممارسة السرّ نفسه، واكتفى بشرح كل التعاليم الخاصة به في الأصحاحات الأُولى من إنجيله!! وشرح القديس يوحنا الرسول هذا لسر الإفخارستيا يعتبره كثير من العلماء الآن، بديلاً مقصوداً عن الحديث السري ليلة الخميس على العشاء السري.

كذلك فالإقتضاب الشديد جداً في سرد أخبار عشاء الرب والإكتفاء بوضعه في الصيغة الليتورجية وفي أضيق ألفاظها، هو عمل مقصود من الإنجيليين! لأن مسألة «أكل» الجسد و«شرب» الدم، وكلمة » الذبيحة «و» المذبح «كانت وقت كتابة الأناجيل نقطة حساسة وخطرة للغاية بالنسبة لليهود والأمميين على السواء، ولا ننسى أن بعض التلاميذ القدامى تركوا المسيح ولم يعودوا يسيرون معه بسبب هذا الأكل وهذا الشرب من ا لجسد والدم: » فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعب مَنْ يقدر أن يسمعه. «(يو 60:6)

من أجل هذا نجد في تسجيل كلٍّ من القديس بولس الرسول والقديس لوقا الإنجيلي محاولة لعدم إبراز شرب الدم بصورة واضحة، فجاء الشرب من الدم عند بولس الرسول بصورة مُضمَرة غير مباشرة: » هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري «(1كو 25:11)، أمَّا القديس لوقا الرسول فجعل الأكل من الجسد والشرب من الدم عملاً يُفهم بدون أن يُذكر: » هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم اصنعوا هذا لذكري «كذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفَك عنكم «(لو 22: 19و20). الاختصار هنا مقصود وواضح، وتضمين الكلمات للمعاني العملية واضح أيضاً، ولكن في صورة مخفية لا يمكن أن يدركها غير المؤمن!!

كذلك نجد في سفر الأعمال - وهو من تسجيلات القديس لوقا الإنجيلي - أنه يجعل للإفخارستيا اصطلاحاً بسيطاً ولكنه يكشف عن طبيعة الإفخارستيا وهو » كسر الخبز « لأن الإفخارستيا تبدأ بكسر الخبز. وهذا الاصطلاح لا يُفيد معنى ولائم المحبة، لأنه يُذكر دائماً بالإضافة إليها، والقصد من هذا الاختصار هو عدم ذكر شرب دم المسيح.

وفي كتاب “الديداخي” أي “تعاليم الرسل” الذي اكتُشف حديثاً، وهو من مدوِّنات القرن الأول ويتضمن تعاليم من الرسل، يتضح من تركيبها وترتيب مواضيعها مكانة سرِّ الإفخارستيا والليتورجيا الخاصة بها بالنسبة لقامة المؤمن ودرجة نضوجه:

فالأجزاء من (1-6) تعاليم المبتدئين، والجزء (7) يُخصص للمعمودية، بعد ذلك تبدأ أقوال عن الصوم والصلاة، ثم صلاة » أبانا «!، الأجزاء (8-15) نظام الكنيسة وتعاليمها، والجزءان (9و10) نظام الأغابي. وفي نهاية الجزء العاشر تبدأ تعاليم الإفخارستيا بعد كل خدم الليتورجيا، ولكن بدون وصف للإفخارستيا وبدون ذكر الكلمات أو الممارسات أو الصلوات التي يُتمَّم بها السر، حيث في (6:10) ينتهي الكتاب مباشرةً، وفجأة عند كلمة «ماران آثا» بحروفها الآرامية السرية، أي » تعالَ أيها الرب يسوع «آمين.

هذا الاقتضاب الشديد والسرِّية في كشف تعاليم سر الإفخارستيا كان تقليداً له رهبته واحترامه وتدقيقه منذ أيام الرسل، والأسباب كثيرة ومتعددة كما قلنا، فمنها الأسباب الروحية باعتبار الإفخارستيا سر الأسرار جميعاً وهو آخر ما يمكن أن يُلقَّن للمؤمن الكامل، ومنها الأسباب السياسية باعتبار أن السر يتم في اجتماع عام وأن فيه عبادة واضحة لغير آلهة الملوك، ومنها الأسباب العقائدية حتى لا تُسلَّم الممارسات لذوي العقائد المخالفة، ومنها الأسباب الدينية الخالصة التي تمنع على عامة الشعب التعرُّف على خصائص الليتورجيا حتى تحتفظ برهبتها وكرامتها وأثرها في القلوب.

وحتى الآباء الأوائل المدافعون عن العقيدة، مثل القديس يوستين الشهيد، حينما بدأ يرد على مزاعم الوثنيين بخصوص ما توهموه من ممارسات في سر الإفخارستيا، كانت ردوده مقتضبة أيضاً، ولم يحاول أن يزيد على نصوص الإفخارستيا أو يشرحها إلاَّ بالقدر الوارد منها في الإنجيل، حتى لا يكشف أسرار الليتورجيا وخصائصها باعتبارها عبادة سرية!

ولقد ورث الشعب كله عن طريق التعليم والتلقين والتحذير أن لا يبوح بأسرار كنيسته أو عقيدته لغير المعمَّدين، وكان يتعهد بذلك أثناء العماد.

ومن أروع ما وصلنا عن استخدام لغة الرموز والإشارات السرية للتعبير عن سر الإفخارستيا، النقوش التي وُجدت باسم كاتبها “أبيركيوس Abercius”، وهو أسقف لمدينة “هيرابوليس” في نهاية القرن الثاني الميلادي. ومن أعجب الصدف أن وُجدت كتابة أخرى مذكور تاريخها سنة 216م لصاحبها إسكندر من “هيرابوليس” ذَكَرَ فيها » أبيركيوس «والنقش الذي تركه باسمه. لذلك فإن تاريخ نقوش أبيركيوس صارت معتمدة للغاية.

هذه النقوش وُجدت في إقليم “فريجيا” بآسيا الصغرى، وهي الآن في “اللاتران” بالفاتيكان، وهي من 22 بيتاً يصف فيها أبيركيوس حياته وأعماله، وقد كتبها وعمره 72 سنة وتوفى قبل نهاية القرن الثاني. وأعظم ما سجله هو رحلته إلى روما، والكلام كله رموز، والأسلوب سرِّي تصوفي للغاية. فهو يكتب كل شيء عن أسرار الحياة المسيحية بشرط أن أي قارىء مهما بلغ من الحذق لا يمكنه أن يفهم أن كاتبها رجل مسيحي، وحتى العلماء شكُّوا في بادىء الأمر، ولكن حينما كُشف السر عن الكلمات ظهرت واضحة وهي تعبِّر عمَّا كانت عليه الكنيسة من حذر وحذق شديدين في إخفاء حياتها وأسرارها. وننقل هنا بعض سطورها:

[بالاسم أنا أبيركيوس، تلميذ للراعي الصالح! ... لقد علَّمني التقوى بكتاباته! ... أرسلني إلى روما لأطَّلع على المملكة وأرى الملكة بلباسها الموشَّى بالذهب، ... ذهبت في كل النواحي، ورأيت الشعب الذي عليه الختم العظيم، وكان بولس معي رفيقاً يقودني بالإيمان أينما سرت، ووُضع أمامي طعامٌ » سمكة «من الينبوع، عظيمة، وطاهرة، كانت قد اصطادتها عذراء بلا دنس وأعطتها للأصدقاء ليأكلوا منها على الدوام!! مع خمر حلو، وكأس ممزوج، مع خبز.
أنا أبيركيوس الواقف الآن أمرت أن تُنقش هذه الكلمات، وفي الحق أنا في طريقي لأكمِّل اثنين وسبعين سنة. فمَن يفهم هذا ويؤمن بالذي كتبت، عليه أن يصلِّي من أجل أبيركيوس!!]([3])

ويُعتبر هذا الحجر الذي حمل هذه النقوش أقدم أثر في العالم يتحدَّث عن الإفخارستيا هكذا:

الراعي الصالح هو المسيح، الملكة الموشاة بالذهب هي الكنيسة، الشعب ذو الختم العظيم هم المؤمنون المعمَّدون. وأينما سار وجد كنيسة وتناول فيها من الأسرار من الخبز والكأس الممزوج، فالسمكة هي المسيح (إخثوس ICQUS)([4])، والعذراء الطاهرة التي اصطادتها هي العذراء التي حبلت بالكلمة، أمَّا بولس رفيق السفر فهو الرسائل التي كان يتعزَّى بها.

وهيبوليتس يقول صراحةً في كتابه “التقليد الرسولي” (سنة 215م) في الفصل 23 عن المعمودية والإفخارستيا بهذا القول القاطع:
[إنه لن يبوح بهذا الكلام إلاَّ للمؤمنين.]([5])

هذه هي الصورة الكاملة لسرية الممارسات داخل الكنيسة وبالأخص الإفخارستيا، فالحلقة محكمة من كافة الجهات حول التقليد السرائري سواء في الإنجيل حيث الاختصار والاكتفاء بالعناصر
الأساسية المنطوقة في الليتورجيا دون التطرُّق إلى أي توضيح في الممارسة، أو سفر الأعمال حيث يسير على نفس المنوال، ويختص شرح الإفخارستيا للبالغين في الإيمان.

والقديس بولس الرسول يُبقي بقية التعاليم دائماً للتسليم الشفاهي ضماناً لنقاوة التعليم وعدم إذاعة أسراره.

وسفر العبرانيين يَعِدْ بأنه سيعود لشرح وتوضيح هذه المواضيع إنما خارج الرسالة.

ثم “الديداخي” لا تدخل في تفصيلات أو حتى شرح الممارسة للسر.

وينقل إلينا هيبوليتس قوانين الرسل مع إضافات خفيفة، ثم يمتنع صراحةً عن تقديم أي تعليم عام، ويجعله وقفاً على المؤمنين وجهاً لوجه.

أبيركيوس أسقف هيرابوليس يرفع السر إلى مستوى الشِفْرة!!

الإفخارستيا تنفصل عن وليمة المحبة كليًّا، ضماناً لبقاء الأسرار للأخصاء من المؤمنين الموثوق بهم جداً حيث لا يُسمح لغير المعمَّدين حتى بحضور ممارسة (عشاء الرب) سرّ الإفخارستيا، ثم يُمنع الموعوظون من حضور وليمة المحبة أيضاً لضمان الانتقال من وليمة المحبة إلى الإفخارستيا بدون خوف.

والقديس يوحنا الرسول في هذا الجو السري العجيب عندما طُلب إليه أن يكتب إنجيله في نهاية القرن الأول ارتأى أيضاً أن لا يتعرض لممارسة السر بحد ذاته، واكتفى بشرح كل ما يتعلَّق بالسر لاهوتياً في أصحاحاته الأُولى، بحيث لا يستطيع أحد أن يُدرك صلتها بالإفخارستيا إلاَّ المؤمنون فقط!!

وبذلك نرى أن ممارسة سر الإفخارستيا في وقت سابق على كتابة الأناجيل والرسائل، واستقراره في الكنيسة كليتورجيا ذات تقليد مسلَّم وصلوات محفوظة ومسلَّمة، ودخوله في دائرة التعاليم السرية الكنسية التي تتبع أصولاً دقيقة في الإخفاء والمحافظة والتسليم، جعلت تسجيل النصوص الإفخارستية في أضيق حدودها سواء في الإنجيل أو الرسائل أو بقية الكتب التي وصلتنا بعد ذلك. ولكن اتفاق التقليد الكنسي الليتورجي مع التقليد الإنجيلي المكتوب يوضِّح لنا حقيقة عظيمة ومهمة للغاية، وهي أن هناك مجرى واحداً لتقليد إفخارستي واحد استقت منه الكنيسة بالتسليم فماً لفم ويداً ليد، واستقى منه الإنجيليون والرسل بالرؤيا وبالروح وبالإلهام، وأن الصلوات التي تُقال قبل التقديس وبعد التقديس، أي مضمون الليتورجيا الأساسي، ليس هو زيادة أو إضافة على النصوص الإنجيلية، بل هو جزء لا يتجزأ من التقليد الأساسي، إنما ظلَّ محصوراً في دائرة الليتورجيا فقط بمقتضى تقليد التعاليم السرية Disciplina Arcani، ولم يسجَّل إلاَّ في العصور الأخيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ

عن: الاب متي المسكين، الافخارستيا عشاء الرب، ص 262: 268

([1])Pliny, Letters, X, 96.

([2]) يقول أحد حكماء اليهود وهو «رابِّي سمعون»، وهو من بداية القرن الأول المسيحي في Aboth. II. 17.: [الذي يكتب الصلوات يخطيء كأنما هو يحرق التوراة]، وهو يقصد بذلك أنه يجعل الكلام المقدَّس في متناول أيدٍ نجسة.

([3])J. Quasten, I, p. 172.

([4]) كلمة يونانية تعني سمكة وحروفها هي في الوقت نفسه تكوِّن الحروف اليونانية الأُولى من مجموعة كلمات تعني: يسوع المسيح ابن الله المخلِّص.

([5])Hippolytus, Ap. Tr., 23. 14.

شرح مفهوم التجديف على الروح القدس، للقديس أثناسيوس الرسولي

 

الرسالة الخامسة لسيرابيون([1]):

+ «هذا (المسيح) لا يُخرج الشياطين إلاَّ ببعلزبول رئيس الشياطين» (مت 24:12).
+ «إن كنت بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله.» (مت 28:12)
+ «كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأمَّا التجديف على الروح القدس ... فلن يُغفر له ... لا في هذا العالم ولا في الآتي.» (مت 31:12و32)


يقول القديس أثناسيوس مفسِّراً هذا الكلام هكذا:
[لماذا يُغفر التجديف على الابن ولماذا لا يُغفر التجديف على الروح القدس لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضاً؟

لقد قرأت ما كتبه الآباء وبالذات الحكيم المجاهد أوريجانوس والعجيب المجاهد ثيئوغنسطس([2]) (تُوفِّي سنة 282م) واطَّلعت على كتبهم لأرى ماذا قالوا بخصوص هذا الموضوع.

وكلاهما قال إن التجديف على الروح القدس يحدث عندما يعود الذين حصلوا على نعمة الروح القدس في المعمودية إلى الخطية. ولذلك يتفق كلاهما مع الآخر على عدم وجود مغفرة، مستندين إلى ما ذكره بولس في رسالته إلى العبرانيين (4:6-6). عند هذه النقطة كل منهما يتحدَّث مثل الآخر تماماً. ولكن بعد ذلك كل منهما له رأيه الخاص.

يشرح أوريجانوس سبب دينونة هؤلاء بهذه الكلمات: “الله الآب يحل في كل شيء ويضبط كل الكائنات الحية وغير الحية، أي التي لها نعمة العقل والتي ليس لها نعمة العقل. أمَّا الابن فهو يشمل بقوته الذين لهم نعمة العقل فقط، مثل الموعوظين والوثنيين الذين لم يأتوا بعد إلى الإيمان. أمَّا الروح القدس فهو يسكن فقط في الذين قبلوه في المعمودية. ولذلك عندما يخطئ الموعوظون أو الوثنيون فإن خطيتهم هي ضد الابن فقط، لأنه هو فيهم كما ذكر - أوريجانوس - ولذلك يمكنهم الحصول على المغفرة عندما يكرمون بنعمة الميلاد الثاني. ولكن عندما يخطئ المعمد فإن الخطية بعد المعمودية موجَّهة ضد الروح القدس الذي يسكن في الذين عُمِّدوا، ولذلك لا مناص من العقاب”.

أمَّا ثيئوغنسطس فهو كما ذكرت يتبع شرح أوريجانوس ويقول: إن الذي يتخطَّى الحاجزين الأول والثاني يستحق عقوبة أقل. ولكن الذي يتخطَّى الحاجز الثالث لا يمكن أن يحصل على مغفرة. وهو يدعو التعليم الخاص بالآب والابن بالحاجزين الأول والثاني. أمَّا الحاجز الثالث فهو التعليم الذي يُقال في المعمودية الخاص بالروح القدس، ولكي يؤكِّد ثيئوغنسطس هذا الشرح اقتبس كلمات الرب للتلاميذ «إن لي أُموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمَّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يُرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بل كلُّ ما يسمع يتكلَّم به ويُخبركم بأمور آتية» (يو 12:16-13). وقد قال ثيئوغنسطس عن هذه الكلمات إن المخلِّص تحدث مع أُناس لا يمكنهم أن يقبلوا التعاليم الكاملة، ولذلك نزل إلى مستواهم غير الكامل. أمَّا الذين تكمَّلوا فهم الذين قبلوا الروح القدس في المعمودية، والتعليم الكامل هو من نصيب الذين حلَّ فيهم الروح القدس.

لكننا نحذِّر كل مَنْ يقرأ هذه الكلمات من عدم فهمها بصورة سليمة، إذ لا يجب أن يظن أحد أن التعليم عن الروح القدس هو “ختم الكمال”. كما علينا أيضاً أن نحذِّر من الظن بأن الروح القدس أسمى من الابن طالما أن التجديف على الروح بلا مغفرة. ولكن المغفرة لغير الكاملين (غير المعمَّدين)، أمَّا الذين ذاقوا الموهبة السماوية وصاروا كاملين فلا مغفرة لهم ولا صلاة يمكنها أن تسهِّل لهم المغفرة. هذا ما ذكره هذان الكاتبان المجاهدان.

أمَّا عن نفسي فحسب ما تعلَّمت، أعتقد أن رأى كلٍّ منهما يتطلَّب فحصاً ومراجعة دقيقة لأن كلمات الإنجيل الخاصة بالتجديف عميقة.

في الحقيقة واضح أن الابن في الآب، وبالتالي فهو في الذين فيهم الآب أيضاً. والروح القدس ليس غائباً عن الآب والابن، لأن الثالوث القدوس المبارك غير منقسم. وزيادة على ذلك إذا كان كل شيء قد خُلق بالابن (يو 3:1) وفيه كل الأشياء توجد (كو 17:1)، فهو ليس كائناً خارج الأشياء التي جاءت إلى الوجود بواسطته. فكل المخلوقات ليست غريبة عنه. هو بالطبيعة في كل شيء، وبالتالي كل مَنْ يخطئ ويجدِّف على الابن يخطئ ويجدِّف على الآب والروح القدس. ولو كان حميم الميلاد الثاني قد أُعطي باسم الروح القدس فقط، لكان من المعقول أن نقول إن الذي عُمِّد إذا أخطأ بعد المعمودية يخطئ ضد الروح القدس وحده. ولكن لأن المعمودية تُعطى باسم الآب والابن والروح القدس، فكل معمَّد يقبل المعمودية باسم الثالوث، وبذلك يصبح واضحاً أن كل مَنْ يجدِّف بعد المعمودية يكون قد جدَّف على الثالوث الأقدس، وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يجب أن نقبله.

ولو كان هؤلاء الذين تحدَّث معهم الرب، أعني الفريسيين، قد قبلوا حميم الميلاد الثاني وحصلوا على نعمة الروح القدس، لكان التفسير السابق لكل من أوريجانوس وثيئوغنسطس مقبولاً، لأن الرب لم يكن يتكلَّم مع أُناس ارتدوا وجدَّفوا على الروح القدس، لأننا إذا تذكَّرنا، لم يكن هؤلاء الناس - أي الفريسيُّون - معمَّدين، بل حتى معمودية يوحنا احتقروها ورفضوها (مت 25:21-27). فكيف يمكن اتهامهم بالتجديف على الروح القدس وهم لم يحصلوا عليه بعد؟! ولذلك لم ينطق الرب بهذه الكلمات لكي يعلِّم عن الخطية بعد المعمودية، كما أنه لم يكن كذلك يهدِّد بعقوبة أُولئك الذين سيخطئون في المستقبل بعد المعمودية، بل قال هذه الكلمات بطريقة مباشرة وصريحة ضد الفريسيِّين لأنهم أذنبوا فعلاً وسقطوا في هذا التجديف الفظيع. لقد اتهمهم الرب بطريقة واضحة بالتجديف وهم لم يقبلوا المعمودية. فإن هذه الكلمات ليست موجَّهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية، خصوصاً وأن الرب لم يكن يشتكيهم بخطايا عامة ولكن بالتجديف بالذات، وهناك فرق بين الذي يخطئ ويتعدَّى الناموس والذي بسبب عدم تقواه يجدِّف على الله نفسه.

وقبل ذلك اتهم الرب الفريسيِّين بخطايا أُخرى مثل محبة المال التي من أجلها أبطلوا الوصية الخاصة بالوالدين، ورفضوا كلمات الأنبياء وجعلوا بيت الله بيت تجارة، وفي كل هذا انتهرهم المخلِّص لكي يتوبوا. أمَّا عندما قالوا إنه ببعلزبول يُخرج الشياطين لم يقل لهم ببساطة إنهم يخطئون بل إنهم يجدِّفون بصورة شنيعة تستوجب العقاب وتجعل المغفرة مستحيلة، لأنهم تمادوا إلى حيث لا حدود لخطئهم.

وزيادة على ذلك، لو كانت هذه الكلمات موجَّهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية وهؤلاء لا مغفرة لهم، فكيف أظهر الرسول محبة نحو التائب في كنيسة كورنثوس؟ (2كو 8:2). وماذا عن الغلاطيين الذين ارتدُّوا (غل 9:4)، والذين تألَّم الرسول لكي يولدوا ويتكوَّن فيهم المسيح مرَّة ثانية (غل 19:4)؟ وكيف نلوم نوفاتس (249-250م Novatian) الذي يمنع التوبة ونعترض على قوله بأن الذين يخطئون بعد المعمودية لا مغفرة لهم طالما أن هذه الكلمات الإنجيلية تؤيِّد تعليم نوفاتس وهي موجَّهة إلى الذين يخطئون بعد المعمودية.

وحتى كلمات الرسالة إلى العبرانيين (4:6-6) لا تمنع توبة الخطاة بل تشير إلى أن معمودية الكنيسة الجامعة تُعطَى مرَّة واحدة، ولا يمكن أن تتكرَّر. ويجب أن نلاحظ أنه للعبرانيين بالذات كتب الرسول هذه الكلمات لأنه خاف عليهم من التظاهر بالتوبة وأنهم بسبب تمسكهم الشديد بالناموس الموسوي وشريعة التطهير سيظنون أنه توجد فرصة لمعموديات يومية متكرِّرة كما في مرقس 3:7-4، ولذلك يشجِّعهم على التوبة ويعلن أن التجديد في المعمودية هو تجديد فريد لا يعاد. وفي رسالة أخرى يقول: «إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ» (أف 5:4). وهو لا يقول إنه من المستحيل أن يتوب الساقط بل من المستحيل أن نصنع نحن تجديداً لأنفسنا بالتوبة، والفرق كبير، لأن مَنْ يتوب يكف عن الخطية ولكن آثار جروحه تظل ظاهرة بعكس مَنْ يعتمد يخلع العتيق ويتجدَّد (كو 9:3-10)، بل ويولد مرَّة ثانية بنعمة الروح القدس (يو 3:3).

وعندما أفكِّر في هذه الأشياء أجد في الكلمات السابقة عمقاً عظيماً. ولذلك بعد أن صلَّيت بلجاجة للرب الذي جلس عند البئر (يو 6:4) ومشي على المياه (مت 25:14)، أعود إلى تدبير الخلاص الذي تمَّ راجياً أن أكون قادراً على أن أملأ دلوي من معاني الكلمات الإنجيلية التي نبحثها.

كل الكتب الإنجيلية، وبالذات إنجيل يوحنا، تخبرنا عن التدبير الإلهي: “الكلمة صار جسداً وسكن فينا” (يو 14:1). وبولس عندما يكتب: «الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب (مساواته) خُلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبدٍ، صائراً في شبه الناس» (في 6:2-8). ولأنه الإله الذي أخلى ذاته وصار إنساناً، أقام الموتى وشفى المرضى، وبكلمته حوَّل الماء خمراً ... وهذه كلها أعمال ليست من قدرة البشر، ولكنه جاع وعطش وتألَّم لأنه أخذ جسداً وكل أعمال الجسد ليست من صفات اللاهوت. كإله قال: «أنا في الآب والآب فيَّ» (يو 10:14)، ولأنه أخذ جسداً حقـًّا وبكل يقين، انتهر اليهود قائلاً: «الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلَّمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يو 40:8). ورغم كونه إلهاً إلاَّ أنه لم يقم بهذه المعجزات مرَّة واحدة لأنه تجسَّد وكان عليه أن يواجه الاحتياجات والظروف المرتبطة بحياته كإنسان.

لكن لم تكن أعمال الجسد تتم بدون اللاهوت ولا أعمال اللاهوت كانت تتم بدون الجسد، بل على العكس، فإن كل أعماله صنعها الرب الواحد، الذي أكمل كل شيء في سر نعمته. وعلى سبيل المثال، بصق على الأرض كما يبصق كل الناس، لكن لعابه وحده كان فيه قوة إلهية لأنه وهب به البصر لعيني المولود أعمى (يو 6:9). ورغم أنه الإله إلاَّ أنه تكلَّم بلغة بشرية وقال: «أنا والآب واحد» (يو 30:10)، وبإرادته منح الشفاء (مت 3:8). ولكن عندما مدَّ يده الإنسانية، أقام حماة سمعان بطرس من الحُمَّى (مر 31:1) وبنفس اليد أقام من الموت ابنة رئيس المجمع (مر42:5).

وقد أخطأ الهراطقة كلٌّ حسب مقدار جهله، البعض منهم نسب كل ما حدث من الرب لجسده (أي كإنسان) وتعاموا عن القول الإلهي: «في البدء كان الكلمة» (يو 1:1)، والبعض نسب ما حدث إلى لاهوته فقط، ولم يفهموا القول: «والكلمة صار جسداً» (يو 14:1). لكن المؤمن الذي يتبع تعليم الرسل يعرف غنى الرب ومحبته للبشر. وعندما يرى أعماله العجيبة الإلهية يمجِّد الرب الذي ظهر في الجسد. وعندما يرى أعمال الجسد يتعجَّب ويرى فيها القوة الإلهية التي تعمل. هذا هو إيمان الكنيسة، ولذلك إذا ثبَّت البعض عيونهم على الجانب الإنساني في حياة الرب، وشاهدوه يختبر الجوع والتعب والألم، يتحدَّثون عنه بدون تقوى كمن يتحدَّث عن إنسان فقط، فيخطئون بذلك خطية عظيمة. وبلا شك إن لم يتأخَّروا في التوبة يمكنهم الحصول على المغفرة، لأن ضعفهم الإنساني هو عذر لهم. وحتى الرسول يمنحهم المغفرة، وبطريقة ما يمد يده إليهم، لأنه بالحق يقول: «وبالإجماع، عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد» (1تي 16:3).

عندما يرى البعض أعمال اللاهوت يتردَّدون في الاعتراف بإنسانيته - وهذا خطأ بالغ - ويتوهَّمون عندما يقرأون أن الرب يأكل ويتألَّم أنه خيال، هؤلاء إذا لم يتأخَّروا في التوبة سيغفر لهم يسوع لأنهم لا يفهمون أعماله الفائقة التي أتمها في الجسد. وإذا فحصنا جهل هؤلاء وأولئك، أي الذين يخطئون ولهم معرفة بالناموس مثل الفريسيِّين أو الذين يستسلمون للجنون وينكرون وجود الكلمة في الجسد، أو يذهبون إلى أبعد من هذا عندما ينسبون أعمال اللاهوت إلى الشيطان وجنوده؛ فإنه من العدل أن تكون عقوبة عدم تقواهم هي عدم المغفرة، لأنهم اعتبروا الشيطان مثل الله، وحسبوا أن مَنْ هو بالحقيقة الله لا شيء في أعماله يدل على ألوهيته، بل إنه الشيطان يستخدم أعوانه. وإلى هذه الدرجة السفلى من عدم التقوى انحدر اليهود في ذلك الزمان، وبالذات الفريسيُّون منهم. ورغم أن الرب كان يقوم بأعمال الآب علانية، فهو أقام الموتى ومنح النظر للعميان وجعل العرج يمشون وفتح آذان الصم وجعل الخرس يتكلَّمون، معلناً أن الخليقة العاقلة وغير العاقلة خاضعة له، لأنه هو الذي أمر الريح ومشي على البحر، والجموع عاينت هذا وامتلأت بالدهشة ومجَّدت الله، إلاَّ أن الفريسيِّين قالوا إن هذه أعمال بعلزبول - ومن فرط جنونهم لم يخجلوا من أن يعطوا الشيطان قوة الله. وأمام هذا أعلن الرب بالحق أن تجديفهم بلا مغفرة، لأنهم عثروا في كل ما يختص بإنسانيته وكان لهم، في المسيح كإنسان، رأى شرير، إذ قالوا: «أليس هذا ابن النجَّار» (مت 55:13)، وكيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم (يو 15:7)، وما هي المعجزات التي «تصنع لنرى ونؤمن بك» (يو 30:6)، «فلينزل الآن عن صليبه فنؤمن به» (مت 42:27). وقد احتمل الرب كل هذا، وسمَّى الإنجيل مثل هذه الأقوال بالتجديف على ابن الإنسان، وتألَّم الرب من قساوة قلوبهم (مر 5:3)، وقال: «لو علمتِ ... ما هو لسلامكم؟» (لو 42:19).

وغفر الرب لبطرس عندما تكلَّمت معه الجارية عن يسوع كإنسان فأجاب بطريقة لا تختلف عن رأي الجارية وكلامها، ولكن الرب غفر له عندما بكى بدموع.

أمَّا عندما سقط الفريسيُّون إلى أدنى من كل هذا وتفوَّهوا بما هو أشر من كل ما سبق، حتى أنهم قالوا إن أعمال الله هي أعمال بعلزبول، لم يتحملهم لأنهم جدَّفوا على روحه بقولهم إن مَنْ يعمل هذه الأعمال ليس الله ولكنه بعلزبول. ولهذا السبب استحقوا عقوبة أبدية. وفي الحقيقة إن جرأتهم زادت عن الحد، وعندما رأوا ترتيب العالم والعناية به نسبوا الخلق إلى بعلزبول، حتى أن الشمس صارت بحسب قولهم تحت سلطان الشيطان وأصبح الشيطان هو الذي يحرِّك النجوم في السماء، لأن كل أعمال الآب كخالق، عملها يسوع؛ فإذا قالوا إن أعمال يسوع هي أعمال بعلزبول، فكيف إذاً يفهمون القول الإلهي: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تك 1:1). ولكن مثل هذا الجنون ليس غريباً عنهم لأن آباءهم أظهروا نفس الطباع، فبعد خروجهم من مصر صنعوا العجل الذهبي في البرية ونسبوا إليه المعجزات والبركات التي أخذوها من الله وقالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (خر 4:32). وبسبب هذا التجديف الذي ارتكبه أُولئك المجانين تمَّ فناء الكل في البرية، وأعلن الله أنه في يوم افتقاده «سوف يفتقد فيهم خطيتهم» (خر 34:32). وعندما اشتكوا من انعدام الخبز والماء اهتم بهم تماماً مثل المرضعة برضيعها، ولكنهم زادوا الشكوى إلى الحد الذي وصفه الروح القدس في المزامير «أبدلوا مجدهم بمثال ثور آكل عشب» (مز 20:106). وعندما اجترأوا على ارتكاب مثل هذا العمل الذي لا مغفرة له ضربهم الرب، كما يقول الكتاب، بسبب العجل الذي سبكه هارون (خر 35:32). وتصرَّف الفريسيُّون بنفس الوقاحة، ولذلك أخذوا من الرب عقوبة مماثلة بل هي عقوبة مثل عقوبة بعلزبول نفسه الذي تحدَّثوا عنه، كي يحترقوا معه بنار أبدية.

ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الإنجيل أن يقارن بين التجديف الموجَّه ضدَّه، والتجديف الموجَّه للروح القدس؛ ولا أشار ولو من بعيد أو بطريقة غير مباشرة إلى أن الروح القدس أسمى منه ولا لأن التجديف على الروح أخطر، حاشا؛ نطق الرب بهذه الكلمات لأنه علم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وأن الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجِّد الابن (يو 14:16و15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه، وبهم لمن يؤمنون به بواسطتهم. ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما أنها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلِّص. والتجديف بنوعيه موجَّه بالضرورة للروح القدس. والنوع الأول محتمل أمَّا النوع الثاني فهو خطير. وقد ارتكب الفريسيُّون نوعي التجديف لأنهم رأوه إنساناً فأهانوه بقولهم: «من أين لهذا الحكمة؟» (مت 54:13)؛ وقولهم: «ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟» (يو 57:8). ورغم أنهم رأوا أعمال الآب فيه إلاَّ أنهم لم يرتضوا بألوهيته. وبدلاً من هذا قالوا إن بعلزبول فيه، وأن هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، وبذلك أصبح تجديفهم بنوعيه موجَّه ضدَّه. والنوع الأول أقل خطورة بسبب العذر الواضح وهو إنسانيته، أمَّا النوع الثاني فهو أكثر خطورة لأنه إهانة موجَّهة إلى ألوهيته. ومثل هذا التجديف الخطير هو الذي استدعى عقوبة عدم المغفرة. ومن الواضح أن الرب كان يشجِّع التلاميذ عندما قال لهم: «إن كانوا قد لقَّبوا رب البيت بعلزبول» (مت 25:10) وأكَّد هنا أنه رب البيت الذي جدَّف عليه اليهود.

أمَّا اليهود فعندما قالوا عنه: “بعلزبول” لم يهينوا أحداً سوى الرب يسوع، وهذا واضح من التعبير نفسه لأن كلمة “الروح” في نص الإنجيل تشير إلى الرب يسوع وإلى الروح القدس، لأن “رب البيت” يُراد به المسيح أي رب الكون كله. وأنا أرجوك أن لا تتضايق من هذا التكرار فهو لازم إذا كنا نحرص على الوصول إلى المعنى الدقيق للنص، ولذلك سأعود إلى ما ذكرته سابقاً أن الجوع والتعب والنوم والإهانات كلها خاصة بناسوته، أمَّا الأعمال الباهرة التي كان يقوم بها الرب، فلم تكن أعمال إنسان بل أعمال الله.

لذلك إذا ما شاهد بعض الناس الأشياء الخاصة بالإنسان مثل الجوع ... إلخ وأهانوا الرب لأنه حسب ظنهم مجرَّد إنسان، فقد حُسبوا مستحقين لعقوبة أقل من عقوبة أُولئك الذين ينسبون أعمال الله للشيطان. لأن هؤلاء لا يكتفون بإلقاء الأشياء المقدَّسة للكلاب (مت 6:7)، بل يجعلون الله مساوياً للشيطان ويدعون النور ظلمة (إش 20:5). لذلك سجَّل مرقس أن تجديف اليهود بلا مغفرة، «ولكن مَنْ جدَّف على الروح القدس، فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستحق دينونة أبدية، لأنهم قالوا: إن معه روحاً نجساً (وذلك على أعمال لاهوته).» (مر 29:3و30)

والرجل الأعمى منذ ولادته عندما أبصر، شهد بأنه لم يُسمع من قبل أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، ولذلك قال: «لو لم يكن هذا (الإنسان) من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً» (يو 33:9). حتى الجموع نفسها عندما امتلأت من الإعجاب بما فعله الرب قالت: «ليس هذا كلام مَنْ به شيطان، ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان» (يو 21:10). أمَّا هؤلاء الذين امتلأوا من معرفة الناموس، أي الفريسيُّون وهم الذين يلبسون العصائب العريضة (مت 5:23)، ومزهوُّون بمعرفتهم بالناموس أكثر من باقي الناس (يو 24:9-29)، كان من المفروض عليهم بسبب هذه المعرفة أن يخجلوا، ولكن كما هو مكتوب عنهم أنهم «تعساء لأنهم ذبحوا لأوثانٍ ليست الله» (تث 17:32). وعندما قالوا إن بالرب شيطاناً، وأن أعمال الله هي أعمال الشيطان؛ لم يكن لديهم أي أسباب مقنعة تدفعهم إلى هذا الاعتقاد، والدافع الحقيقي لمثل هذا التجديف هو رغبتهم في أن ينكروا أن الذي يعمل هذه الأعمال هو الإله ابن الله. وبالحقيقة لقد أكل أمامهم وشاهدوا جسده وتأكَّدوا أنه إنسان فكان لديهم فرصة لأن يقتنعوا من أعماله أن الآب فيه وأنه في الآب. أمَّا لماذا لم يقتنعوا؟ فلأنهم لم يشاءوا.

وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيِّين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلَّم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح: إنه مجرَّد إنسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به إلهاً بسبب أعماله التي هي أعمال الله. ولكن بهذه السقطة ألَّهوا بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.

ودراستنا للنص توضِّح لنا أنه يعني نوعي التجديف الذي أشرنا إليه سابقاً. ذلك أن المخلِّص أشار إلى نفسه عندما قال: «ابن الإنسان»، ولكنه كان يعني أيضاً نفسه عندما تحدَّث عن “الروح”. والاسم الأول: «ابن الإنسان» يوضِّح تجسُّده، والاسم الثاني: “الروح” يوضِّح طبيعته الروحية غير المادية ولاهوته. وفي الواقع، إن الخطية التي يمكن غفرانها هي العثرة الناتجة عن رؤية ناسوته، أي ما يتعلَّق به كابن الإنسان، ولكنه أوضح أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على “الروح”، أي على الطبيعة الإلهية.

وقد لاحظت أن التعبير “الروح” جاء بالمعنى الذي نتحدَّث عنه في إنجيل القديس يوحنا عندما كان الرب يتحدَّث عن تقديم جسده. ولمَّا رأى أن كثيرين عثروا بسبب ما ذكره عن جسده، قال لهم: «أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً! الروح هو الذي يحيي أمَّا الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 6: 62و63). وقد تحدَّث الرب هنا عن “الجسد والروح”، وكما هو واضح كان يتحدَّث عن نفسه. وميَّز بين الجسد والروح لكي يتمكَّن الذين سمعوه من الإيمان بما يرون أي بجسده، وكذلك الإيمان بغير المنظور، أي الروح أو لاهوته، لكي يؤمنوا أن ما يتكلَّم عنه ليس الجسديات بل الروحيات.

ولنسأل كم عدد البشر الذين يمكن أن يقدِّم لهم جسده المادي؟ وماذا عنه كغذاء للعالم كله؟ لهذا السبب تحدَّث عن صعود ابن الإنسان إلى السماء لكي يبعد عن أفكارهم كل التصورات المادية عن جسده، ولكي يفهموا جيداً بدون أي تصورات مادية أن جسده الذي يتكلَّم عنه هو طعام سمائي يأتي من فوق كغذاء روحي يعطيه هو بنفسه. وحقًّا قال: «الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 63:6)، أي أن ما أعلنه، وما سيعطيه لخلاص العالم هو جسده، ولكن هذا الجسد عينه بما فيه من دم سوف يُعطى لكم بواسطتي روحياً، وكطعام، وبطريقة روحية سوف يوزَّع على كل واحد منكم لكي يصبح عربون القيامة والحياة الأبدية.

واستعمال كلمة “روح” جاء بنفس المعنى في حديث الرب مع السامرية عندما وجَّه فكرها إلى المعنى الروحي ورفع نظرها إلى الأمور غير المادية بقوله لها: «الله روح» (يو 24:4)، لكي يستقر في قلبها الفهم الصحيح عن الله، أنه ليس من طبيعة مادية محصورة في مكان بل إنه روح. وهذا ما يعنيه كلام التعليم الذي يقول عندما يتأمَّل الكلمة وقد تجسَّد: “روح الإيمان هو المسيح الرب”، وحتى لا يعثر أحد ما بالشكل الخارجي الملموس ويظن أن الرب هو مجرَّد إنسان، جاءت كلمة: “الروح” لتؤكِّد أن الذي في الجسد هو الله.

وهكذا يبدو لنا شيئان ظاهران تماماً: الأول هو حالة مَنْ يرى الرب في الجسد ويعتبره مجرَّد إنسان ويقول بعدم إيمان: “من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟” (مت 54:13)، وكل مَنْ يتكلَّم بهذا يخطئ بدون شك ويجدِّف على ابن الإنسان؛ والثاني يرى أعماله التي تتم بالروح القدس ويقول إن صانع هذه الأعمال ليس الله ولا ابن الله وينسب هذه الأعمال لبعلزبول، مثل هذا ينكر لاهوته، وهذا ما يظهر واضحاً عدة مرَّات في الإنجيل لا سيما في النص الذي نشرحه.

ومرَّة أخرى، نكرِّر، عندما يوصف الرب بأنه «ابن الإنسان» فهو نفسه يستخدم هذا اللقب لتأكيد بشريته، ولكن عندما يتحدَّث عن الروح أي الروح القدس الذي به يصنع كل هذه الأعمال والذي هو (الروح) أيضاً فيه، يقول بعد إتمامه أعماله الباهرة: «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت أعمال، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنه فيه» (يو 38:10) ...]([3]) (انتهى)

وملخَّص عقيدة القديس أثناسيوس في هذا الموضوع كالآتي:

1 - إن الموضوع لا يختص إطلاقاً بامتياز أقنوم عن آخر في الثالوث، فالتجديف على الروح القدس هو تجديف على الآب والابن أيضاً.

2 - والتجديف لا يختص بالمعمودية ونوال الروح القدس فيها، لأنها تتم باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد. فكل مَنْ يُخطئ ويجدِّف بعد المعمودية فهو يخطئ ويجدِّف على الله الثالوث الآب والابن والروح القدس. لذلك فالرب لم يكن يقصد بالتجديف الخطية بعد المعمودية.

3 - إن الخطية بل كل الخطايا بعد المعمودية تُغفر جميعها بالتوبة، ولا توجد خطية قط يمكن أن يُقال إنه من المستحيل غفرانها.

4 - المعمودية هي التي لا يمكن بل ويستحيل أيضاً أن تتكرَّر، وهي التي تسمَّى بالتجديد أو الميلاد الثاني فهي معمودية واحدة.

5 - كذلك هناك فرق بين الخطايا كتعدِّي على الوصايا وبين التجديف على الله نفسه.

6 - إن الالتباس الظاهر في فهم عب 4:6-6 راجع إلى أن بولس الرسول يخاطب اليهود (العبرانيين) الذين اعتادوا أن يتخلَّصوا من خطاياهم بالتطهير بالماء كل يوم، وكلما أرادوا (حتى الزنا كان في عرفهم يمكن التخلُّص منه بالاستحمام بالماء)، فنبَّههم أن المعمودية في المسيحية ليست تطهيراً بالماء، ولكنها موت عن الإنسان العتيق وخطاياه وولادة روحية من فوق بإنسان جديد، ولا تتم إلاَّ مرَّة واحدة فقط بنعمة الروح القدس.

7 - العنصر الجوهري في عدم غفران خطية التجديف على الروح القدس هو المتعلِّق بالذين ينسبون أعمال اللاهوت التي كان يعملها المسيح إلى أنها أعمال الشيطان.

8 - وعلى نفس المستوى، فالذين يعتبرون المسيح أنه مجرَّد إنسان كان يعمل المعجزات بقوة الشيطان فهذا هو التجديف على روح الله أي الروح القدس، لأن المسيح كان يعمل كل الأعمال بروح الله.

9 - وعلى نفس المستوى كل مَنْ يجدِّف على لاهوت المسيح معتبراً أن المسيح مجرَّد إنسان، وأن أعماله كانت مجرَّد أعمال شيطانية (سحرية كما يقول اليهود الآن) وليست أعمالاً إلهية، فهذه تعتبر خطية تجديف غير قابلة للمغفرة.

10 - وهنا يقرِّر أثناسيوس أنه لا فرق بين التجديف على الروح القدس والتجديف الموجَّه ضد لاهوت المسيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
عن كتاب، حقبة مُضيئة في تاريخ الكنيسة، القديس اثناسيوس الرسولي، للاب متي المسكين.

([1]) ترجمها إلى العربية الدكتور جورج حبيب بباوي، وقد نُقل عنه النص بتصريح منه.

([2]) ثيئوغنسطس كاتب كنسي ولاهوتي مشهور، كان مديراً لمدرسة الإسكندرية خلفاً لديونيسيوس وقبل بيريوس (وليس بعده). وكتب منهجاً لاهوتياً متكاملاً قائماً على أساس أفكار أوريجانوس وذلك في سبعة كتب، وأسماه هيبوتيبوزيس. وقد تبقَّى وصف وتحقيق عنه بقلم فوتيوس (Cod. 106)، كما لا يزال يوجد مقتطفات كثيرة منه في كتاب القديس أثناسيوس إلى سيرابيون، وعلى الدفاع عن قانون نيقية (25). كما استعان به القديس غريغوريوس النيسي في مؤلَّفه Contra Euno. III; وبالرغم من سقوطه في مفهوم تدنِّي الابن عن الآب بحسب فكر أوريجانوس فقد استخدم القديس أثناسيوس كثيراً من أفكاره ضد الأريوسيين.

([3]) من كتاب: “الروح القدس في بعض كتابات الآباء” تعريب: الدكتور جورج حبيب بباوي صفحة 28-42.